فقهيات الحمد لله وحده وبعد :-
يقول تبارك وتعالى (( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً )) .
فأصل التكريم حاصل لجميع بني آدم ، متمثل في تسخير الله لهم جميع ما خلقه الله جل جلاله في هذه الأرض .
قال عز من قائل (( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً )) .
وقال جلت عظمته (( وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ )) .
وقال جل ثناؤه (( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )) .

وما دام الله قد خلقهم ، وجعل لهم في مهبطهم ما تقوم به حاجاتهم ، فلابد من أن يقوموا على عمارة أرضهم وقرارهم .
قال عز وجل (( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا )) .
والاستعمار : طلب العمارة الحسية في الأرض بما تصلح لَه ؛ مما يعود نفعه عليهم ، الذي هو من لوازم بقاء جنسهم على هذه الأرض ؛ حتى تقوم الساعة بإذنه تعالى .

كل ذلك ـ الإكرام والتفضيل لبني آدم عليه السلام والاستعمار في الأرض ـ لتحقيق مراد الله من الخلق في قوله سبحانه (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )) .

والاستخلاف في الأرض : غير الاستعمار الحسي ، فهو تحقيق مراد الله من الخلق بعبادته ، وتحكيم شرعه ، وتكريم الطائعين ، ومعاقبة العاصين ، والعفو عن التائبين ، وإرشاد الضالين .
قال جل من قائل (( ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ )) .

وقد أبان سبحانه أن تحقيق لوازم خلافته في الأرض لن يكون متساوياً من جميع الخلق ، بل سيتحقق متفاوتاً من فرد إلى آخر .
وسبب ذلك ما جعله الله في نفوس المستخلفين من نزعات وغرائز وطبائع يرتفع بعضهم في بعضها على بعض ؛ قال تقدست أسماؤه (( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ )) .

من ذلك كله : يتضح الفرق بين الأفراد في تحقيق واجب العبادة والاستعمار والاستخلاف ، والعبرة في ذلك كله بالطاقة والاستطاعة ، فما خرج عن حدودهما فليس بمطلوب شرعاً .
قال تعالى (( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا )) .
وقال سبحانه (( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ )) .

غير أن من العباد من سيطيع ، ومنهم من سيعصي ، والطاعة والعصيان درجات متفاوتة ؛ سواء : بالنظر إلى ذات ( الفعل ) ؛ الطاعة والمعصية ، أو : بالنظر إلى ذات ( الفاعل ) ؛ المطيع والعاصي .
ولذلك شرعت الخلافة العظمى ( الملك ، أو : الإمارة ، أو : الرئاسة ، أو : السلطنة ) لقيادة الجماعة الكبرى .
كما شرعت لقيادة الجماعة الصغرى مسميات عديدة في نشاطات متعددة :
منها : إمامة الصلاة ؛ خمس مرات في اليوم والليلة .
ومنها : أمير السفر من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ * إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ * .
ومنها : قيادة فريق العمل ، في أي نشاط نظري أو عملي .

وللقائد صفات فطرية وأخرى مكتسبة ، يجمعها طابع واحد هو : التميز عن الغير في الكل أو الغالب من الصفات القيادية .
ولأفراد الجماعة صفات فطرية وأخرى مكتسبة ، يجمعها طابع واحد هو : التسليم والانقياد للبارز في صفاته ، أو المتغلب على الآخرين بقوته وقدراته .

والجماعة التي تختار قائداً لها بإرادتها واختيارها ، تختاره ثقة بما يتميز به عند جميع الأفراد ، أو ثقة منها بِتميُّزه عند الجماعات المناوئة ؛ على وجهٍ لا يُحقِّق غيرُه ذلك الغرض المقصود من جماعته وإن كان القائد ــ المختار ــ غير متميز في سائر صفات القيادة .

وحال الجماعة مع القائد أو الرمز ؛ إما أن يكون كحال القطيع مع قائده ، يتبعه إن أشأم ، أو : أيمن ، أينما اتَّجه ، وحيثما توجَّه ؛ لا يلوون على أحد ؛ حتى يسقط قائدهم من إعياء ، أو : بسهم صياد ، أو : يرى نفسه وقد أغلق عليه ، فينثني راجعاً وخلفه القطيع ؛ لا يسأله عما يفعل .

وإما أن يكون كحال كوكبة الفرسان الشجعان ، الطاعة مطلوبة ، والشورى متحقِّقة ، والإباء موجود ، والرأي من الجميع مقدَّر .
لا يمكن للقائد أن ينفرد برأي يتبعه فيه الجماعة ، وهم لا يرونه ، أو : يرون خلافه ، أو : لم يُستاشر كبارهم بشأنه .
وهذا ما قاله الصديق الخليفة الراشد أبو بكر رضي الله عنه ( أما بعد : أيها الناس فإني وليت عليكم ؛ ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني .. .. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم .. .. ) .

وهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لَه حذيفة : ما الذي أهمَّك ؟ ، يا أمير المؤمنين ! . فقال : هكذا بيده ، وأشار بها ، قال قلت : الذي يُهمك ، والله ! ، لو رأينا منك أمراً ننكره لقوَّمناك . قال : آلله ! ، الذي لا إله إلا هو لو رأيتم مني أمراً تنكرونه مني لقومتموني ؟ . فقلت : الله الذي لا إله إلا هو ! ، لو رأينا منك أمراً ننكره لقوَّمناك .
قال : ففرح بذلك فرحاً شديداً ، وقال : الحمد لله ! ، الذي جعل من أصحاب محمد من إذا رأى مني أمرا ينكره قوَّمني ) .

والسؤال : أيُّ سلوك ـ من هذين السلوكين ـ تتخذه الجماعة المسلمة ( الصغرى قبل الكبرى ) في تعاملها مع الرمز ، أو : القائد ، أو : الأمير ، أو : المرجع ، أو : القدوة ، أو : الإمام ، أو : العلامة ، أو : المصلح ، أو : الحبر الفهامة ، أو : الحجة ، أو : المرشد ، أو : الشيخ .. .. .. .. .. الخ .

وفق الله الجميع لما يحبه الله ويرضاه ،،، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود

ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 3474 | تأريخ النشر : الخميس 7 ذو القعدة 1421هـ الموافق 1 فبراير 2001م

طباعة المقال

إرسال المقالة
القطيع والكوكبة الحمد لله وحده وبعد :- يقول تبارك وتعالى (( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا )) . فأصل التكريم حاصل لجميع بني آدم ، متمثل في تسخير الله لهم جميع ما خلقه الله جل جلاله في هذه الأرض . قال عز من قائل (( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا )) . وقال جلت عظمته (( وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار )) . وقال جل ثناؤه (( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون )) . وما دام الله قد خلقهم ، وجعل لهم في مهبطهم ما تقوم به حاجاتهم ، فلابد من أن يقوموا على عمارة أرضهم وقرارهم . قال عز وجل (( هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها )) . والاستعمار : طلب العمارة الحسية في الأرض بما تصلح له ؛ مما يعود نفعه عليهم ، الذي هو من لوازم بقاء جنسهم على هذه الأرض ؛ حتى تقوم الساعة بإذنه تعالى . كل ذلك ـ الإكرام والتفضيل لبني آدم عليه السلام والاستعمار في الأرض ـ لتحقيق مراد الله من الخلق في قوله سبحانه (( وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون )) . والاستخلاف في الأرض : غير الاستعمار الحسي ، فهو تحقيق مراد الله من الخلق بعبادته ، وتحكيم شرعه ، وتكريم الطائعين ، ومعاقبة العاصين ، والعفو عن التائبين ، وإرشاد الضالين . قال جل من قائل (( ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون )) . وقد أبان سبحانه أن تحقيق لوازم خلافته في الأرض لن يكون متساويا من جميع الخلق ، بل سيتحقق متفاوتا من فرد إلى آخر . وسبب ذلك ما جعله الله في نفوس المستخلفين من نزعات وغرائز وطبائع يرتفع بعضهم في بعضها على بعض ؛ قال تقدست أسماؤه (( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم )) . من ذلك كله : يتضح الفرق بين الأفراد في تحقيق واجب العبادة والاستعمار والاستخلاف ، والعبرة في ذلك كله بالطاقة والاستطاعة ، فما خرج عن حدودهما فليس بمطلوب شرعا . قال تعالى (( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها )) . وقال سبحانه (( والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون )) . غير أن من العباد من سيطيع ، ومنهم من سيعصي ، والطاعة والعصيان درجات متفاوتة ؛ سواء : بالنظر إلى ذات ( الفعل ) ؛ الطاعة والمعصية ، أو : بالنظر إلى ذات ( الفاعل ) ؛ المطيع والعاصي . ولذلك شرعت الخلافة العظمى ( الملك ، أو : الإمارة ، أو : الرئاسة ، أو : السلطنة ) لقيادة الجماعة الكبرى . كما شرعت لقيادة الجماعة الصغرى مسميات عديدة في نشاطات متعددة : منها : إمامة الصلاة ؛ خمس مرات في اليوم والليلة . ومنها : أمير السفر من قوله صلى الله عليه وسلم * إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم * . ومنها : قيادة فريق العمل ، في أي نشاط نظري أو عملي . وللقائد صفات فطرية وأخرى مكتسبة ، يجمعها طابع واحد هو : التميز عن الغير في الكل أو الغالب من الصفات القيادية . ولأفراد الجماعة صفات فطرية وأخرى مكتسبة ، يجمعها طابع واحد هو : التسليم والانقياد للبارز في صفاته ، أو المتغلب على الآخرين بقوته وقدراته . والجماعة التي تختار قائدا لها بإرادتها واختيارها ، تختاره ثقة بما يتميز به عند جميع الأفراد ، أو ثقة منها بتميزه عند الجماعات المناوئة ؛ على وجه لا يحقق غيره ذلك الغرض المقصود من جماعته وإن كان القائد ــ المختار ــ غير متميز في سائر صفات القيادة . وحال الجماعة مع القائد أو الرمز ؛ إما أن يكون كحال القطيع مع قائده ، يتبعه إن أشأم ، أو : أيمن ، أينما اتجه ، وحيثما توجه ؛ لا يلوون على أحد ؛ حتى يسقط قائدهم من إعياء ، أو : بسهم صياد ، أو : يرى نفسه وقد أغلق عليه ، فينثني راجعا وخلفه القطيع ؛ لا يسأله عما يفعل . وإما أن يكون كحال كوكبة الفرسان الشجعان ، الطاعة مطلوبة ، والشورى متحققة ، والإباء موجود ، والرأي من الجميع مقدر . لا يمكن للقائد أن ينفرد برأي يتبعه فيه الجماعة ، وهم لا يرونه ، أو : يرون خلافه ، أو : لم يستاشر كبارهم بشأنه . وهذا ما قاله الصديق الخليفة الراشد أبو بكر رضي الله عنه ( أما بعد : أيها الناس فإني وليت عليكم ؛ ولست بخيركم ، فإن أحسنت فأعينوني .. .. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله ، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم .. .. ) . وهذا الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول له حذيفة : ما الذي أهمك ؟ ، يا أمير المؤمنين ! . فقال : هكذا بيده ، وأشار بها ، قال قلت : الذي يهمك ، والله ! ، لو رأينا منك أمرا ننكره لقومناك . قال : آلله ! ، الذي لا إله إلا هو لو رأيتم مني أمرا تنكرونه مني لقومتموني ؟ . فقلت : الله الذي لا إله إلا هو ! ، لو رأينا منك أمرا ننكره لقومناك . قال : ففرح بذلك فرحا شديدا ، وقال : الحمد لله ! ، الذي جعل من أصحاب محمد من إذا رأى مني أمرا ينكره قومني ) . والسؤال : أي سلوك ـ من هذين السلوكين ـ تتخذه الجماعة المسلمة ( الصغرى قبل الكبرى ) في تعاملها مع الرمز ، أو : القائد ، أو : الأمير ، أو : المرجع ، أو : القدوة ، أو : الإمام ، أو : العلامة ، أو : المصلح ، أو : الحبر الفهامة ، أو : الحجة ، أو : المرشد ، أو : الشيخ .. .. .. .. .. الخ . وفق الله الجميع لما يحبه الله ويرضاه ،،، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
التعليقات متاحة للزوار التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع