|
نظاميات عندما يتحدث الناس عن الانتماءات والولاءات، يذهبون في تقرير ذلك إلى مذاهب عدة تنقسم إلى قسمين كليين:
الأول/ القسم المسباري ( التلسكوبي ): وهم من تطلعوا للولاءات العامة.
ومنهم: الوطنيون الذين جعلوا ولاءهم يرقى إلى مستوى الوطن، ومنهم: العروبيون؛ الذين ولاؤهم للقومية العربية دون غيرها، ومنهم: الإسلاميون؛ الذين ولاؤهم للدين دون غيره من الانتماءات، ومنهم: الإنسانيون؛ الذين تركوا كل الولاءات السائدة، وتعلقوا بالولاء الأشمل لجميع البشر؛ وهو الإنسانية.
الثاني/ القسم المجهري ( المايكروسكوبي ): وهم الذين قصروا تطلعاتهم على الولاءات الخاصة.
ومن هؤلاء: الحزبيون؛ الذين حصروا ولاءهم وانتماءاتهم للحزب؛ كما هو حال الإخوان المسلمين والليبراليين في العالم العربي، ومنهم: الطائفيون؛ الذين جعلوا ولاءهم للطائفة؛ كما هو حال الشيعة الصفوية في هذا الزمان، ومنهم: القبليون؛ الذين تعلقوا بالقبيلة ونبذوا ما سواها.
فأي أنواع القسمين أولى بالحق من غيره من الأقسام؟.
الجواب: أن الجميع تعلق بشعرة من شعرات هامة الحق والصواب، ولم يتعلق أيٌ منهم بالهامة ذاتها ،ولا بإحدى جدائلها.
وللبيان يظهر لنا: أن الانتماءات منها ما هو طبيعي، ومنها ما هو مصلحي، والانتماءات الطبيعية سبعة:
أولاً/ الانتماء العائلي: إذ ينشأ المرء - غالباً - في عائلة؛ من أب وأم وأخوة وأخوات، وقد يكون من بين أفرادها الجدان، وقد اخترت مسمى العائلي؛ لتوافق قوله عليه الصلاة والسلام (( وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ )).
ومنه: قوله صلى الله عليه وسلم ((أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ )).
ثانياً/ الانتماء الأسري: تنتمي العائلة الصغيرة إلى أسرة كبيرة يدخل فيها الأعمام وأبناء العمومة والقرابة من جهة الأب؛ بحيث يشترك الجميع في لقب واحد؛ مثل: آل سعود، وآل ثاني، وآل نهيان.
ومنه: قوله عليه الصلاة والسلام (( يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ!، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ النَّارِ )) حتى قال (( فَإِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا؛ غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلالِهَا )).
ثالثاً/ الانتماء القبلي: يزداد التنامي للانتماء حتى يصل إلى القبيلة، فهذا قحطاني وذاك عدناني، ويتسمى بعضهم بالقبيلة الأبعد؛ مثل: التميمي، أو الجهني، وبعضهم يختار القبيلة الأقرب؛ مثل: الهاجري، أو الشهري. وهكذا.
ومنه: ما رواه أَبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ } قَالَ (( يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ!، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا )).
ويمكن تسمية الانتماءات الثلاثة السالفة بالانتماء الحسي.
رابعاً/ الانتماء الوطني: يصل الانتماء إلى الوطن الأصغر ( المدينة ) مثل: مكة، أو المدينة، ثم الوطن الصغير ( المنطقة )؛ مثل: الحجاز، أو نجد، أو هجر، ثم الوطن الكبير ( الدولة )؛ مثل: السعودية، أو الأردن، أو الجزائر، ثم الوطن الأكبر ( الإقليم )؛ مثل: الجزيرة العربية لدوله السبع، أو الشام لدوله الأربع، أو المغرب العربي لدوله الخمس.
ومنه: قوله عليه الصلاة والسلام لمكة (( ما أطيبك من بلدة وأحبك إليَّ، ولولا أن قومك أخرجوني ما سكنت غيرك ))، وقوله صلى الله عليه وسلم (( اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ )).
خامساً/ الانتماء القومي: كالعروبة للعرب، والفارسية للفرس، والتركية للترك، وهو الارتفاع بالانتماء إلى العرق المشترك لمجموعة من الدول أو الأقاليم المتجاورة، يجمع بينها لغة واحدة تميزها عن غيرها من الأمم، دون اعتبار للدين أو الوطن.
قال الألباني يرحمه الله ( ما ذكرته من أفضلية جنس العرب هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، ويدل عليه مجموعة من الأحاديث الواردة في هذا الباب .. ) الخ.
ولعل منه: شفقته صلى الله عليه وسلم بالعرب فيما روته زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ (( لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدْ اقْتَرَبَ؛ فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ )) وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا ... الحديث.
ومنه: قول عمر رضي الله عنه في وصيته للخليفة من بعده ( وَأُوصِيهِ بِالأَعْرَابِ خَيْرًا؛ فَإِنَّهُمْ أَصْلُ الْعَرَبِ وَمَادَّةُ الإِسْلامِ ).
سادساً/ الانتماء الديني: إذ يرتفع الانتماء أكثر إلى ما يتوحد به أغلب العرب مع غيرهم من العرقيات الأخرى؛ فينشأ الولاء للدين الذي يدين به ربع سكان العالم اليوم.
ومنه: قوله عليه الصلاة والسلام ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ؛ لا يَظْلِمُهُ، وَلا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )).
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ!، أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلا لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى )).
سابعاً/ الانتماء الإنساني: حيث يصل الانتماء ذروته إلى جميع شركاء الخلافة على الأرض والاستعمار فيها؛ كما قال الرب جل وعلا { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ }، وقوله سبحانه { هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا }، وهم بنو آدم، أو بنو الإنسان، أو البشر. فيكون الانتماء ( الآدمي )، أو ( الإنساني )، أو ( البشري ).
قال عز جاهه { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى }، وقال تبارك وتعالى { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ }، وقال جلت عظمته { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ }، وهذا الانتماء تكميلي؛ لأنه لا يكون في مواجهة غير الجمادات والحيوانات والجان، وتلك لا تحتاج إلى ولاء للوقوف في مواجهتها، ولا يرقى هذا التوجه للمفاضلة بينه وبين سائر الانتماءات الأخرى.
أما ما يسمى بمبادئ حقوق الإنسان فتلك مطالب مشروعة في مجملها؛ اِتُفِقَ على أنها حق لكل إنسان على أخيه الإنسان؛ كما هو حال حقوق الفرد من أفراد القبيلة الواحدة على سائر القبيلة، أو حق العربي على سائر العرب، أو حق المسلم على بقية المسلمين، وليست الانتماء الإنساني في مواجهة جنس انتماءٍ أو نوع انتماءٍ آخر.
والأنواع الستة الأُوَلُ هي الولاءات الطبيعية؛ التي لا تحتاج إلى تكلف في انتهاجها، أو اعتقادها، أو الميل إليها، أما الانتماءات المبنية على المصلحة فهي نوعان:
أولاً/ الانتماء الطائفي: واعتباره مصلحياً؛ لأنه يختزل الانتماء الديني، ويحصره في طائفةٍ من طوائف الملة الواحدة، ولو على حساب العقيدة المشترك، ومنه: الولاء لفرقة صوفية ؛ كالولاء للطريقة القادرية، أو الشاذلية، أو التيجانية؛ ولو على حساب الفرق الأخرى، والفرق يتجلى عندما تعلم: أن أتباع الطائفة يصل بهم التعصب المقيت ضد بعض طوائف ملتهم إلى موالاة أيِّ دينٍ آخر، أو أيِّ قوة استعمارية في سبيل القضاء على الطائفة المنافسة لها من نفس ملتها؛ كما حصل من الصفوية الباطنية ضد الخلافة العباسية مع أنهم يشتركون معهم في الولاء لدين الإسلام.
ثانياً/ الانتماء الحزبي: واعتباره مصلحياً؛ لأنه انتقائي يفتقد الشمولية المبررة، من شأنه أن يفرق بين المتماثلات ويوحد بين المختلفات، فترى في الأسرة الواحدة من ينتمي لأكثر من حزبٍ فكريٍ، أو سياسيٍ، وبين بعضهم وبعض ما بين المطرقة والسندان، فلا يقيم بعضهم لبعض ولاءً عاطفياً ولا معنوياً متى اختلفت أحزابهم، ويظهر ذلك جلياً في الصراع بين الفصائل الفلسطينية، وبين الأحزاب السياسية الجزائرية والسودانية؛ مع اتحاد بعض هذه الفصائل مع بعض في الأصول الخمسة( الأسرة، العائلة، القبيلة، العروبة، الدين)، لكن غلبة اجتلاب المصالح أنتجت هذا الانتماء الحزبي.
ولكن أي هذه الانتماءات أولى من الأخرى؟.
لاشك أن كل منتمٍ إلى مذهبٍ من المذاهب التسعة السالفة سينتصر لانتمائه؛ بحكم اختياره إياه بمحض أرادته، أو لأنه تقرر لديه أنه هو الأقرب للصواب، غير أننا بعد أن جمعنا خيوط المسألة لتحديد نقطة الخلاف، ظهر لنا أنَّ الولاء للحزب والطائفة ولاءٌ معيبٌ؛ لأمرين:
الأول/ أنَّ المستفيد - من الولاء الحزبي والطائفي - هم سادات الحزب والطائفة وكبراؤهما؛ فالدعم المادي والمعنوي يصب في مصلحة ذوات الأسياد وأشخاص الزعماء، وليس للغوغاء منهم إلا إطرابهم بأنغام الوعود وتعطيرهم بروائح الأماني؛ وكم من وعودٍ ذهبت أدراج الرياح بعد امتطاء صهوات المناصب، وكم من تجاوزات على ثوابت الطائفة تسابق عليها الرموز لتحقيق المآرب.
الثاني/ أنَّ الولاء للحزب والطائفة معرض للزوال بانحلال الحزب، أو للانقطاع بانقسام الطائفة، أو بتغير مبادئها وتبدل أصولها، وأيُّ ولاءٍ لمنقطعٍ أو لمتشرذم.
فنجتمع على أنَّ الولاء الحسي يكون للأسرة أولاً، ثم للعائلة، وبعدهما القبيلة.
= فلن يلام المرء لو جعل ولاءه لعائلته على حساب أسرته أو سائر قبيلته.
= ولن يلام المرء لو جعل ولاءه لأسرته على حساب سائر القبيلة؛ لكن ليس على حساب وطنه ودينه في الحالين؛ لقوله جل ثناؤه { لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ }، ولأنَّ الناس تبذل أنفسها وأموالها للدفاع عن أوطانها، ولذلك قرن الرب جل وعلا بين القتل والإخراج من الديار في أكثر من موضع؛ منها: قوله سبحانه { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ }.
ومن ذلك: أن رسول الله والخلفاء من بعده - حتى عصر تأسيس المملكة العربية السعودية - كانوا يعقدون لكل قبيلةٍ لواءً؛ ينضوي تحته أفراد القبيلة، ويقودها شيخ القبيلة أو أحد فرسانها المقاديم.
ومنه: ما رواه الْمُخَارِقُ قَالَ: لَقِيتُ عَمَّارًا يَوْمَ الْجَمَلِ؛ وَهُوَ يَبُولُ فِي قَرْنٍ، فَقُلْتُ: أُقَاتِلُ مَعَكَ، فَأَكُونُ مَعَكَ. قَالَ: قَاتِلْ تَحْتَ رَايَةِ قَوْمِكَ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (( كَانَ يَسْتَحِبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُقَاتِلَ تَحْتَ رَايَةِ قَوْمِهِ )).
فإن كان الجيش من أقطارٍ عدة، وبها من أخلاط الناس عقد الإمام لكل إقليمٍ لواءً، فيقال: لواء أهل الشام، ولواء أهل العراق، ولواء أهل مصر ونحوه.
ومنه: قصة وفود ابن تيمية على الملك الناصر محمد بن قلاوون - ملك مصر والشام - يستعجل الجيش المصري لقتال جيش التتار - وكانوا مسلمين - فعندما طلب الملك من الشيخ أن يكون معهم في الجيش المصري أبى؛ لأنه يريد أن يقاتل تحت راية قومه أهل الشام؛ التي يستوطنها؛ إعمالاً للحديث السابق.
فخرج معنا: أن الولاء يكون للقبيلة متجه متى كان في مصلحة الدين أو الوطن، وكذلك الولاء للوطن متى كان في مصلحة الدين، أي أن مصلحة الوطن وحق الدين مقدم على جميع الولاءات والانتماءات الواردة سابقاً، ويبقى أمر واحد هو: ما الحكم إذا ظهر تعارضٌ بين مصلحة الوطن مع الولاء الديني؟.
والجواب: أننا قد علمنا أن الله سبحانه وتعالى أنزل في كتابه العزيز قواعد يمكن بها تقرير الحكم النهائي في المسألة:
القاعدة الأولى/ تحريم ولاية الكافر الذي يقاتل المسلمين، ويطمع في ديارهم، أو يعين على إجلائهم منها؛ { إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ }.
القاعدة الثانية/ جواز البر والإقساط إلى الكفار؛ الذين لم يتعرضوا للمسلمين في ديارهم؛ لقوله تبارك وتعالى { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }.
القاعدة الثالثة/ وجوب احترام العهود والمواثيق مع الكفار؛ ولو استنصر عليهم أحدٌ من المسلمين؛ لقوله سبحانه { إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ }، وقوله جل جلاله { إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ }، وقوله عز سلطانه { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ }.
القاعدة الرابعة/ لا ولاية لمسلمٍ في ديار الكفار؛ لقوله جلت عظمته { وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا }، وقوله عز وجل { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا }.
القاعدة الخامسة/ أنَّ استنصار المسلمين بإخوانهم يوجب نصرتهم على كل قادر؛ لقوله تعالى { وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ }.
القاعدة السادسة/ فَرَّقَ الإسلام بين من يقتله المسلمون خطأً وهو مسلم وأولياؤه كفار مظهرين للعداوة، مع من يقتل خطأً من الكفار ممن له عهد وميثاق، فجعل فيهما الكفارة، وزاد للمعاهد حق الدية دون القتيل المسلم؛ في قوله تقدست أسماؤه { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ }، وفي ذلك تعظيمٌ لِحَقِّ اَلْمُعَاْهَدِ اَلْمُسَاْلِمِ على حَقِّ اَلْمُسْلِمِ اَلْمُعَاْدِيْ.
القاعدة السابعة/ أنَّ طاعة ولاة الأمر فرعٌ عن الولاء للوطن؛ فهو الذي أنيطت به مصلحة البلاد وحراسة الدين وسياسة الرعية به، ومعرفة فضل الأئمة وحقوقهم وقَدْرهم، ونصيحتهم، والدعاء لهم من تمام الدين.
القاعدة الثامنة/ أنَّ طاعة ولي الأمر واجبة في غير معصية الله؛ لقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: دَعَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ (( بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا، وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا، وَأَنْ لا نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ؛ إِلاَّ أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ ))، ولا ولاية لمن لا طاعة له.
القاعدة التاسعة/ أنَّ ما يكون مرجعه إلى عامة المسلمين في النفع والضرر فالإمام هو المنصوب للنظر فيهن واستنباط حكمه بالتشاور مع أهل العلم، وإلا فأيُّ فائدة لنصبه إذا كانت الأمور تُقْضَىْ بغير إذنه؟.
ومنه: ما إذا ظهر أنَّ هناك تعارضاً بين مصلحة الوطن مع حق الدين، فلا يكون النظر في أمر تقديم أيٍ منهما على الآخر لأفراد المسلمين، بل ذلك لولي الأمر ومن هم من أهل الحل والعقد من أمناء عقلاء المسلمين؛ لقول الله تعالى { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ }.
القاعدة العاشرة/ أنَّ تغيير المنكر - بالقدر الذي لا يليق ألا بالسلطان - من أعظم الافتيات فساداً، وكذا الالتفاف على أوامره ونواهيه بالقدر الذي يُعَرِّضُ لانتقاض مواثيقه مع القوى الأخرى؛ مما تكون نتائجه أَعَمَّ وَأَطَمَّ.
القاعدة الحادية عشرة/ ذكر أهل العلم: أنَّ الملك الظالم لابد أن يدفع الله به من الشر أكثر من ظلمه؛ وذلك واقعٌ محسوسٌ عبر التاريخ حتى زماننا هذا؛ فما إن تستعجل أمةٌ زوال إمامها إلا وَتُبْتَلَىْ بالفتن التي تأتي بأضعاف أضعاف ما كانت تعانيه من قبل، وقد قيل: سِتُّوْنَ سَنَةً بِإِمَاْمٍ ظَاْلِمٍ خَيْرٌ مِنْ لَيْلَةٍ وَاْحِدَةٍ بِلاَ إِمَاْمٍ.
القاعدة الثانية عشرة/ أنَّ في السُّنَّةِ ما فيه تقديمٌ لأمور السياسة على أمور الدين الظاهرة؛ كما في صلح الحديبية، حيث رَدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جندل وأبا بصير رضي الله عنهما إلى كفار مكة وقد هاجرا مسلمين؛ تطبيقاً لبنود الصلح، حتى إنَّ الفاروق عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رضي الله عنه قَالَ ( وَاَللّهِ مَا شَكَكْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ إلاَّ يَوْمَئِذٍ ). إذ كيف يعطى مسلم لقوم كفار قد يفتنونه، فيرتد عن دينه، وقد يزهقون نفسه، لكنه احترام العهود والمواثيق في سبيل مصلحة العامة التي هي من الدين أعظم مما يظهر للناظر بضد ذلك.
من كل ما تقدم: يظهر لنا أنَّ مصلحة الوطن - من منظور ولاة الأمر - مقدمةٌ على ما يُظنُّ أنها من مصلحة الدين، ويبقى للعامة فيما يرونه خلاف ذلك بابان مفتوحان؛ الأول: النصيحة لتنبيه الإمام وتذكيره؛ وهي من الدين، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، والثاني: الدعاء للإمام بالتوفيق لما فيه عِزُّ الدين وأهله، وذلك من الدين أيضاً، فنتج عن ذلك أنَّ تقديم مصلحة الوطن على الدين هو من الدين وإلى الدين.
= أما الانتماء العروبي فهو امتداد للانتماء الوطني؛ لكون بلاد العرب هي الوطن الأكبر لجميع الناطقين بالعربية، وهو الحل للتأليف بين جميع العرب من جميع الديانات، ولذلك نشأت جامعة الدول العربية، وبدونه يصير غير المسلمين من العرب في بلادهم منبوذون، فيؤدي ذلك إلى استعدائهم على المسلمين، وتعاطفهم مع الطامعين.
= ولولا ارتباط الانتماء العروبي المعاصر بطموحاتٍ مغرورة مُوْرِسَتْ قبل بضعة عقود وفشلت، ولولا أنَّ العروبة اِتُخِذَتْ مطيةً لطلب العلو في الأرض والمنافسة على الزعامة آنذاك، ولتعلق أولئك الداعين إليها بالفكر الإلحادي الاشتراكي البائد، الأمر الذي دعى إلى نبذها والتشنيع عليها ومحاربتها: لولا ذلك كله لكان الانتماء العروبي انتماءً وطنياً كبيراً، ولا يعرف قدر هذا الانتماء إلا من يكابده ويعاني من الفراغ منه من أهل كثيرٍ من الدول العربية من غير بلاد الحرمين الشريفين؛ ممن يكون من بين سكانها نسبةٌ كبيرة من أهل الكتاب.
= والتاريخ لا ينسى وقوف نصارى العرب مع جيوش المسلمين ضد الروم والفرس في فتوحات العراق والشام في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بعد أن كانوا في صفوف الروم ضد المسلمين؛ لولا القومية العربية التي دفعتهم أولاً لمناصرة جيوش المسلمين، ثم دفعت بأكثرهم للدخول في الإسلام بعدما ذاقوا حلاوة حكم العرب وعدل المسلمين، وهو الأمر الذي لو صدق فيه دعاة العروبة المعاصرون لاستكملنا أسلمة البقية الباقية من أهل الكتاب العرب. والله الموفق
-
-
-
-
-
-
الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود
ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 4520 | تأريخ النشر : الأحد 1 شعبان 1429هـ الموافق 3 أغسطس 2008مإرسال المقالة
|
|||
|
|
|||
|