|
قضائيات لن أتحدث عن عصر الخليفة الراشد الفاروق عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنهُ، من باب قول الشاعر:-
وليس يصح في الأذهان شيء = إذا احتاج النهار إلى دليل
ولن أُقَرِّرَ العدل الذي تمنطق به خامس الخلفاء الراشدين أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فهو أشهر من أن يذكر، لكننا سنستضيء ببعض أنوار العدل من ذلك السِّبْطِ العُمَرِيِّ.
عمر بن عبد العزيز رجل نشأ في بيت الإمارة، وتقلب في نعيمها، وعاش حياة البذخ والرفاهية كغيره من أبناء الخلفاء وسلالات الملوك؛ حتى اشتهر عنه أنه كان يستخشن الحرير لنعومة جلده، هذا الفتى الذي ولي إمارة المدينة النبوية المنورة وهو في السادسة والعشرين من عمره، وولي الخلافة قبيل الأربعين كان خير خلفاء بني مروان، وآخر خليفة أجمع الناس على عدله حتى من خصومه.
لم تدم خلافته أكثر من سنتين وخمسة أشهر فقط، لكنه أنجز فيها ما عجز عن تحقيقه كثير من السلاطين والأباطرة والأمراء عبر التاريخ، على الرغم من اتساع رقعة خلافته بدءاً من الصين شرقاً وحتى شمال إسبانيا غرباً، ومن صعوبة التواصل بينه وبين أمراء الأقاليم إلا بِجُهْدٍ كبيرٍ وَوَقْتٍ كثيرٍ.
هذا الرجل الذي اشتكى من عدله بنو عمه لَمَّا رَدَّ المظالم التي بأيديهم إلى أهلها، حتى فزعوا إلى عمته فاطمة بنت مروان لتكلمه، فلما رجعت إليهم قالت لهم: أنتم فعلتم هذا بأنفسكم، تزوجتم بأولاد عمر بن الخطاب فجاء يشبه جده. فأسكتتهم بذلك، نَعَمْ! لقد أدركه صلاح جَدِّهِ لأمه الفاروق عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فَنِعمَ النَّسَبُ ذلك المَنْسَبُ وَنِعمَ الولد من ذلك الوالد، رضي الله عنهم وأرضاهم.
كانت خلافة عمر بن عبد العزيز رَضِيَ اللهُ عَنهُ حافلة بالإنجازات، ولم تتجاوز السنتين إلا ببضعة أشهر، ومنها:-
= أمر زوجته فاطمة بنت عبد الملك برد الحُلِيِّ التي وهبها أبوها إلى بيت مال المسلمين، ففعلت على الفور.
= كانت حديقة فدك وقفاً لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينفق منها، ويعود منها على صغير بني هاشم، ويزوج منها أَيِّمَهُمْ، وكذلك كانت في حياة أبي بكر وعمر، فلما كان مروان بن الحكم اقتطعها لنفسه، حتى صارت لعمر بن عبد العزيز، فأعادها إلى ولد فاطمة الزهراء عليها الصلاة والسلام.
= منع شتم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنهُ من على منابر الجمعة، كما مضت به عادة بني أمية قبله.
= أسقط الزيادة في الجزية عن النصارى من أهل تبوك وعن نجرانية الكوفة، كما أسقط الجزية وكل ضريبةٍ عمن أسلم من أهل خراسان.
= أصلح الطرق، وأمر الولاة أن يجعلوا للناس خانات ( استراحات ) على الطرق العامة، وأن يُضِيْفُوا المسافرين يوماً وليلة، ويتعاهدوا فيها دوابهم، ومن كان منهم به علة فَيُضَافُ يومين وليلتين، ومن كان منهم منقطعاً فَيُبْلَغُ بِهِ بَلَدُهُ.
= منع ولاته أن يَسْتَقِلُّوا بأوامر القتل والصلب قبل مراجعته.
= أمر ولاته: أن من أراد من ذراري المسلمين أن يَحُجَّ فيعطى مائة درهم نفقةً لِيَحُجَّ بها.
= بلغ العدل من قضاته مبلغاً لم يَسبِقْ وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ مِثْلُهُ، وذلك أن أهل سمرقند شكوا إليه أن قائد جيش المسلمين فتح بلادهم دون أن ينابذهم كما أمر الله في كتابه العزيز { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ }، فكتب عمر إلى واليه: أن أَجْلِسْ لهم القاضي، فلينظر في أمرهم، فإن قضى لهم فَأَخْرِجْ الجيش إلى معسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن تظهروا عليهم. فَأَجْلَسَ لهم القاضي: جميعَ بنَ حاضرٍ النَّاجِيَّ، فقضى ( أن يخرج عَرَبُ سمرقند إلى معسكرهم، وينابذوا أهل سمرقند على سواءٍ، فيكون صُلْحَاً جديداً أو ظَفَرَاً عَنْوَةً ). فلما رأوا ذلك رضوا بما كان.
= ناظر الخوارج - في آخر أيامه - ولم يعجل عليهم وهم يومذاك قليل، وكان مما قاله لزعيمهم ( بلغني: أنك خرجت غضباً لله ولنبيه، ولستَ بأولى بذلك مِنِّيْ، فَهَلُمَّ إِلَيَّ أناظرك!؛ فإن كان الحق بأيدينا دخلت فيما دخل فيه الناس، وإن كان في يدك نظرنا في أمرك ). ولما ناظرهم رجع منهم كثير.
= بلغ من حكمته في سياسة الرعية يوم أن حادثه ابنه عبد الملك في أمر الإسراع في تحقيق العدل؛ وهو يقول لوالده: يا أمير المؤمنين!، ما تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقاً لم تُحْيِهِ وباطلاً لم تُمِتْهُ؟. يا أمير المؤمنين!، ما يمنعك أن تُنْفِذَ رأيك في هذا الأمر، فوالله ما كنت أُبَاْلِيْ أن تغلي بي وبك القدور في نفاذ هذا الأمر. فقال عمر لابنه: يَا بُنِيِّ!، إني أُرَوِّضُ الناس رياضة الصعب، فإن الله أبقاني مضيت لِنِيَّتِيْ ورأيي، وإن عَجِلَتْ عَلَيَّ مَنِيَّتِيْ لقد علم الله نيتي، وإني إِن بَادَهْتُ النَّاسِ بِمَا تَقُولُ أَحوَجُونِي إِلَى السَّيفِ، وَلاَ خَيرَ فِي خَيرٍ لاَ يَحيَا إِلاَّ بِالسَّيفِ.
= وبلغ من سياسته في ترويض الناس ما أوضحه بقوله: لو أقمت فيكم خمسين عاماَ ما استكملت فيكم العدل، إني لأُرِيْدُ أن أُخْرِجَ للمسلمين أمراً من العدل، فأخاف أن لا تَحْتَمِلَهُ قلوبهم، فَأُخْرِجُ معه طمعاً من طمع الدنيا، فَإِنْ فَرَّتْ القلوب من هذا سكنت إلى هذا.
= كان من حكمته في اختيار الأصحاب أن خطب قائلاً: أَيُّهَا النَّاس!، مَنْ صَحِبَنَا فَليَصْحَبْنَا بِخَمسٍ ، وَإِلاَّ فَلاَ يَقْرَبْنَا: يَرْفَعُ إِلَيْنَا حَاْجَةَ مَنْ لاَ يَسْتَطِيْعُ رَفْعَهَا، وَيُعِيْنُنَا عَلَى الخَيْرِ بِجَهْدِهِ، وَيَدُلُنَا مِن الخَيرِ عَلَى مَا نَهتَدِي إِلَيهِ، وَلاَ يَغتَابَنَّ أَحَدَاً، وَلاَ يَعتَرِض فِي مَا لاَ يَعْنِيْهِ.
= وكان من رحمته ورأفته وشفقته بالمسلمين أن أمر بإجلاء المسلمين من ( طرنده ) في وسط تركيا اليوم إلى ( ملطية ) قريباً من الحدود السورية؛ خوفاً عليهم من الروم، وأجرى عليهم أرزاقهم، كما أمر من عبر نهر السند من المسلمين أن يعودوا إلى حيث يستطيع المسلمون الدفاع عنهم حتى يستقر أمر تلك البلاد، وأمر واليه أن يُوْقِفَ الغزو في تلك البلاد؛ اكتفاءً بما حصل، فكان أن انتشر الإسلام فيما وراء النهر بالدعوة وحسن المعاملة.
هذا هو حال عمر بن عبد العزيز، فكيف بحال عبد الله بن عبد العزيز؟!، إننا - بِحَقٍ - نعيش عصراً عُمَرِيَّاً مماثلاً، نأمل أن يَمُدَّ الله في عُمُرِ خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز؛ ليرى بنفسه هو - أولاً - تَحَقُّقَ ما أمر به من إنجازاتٍ، ولنرى معه - وفقه الله - الكثير مما تنطوي عليه عزيمته من تحقيق الإصلاح في كثيرٍ من مناحي الحياة، وليسجل التأريخ ذلك في صفحاته البيضاء بأحرفٍ من النور؛ فهو الملك الذي أجمع على محبته الأضداد، ولم يختلف على عدله الأنداد. وليس ذلك على الله بعزيز.
-
-
-
-
-
الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود
عدد التعليقات : 3 | عدد القراء : 4590 | تأريخ النشر : الاثنين 19 جمادى الآخرة 1429هـ الموافق 23 يونيو 2008مإرسال المقالة
إرسال المقالة والتعليقات إلى صديق
|
|||
|
|
|||
|
|
|||
|
تأريخ النشر: الأحد 25 جمادى الآخرة 1429هـ الموافق 29 يونيو 2008مسيحية
طباعة التعليق