|
نشرت في صحيفة عكاظ العدد 2538
نظاميات في المقالة السابقة تحدثنا عن فقه استشارة الحاكم، ونستعرض اليوم أهم قواعد استشارة الحكام في الفقه الإسلامي:القاعدة الأولى/
أنَّ الرأي ليس حكراً على الفقهاء دون العامة، ولا على كبار السن دون الشباب، ولا على الرجال دون النساء.
= روى البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ ( كَانَ عُمَرُ يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا؟؛ وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ. فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مَنْ قَدْ عَلِمْتُمْ. فَدَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ، فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلاَّ لِيُرِيَهُمْ، قَالَ: مَا تَقُولُونَ؟ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ }. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا. وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟. فَقُلْتُ: لا .. ) الحديث.
= ولم يكن هذا حال عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنهُ مع ابن عباس فقط، بل كان عاماً مع من يثق به من شباب المسلمين في عهده.
روى البيهقي عن ابن الماجشون قال: قال لنا ابنُ شهابٍ؛ ونحن فتيانٌ أحداثٌ نسأله عن العِلم: ( لا تحقروا أنفسكم بحداثة أسنانكم، فإنَّ عُمَر بن الخَطَّاب كان إذا نَزَلَ به أمرٌ دعا الشبابَ فاستشارهم؛ يبتغي حِدَّةَ عُقُولِهِم ).
= بل تعدى ذلك من عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنهُ إلى استشارة النساء، والأخذ بما يستحسنه من آرائِهِنَّ.
روى البيهقي عن ابن سيرين قال ( أنْ كان عُمَر رَضِيَ اللهُ عَنهُ لَيَستَشِيرُ في الأمر، حتى إن كان لَيَستَشِيرُ المرأة؛ رُبما أبصر في قولها الشيءَ يَستَحسِنُهُ، فَيَأخُذُ بِهِ ).
القاعدة الثانية/
أنَّ استشارة الحاكم لخيار رعيته لا تعني لزوم قبوله برأيهم ولا برأي أكثرهم، بل ولا برأي واحدٍ منهم؛ لأنه ربما ظهر له من مداولة الرأي معهم رأيٌ لم يبصروه، فأظهره الله عليه.
= ففي فقه الجنايات: روى ابن أبي شيبة عن عمرو بن شعيب قال ( كُتِبَ إلى عُمَر في امرأةٍ أخذت بِأُنثَيَي رَجُلٍ، فَخَرَقَتِ الجِلدَ ولم تَخرِق الصِّفَاقَ، فقال عُمَر لأصحابه: مَا تَرَونَ في هذا؟. قالوا: اجعلها بمنزلة الجَائِفَةِ. فقال عُمَر: لكني أرى غير ذلك، أرى أنَّ فيها نصف ما في الجَائِفَةِ ).
فقد ظهر للخليفة أن خرق جلد الصَّفَن ليس كخرق جدار البطن إلى الجوف؛ ما لم يمتد الخرق إلى الصِّفاق فينفذ الجرح إلى الجوف؛ فحينئذ يمكن أن تكون بمنزلة الجائفة، ولذلك جعل في خرق جلد الأنثيين نصف الجائفة فقط.
= وفي التنظيم الإداري: روى ابن أبي شيبة عن الشعبي قال ( كتب أبو موسى إلى عُمَر: أنه يأتينا كُتُبٌ ما نعرف تأريخَها فَأَرِّخْ، فَاستَشَارَ أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال بعضهم: أَرِّخْ لمبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال بعضهم: أَرِّخْ لموت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال عُمَر: أُؤرِّخُ لِمُهَاجَرِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّ مُهَاجَرَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرقٌ بين الحق والباطل، فَأَرَّخَ ).
وهنا أعرض الخليفة عن التأريخ للبعثة أو للموت، واختار حدثاً فارقاً بقي إلى عصرنا هذا وهو الهجرة، وأنعم به من رأي.
القاعدة الثالثة/
أنَّ الإشارة لا تكون فيما لم يُستشر فيه، فللحاكم أن يفرض رأيه متى رآه في مصلحة رعيته؛ بما أعطاه الله من ولاية هو أدرى بعواقب أمورها من غيره.
= روى ابن وهب عن عمرو بن العاص رَضِيَ اللهُ عَنهُ أنه كان يقول ( الإشَارَةُ مِن غَيرِ استِشَارَةِ حُمقٌ ).
ولذلك قَالَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ لابْنِهِ عبدِ الله ( إِنَّ هَذَا الرَّجُل - يَعْنِي عُمَر بن الخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنهُ - يُدْنِيك، فَلا تُفْشِيَنَّ لَهُ سِرًّا، وَلا تَغْتَابَنَّ عِنْده أَحَدًا، وَلا يَسْمَع مِنْك كَذِبًا " وَفِي رِوَايَة: وَلا تَبْتَدِئْهُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَسْأَلك عَنْهُ ). رواه البيهقي والطبراني في الكبير.
= لقد أسَّس العباس أهم قواعد صحبة الحكام في أربع جمل، إحداها جعل ابن العاص مخالفتها من الحماقة.
القاعدة الرابعة/
أنَّ مخالفة الحاكم لمستشاره لا تجعل المستشار في حِلٍ من طاعة الحاكم في ما خالف مشورته، بل عليه متابعة ولي أمره بالمعروف في غير معصية الله.
= روى أبو نعيم قال ( كان عَلَيٌ رَضِيَ اللهُ عَنهُ يتابع عُمَر بن الخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنهُ فيما يذهب إليه ويراه؛ مع كثرة استشارته عَلَياً، حتى قال عَلَيٌ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: يشاورني عُمَرُ في كذا، فرأيت كذا، ورأى هو كذا، فلم أر إلا متابعة عُمَر ).
= ولله دَرُّ ابن أبي طالب حيث قال ( فلم أَرَ إلا متابعة عمر ) وهو من خالفه رأيه؛ وهكذا هم الصالحون عبر العصور.
القاعدة الخامسة/
أنَّ للمستشار أن يتعفف عن المشورة متى كان رأيه مخالفاً الجماعة؛ إذا رأى أنَّ ما بُنِيَ عليه رأيهم قد يكون مقبولاً، حتى إذا أُلْزِمَ بالقول قال ما يراه وإن خالف من سبقه.
= روى البزار قال ( أُتِيَ عُمَر بمال فَقَسَمَهُ بين المسلمين، فَفَضُلَت منه فَضْلَةٌ، فَاستَشَارَ فيها، فقالوا له: لو تركته لِنَائِبَةٍ إن كانت. قال: وَعَلَيٌ لا يتكلم. فقال: مَا لَكَ يا أبا الحسن لا تتكلم؟. قال: قد أخبرك القوم. قال عُمَرُ: لَتَكَلَّمَنْ!. فقال: إنَّ الله قد فَرَغَ من قِسمَةِ هذا المال، وَذَكَّرَهُ حديث مال البحرين حين جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَالَ بينه وبين أن يَقسِمَهُ الليل، فصلى الصلوات في المسجد، فلقد رأيت ذلك في وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى فَرَغَ منه، فقال: لا جَرَمَ، لَتَقسِمَنَّه!. فَقَسَمَهُ عَلِيٌ، قال طلحة: فأصابني منه ثمانمائة درهم ).
= لم يشأ أبو الحسن أن يخالف من سبقه خصوصاً وأنَّ لرأيهم حظ من النظر، ولما أجبر على البيان اخبر بما لديه وَدَلَّل له فحظي بالقبول ممن استشاره.
القاعدة السادسة/
أنَّ المشورة في غير ما نُصَّ عليه في الكتاب والسنة من أمور الناس تجعل الخيار للحاكم في اختيار أسهلها أو ما يناسب المقام.
= قال البخاري في صحيحه ( وَكَانَتْ الأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَشِيرُونَ الأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الأُمُورِ الْمُبَاحَةِ؛ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا، فَإِذَا وَضَحَ الْكِتَابُ أَوْ السُّنَّةُ لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيْرِهِ؛ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ).
من كل ما تقدم، ومن أجل تحقيق الهدف الأسمى من المشورة يظهر لنا: أنه من المناسب تنظيم وضع الاستشارات، وتحديد صلاحية المستشارين، وتبيين ما لهم وما عليهم، أياً كانت المجالس الاستشارية التي ينتمون إليها؛ حتى لا تختلط الأوراق، وكيلا تنحرف المشورات، ولئلا يَرتَدَّ السهم عن الرَّمِيَّة. والله المستعان
-
-
-
-
-
الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود
عدد التعليقات : 1 | عدد القراء : 4960 | تأريخ النشر : الاثنين 7 جمادى الأولى 1429هـ الموافق 12 مايو 2008مإرسال المقالة
إرسال المقالة والتعليقات إلى صديق
|
|||
|
|
|||
|
|
|||
|
تأريخ النشر: الاثنين 21 جمادى الأولى 1429هـ الموافق 26 مايو 2008مسيحية
طباعة التعليق