|
نشرت في مجلة اليمامة العدد 1891
قضائيات يعمل الموظف الحكومي أكثر من مائة وتسعين يوماً في العام الواحد ؛ بواقع : ست ساعات على الأقل في كل يوم ؛ وهي مدة يرى فيها الموظف زملاء عمله أكثر مما يرى بعض أهله ، وخلال هذه المدة يجني الموظف مرتبه الشهري ، ويدخر - ما يصير لاحقاً - معاشه التقاعدي ؛ حتى إذا بلغ ستين عاماً تسلَّم قرار تقاعده ؛ وحاله - تلك - كحال المرأة التي تتسلَّم صك طلاقها(( يكرهان ذلك ، وقد يكون خيراً لهما ، ولابد لهما منه )) .
وإليك الشعور الذي يعانيه الموظف أول يوم في حياة التقاعد :
أولاً / يستيقظ المتقاعد صباح أول يوم ، فيلتفت ( يمنة ) : ليرى أهل بيته .
وينظر ( يسرة ) : ليرى أصغر أولاده أو أحفاده يسعون للَّحاق بحافلة المدرسة .
ثم يرى ( أمامه ) : ليجد سبلاً عدة ؛ لا يعرف ماذا يستطرق منها .
أما من ( خلفه ) : فلا يلقى إلا حائطاً يفصل بينه وبين ماضيه ؛ قد عُلِّق عليه لوحةٌ تحمل قرار تقاعده ، فيطيل فكرته ويغالب حيرته ؛ لكنه يقطع ذلك كله ، ليسارع إلى مراجعة المؤسسة العامة للتقاعد ؛ لإنجاز معاملة المعاش التقاعدي ، يمكث - على تلك الحال - شهرين أو ثلاثة ؛ حتى يستقر أمر الصرف ، وينتظم إيداع المعاش في حساب بنكٍ بعينه ؛ حينذاك : لا يجد ما يشغل وقته .
ثانياً / يبدأ بالتدخل في شؤون المنزل ، وإبداء الملحوظات حيال ترتيبه ، ويظهر انزعاجه من أصوات الكنس والغسيل ، ويفقد صوابه متى سمع صوت وقوع إناءٍ أو انكساره ، ويتذمر من أهله في كل ذلك ، وتبدأ رحلة الخلافات المنزلية التي قد يفتعلها أحياناً ؛ لتغطية عجزٍ اعتراه أخيراً . (( وما هي إلا أيام حتى يَسأم هو ويُسْأَمَ منه )) .
ثالثاً / فيما يخص الموظف العادي : يندفع إلى الخارج ؛ ليطرق أبواب السبل المفتوحة أمامه واحداً واحداً ؛ حتى يستقر أمره في ما يسره الله له ، أو يموت قبله .
ـ فمنهم : من يتخذ سيارة عائلية لنقل المعلمات ، ويبدأ في البحث عن خمسٍ منهن أو أكثر ؛ لتوصيلهن من وإلى مقر أعمالهن صباح مساء .
ـ ومنهم من يتخذ مسبحة ذات خرز متوسط الحجم فاقع اللون ؛ يُلوِّح بها في سوق السيارات ، يقدح في السيارات المعروضة ويثلبها ؛ حتى يزهد فيها صاحبها ، فيبتاعها منه بأقل مما تستحق ، ثم يعمد المشتري بعد ذلك إلى غسلها وتلميعها ، وتغيير زيت محركها وعجلاتها ، ثم عرضها للبيع ؛ زاعماً أنها أسرع من الطائرة ؛ ليكسب من وراء ذلك العمل ألفي ريال أو ثلاثة آلاف ؛ مرتين أو ثلاثاً في الشهر .
ـ ومنهم من يرتاد المكاتب العقارية الشعبية لاحتساء القهوة والشاي مع صاحب المكتب وعملائه ؛ حتى يتيسر له المساهمة معه ، أو الشراء منه ، أو معرفه سر المهنة ، فيستقل بمكتبٍ يخصه ؛ لتبدأ رحلة عملٍ أخرى لا تخلو من بعض المحظورات .
ـ وقد يبحث عن عملٍ في مؤسسة أهلية ؛ يفرِّغ فيها خبراته التي عفى عليها الدهر ، فأصبحت تراثاً لا يمكن الاستفادة منها – في هذا الزمان - إلا في سرد القصص والحكايات عن ماضيه العريق ومغامراته الجريئة ، مضافاً عليها كل مرة ما يعادل الثلث من المحسِّنات التي ترفع من شأنه ؛ حتى إنك لو سمعت ذات القصة للمرة الثالثة لخلتها قصة أخرى غير التي سمعتها قبل ذلك ؛ لما فيها من الزيادات المحدثة .
ـ وأسعدهم : الذي يعمد إلى سواكٍ يضعه في جيبه وقد بدا منه نصفه ، يدلك به أسناناً ؛ بعضها : يهتز مع رجع الكلام ؛ راغباً التقاعد كصاحبه ، والباقي : تغيرت ألوانها من كثرة الاستخدام .
وجه سعادة هذا الصنف : التزام واحِدِهم مسجد محلته ، يسابق المؤذن في الحضور إلى المسجد ، ويشارك الخادم في كونه آخر من يخرج ؛ وإن كان يبدر من بعضهم شيءٌ من الخلافات مع الإمام أو المؤذن على أمورٍ لم يكن يُعِيرُها اهتمامه قبل ذلك .
يبقى الموظف المتقاعد على تلك الحال سنوات قلائل ، قبل أن يفجأك خبر مرضه ، ثم نبأ وفاته . نسأل الله حسن الخاتمة ؛ حيث أظهرت دراسة اجتماعية لباحث مصري : أن متوسط عمر المتقاعد بعد الستين هو : ثلاث سنوات .
أما قضاة المحاكم : فسنوات خدمتهم النظامية تمتد إلى سن السبعين .
أي : أن القاضي يكمل خدمة الأربعين سنة قبل بلوغ سن التقاعد لا محالة . ومع ذلك :
1/ من يبقى منهم حياً بعد السبعين : يأبى أن يترك العمل ، بل يناضل حتى تمدد سنوات خدمته ؛ بأن يتعاقد معه مجلس القضاء الأعلى ؛ ليشغل مرتبة قضائية أو إدارية في وقتٍ غيره أحوج إليها منه ؛ ممن يؤدي خدمة أنفع مما قد يؤديه ذلك القاضي المتعاقد بعد تقاعده .
فقد شاع عن بعضهم : أنه ممن يغالبه النوم ؛ وهو في يعمل في مكتبه .
وبعضهم : لا يتم قراءة ما بيده إلا وقد نسي أوله ، فإن عاد لقراءة أوله نسي آخره ، وهكذا .
وبعضهم : لا يستطيع الوقوف بضع دقائق ؛ فصلاته - في بيته ، أو في مكتبه - وهو جالس ؛ قد أعملت به الشيخوخة معاولها ؛ لتهدم ذاكرته ، وتشوِّش نَظَرَه ونظرته ، وتقتات عافيته وصحته ؛ حتى يهلك وهو على تلك الحال .
2/ من يتقاعد منهم : فلا حظ له في العمل بغير التدريس في المساجد ، أو تقديم الاستشارات في مكاتب المحاماة ، أو المُجَاوَرَة في الحرمين الشريفين أغلب العام ؛ لأنه يعلم أنه : إن أدام التنزه في البرية ، واتبع الصيد : غفل ، وإن تاق لاقتناء الإبل ، وبدا : فقد جفا ، وإن رضي بالزرع ، وتبع أذناب البقر وما في حكمها : ذلَّ ؛ كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه .
ومثله : لا يمكث طويلاً حتى يلاقي ربه بخير عمله وشره ، بعد تمحيصه ببعض الأمراض المزمنة ، والعوارض الملمَّة .
ولذلك فمن الضروري الآتي :
أولاً / عمل الدراسات اللازمة لرعاية المتقاعدين ، وتقديم أمر الرعاية الصحية على غيرها ، بالإعداد لها في سنٍّ مبكرة ؛ للوقوف على الحالة الصحية للموظف ، والقضاء على أسباب المعاناة الطويلة من العوارض المفاجئة ؛ كالجلطات ، والأمراض الطارئة ( كالضغط ، والسكري ) .
ثانياً / من المهم : أن لا ينفك الموظف عن معاشه الشهري بعد التقاعد ؛ بأن تشرف وزارة المالية على تحويل المعاش بعد تقاعد الموظف إلى حسابه - بدلاً عن راتبه - مباشرة ، وتلقائياً دون مراجعةٍ من صاحب العلاقة للمؤسسة المختصة .
ثالثاً / من المستحسن : إعداد دورات لتهيئة المتقاعد للمرحلة القادمة ؛ نفسياً واجتماعياً ، بإشراف خبراء في الاجتماع ، والطب النفسي ، والاقتصاد ، والرياضة ، ونحوها .
رابعاً / من اللائق : إعداد الرحلات السياحية العائلية - بنظام المجموعات - إلى الرحاب المقدسة في المواسم الدينية ، وإلى المصائف في وقتها ، وإلى السواحل الجنوبية في الشتاء ، وإلى الدول الخليجية ، والعربية ، والإسلامية ، وإعداد البرامج الثقافية ، والعلاجية ؛ ليتصل المتقاعد بإخوانه المسلمين في العالم ، فينقل إليهم معارفه ومبادئه ، ويتعرف على ما عندهم فيتواصل معهم ، ويكون بذلك داعية سائحاً .
ولا ننسى ما قام به تجار حضرموت وعُمان من نشرٍ للإسلام في جنوب وجنوب شرقي آسيا ، وفي شرق أفريقيا وجنوبها - وهم يؤدون أعمالهم - بسيرتهم ، وصدقهم ، وحسن تعاملهم ؛ فلأن يهدي الله بك رجلاً خيرٌ لك من حُمُرِ النَّعَم .
خامساً / من المفترض : دعم الجمعيات الخيرية ، والمجالس البلدية ، ومجالس الأحياء ، والنوادي الأدبية ، والمراكز الاجتماعية ؛ لاستيعاب المتقاعدين كلٌ فيما يحسنه .
سادساً / من المعتبر : استكتاب المتقاعد بحسب ما يبدع فيه من مجالٍ سياسيٍ ، أو ثقافيٍ ، أو دعويٍ ، أو أدبيٍ .
سابعاً / إنشاء الصناديق الاستثمارية ؛ لتنمية أموال المتقاعد ؛ حتى لا يتسلط عليه المحتالون والمتربصون بالأغرار من باعة الوهم وتجار الخيال .
ثامناً / من اللازم : منع تمديد الخدمة للموظف الحكومي بعامة ، وتوحيد سن التقاعد لجميع الموظفين بسن الستين دون تمييز ؛ لإفساح المجال للأجيال القادمة كي تأخذ ما تستحق ، فلا يقف المتقاعد حائلاً دون ذلك بتعاقده اللاحق لتقاعده .
أقول ذلك ؛ وأنا في الثامنة والأربعين من عمري بحساب التقويم الشمسي (( طبعاً )) حتى يكون حجة عليَّ وعلى أمثالي عند الستين ؛ إن مدَّ الله في أعمارنا إليها ، وإن كنت أخشى : أن يكون لي قولٌ آخر هناك ؛ كما يتحجج به بالغوها اليوم . والله المستعان .
الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود
عدد التعليقات : 1 | عدد القراء : 4702 | تأريخ النشر : السبت 28 ذو الحجة 1426هـ الموافق 28 يناير 2006ماضغط هنا للحصول على صورة المقالة
إرسال المقالة
إرسال المقالة والتعليقات إلى صديق
|
|||
|
|
|||
|
|
|||
|
تأريخ النشر: السبت 5 شعبان 1431هـ الموافق 17 يوليو 2010مسيحية
طباعة التعليق