نظاميات كثيراً ما نسمع بالتعديلات الوزارية ، وَحَلِّ الحكومات والبرلمانات في البلدان العربية ، وسبب ذلك يظهر على لسان الرؤساء والأمراء والملوك : أنه السعي نحو الأفضل باختيار القادة وتغييرهم كلما استدعى الأمر ذلك . وما يلبث التشكيل الجديد حتى يعرض له تعديل أو تغيير أو حَلٍّ كامل ، وهكذا .

قد يكون ذلك من باب : إدارة الأزمات ؛ باختيار الشخص المناسب في وقت الأزمة ، وإن كان لا يصلح لغير ذلك الوقت .

وقد يكون ذلك من باب : الإدارة بالأزمات ؛ بامتصاص احتقانٍ جماهيريٍ أو شعبيٍ أو إقليميٍ أو دوليٍ طرأ على الساحة المحلية أو الدولية ، ومتى عادت الأمور إلى مجاريها كان للرئيس ونحوه إحداث تغيير آخر .

وهناك من التعديلات ما له أسباب غير التعلق بالأزمات الطارئة داخلياً وخارجياً ، وللناس منها مواقف متغايرة ؛ لما يظنونه في أشخاص البدلاء من قصور ، ولما يعتقدونه في آخرين من كفاية .

ونسي هؤلاء أن للساسة في التغييرات فلسفات كثيرة ، لا يعرفها الكثير ، ولا يحيط بها ولا بتنوعها غيرهم ، وعلى سبيل المثال :

1/ عند إحداث دائرةٍ حكوميةٍ جديدة ، أو عند دمج دائرةٍ في أخرى ، أو عند قسمة اختصاصات دائرةٍ ما - يمكن أن يثير ذلك جدلاً ما - يختار الساسة لها رجلاً مقبولاً من العامة ؛ ولو كان ضعيفاً ، ومتى استقرت الأمور الجديدة وأصبحت واقعاً أمكن التغيير إلى وضعٍ لم يكن ليحظى بالقبول من الناس ، أو لم يكن ليسلم من الاعتراض والمناكفة لو حصل ابتداءً .

2/ عندما تخور قوى إحدى الدوائر ، وينتشر الفساد بين منسوبيها - بسبب ضعفِ المسؤول عنها - يختار الساسة رجلاً صارماً عنيفاً ؛ ليقتلع الفساد من جذوره ، وَيُطَهِّرَ أروقة الدائرة من رُعاة الفساد من منسوبيها ، ومتى صفت أجواء الدائرة لزم إبعاد الرجل من مكانه ؛ لأنَّ صفاته لا تليق بغير تلك المرحلة .

3/ عندما يتعاظم سلطان إحدى الدوائر على حساب أخرى - بسبب مكانة مسؤوليها المعنوية ، أو بسبب استغلال أوضاعٍ سياسيةٍ طارئة - لا يجد الساسة سبيلاً لتنفيس ذلك التعاظم ؛ إلا باستبدال المسؤول الأول فيها بآخر على النقيض منه ، حتى إذا خبا ذلك التعاظم ، وانسحبت تلك الهيبة المتزايدة ، ووصلت إلى حدٍ مقبول : أمكن التغيير مرة أخرى إلى نحوٍ أفضل .

4/ عندما يراد إقرار مشروعٍ أو نظام مما يهم العامة ، ويكون لأحد المسؤولين رأيٌ مخالفٌ يستند فيه إلى قوة مركزه الوظيفي ، فالحل : أن يُبعد عن مركزه ، ويُستبدل بآخر موافقٍ سلفاً للمطلوب ، أو داعمٍ له ، مع الانتظار مدةً مناسبة قبل اتخاذ القرار ؛ لئلا يُربط بين الإعفاء وصدور القرار .

5/ عندما يفقد أحد المسؤولين الحد الأدنى لبريقه الشعبي ، ويصبح مصدر قلقٍ لأجهزة الدولة الأمنية - بسبب تصرفاتٍ غير موفقة - فالحل في تنحيته ؛ ولو مؤقتاً .

6/ عندما يراد تطوير جهازٍ حكوميٍ باستبدال مسؤوله الرمز بآخر أكفأ منه - مغايرٍ له في الأهداف والتطلعات - فالحل : أن يُجعل بين الاثنين شخصٌ مؤقتٌ من أتباع الأول ، حتى لا يَهيج مناصرو الأول ومؤيدوه ، وإذا ظهر عجزه وضعفه ورغب الناس تنحيته جيء بالمُعَدِّ سلفاً في أجواء أكثر مناسبة .

7/ عندما تظهر شعبية شخصٍ ما ، ويرى العامة مناسبة تولِّيه جهازاً من أجهزة الدولة - ويكون للساسة رأيٌ مخالف - فقد يكون الحل : في توليته قطاعاً لا يُمكنه قيادته ؛ حتى إذا ثبت فشله وانصرف الناس عنه استبدل بغيره ، وكفيت الدولة شره .

8/ عندما يتمرَّد العامة على مسؤولٍ مخلص ؛ دون سببٍ مقبول ، ويُعرف عنهم ذلك في من لا يوافقهم - وحتى لا يستمرئوا تلك الممارسات الشاذة - فالحل : في تغيير هذا المسؤول بمن يتمنون معه عودة صاحبهم إليهم ، ومتى ارتدعوا عن استهداف مسؤوليهم جاز لهم ما يجوز لغيرهم .

9/ عندما يخشى الساسة افتتانَ العامة بمسؤولٍ ما - على حساب المصلحة العامة - فالحل : في تغييره على الفور ، وفي الناس أبدالٌ .

10/ عندما يتسرب الملل والسأم إلى نفس مسؤولٍ - ويظهر عليه ذلك - فالحل : في تغيير مركزه لتجديد حيويته ، وتمرير نفعه إلى آخرين .

11/ عندما تقع مصيبةٌ ما ، وتزداد ردَّات فعل العامة - تجاه هذه المصيبة - فالحل : في تغيير أقرب مسؤول عنها ؛ ولو لم يكن له يدٌ في وقوعها ، فتأطير الهيجان وتنفيس الاحتقان يستلزم مثل ذلك في العادة .

12/ عندما يلتزم مسؤولٌ بتحقيق أمرٍ ما ، ويتعلق به العامة ، ويُضيقون عليه في إنفاذ وعده - والساسة يرون تأخيره - فالحل : في تغيير المسؤول بآخر لم يلتزم بشيء ؛ حتى تهدأ العاصفة .

هذه بعض فلسفات الساسة حيال التغيير في القيادات ، ولست أرمي من ذلك تبرير تصرفات الساسة ، بل المقصود هو تقريب فكر التغيير لدى الساسة إلى المهتمين والمتابعين من غيرهم .

وأما لسان حال الساسة فيقول لمن يعيب عليهم تغييراتهم :
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً = وآفته من الفهم السقيم


غير أن المشاهد من بعض التعديلات والتغييرات في القيادات - في بلادنا وفي غيرها من البلدان المجاورة - افتقار القيادات الطارئة لبعض مبادئ اللياقة الرسمية ، أو : آداب المراسم ، أو : تراتيب البروتوكول ، أو : قواعد الإتيكيت المناسبة لمثل مناصبهم ؛ في لباسهم ، وهيآتهم ، وكلامهم ، وتعاملهم مع مراجعيهم ومنسوبيهم .

ولو أن القيادة العامة أقامت لمثل هؤلاء - خصوصاً : الجُدد منهم - دورات في هذا الفن الإداري المكمل لشخصية المسؤول : لكان خيراً من ترك المسؤول فريسةً لأعين النقاد ، وكاميرات الصحفيين ، وتندر الغوغاء . والله أعلم وأحكم

-

الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود

ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 5022 | تأريخ النشر : الجمعة 19 جمادى الآخرة 1430هـ الموافق 12 يونيو 2009م

طباعة المقال

إرسال المقالة
(( فلسفة التغيير في القيادات )) كثيرا ما نسمع بالتعديلات الوزارية ، وحل الحكومات والبرلمانات في البلدان العربية ، وسبب ذلك يظهر على لسان الرؤساء والأمراء والملوك : أنه السعي نحو الأفضل باختيار القادة وتغييرهم كلما استدعى الأمر ذلك . وما يلبث التشكيل الجديد حتى يعرض له تعديل أو تغيير أو حل كامل ، وهكذا . قد يكون ذلك من باب : إدارة الأزمات ؛ باختيار الشخص المناسب في وقت الأزمة ، وإن كان لا يصلح لغير ذلك الوقت . وقد يكون ذلك من باب : الإدارة بالأزمات ؛ بامتصاص احتقان جماهيري أو شعبي أو إقليمي أو دولي طرأ على الساحة المحلية أو الدولية ، ومتى عادت الأمور إلى مجاريها كان للرئيس ونحوه إحداث تغيير آخر . وهناك من التعديلات ما له أسباب غير التعلق بالأزمات الطارئة داخليا وخارجيا ، وللناس منها مواقف متغايرة ؛ لما يظنونه في أشخاص البدلاء من قصور ، ولما يعتقدونه في آخرين من كفاية . ونسي هؤلاء أن للساسة في التغييرات فلسفات كثيرة ، لا يعرفها الكثير ، ولا يحيط بها ولا بتنوعها غيرهم ، وعلى سبيل المثال : 1/ عند إحداث دائرة حكومية جديدة ، أو عند دمج دائرة في أخرى ، أو عند قسمة اختصاصات دائرة ما - يمكن أن يثير ذلك جدلا ما - يختار الساسة لها رجلا مقبولا من العامة ؛ ولو كان ضعيفا ، ومتى استقرت الأمور الجديدة وأصبحت واقعا أمكن التغيير إلى وضع لم يكن ليحظى بالقبول من الناس ، أو لم يكن ليسلم من الاعتراض والمناكفة لو حصل ابتداء . 2/ عندما تخور قوى إحدى الدوائر ، وينتشر الفساد بين منسوبيها - بسبب ضعف المسؤول عنها - يختار الساسة رجلا صارما عنيفا ؛ ليقتلع الفساد من جذوره ، ويطهر أروقة الدائرة من رعاة الفساد من منسوبيها ، ومتى صفت أجواء الدائرة لزم إبعاد الرجل من مكانه ؛ لأن صفاته لا تليق بغير تلك المرحلة . 3/ عندما يتعاظم سلطان إحدى الدوائر على حساب أخرى - بسبب مكانة مسؤوليها المعنوية ، أو بسبب استغلال أوضاع سياسية طارئة - لا يجد الساسة سبيلا لتنفيس ذلك التعاظم ؛ إلا باستبدال المسؤول الأول فيها بآخر على النقيض منه ، حتى إذا خبا ذلك التعاظم ، وانسحبت تلك الهيبة المتزايدة ، ووصلت إلى حد مقبول : أمكن التغيير مرة أخرى إلى نحو أفضل . 4/ عندما يراد إقرار مشروع أو نظام مما يهم العامة ، ويكون لأحد المسؤولين رأي مخالف يستند فيه إلى قوة مركزه الوظيفي ، فالحل : أن يبعد عن مركزه ، ويستبدل بآخر موافق سلفا للمطلوب ، أو داعم له ، مع الانتظار مدة مناسبة قبل اتخاذ القرار ؛ لئلا يربط بين الإعفاء وصدور القرار . 5/ عندما يفقد أحد المسؤولين الحد الأدنى لبريقه الشعبي ، ويصبح مصدر قلق لأجهزة الدولة الأمنية - بسبب تصرفات غير موفقة - فالحل في تنحيته ؛ ولو مؤقتا . 6/ عندما يراد تطوير جهاز حكومي باستبدال مسؤوله الرمز بآخر أكفأ منه - مغاير له في الأهداف والتطلعات - فالحل : أن يجعل بين الاثنين شخص مؤقت من أتباع الأول ، حتى لا يهيج مناصرو الأول ومؤيدوه ، وإذا ظهر عجزه وضعفه ورغب الناس تنحيته جيء بالمعد سلفا في أجواء أكثر مناسبة . 7/ عندما تظهر شعبية شخص ما ، ويرى العامة مناسبة توليه جهازا من أجهزة الدولة - ويكون للساسة رأي مخالف - فقد يكون الحل : في توليته قطاعا لا يمكنه قيادته ؛ حتى إذا ثبت فشله وانصرف الناس عنه استبدل بغيره ، وكفيت الدولة شره . 8/ عندما يتمرد العامة على مسؤول مخلص ؛ دون سبب مقبول ، ويعرف عنهم ذلك في من لا يوافقهم - وحتى لا يستمرئوا تلك الممارسات الشاذة - فالحل : في تغيير هذا المسؤول بمن يتمنون معه عودة صاحبهم إليهم ، ومتى ارتدعوا عن استهداف مسؤوليهم جاز لهم ما يجوز لغيرهم . 9/ عندما يخشى الساسة افتتان العامة بمسؤول ما - على حساب المصلحة العامة - فالحل : في تغييره على الفور ، وفي الناس أبدال . 10/ عندما يتسرب الملل والسأم إلى نفس مسؤول - ويظهر عليه ذلك - فالحل : في تغيير مركزه لتجديد حيويته ، وتمرير نفعه إلى آخرين . 11/ عندما تقع مصيبة ما ، وتزداد ردات فعل العامة - تجاه هذه المصيبة - فالحل : في تغيير أقرب مسؤول عنها ؛ ولو لم يكن له يد في وقوعها ، فتأطير الهيجان وتنفيس الاحتقان يستلزم مثل ذلك في العادة . 12/ عندما يلتزم مسؤول بتحقيق أمر ما ، ويتعلق به العامة ، ويضيقون عليه في إنفاذ وعده - والساسة يرون تأخيره - فالحل : في تغيير المسؤول بآخر لم يلتزم بشيء ؛ حتى تهدأ العاصفة . هذه بعض فلسفات الساسة حيال التغيير في القيادات ، ولست أرمي من ذلك تبرير تصرفات الساسة ، بل المقصود هو تقريب فكر التغيير لدى الساسة إلى المهتمين والمتابعين من غيرهم . وأما لسان حال الساسة فيقول لمن يعيب عليهم تغييراتهم : وكم من عائب قولا صحيحا = وآفته من الفهم السقيمdoPoem(0,'font="Arial,1em,black,bold,normal" bkcolor="" bkimage="" border="double,3,green" type=0 line=1 align=center use=sp num="0,red" star="***,green" style="display:none"',1) غير أن المشاهد من بعض التعديلات والتغييرات في القيادات - في بلادنا وفي غيرها من البلدان المجاورة - افتقار القيادات الطارئة لبعض مبادئ اللياقة الرسمية ، أو : آداب المراسم ، أو : تراتيب البروتوكول ، أو : قواعد الإتيكيت المناسبة لمثل مناصبهم ؛ في لباسهم ، وهيآتهم ، وكلامهم ، وتعاملهم مع مراجعيهم ومنسوبيهم . ولو أن القيادة العامة أقامت لمثل هؤلاء - خصوصا : الجدد منهم - دورات في هذا الفن الإداري المكمل لشخصية المسؤول : لكان خيرا من ترك المسؤول فريسة لأعين النقاد ، وكاميرات الصحفيين ، وتندر الغوغاء . والله أعلم وأحكم -
التعليقات متاحة للزوار التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع