|
نظاميات نطالع الصحف بين الحين والآخر، فنرى فيها أخبار القبض على المشعوذين؛ من الرقاة، وممتهني الطب البديل، والطب الشعبي منه على وجه الخصوص، ومن يعالج بالطاقة، أو بتقنيات التأمل والاسترخاء وغيرها؛ يُرَوَّجُ فيها الخيال بأجورٍ باهظة، ويباع منها الوهم بأثمانٍ قارضة.
كما نقرأ في الصحف والمجلات أخباراً عن بدء التحقيق مع أدعياء الطب؛ من مزوري الشهادات العلمية؛ سواء: من طلبة الطب الذين أخفقوا فلم يستطيعوا إكمال الدراسة، أو من غيرهم من المتطببين الجهلة.
ومع عرفان المجتمع برمته لصنيع من يقوم بتلك الجهود؛ آمراً أو مُبَلِّغَاً أو مباشراً، إلا أنَّنا نأمل تعدية تلك المهام إلى ما هو أهم وأولى بالبحث عن الجودة، والتحري عن السلامة، فقديماً قيل: الخطر على الأديان أشر على الأمة وأشد من الخطر على الأبدان؛ فالخطر على البدن يأتي على الأفراد في الحاضر، والخطر على الدين يأتي على الجماعات في الحاضر والمستقبل.
وبعض وسائل الإعلام - من القنوات الفضائية والمجلات والصحف - لا تزال تفرز الأخطاء تلو الأخطاء في أمور الدين والعقيدة وعلاقة الإنسان بربه؛ في بعض برامج الفتوى والاستشارات النفسية والاجتماعية، ولا تجد من يحتسب على هؤلاء أو يحاسبهم، وهم أولى بالاحتساب عليهم ومراقبتهم وتنظيم عملهم من الصناع والمهنيين.
وإذا كان للبقالين والخبازين والطباخين إدارة مهنية تحمي المستهلك من غشهم وتدليسهم، وإدارة طبية تضمن تطبيقهم شروط السلامة الصحية، فإنَّ حماية الناس من جهل المفتين المزيفين ومن ضلالهم وإضلالهم أولى وأحرى.
إنَّ الاختلاف بين علماء المسلمين موجود منذ عهد الصحابة رضوان الله عليهم وحتى زماننا هذا، غير أنَّ من يفتي بلا علم - في كل الأزمنة، وفي جميع الأمكنة - هم ممن حذر الرسول عليه الصلاة والسلام منهم بقوله (( إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسًا جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا )).
وهم ممن دعا عليهم المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَصَابَ رَجُلاً جُرْحٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ احْتَلَمَ فَأُمِرَ بِالاغْتِسَالِ، فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ (( قَتَلُوهُ قَتَلَهُمْ اللَّهُ، أَلَمْ يَكُنْ شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالَ )).
ولعل من المناسب متابعة برامج الإفتاء والاستشارات النفسية والاجتماعية في جميع وسائل الإعلام وتدقيقها؛ من قبل الرئاسة العامة للإفتاء، ومن وزارات الشؤون الاجتماعية والصحة والإعلام؛ فمن عُلِمَ أنَّ خطأه كثير أو خطره كبير فيشرع منعه والحجر عليه، كما يتوجه تنظيم مثل هذه الخدمات بوضع الاختبارات المناسبة، والإلزام بالحصول على التراخيص والتصاريح اللازمة لممارسة هذه الخدمات.
ولا يعني ذلك تكميم أفواه الناس، وكتم حريات التعبير، فإنَّ ما يرى المرء جواز اعتقاده لنفسه لا يستلزم جواز نشره ودعوة غيره إليه؛ ما لم يكن في مصلحة العامة التي وُكِلَ أمرها إلى الحكومات اَلْمُسَدَّدَةِ، لا إلى أهواء الأشخاص ورغبات المنتفعين؛ وإلا لجعلنا لأصحاب الأفكار الضالة من المخربين والخارجين علينا سبيلا.
إننا لا نشك أبداً أنَّ لكل ذي فكرٍ أن يجادل ويناظر ويحاور معارضيه فيما يراه من قضايا؛ ولو عبر وسائل الإعلام إن أمكنه، ولكن ليس له أن ينفرد بالعامة قبل إقراره على فَنِّهِ من جهات الاختصاص؛ ضماناً لمصلحة العموم.
فإن قيل: إنَّ في ذلك تأخيراً وإبطاءً لمسيرة التنمية. قلنا: إنَّ الوصول المتأخر خير من عدم الوصول؛ وعدم الوصول يكون بالانحراف إلى الطريق الخطأ، أو بالانجراف إلى طريق الهلاك.
إنَّ الاحتياط من خطر أدعياء العلم والفكر والمعرفة من أوجب ما على الدول رعايته لمصالح شعوبها؛ لكيلا ينتشر في الناس جهلهم، ولئلا يُفسدوا عليهم دينهم وعقولهم، فالسلامة لا يعدلها شيء، والجهل بعلمهم خير من العمل بجهلهم.
وإنَّ من مساوئ فوضى هذه البرامج: التنافر الظاهر بين مقدميها، والتضارب السافر بين ما يُقَدَّمُ فيها؛ تناقضاً يَفْتُرُ به المسلم العامي عن الطاعة، ويَنْفُرُ به غير المسلم عن الدعوة، ويجد اَلْمُغْرِضُ به ثَغْرَةً يأتي من قِبَلِهَا على هذا الدين القويم؛ في حين أنه مَاْ مِنْ مُسْلِمٍ إِلاَّ وَهُوَ قَاْئِمٌ عَلَىْ ثَغْرَةٍ مِنْ ثُغُرِ اَلإِسْلاَمِ، فَمَنْ اِسْتَطَاْعَ أَلاَّ يُؤْتَىْ اَلإِسْلامَ مِنْ ثَغْرَتِهِ فَلْيَفْعَلْ. كما روي عن الإمام الأوزاعي يرحمه الله.
ومن الملحوظات على بعض مقدمي هذه البرامج:
أولاً/ الموسوعية: فتجد المفتي لا يترك سؤالاً إلا وأجاب عنه؛ بالإجمال أو التفصيل، ورحم الله الشيخ ابن باز إذ لم نَعُدْ نسمع من المفتين بعده قول: لا أعلم.
ثانياً/ الجمود: فلا ترى المفتي يتفاعل مع السؤال بأيِّ نوعٍ من أنواع التأثر؛ فلا يُضَمِّنُ أكثرهم في جوابه الدعاء للسائل، أو للمسؤول عنه بنحو هدايةٍ أو شفاءٍ أو تثبيت، وهذا من قسوة القلب وتحجره.
ثالثاً/ الخطأ: كثيراً ما تتضمن الفتوى خطأً فاحشاً في مثل قسمة المواريث، ومع أنَّ صاحبها قد يُدرِكُ وقوعه في الخطأ - بما يظهر من تلعثمه بعد الجواب - غير أنه لا يتوقف لتصويبه من الكِبْرِ، ولا يُراجع الجواب لتصحيحه في حلقة قابلة.
رابعاً/ التَّسَرُّع: إنَّ من أسوأ ما نشاهده ونسمعه من برامج الفتاوى هو برامج الإفتاء المباشر في وسائل الإعلام أو في الملتقيات والأنشطة الثقافية والدينية؛ خصوصاً في مسائل المعاملات الشائكة، أو في أحكام الأسرة المتداخلة، ولو اِسْتُقْبِلَتْ الأسئلة عبر الهاتف أو الفاكس أو بواسطة البريد الإلكتروني أو الهاتف الخلوي، ثم أُعْطِيَتْ للمفتي ليدرسها وَيُحَضِّرَ أجوبتها - قبل بثها بوقتٍ كافٍ - لكان أحرى بموافقة الصواب، وأقرب إلى مجانبة الخطأ.
خامساً/ التَّصَنُّع: فيظهر بعضهم وكأنه تمثالٌ لا يتحرك منه غير شفتيه، أو يبالغ في تخشين الصوت على غير عادته، أو يَتَقَعَّرُ في كلامه بِلَيِّ شِدقِهِ تَفَصُّحَاً، فَيُقَلْقِلُ وَيُرَقِّقُ وَيَهْمُسُ في غير التلاوة؛ مُستجلباً بذلك الهيبة والتَّمَيُّزَ والشهرة، وما علم أنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُبْغِضُ الْبَلِيغَ مِنْ الرِّجَالِ؛ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ تَخَلُّلَ الْبَاقِرَةِ بِلِسَانِهَا؛ كما ثبت في الحديث الشريف.
سادساً/ اللحن: وما أكثر ما نسمع من كثيرٍ منهم خفض المرفوع ونصب المخفوض؛ ناهيك عن أخطاء تصريف الأفعال وبناء المصادر؛ مما لا يسع جهله من مثلهم.
فلعل الجهات المعنية تقوم بواجبها في هذا الجانب؛ حسبة لدين الله أولاً، واستنقاذاً للعامة من زلات هؤلاء المتصدرين، قبل أن تطغى المادية على هذه البرامج، فتتنافس القنوات على بيع الفتوى فيها، كما تنافسوا على شراء المفتين من قبل. والله الموفق
-
-
-
-
-
الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود
ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 5188 | تأريخ النشر : الاثنين 25 رجب 1429هـ الموافق 28 يوليو 2008مإرسال المقالة
|
|||
|
|
|||
|