|
نشرت في صحيفة عكاظ العدد رقم 2552
نظاميات لولي الأمر في أيٍ من البلدان مع أهل الحل والعقد من رعاياه عند طلبه المشورة منهم فيما يهم أمر عامة الرعية أحوالٌ تسعةٌ في التاريخ والفقه الإسلامي:-الحال الأولى/ أن يستشيرهم، وينزل عند رأيهم.
وكثرة استشارته صلى الله عليه وسلم أصحابه أظهر من أن تذكر. روى ابنُ أبي حاتمٍ وابنُ وهبٍ عن أبي هريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أنه قال (( مَا رَأَيتُ أَحَدَاً أَكثَرَ مَشُورَةً لأصحَابِهِ مِن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )).
= ومثل ذلك قرارات الدولة - أيدها الله - فإنَّ أغلب ما يصدر بشأنه قراراتٌ من مجلس الشورى أو من المجالس والهيئات المعنية يجد طريقه نحو التطبيق بعد العرض على ولاة الأمر وفقهم الله.
الحال الثانية/ أن يستشيرهم، ولا يأخذ برأيهم.
وقد حدث في التاريخ السياسي الإسلامي من هذا الكثير، اخترت منها ثلاثة أمثلة:-
= في السياسة المالية: روى البيهقي ( أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ لَمَّا كَثُرَ المالُ في زَمَانِهِ، أجمع على أن يُدَوِّنَ الدواوين فَاستَشَارَ، فقال: بمن ترون أن أبدَأَ؟. فقال له رجلٌ: إِبدَأْ بالأقربِ فالأقربِ بك. قال: ذَكَّرتُمُونِي، بل أبدأُ بالأقربِ فالأقربِ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فبدأ ببني هاشم ).
لقد ترك الخليفة الفاروق رأي من أشار عليه بالبدء بقرابته إلى ما ظهر له من جواب المستشار حول البدء بالقرابات، فَقَدَّمَ قرابة رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
= في السياسة التعليمية: روى الخطيب في تقييد العلم ( أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أراد أن يكتبَ السُّنَنَ، فَاستَشَارَ فيها أصحابَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأشار عليه عامتهم بذلك، فلبث عُمَرُ شهراً يستخيرُ الله في ذلك شَاكَاً فيه، ثم أصبح يوماً وقد عَزَمَ اللهُ له، فقال: إِنِّي قد كنتُ ذَكَرتُ لكم من كتابِ السُّنَنِ ما قد عَلِمتم، ثم تَذَكَّرتُ فإذا أُنَاسٌ من أهلِ الكتابِ قبلكم قد كتبوا مع كتابِ اللهِ كُتُبَاً، فََأَكَبُّوا عليها وتركوا كتابَ الله، وإني والله لا أُلبِسُ كتابَ الله بشيءٍ أبداً. فترك كتابَ السُّنَنِ ).
ابتدأ الخليفة الصحابةَ بطلب رأيهم في كتابة الحديث النبوي، فلما وافقوه تَهَيَّبَ من تحقيقه؛ خوفاً من أن ينصرف الناس إلى الاهتمام بالحديث النبوي الشريف على حساب الاهتمام بكتاب الله العظيم، فلم يأخذ بآرائهم.
= في السياسة الأمنية: روى سعيد بن منصور عن سعيد الْمَقْبُرِيِّ قال ( حضرتُ عَلِيَّ بن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللهُ عَنهُ أُتِيَ برجلٍ مقطوعِ اليَدَ والرِّجلِ قد سَرَقَ، فقال لأصحابه: مَا تَرَونَ فِي هَذَا؟. قالوا: اِقطَعهُ يا أمير المؤمنين!. قال: قَتَلتُهُ إِذَاً، وَمَا عَلَيهِ القَتلُ، بِأَيِّ شَيءٍ يَأكُلُ الطَّعَامَ؟، بِأَيِّ شَيءٍ يتوضَّأُ للصلاة؟، بِأَيِّ شَيءٍ يقومُ لحاجته؟. فَرَدَّهُ إلى السِّجنِ أَيَّامَاً، ثُمَّ أَخرَجَهُ، فَاستَشَارَ أصحابه، فقالوا مثلَ قولهم الأَوَّل، وقال لهم مثلَ مَا قَالَ أوَّلاً، فَجَلَدَهُ جَلدَاً شديداً، ثُمَّ أَرسَلَهُ ).
هنا ترك رابع الخلفاء الراشدين رأي مستشاريه لما علل به رفضَهُ رَأْيَهُمْ؛ مع أنه هو من ابتدأهم بطلب المشورة.
= وقد جعلت الدول كلها في القديم والحديث هامشاً لولي الأمر يمكنه فيه البَتُّ بِرَأيِهِ وإن خالف الجماعة؛ لما له من نظرٍ وَدِرَايَةٍ وَتَفَرُّسٍ في أمورٍ لا يزال يُمَارِسُهَا بِحُكمِ وِلايَتِهِ قد تخفى على غيره.
الحال الثالثة/ أن لا يستشيرهم، ويلزمهم برأيه.
في أهم حدثٍ في التاريخ الإسلامي بُعَيد وفاةِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في باب حفظ الأمن الداخلي والقضاء على حركات التمرد والعصيان المسلح. روى البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (( لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ، [فَأَجْمَعَ أَبُو بَكْرٍ لِقِتَالِهِمْ]، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ؟؛ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ!، لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ؛ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ! لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَوَاللَّهِ! مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ )). والزيادة للنسائي.
= في هذه القصة لم ينتظر الخليفة الراشد رضي الله عنه وُرُوْدَ المشوراتِ عليه، بل عزم على الفور على قتال المرتدين وَفَرضِ هيبة الدولة وَحِفظِ الأمن واستمرارِ موارد بيت المال اللازمة لبقاء الدولة وقيام الدين، حتى أنَّ أقربَ مستشارٍ له وهو خليفته من بعده ووليُّ عهده عُمَرُ بْن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لم يُطلَب رَأيُهُ في الأمر ولم يُؤخَذ بِهِ بعد أن بَذَلَه.
الحال الرابعة/ أن يشيروا عليه ابتداءً، فيوافقهم.
لاشك أنَّ مصالح الدول في سياساتها الداخلية والخارجية تتوقف على: إخلاص المستشار، وصواب المشورة، وسرعة استجابة المسؤول.
= ومن ذلك في عهد النبوة في باب السياسة الدفاعية : أنه لَمَّا سَمِعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَسِيرِ قريشٍ إلَيْهِ فِيْ المَرَّةِ الثَّالِثَةِ اسْتَشَارَ الصّحَابَةَ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَفْرِ خَنْدَقٍ يَحُولُ بَيْنَ الْعَدُوّ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَبَادَرَ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ مَعَهُم عَلَيْهِ الصَّلاةِ والسَّلام.
= وقبل ذلك في باب السياسة الهجومية: روى البيهقي في ذكر غزوة بدر حديثاً، فيه (( .. فسار رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَاِدُرُهم إلى الماءِ حتى نَزَلَ بَدرَاً، فَسَبَقَ قُرَيشَاً إليه، فلما جاء أدنى ماءٍ من بَدرٍ نَزَلَ عليه، فقال له الحُبَابُ بنُ المُنذِرِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: يا رسولَ الله!، منزلٌ أَنزَلَكَهُ اللهُ ليس لنا أن نَتَعَدَّاه ولا نَقصُرَ عنه، أم هو الرَّأيُ والحَربُ والمَكِيدَةُ؟. فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بل هو الرَّأيُ والحَربُ والمَكِيدَةُ. فقال الحُبَابُ: يا رسولَ الله!، فإنَّ هذا ليس بِمَنزِلٍ، ولكن انهض حتى تجعلَ القُلُبَ كُلَّها من وَرَاءِ ظَهرِكَ، ثم غَوِّر كُلَّ قَلِيبٍٍ بها إلا قَلِيبَاً واحداً، ثم احفر عليه حَوضَاً، فَنُقَاتِلُ القومَ، فَنَشرَبُ ولا يشربون، حتى يَحكُمَ الله بيننا وبينهم. فقال: قد أَشَرتَ بِالرَّأيِ. ففعل ذلك )).
ولا تزال الدوائر الاستشارية والتشريعية تزاول هذا الأمر مع الحكام في جميع البلدان، يقترح أولو الرأي الشيءَ من صالح الدولة، ويعرضون الأمرَ على القيادة، فتوافقهم بعد توافر القناعة بجدوى تلك الدراسات.
الحال الخامسة/ أن يشيروا عليه ابتداءً فيرفض مشورتهم.
وأقرب مثال لذلك ما يمكن إدخاله في باب المعاهدات الدولية عندما صالح رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريشاً يوم الحديبية؛ مع أنه في حال قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ وهم في حال تَشَرذُمٍ وَضَعف؛ ومع استعداد المسلمين ورغبتهم الجادة في قتالهم. روى البخاري عن سَهْل بْن حُنَيْفٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أنه قَالَ يوم صفين (( أَيُّهَا النَّاسُ!، اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ!، فَإِنَّا كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَوْ نَرَى قِتَالاً لَقَاتَلْنَا، فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ!، أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟. فَقَالَ: بَلَى. فَقَالَ: أَلَيْسَ قَتْلانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلاهُمْ فِي النَّار؟. قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَعَلامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟، أَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟. فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ!، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا )).
= وهذا الأمر في العرف السياسي اليوم هو ما يسمى بالقرارات السيادية التي يُعنَى بها وليُّ الأمر ويتخذها من تلقاء نفسه دون الرجوع إلى مؤسسات الدولة الاستشارية، وسواءٌ: وافقها رِجَالاَتُ دولته، أو لم يُوافقوها؛ مثل: تعيين مسؤولي الدولة وإعفائهم من مناصبهم، أو: اتخاذِ قراراتِ إقامةِ العلاقات مع دولةٍ ما، أو قطعها، أو استئنافها، أو: إعلانِ حالة الطوارئ العامة، أو رفعها، أو: التنازلِ عن منصبه لمن بعده، وكذا: جميعُ ما نَصَّ عليه دستورُ الدولة بأنه من اختصاصه.
الحال السادسة/ أن تختلف عليه الآراء، فيأخذ برأي الأكثر.
إنَّ اجتماع الكلمة في كل أمور الدولة من أعز الأشياء، فالاختلاف بين الناس في جميع أمورهم مما فطرهم الله عليه، ولعل في ذلك رحمةً بهم؛ تجعل المسؤولين يقفون على المشكلة من زوايا متعددة، وينظرون إلى حلولها من جميع جوانبها، فيختارون منها ما يرونه الأنسب بحسب توفيق الله لهم.
= ففي مجال تحقيق الأمن الاجتماعي: يجب على الولاة الأخذ على يد من تُسَوِّلُ له نفسه زعزعة الأمن وإشاعة الفاحشة بين الناس؛ ولو بالأساليب الملتوية والطرق غير المباشرة. روى مالك في الموطأ ( أَنَّ رَجُلَيْنِ اسْتَبَّا فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: وَاللَّهِ مَا أَبِي بِزَانٍ، وَلا أُمِّي بِزَانِيَةٍ. فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ قَائِلٌ: مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: قَدْ كَانَ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ مَدْحٌ غَيْرُ هَذَا، نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ الْحَدَّ. فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ ).
كانت قرينةُ حالِ الرجلين - وأنهما في حالِ سِبَابٍ وَمُشَاتَمَةٍ - السَّبَبَ الذي جعل الخليفة الفاروق رَضِيَ اللهُ عَنهُ يعمد إلى تفسير مُرَادِ الأَوَّلِ بأنه تعريضٌ بصاحبه وسِبَابٌ خَفِيٌ لوالديه، فأنزل به عقوبة القذف.
= وفي باب مناصحة الخارجين على نظام الدولة: يتوجب على القائد النظر في المآلات وأنبل الغايات بالعفو عند المقدرة مع الاحتياط للمستقبل. روى البيهقي عَنْ حَارِثَة بْن مُضَرِّب قَالَ ( صَلَّيْتُ الْغَدَاة مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ: أَنَّهُ اِنْتَهَى إِلَى مَسْجِدِ بَنِي حَنِيفَةَ، فَسَمِعَ مُؤَذِّنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ النَّوَّاحَة يَشْهَد أَنَّ مُسَيْلِمَةَ رَسُولُ اللَّه، فَقَالَ عَبْدُ اللَّه: عَلَيَّ بِابْنِ النَّوَّاحَةِ وَأَصْحَابه. فَجِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ قُرَظَةَ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فَضَرَبَ عُنُقَ اِبْنِ النَّوَّاحَة، ثُمَّ اسْتَشَارَ النَّاس فِي أُولَئِكَ النَّفَر، فَأَشَارَ عَلَيْهِ عَدِيُّ بْنُ حَاتِم رَضِيَ اللهُ عَنهُ بِقَتْلِهِمْ، فَقَامَ جَرِيرٌ وَالأَشْعَثُ رَضِيَ اللهُ عَنهُما فَقَالا: بَلْ اسْتَتِبْهُمْ وَكَفِّلْهُمْ عَشَائِرهمْ، فَتَابُوا وَكَفَلَهُمْ عَشَائِرهمْ ).
لقد أخذ ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وهو قاضي الكوفة برأيِ الأكثرِ، فعفا عن الخارجين بعد استتابتهم والتكفيل عليهم، واكتفى بنفيهم إلى الشام بدلاً عن قتلهم؛ كما جاء في روايةٍ أخرى عنه رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَأَرضَاه.
الحال السابعة/ أن تختلف عليه الآراء، فيأخذ برأي الأقل.
يغلب على الناس في بعض العصور الأخذُ بالأشَدِّ، ويرى القليلُ منهم العكسَ لغايةٍ نبيلةٍ في أنفسهم، وفي بعض الأزمنة يرى الكثيرُ الأخذَ بالرفق، ويتجه بعضهم إلى التشديدِ لحكمةٍ يرونها؛ فيوافق الحاكم أولئك القلة فيما رأوه هنا أو هناك.
= ففي باب رفع عقوبات الحق العام عن فاقدي الأهلية: روى أبو داود عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (( أُتِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ بِمَجْنُونَةٍ قَدْ زَنَتْ، فَاسْتَشَارَ فِيهَا أُنَاسًا، فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ أَنْ تُرْجَمَ، فَمُرَّ بِهَا عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مَا شَأْنُ هَذِهِ؟. قَالُوا: مَجْنُونَةُ بَنِي فُلانٍ زَنَتْ، فَأَمَرَ بِهَا عُمَرُ أَنْ تُرْجَمَ. قَالَ فَقَالَ: ارْجِعُوا بِهَا. ثُمَّ أَتَاهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ!، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْقَلَمَ قَدْ رُفِعَ عَنْ ثَلاثَةٍ؛ عَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَبْرَأَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَعْقِلَ؟. قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا بَالُ هَذِهِ تُرْجَمُ؟. قَالَ: لا شَيْءَ. قَالَ: فَأَرْسِلْهَا!. قَالَ: فَأَرْسَلَهَا .. )) الحديث.
وعُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ ظَنَّ أنها زنت حال إفاقتها، فوافق من رأى رجمها من مستشاريه، فَلَمَّا أورَدَ عَلِيُّ بنُ أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنهُ على الخليفة احتمالَ كونِ زناها حال بَلاَئِهَا كما في روايةٍ أخرى، ما كان من عمر إلا أن صَدَّقَهُ وَجَعَلَ يُكَبِّرُ، ثم أطلقها رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِم أَجمَعِين.
= وفي باب تطبيق العقوبات للحق العام على من يجهل أحكام الشريعة أو القانون واجب التطبيق: روى الصنعاني في مصنفه أنَّ جَارِيَةً نُوبِيَّةً زَنَت وكانت ثَيِّبَاً، فَسَأَلَهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَبَلْتِ؟. قالت: نعم!، مِنْ مَرغُوشٍ بدرهمين. فَاستَشَارَ علياً، وعثمان، وعبدَ الرحمنِ بنَ عوفٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُم، فقال عَلِيٌ وعبدُ الرحمن: قد وَقَعَ عليها الحَدُّ. فقال: أَشِر عَلَيَّ يا عثمانُ!. فقال: قد أشَارَ عليك أَخَوَاكَ. قال: أَشِر عَلَيَّ أنت!. قال عثمان: أُرَاهَا تَستَهِلُّ به كَأَنَّهَا لا تَعلَمُهُ، وليس الحدُّ إلا على من عَلِمَهُ، فقال: صَدَقتَ، والذي نفسي بيده ما الحَدُّ إلا على مَن عَلِمَ. فَأَمَرَ بِهَا فَجُلِدَت مِائَةً، ثم غَرَّبَهَا.
لما فَطِنَ ذو النورين عثمانُ بنُ عفان رَضِيَ اللهُ عَنهُ إلى ما خفي على غيره، تَعَفَّفَ عن إبداء المشورة ومخالفة صاحبيه، إلا أنه لم يجد بُدَّاً من طرح ما لديه، فلقي قبولاً من الخليفة ما لم يلقه رأيُ من سبقه.
= وفي باب التعويض عن الأضرار غير المقصودة اللاحقة بالرعية من موظفي الدولة: روى الخطيب عن الحسن أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أرسلَ إلى امرأةٍ؛ وكان عُمَرُ رجلاً مهيباً، فلما جاءها الرسولُ، قالت: يَا وَيلَهَا!، مَا لَهَا وَلِعُمَر؟. فَخَرَجَت، فَضَرَبَهَا المَخَاضُ، وأسقطت غُلامَاً صَاحَ صَيحَةً ثم مات، فَبَلََغَ ذلك عُمَر، فَجَمَعَ المهاجرين والأنصار فاستشارهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين!، إنما كنت مُؤَدِّبَاً، وإنما أنت راعٍ. قال: ما تقولُ أنت يا عَلِيُّ؟. قال: أقول إن كان القومُ تابعوك على هواك فوالله ما نَصَحُوا لك، وإن يكونوا اجتهدوا آرَاءَهُم فوالله لقد أخطَأَ رَأيُهُم، غَرِمتَ يا أمير المؤمنين!. قال: فَعَزَمتُ عليك لَمَا قُمتَ فَقَسَمتَهَا عَلى قَومِك.
خالف عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ جموع الصحابة والمهاجرين، وقضى على الخليفة بضمان ما أصاب تلك المرأة، ولم يخش في الله لومة لائم، فارتضى ذلك الخليفة منه وترك رأي الأكثرية.
الحال الثامنة/ أن يُشير عليهم بغير ما يرون، ثم يرجع إلى رأيهم.
كثيراً ما يُقَرِّرُ ولاة الأمر عبر العصور قراراتٍ يتبين عَيبُهَا لاحقاً، فَيُشِيرُ عليهم أهلُ مَشُورَاتِهِم بالرجوع عنها، فيرجعون عن ما ظَهَرَ خطؤه منها إلى ما تَبَيَّنَ صوابه؛ ولا عيب في ذلك فالحقُّ أحقُّ أن يُتَّبَعَ. روى مسلم في صحيحه عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ (( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقَالَ: لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ. قَالَ: فَخَرَجَ شِيصاً. فَمَرَّ بِهِمْ، فَقَالَ: مَا لِنَخْلِكُمْ؟. قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ )).
وفي رواية للإمام أحمد أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (( إِنَّمَا هُوَ ظَنٌّ ظَنَنْتُهُ، إِنْ كَانَ يُغْنِي شَيْئاً فَاصْنَعُوا؛ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَالظَّنُّ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَلَكِنْ مَا قُلْتُ لَكُمْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَلَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ )).
وأمور المعاش من المتغيرات التي وَكَلَهَا الله إلى أهلها في كل زمانٍ ومكانٍ بحسبه؛ فما يصلح للناس في زمانٍ قد لا يصلح لهم في زمانٍ آخر، كما قد لا يصلح لغيرهم في زمانهم، ولذلك جُعلت أمور دنياهم إليهم؛ فهم أعلم بها من غيرهم.
الحال التاسعة/ أن يُشير عليهم فلا يقبلون، فينزل عند رأيهم.
يحدث أحياناً أن يأمر الحاكم بشيءٍ فيلقى اعتراضاً من مقربيه يعلم هو خطأهم فيه، ولكنه ينزل على رأيهم، إمَّا لما يرى من قُوَّةِ اعتراضهم، أو: من باب المجاراة لهم؛ ليعلموا خطأهم بأنفسهم.
= ففي باب مقاومة الأعداء: روى البيهقي والحاكم في قصة غزوة أحد (( كَانَ رَأْيُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقِيمَ بِالْمَدِينَةِ فَيُقَاتِلهُمْ فِيهَا، فَقَالَ لَهُ نَاسٌ لَمْ يَكُونُوا شَهِدُوا بَدْرًا: اُخْرُجْ بِنَا يَا رَسُولََ اللَّه إِلَيْهِمْ نُقَاتِلهُمْ بِأُحُدٍ، وَنَرْجُو أَنْ نُصِيبَ مِنْ الْفَضِيلَةِ مَا أَصَابَ أَهْل بَدْر. فَمَا زَالُوا بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى لَبِسَ لأْمَتَهُ .)) الحديث.
كان رأيُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إخراجَ الضعفة والذرية إلى آطام المدينة؛ وهي أشبه ما يسمى بالأبراج، حتى إذا دخل العدوُ المدينةَ قذفهم الرماةُ من فوق الأسطح، وقاتلهم الرجالُ في الأَزِقَّةِ، عل نحو ما يُعرَفُ اليومَ بحرب المدن أو حرب الشوارع؛ وهي أعقدُ وأشرسُ أنواع الحروب التي قَلَّمَا يُفلِحُ فيها المهاجِمُ دون خسائر بالغة في الأرواح والعتاد، غير أنَّ شبابَ الصحابةِ أبوا إلا الخروجَ لملاقاةِ العدوِّ المهاجم، فأجابهم المصطفى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على خلافِ ما رأى.
= وفي باب جهاد الطلب: روى البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ (( لَمَّا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالطَّائِفِ قَالَ: إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَالَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا نَبْرَحُ أَوْ نَفْتَحَهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَاغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ. قَالَ فَغَدَوْا، فَقَاتَلُوهُمْ قِتَالاً شَدِيدًا، وَكَثُرَ فِيهِمْ الْجِرَاحَاتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. قَالَ فَسَكَتُوا، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )).
فبعد أن حاصر المسلمون الطائفَ أربعين يوماً، وَكَان أهله قَدْ أَعَدُّوا فِيهِ مَا يَكْفِيهِمْ لِحِصَارِ سَنَة، فَاسْتَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْفَلَ بْنَ مُعَاوِيَةَ الدِّيلِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فَقَالَ: هُمْ ثَعْلَبٌ فِي جُحْرٍ؛ إِنْ أَقَمْت عَلَيْهِ أَخَذَتْهُ، وَإِنْ تَرَكْته لَمْ يَضُرُّك، فَقَرَّرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَحِيلَ عَنْهُمْ، فلم يوافقه الصحابةُ لِمَا أصابهم منهم، واغتراراً بقوتهم وكثرتهم، فنزل رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند رغبتهم مجاراةً لهم، ثم لَمَّا رأى ما أصابهم من الجراح عَرَضَ عليهم الرحيل مرة أخرى، فبادروه بالموافقة، فضحك عليه الصلاة والسلام من سرعة تبدل مواقفهم.
هذه أحوال الحاكم التسعة في المشورات التي يطلبها أو تُعرَضُ عليه، وَأَنَّ له أن يأخذَ بها أو بأحسنها، أو أن لا يأخذَ بها أصلاً.
وإنك لَتَعجَبُ ممن يُعرِضُ الحاكم عن رأيه إلى مشورة غيره من أهل السبر والدراية بعواقب الأمور، فَيَعمَدُ إلى تضليل مَن خَالَفَهُ وَتَخطِئَةِ حَاكِمِهِ، وَيَتَعَدَّى به الصَّلَفُ إلى تحريض العامة على مَن خَالَفَهُ بالجزم ببطلان شعائرهم؛ إنْ هُمْ وافقوا مخالفيه وتركوا قوله!؛ كما حصل في موضوع ( توسعة المسعى ) هذه الأيام.
والأولى بمثل هذا أن يحمدَ الله على العافية؛ فإنَّه إن كان على خطأٍ فقد عافاه الله من مَغَبَّتِهِ، وإن كان على صوابٍ فقد أَدَّى ما عليه وَبَرِئَت ذِمَّتُهُ، وإن كان من رأيه بطلانُ الشعيرة فليمتنع هو عنها لا يُكَلَّفُ إلا نفسه، وليس عليه أن يُلْزِمَ الناسَ بفتواه؛ وقد خالفه المئات من علماء المسلمين في جميع الأمصار، وليس له مُشَاغَبَةُ وَلِيِّ أمره ولا تجهيلُ أقرانه ولا التشويشُ على الناس في أمور عباداتهم؛ الذي من لوازمه تَألِيبُهُم على من أُمِرُوا بطاعته بعد طاعة الله ورسوله.
ولو أنَّ وليَّ الأمر أصدر تنظيماً يُحكِمُ علاقته بمستشاريه وَفْقَ ما جاء في الأحوال التسعة السالفة، ويُحَدَّدُ فيه موقفُ القيادة من المخالفات: لما رأينا مثل تلك التجاوزات التي يُمكِنُهَا أن تَشُقَّ عصا الطاعة، وَيُخشَى منها تفكيكُ المجتمع المتماسك، ولولا تداركُ القيادة الملهمة لهذه الهفوة واستنفارُهَا لمواجهة هذا الجنوح، ومبادرتُهَا لحشد التأييد لموقفها من قِبَلِ علماء الأمصار ومن زعماء طوائف المسلمين لصارت تلك الزَّلَّة بيئةً مناسبةً لزرع الفتنة؛ سواءٌ: من الأعداء المتربصين بالبلاد في الخارج، أو من أفراد الفئة الضالة في الداخل. أعاذنا الله من الخذلان وسوء الختام.
-
-
-
-
-
-
الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود
عدد التعليقات : 2 | عدد القراء : 4765 | تأريخ النشر : الخميس 3 جمادى الأولى 1429هـ الموافق 8 مايو 2008مإرسال المقالة
إرسال المقالة والتعليقات إلى صديق
|
|||
|
|
|||
|
|
|||
|
تأريخ النشر: الجمعة 5 جمادى الأولى 1429هـ الموافق 9 مايو 2008مسيحية
طباعة التعليق