|
نشرت في صحيفة الإقتصادية العدد 4962
قضائيات امتداداً لما ابتدأناه في المقالة السابقة من حديثٍ عن (شروط القاضي بين الحاضر والماضي) نستأنف الكلام في هذه الحلقة عن ثمانية شروطٍ من الاثني عشر شرطاً المذكورة في الحلقة السابقة:الشرط الثاني/ الحرية: وليس ثَمَّةَ حاجةٌ مُلِحَّةٌ للحديث عن هذا الشرط؛ فالرِّق قد زال عن ظهر الأرض اليوم بفضل الله، ومع ذلك فليس شرط الحرية في القاضي محل إجماعٍ بين الفقهاء؛ إذ خالف بعض المالكية والشافعية والحنابلة في اشتراطها، وذهب الزيدية إلى القول بعدم اشتراطها أصلاً.
الشرط الثالث/ التكليف: وقد خالف بعض المالكية والشافعية والحنابلة في اشتراط البلوغ في القاضي، وَصَحَّحُوا قضاء الصبي، أما العقل فله اعتبارٌ خاصٌ سنأتي على ذكره عند الحديث عن الشرط الثاني عشر في الحلقة المقبلة, بحول الله.
الشرط الرابع/ الذكورة: ومذهب الإمام الطبري, رحمه الله, يمنع اشتراط الذكورية في القضاء وغيره من الولايات العامة, ومذهب الحنفية المنع من اشتراط الذكورية في القضاء, وبه قال بعض المالكية والشافعية.
ولست أرى كبيرَ فرقٍ بين تولية المرأة القضاء - كما هو مذهب السادة فقهاء الحنفية, رضي الله عنهم - وبين توليتها إدارات المدارس والكليات والجامعات, وما يحصل في تلك الإدارات من علاجٍ لمشكلاتٍ كان سبيلُ حَلِّها القضاءَ لو لم تحدث داخل تلك المؤسسات التربوية.
وقوامة الرجل على نسائه ليست دليلاً على تحريم استقضائهن, والتفضيل في آية القوامة ليس عاماً لأفراد الرجال على جميع النساء, بل هو تفضيلٌ لبعض جنس الرجال على بعض جنس النساء, ولا يُنازع في ذلك أحد؛ إذ مقتضى التفضيل في الآية: أنَّ بعضَ جنس الرجال فاضلٌ وبعضه مفضول, وهكذا النساء فيهن الفاضل على الرجال وفيهن المفضول.
كما أنَّ غلبةَ أفضليةِ جنس الرجال في جميع الوظائف لا تُسقِطُ كفاءةَ النساء على تَوَلِّي القضاء ونحوه من أمور الولايات بشرطه؛ الذي يحفظ للمرأة دينها وعرضها وحشمتها وأخلاقها؛ مما لا تحتاج المرأةُ الفاضلة إلى من يُذَكِّرُهَا برعايته. أمَّا حديث (لَن يُفلِحَ قَومٌ وَلَّوا أَمرَهُم امرأةً) فَلَعَلَّهُ في الولاية العامة؛ كما قال الحنفية.
وشواهدُ التاريخ بفلاحِ أقوامٍ مَلَّكُوا عليهم نساءهم لا يتعارض مع هذا الحديث؛ لِكَونِ المرأةِ حينئذٍ لا تَستَقِلُ بالولاية من بين سُلطاتِ الدولةِ ومجالسها التشريعية التي يديرها الرجال في العادة.
وللاعتبار: فإنني عندما وَلِيتُ قضاء المبرز من الأحساء المباركة منتصف عام 1403هـ وجدتُ أنَّ من بين أنشط المحامين الممارسين في المحكمة امرأةً في الخمسين من عمرها - آنذاك - وهي لا تقرأ ولا تكتب, وكان من خُلُقِهَا - رحمها الله - في المرافعة ما يحتاج كثيرٌ من المحامين اليوم إلى معرفته والتَّخَلُّقِ به, وسآتي على ذكره مستقبلاً, إن شاء الله تعالى.
الشروط الأربعة/ السماع, البصر, الكلام, الكتابة: وفي هذه الأربعة خلافٌ قويٌ بين فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة والإمامية. ولست أشك في أنَّ السمع والبصر والكلام من لوازم القاضي, فبدونها لا يُمكن للقاضي إدراكُ ما يُلقى إليه في الأعم الأغلب, وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وما حَظِيَ شرطٌ بإهمالٍ مثلَما حَظِيَ به شرطُ البصر؛ وسببه: أنَّ علومَ الشريعةِ - في بعض الأزمنة - لم يَتَصَدَّر لها غيرُ الأَكِفَّاء, وَقتَ أن انشغلَ الناسُ بطلب معايشهم, وكانت النزاعاتُ وقتئذٍ بسيطةً, لا يَضُرُّهَا أن يَتَصَدَّى لها غيرُ المبصرين, فتجاوز العلماءُ عن اشتراط البصر في القاضي, مع إجماعهم على أنَّ الأفضليةَ للقاضي المبصر على غيره.
أمَّا الكتابةُ ومن لوازمها الحساب: فهما من آلة القاضي؛ لِيُدرِكَ ما ينظر فيه, فيحكم به أو ببعضه أو بعدم استحقاقه, وَفَقْدُ القاضي القدر المعقول من هذه الآلات مُؤَثِّرٌ في تَصَوُّرِ ما يُطرح عليه, والحكمُ على الشيءِ فَرعٌ عن تَصَوُّرِهِ.
ومن فروع الكتابة - في عالمنا اليوم - الإلمامُ بطرق استخدام الوسائل الحديثة من حاسباتٍ وحواسيب؛ إذ من دونها يصعب على القاضي الوقوفُ على ما يُسَهِّلُ عليه أداءَ مهمته, وكلما تأخر القاضي في طلب العلم بهذه الوسائل وإتقانها زاد الأمر عليه صعوبة, وَلَقِيَ الناسُ من جهله بها عَنَتَاً ومشقةً لا يليقان من مثله, ولا تبرأ به ذمته ولا ذمة من باشر توليته.
الشرط التاسع/ العدالة: وفي اشتراطها لصحة تولية القاضي خلافٌ كبير بين الفقهاء من جميع المذاهب.
والعدالة في اصطلاح علماء المسلمين: فِعلُ الواجبات, وترك المحرمات, والتحلي بالمروءة. وهي بهذا الاعتبار لا تنفع المتقاضين؛ فقد نُقِلَ عن محمد بن الحسن - صاحب أبي حنيفة - وعن أبي أيوب السختياني رحمهم الله: أنَّ في الناس من تُرجى بركته ودعاؤه, ولا تُقبل شهادته. ومن لا تُقبل شهادته لا يُستقضى؛ وإن كان مُباركاً مُستجاب الدعوة.
وصلاحُ ظاهر القاضي لا ينفع الخصوم بقدر ما ينفعهم علمه ونزاهته وبراءته من اتباع الهوى, وذلك مُتَصَوَّرٌ حتى من المفرِّطين. فاقترافُ المعاصي ليس دليلاً على محاربة الله ورسوله أو على كراهة ما أنزل الله؛ لقصة الصحابي الجليل الذي لعنه بعض الصحابة لكثرة ما يُؤتى به مخموراً, فقال لهم المصطفى عليه الصلاة والسلام (لا تلعنوه! فوالله ما علمت إلا أنه يُحِبُّ الله ورسوله) خَرَّجَهُ البخاري. وكان رضي الله عنه كثيراً ما يُضحِكُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم.
وقد استحسن العلماءُ وصفَ الإمامِ الشافعي - رحمه الله - للعدالة بقوله (ما أحدٌ من المسلمين يُطيعُ اللهَ عزَّ وجلَّ حتى لا يعصيه, ولا أحدٌ يَعصي اللهَ عزَّ وجلَّ حتى لا يُطيعه, فمن كانت طاعاته أكثرَ من معاصيه فهو العدل), قال ابن عبد الحكم : وهذا كلام الحذَّاق.
من ذلك نعلم: أنَّ اشتراطَ صلاح القاضي في الظاهر فقط لا يُجدي شيئاً, واشتراط صلاح القاضي في الباطن ليس إلى كشفه سبيلٌ, فوجب تفسيرُ العدالة في القاضي على نحوٍ آخر غيرِ ما تقدم, بِقَصرِهَا على ما جاءت به الآيةُ الكريمة في قصة رسول الله موسى بن عمران عليه الصلاة السلام - لَمَّا وَرَدَ ماء مدين - وفيها تحديدُ صفتي خَيرِ من يُستَأجَرُ, وأنهما (القُوَّةُ والأَمَانَةُ) وَالقُوَّةُ في القاضي عِلمُهُ وَقُدرَتُهُ على إنفاذ الحكم في حينه, وأمانتُهُ صِدقُهُ وبراءتُهُ من الهوى.
ومثلهما: الصفتان اللتان أدلى بهما نبي الله يوسف بن يعقوب عليهما السلام - عندما طلب من عزيز مصر أن يجعله على خزائن الأرض - لأنه ( حَفِيظٌ, عَلِيمٌ ) فالعلمُ قُوَّتُهُ والحفظُ أمانتُهُ.
والخصومُ لا يطلبون من القاضي صلاحَ ظاهره, ولا ينبشون عن صلاحِ باطنه إذا تَحَقَّقَ لهم منه صفتا: العلم والعدل. أما التحلي بالمروءة فلازمٌ من لوازم اجتماع (العلم والعدل), ومنها: ما يسمى - اليوم - أخلاقيات المهنة وأدبيات أهلها. وفي المقالة المقبلة لنا حديثٌ مع أهم الشروط المعتبرة في القاضي.
الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود
ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 9116 | تأريخ النشر : الأحد 26 ربيع الثاني 1428هـ الموافق 13 مايو 2007مإرسال المقالة
|
|||
|
|
|||
|