تشريعات قضائية لازمة للإحصاءات والاستبانات أهمية كبرى في وضع الاستراتيجيات والخطط ؛ سواء : لاستجلاب أمرٍ ما ، أو لتلافي وضعٍ قائم .

ومن الأمور التي يجب الاهتمام بها : أوضاع السجناء في الحق العام ، خصوصاً : قضايا الجرائم الكبرى ؛ لمساسها بهيبة الدولة ، وأمن المجتمع ، وسلامة الاقتصاد .

ومن البدهي : أن نسبة كبيرة من أرباب الجرائم هم من : العاطلين عن العمل ، أو من المفصولين من الخدمة العسكرية ، أو من مدمني المخدرات .

وهذا يدعونا : للعناية بتوفير وظائف للعاطلين بعد إعدادهم وتدريبهم ، وكذا : وضع البرامج العلاجية للمدمنين ، وتشديد الخناق على أباطرة التهريب والترويج للمخدرات في الداخل والخارج .

ومن الواجب مع ذلك كله : دراسة أحوال العسكريين الذين تقضي الأنظمة بالاستغناء عن خدماتهم ؛ بترويض تلك الأنظمة ، وإخضاعها للتحليل والتدقيق في جدواها ، وسبر آثارها على المستويين البعيد والقريب ؛ لأنَّ طرق الإحكام والسيطرة معلومة لدى العسكري المفصول أكثر مما هي عند غيره من المدنيين ، ووسائل الدفاع والهجوم والضبط مسخرة له على نحوٍ مدروسٍ يصعب التعامل معه أكبر مما هي لدى غيره من العامة .

ولذلك : فينبغي تطويل إجراءات الفصل من الخدمة ، بحيث يمر العسكري العاثر عبر قنواتٍ عدة من محاولات الإصلاح قبل الاستغناء عن خدماته الأمنية . ولا مانع من تحويل تخصصه من قطاع إلى آخر ومن مكان إلى آخر ؛ حتى يقع على ما يناسبه ، دون الحاجة إلى فصله ؛ فالعسكري العاطل - متى ضِيمَ وأغلقت أبواب الكسب أمامه ، وضاقت عليه الأرض بما رحبت - فانقلابه إلى عدوٍ ساطٍ أمرٌ غالبٌ ، وشرٌ عاطب ؛ فالتدريب الذي تلقاه ، والسلاح الذي أتقن استخدامه ، والصبر الذي تعود عليه قد يسخرها في الشر ؛ متى غلبه يأسه ، وضعف إيمانه ، ونقص يقينه .

وقضيتنا من هذا الصنف ؛ الذين آل بهم الحال إلى ارتكاب أصناف الكبائر باستخدام السلاح ، وملخص القضية كما يلي :-

= التحق رجلان بالخدمة العسكرية في أحد القطاعات الأمنية الهامة ، وتدربا أحسن تدريب ، وأظهرا صبراً وجلداً وتفوقاً على أقرانهما ؛ الأمر الذي دعى إلى قبولهما ، وإعطائهما الرتبة العسكرية المناسبة لمثلهما .

= بدر من الرجلين من المخالفات ما لا ينفك عنها أمثالهما ، فعوقبا بعقوباتٍ لم يُكتب لها أن تُخفف من غُلَواء شبابهما وشدة مراسهما ، ففصلا من الخدمة العسكرية .

= شاء الله لكلٍ منهما أن يتخذ ذات الطريق المنحرف عن الجادة ؛ للتعويض بالحرام عما انقطع من كسبهما الحلال ، فسلك أحدهما طريق السرقة ، أما الثاني فسلك طريق تهريب السلاح والمخدرات .

= قُبض على الأول خمس مرات ، أربعٌ منها في قضايا سرقة ، والخامسة في قضية زنا بالإكراه ، وسجلت عليه سوابق ، والثاني قُبض عليه مرتين ؛ إحداهما في تهريب السلاح ، والأخرى في استعمال المخدرات .

= التقى المجرمان ( رجلا الأمن سابقاً ) ، فاتفقا على توحيد الجهود ، وتنسيق المواقف ؛ لتحقيق مأربهما المشترك ، وهو كسب المال الحرام ، بعد أن أغلق في وجهيهما باب المال الحلال الذي يحسنانه ولا يعرفان غيره .

= وجد الزميلان أن أطراف البلد أهيأ لهما من داخله ، وأن الليل أستر لهما من النهار ، وأن مساكن العمال الوافدين آمن من غيرها ، فاستهدفاها ولكن !!!.

= كان لابد لهما من تَذَكُّرِ أيام التدريب والمناورات بالذخيرة الحية ، فجرَّباها في سلب أولئك العُزَّل ، وهما يعلمان أنَّ راتب العامل منهم طيلة الشهر لا يوازي قيمة ما يستهلكانه هما على ملاذهما في اليوم الواحد .

= لم يأبها بأحوال أولئك البائسين ، ولا بتوسلاتهم ، ولم يكتفيا بسلبهم كل ما تقع عليه أيديهما من مال ، بل اعتادا ترويعهم بإطلاق النار من أسلحتهما الرشاشة ، وبالغا في ضرب من يسلبانه من العمال ضرباً عنيفاً ؛ ليضمنا عدم التبليغ عنهما .

= كان لدراستهما الشؤون العسكرية أثرٌ في سلوك مسالك التخفي والتمويه على أجهزة الأمن ، فكانا يتنقلان من شمال البلد إلى جنوبه في الليلة الواحدة ، ثم من شرقه إلى غربه ؛ لتشتيت جهود رجال الأمن ، وإيقاعهم في الحيرة ، وليوهما رجال الأمن أن كل ما يقومان به من حوادث لا يمكن أن تصدر من عصابة واحدة .

= اشتد بأس الرجلين الخاطئين حتى ضجت منهما أطراف البلدة ، فوضعت الجهات الأمنية الكمائن في الطرقات التي يمكن أن يسلكاها ، وبعد مطاردة استمرت سبع ساعات ونصف قُبِضَ عليهما ، وبحوزتهما الرشاش الذي استخدماه ضد دوريات الشرطة أثناء المطاردة ، كما كانا يستخدمانه في إرعاب العمال ، وعثر على عدد كبير من الطلقات في السيارة .

= اضطرب المجرمان أثناء التحقيق معهما - كما في دفاتر التحقيق - فأنكر أحدهما ملكيته السيارة ثم أقر بها ، وأنكر الآخر ملكيته الرشاش ثم اعترف به .

= كان أحد الجانيين وقت القبض عليه متعاطياً المخدرات ؛ بحسب التقرير الطبي المرفق في المعاملة ، وكان بحوزة الآخر مالاً ، قرَّر أنه لأحد العمال الذين سطا بهم .

= اعترف الخاطئان بالسوابق المسجلة عليهما ، وبحوادث سلبهما العمال ، وباستخدامهما السلاح في إخافة ضحاياهما وضد الدوريات المطاردة لهما ؛ لثنيهم عن اللحاق بهما ، وصدق اعترافهما من ثلاثة قضاة مرتين .

= قام أحد الجانيين بدلالة الشرطة على أماكن جرائمهما ، وبعرضهما على العمال المجني عليهم عرفوهما .

= أثبت التقرير الفني استخدام السلاح الرشاش المضبوط مع المجرمين في حوادث السلب والمطاردة ؛ بتحليل ظروف الطلقات المستعملة في تلك المواقع .

= كانت المرافعة والحكم في يومين اثنين فقط ؛ وملخصها كالتالي :-
أولاً : بعد عرض دعوى المدعي العام على المدعى عليهما صادقا على اعترافهما بكل ما نُسِبَ إليهما أمام القضاة الثلاثة مرتين ، وادعيا الإكراه على ذلك الإقرار ، وأنَّ ذلك صدر منهما بسبب الضرب أثناء التحقيق ، وخوفاً من إعادته عليهما ، غير أنهما قررا صحة حصول مطاردة الدوريات لهما ليلة القبض عليهما ، وكذا حيازتهما الرشاش وخمسٍ وعشرين طلقة في مخزن الذخيرة .

ثانياً : أحضر المدعي العام خمسةً من منسوبي دوريات الشرطة ، فشهدوا بمطاردتهم سيارة المدعى عليهما ، وبحصول إطلاق النار عليهم من تلك السيارة ، وبالعثور على الرشاش واثنتين وستين طلقة ومخزني ذخيرة بحوزتهما .

ثالثاً : حكمنا على المدعى عليهما بحد الحرابة ، ورأينا : أن العقوبة المناسبة في حقهما هي القتل ؛ بضرب عنق كلٍ منهما بالسيف حتى الموت ؛ من بين العقوبات الأربع المنصوص عليها في قول الله تعالى { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .

رابعاً : كان لمحكمة التمييز موقف آخر من الحكم ؛ مفاده : أنَّ رجوع المدعى عليهما عن اعترافهما شبهة تدرأ عنهما الحد ، وأنَّ الحد لا يثبت بالقرائن ، فكان الجواب منا على ذلك بالآتي :
أ/ أنَّ إقرار المدعى عليهما جاء مفصلاً وموثقاً من ثلاثة قضاة مرتين ، وليس هو الدليل الأوحد على صدور الفعل منهما ؛ حتى يعتبر انتفاؤه مسقطاً لما بُنِيَ عليه .

ب/ شهد عليهما خمسة من رجال دوريات الشرطة بهروبهما ، ومطاردتهم لهما ، وبأنهما أطلقا النار عليهم أثناء المطاردة .

ج/ اعترف المدعى عليهما بالهروب والمطاردة وحيازة السلاح وذخيرته ، ولم يرجعا عن شيءٍ من ذلك .

د/ أنَّ المدعى عليهما من رجال الأمن السابقين ، ومثلهما يحافظ على الأمن لا أن يخل به ، فكيف إذا ناوءا رجال الأمن ، وأرادا بهم السوء وهم يؤدون أعمالهم .

هـ/ أن حد الحرابة ليس كغيره من الحدود ؛ بدليل قول الله جل وعلا { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، فتوبة المحاربين لا تُقبل منهم بعد القدرة عليهم ، فكيف يُمَكَّنُون من قبول الرجوع عن إقرارهم .

و/ قال ابن شاس المالكي في عقد الجواهر 3/ 346 [ وإذا كان المحارب مشهوراً ، وكان حاله في الحرابة مستفيضاً ، فشهد عليه من يعرفه بعينه : أنَّ هذا فلانٌ المشهور : أقام الإمام عليه الحد بهذه الشهادة وقتله ؛ وإن لم يشهد عليه هؤلاء الشهود بمعاينة القتل والسلب وقطع الطريق ] انتهى

ز/ ونقل ابن تيمية في مجموع الفتاوى 16/ 32 أقوال أهل العلم في سقوط الحد بالرجوع عن الإقرار ، ونص على تضعيف القول بقبول الرجوع ، ثم قال [ بل فرق بين من أقر تائباً ، ومن أقر غير تائب ، فإسقاط العقوبة بالتوبة - كما دلت عليه النصوص - أولى من إسقاطها بالرجوع عن الإقرار ؛ والإقرار شهادةٌ منه على نفسه ، ولو قُبِلَ الرجوع لما قام حدٌ بإقرار . فإذا لم تقبل التوبة بعد الإقرار - مع أنه قد يكون صادقاً - فالرجوع الذي هو فيه كاذبٌ أولى ] انتهى

ح/ ذكر الماوردي الشافعي في الحاوي الكبير 13/ 333 عن الإمام مالك وأشهب وابن الماجشون والإمام الشافعي في أحد قوليه : أنَّ الرجوع عن الإقرار لا يقبل إلا لشبهة . وضبط ذلك الإمام القرافي فقال : ما لا يجوز الرجوع عنه من الأقارير هو ما ليس له فيه عذرٌ عاديٌ . انتهى

= أعيدت المعاملة إلى المحكمة ثلاث مرات من الدائرة الثانية لنظر القضايا المشتركة في محكمة التمييز ، قبل أن تقرر نقض الحكم بالقرار ذي الرقم 507/ م2/ب وتأريخ 19/ 8/ 1417هـ .

والتشريع القضائي المطلوب هو التالي :-
1/ ضرورة الإسراع بإعداد القانون الجنائي المبني على أرجح أقوال أهل العلم ؛ لإحكام السيطرة على الاجتهادات المؤثرة على سلامة الأمن .
2/ لزوم تعديل أنظمة التأديب للعسكريين ؛ بما يحفظ لرجال الأمن حقوقهم وكرامتهم ، ويحفظ للمواطنين والمقيمين أمنهم وسلامتهم من مثل هؤلاء الشواذ .
3/ وضع المفصول من رجال الأمن تحت المراقبة ، وتأهيله للعيش في المجتمع بعد الاستغناء عن خدماته ؛ حتى لا يتحول إلى سبعٍ ضارٍ ينهش استقرار الدولة وأمنها .
4/ الحرص على انتقاء رجال الأمن - خصوصاً : في الرتب الدنيا - وعدم تمكين أرباب السوابق من العمل في المجال الأمني ؛ حتى لا يتهيأوا للإجرام أسوأ من ذي قبل ، فيكونوا حربة في خاصرة الأمة .
5/ تشديد العقوبة على مهربي السلاح والمخدرات ومن في حكمهم ؛ بما يقطع شرهم ويحسم ضررهم .
6/ تكثيف مراقبة أطراف المدن والقرى والطرق العامة خارج العمران ؛ بدعم أجهزة الأمن المختصة بذلك .
7/ الاهتمام بمبدأ الثواب والعقاب في أجهزة الأمن ؛ لتشجيع المثابرين ، وتأديب المتخاذلين ؛ بما يحقق أمن البلاد وسلامة المجتمع . والله أعلم

الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود

ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 5043 | تأريخ النشر : الخميس 22 شعبان 1430هـ الموافق 13 أغسطس 2009م

طباعة المقال

إرسال المقالة
(( رجوع المقر بالحرابة )) للإحصاءات والاستبانات أهمية كبرى في وضع الاستراتيجيات والخطط ؛ سواء : لاستجلاب أمر ما ، أو لتلافي وضع قائم . ومن الأمور التي يجب الاهتمام بها : أوضاع السجناء في الحق العام ، خصوصا : قضايا الجرائم الكبرى ؛ لمساسها بهيبة الدولة ، وأمن المجتمع ، وسلامة الاقتصاد . ومن البدهي : أن نسبة كبيرة من أرباب الجرائم هم من : العاطلين عن العمل ، أو من المفصولين من الخدمة العسكرية ، أو من مدمني المخدرات . وهذا يدعونا : للعناية بتوفير وظائف للعاطلين بعد إعدادهم وتدريبهم ، وكذا : وضع البرامج العلاجية للمدمنين ، وتشديد الخناق على أباطرة التهريب والترويج للمخدرات في الداخل والخارج . ومن الواجب مع ذلك كله : دراسة أحوال العسكريين الذين تقضي الأنظمة بالاستغناء عن خدماتهم ؛ بترويض تلك الأنظمة ، وإخضاعها للتحليل والتدقيق في جدواها ، وسبر آثارها على المستويين البعيد والقريب ؛ لأن طرق الإحكام والسيطرة معلومة لدى العسكري المفصول أكثر مما هي عند غيره من المدنيين ، ووسائل الدفاع والهجوم والضبط مسخرة له على نحو مدروس يصعب التعامل معه أكبر مما هي لدى غيره من العامة . ولذلك : فينبغي تطويل إجراءات الفصل من الخدمة ، بحيث يمر العسكري العاثر عبر قنوات عدة من محاولات الإصلاح قبل الاستغناء عن خدماته الأمنية . ولا مانع من تحويل تخصصه من قطاع إلى آخر ومن مكان إلى آخر ؛ حتى يقع على ما يناسبه ، دون الحاجة إلى فصله ؛ فالعسكري العاطل - متى ضيم وأغلقت أبواب الكسب أمامه ، وضاقت عليه الأرض بما رحبت - فانقلابه إلى عدو ساط أمر غالب ، وشر عاطب ؛ فالتدريب الذي تلقاه ، والسلاح الذي أتقن استخدامه ، والصبر الذي تعود عليه قد يسخرها في الشر ؛ متى غلبه يأسه ، وضعف إيمانه ، ونقص يقينه . وقضيتنا من هذا الصنف ؛ الذين آل بهم الحال إلى ارتكاب أصناف الكبائر باستخدام السلاح ، وملخص القضية كما يلي :- = التحق رجلان بالخدمة العسكرية في أحد القطاعات الأمنية الهامة ، وتدربا أحسن تدريب ، وأظهرا صبرا وجلدا وتفوقا على أقرانهما ؛ الأمر الذي دعى إلى قبولهما ، وإعطائهما الرتبة العسكرية المناسبة لمثلهما . = بدر من الرجلين من المخالفات ما لا ينفك عنها أمثالهما ، فعوقبا بعقوبات لم يكتب لها أن تخفف من غلواء شبابهما وشدة مراسهما ، ففصلا من الخدمة العسكرية . = شاء الله لكل منهما أن يتخذ ذات الطريق المنحرف عن الجادة ؛ للتعويض بالحرام عما انقطع من كسبهما الحلال ، فسلك أحدهما طريق السرقة ، أما الثاني فسلك طريق تهريب السلاح والمخدرات . = قبض على الأول خمس مرات ، أربع منها في قضايا سرقة ، والخامسة في قضية زنا بالإكراه ، وسجلت عليه سوابق ، والثاني قبض عليه مرتين ؛ إحداهما في تهريب السلاح ، والأخرى في استعمال المخدرات . = التقى المجرمان ( رجلا الأمن سابقا ) ، فاتفقا على توحيد الجهود ، وتنسيق المواقف ؛ لتحقيق مأربهما المشترك ، وهو كسب المال الحرام ، بعد أن أغلق في وجهيهما باب المال الحلال الذي يحسنانه ولا يعرفان غيره . = وجد الزميلان أن أطراف البلد أهيأ لهما من داخله ، وأن الليل أستر لهما من النهار ، وأن مساكن العمال الوافدين آمن من غيرها ، فاستهدفاها ولكن !!!. = كان لابد لهما من تذكر أيام التدريب والمناورات بالذخيرة الحية ، فجرباها في سلب أولئك العزل ، وهما يعلمان أن راتب العامل منهم طيلة الشهر لا يوازي قيمة ما يستهلكانه هما على ملاذهما في اليوم الواحد . = لم يأبها بأحوال أولئك البائسين ، ولا بتوسلاتهم ، ولم يكتفيا بسلبهم كل ما تقع عليه أيديهما من مال ، بل اعتادا ترويعهم بإطلاق النار من أسلحتهما الرشاشة ، وبالغا في ضرب من يسلبانه من العمال ضربا عنيفا ؛ ليضمنا عدم التبليغ عنهما . = كان لدراستهما الشؤون العسكرية أثر في سلوك مسالك التخفي والتمويه على أجهزة الأمن ، فكانا يتنقلان من شمال البلد إلى جنوبه في الليلة الواحدة ، ثم من شرقه إلى غربه ؛ لتشتيت جهود رجال الأمن ، وإيقاعهم في الحيرة ، وليوهما رجال الأمن أن كل ما يقومان به من حوادث لا يمكن أن تصدر من عصابة واحدة . = اشتد بأس الرجلين الخاطئين حتى ضجت منهما أطراف البلدة ، فوضعت الجهات الأمنية الكمائن في الطرقات التي يمكن أن يسلكاها ، وبعد مطاردة استمرت سبع ساعات ونصف قبض عليهما ، وبحوزتهما الرشاش الذي استخدماه ضد دوريات الشرطة أثناء المطاردة ، كما كانا يستخدمانه في إرعاب العمال ، وعثر على عدد كبير من الطلقات في السيارة . = اضطرب المجرمان أثناء التحقيق معهما - كما في دفاتر التحقيق - فأنكر أحدهما ملكيته السيارة ثم أقر بها ، وأنكر الآخر ملكيته الرشاش ثم اعترف به . = كان أحد الجانيين وقت القبض عليه متعاطيا المخدرات ؛ بحسب التقرير الطبي المرفق في المعاملة ، وكان بحوزة الآخر مالا ، قرر أنه لأحد العمال الذين سطا بهم . = اعترف الخاطئان بالسوابق المسجلة عليهما ، وبحوادث سلبهما العمال ، وباستخدامهما السلاح في إخافة ضحاياهما وضد الدوريات المطاردة لهما ؛ لثنيهم عن اللحاق بهما ، وصدق اعترافهما من ثلاثة قضاة مرتين . = قام أحد الجانيين بدلالة الشرطة على أماكن جرائمهما ، وبعرضهما على العمال المجني عليهم عرفوهما . = أثبت التقرير الفني استخدام السلاح الرشاش المضبوط مع المجرمين في حوادث السلب والمطاردة ؛ بتحليل ظروف الطلقات المستعملة في تلك المواقع . = كانت المرافعة والحكم في يومين اثنين فقط ؛ وملخصها كالتالي :- أولا : بعد عرض دعوى المدعي العام على المدعى عليهما صادقا على اعترافهما بكل ما نسب إليهما أمام القضاة الثلاثة مرتين ، وادعيا الإكراه على ذلك الإقرار ، وأن ذلك صدر منهما بسبب الضرب أثناء التحقيق ، وخوفا من إعادته عليهما ، غير أنهما قررا صحة حصول مطاردة الدوريات لهما ليلة القبض عليهما ، وكذا حيازتهما الرشاش وخمس وعشرين طلقة في مخزن الذخيرة . ثانيا : أحضر المدعي العام خمسة من منسوبي دوريات الشرطة ، فشهدوا بمطاردتهم سيارة المدعى عليهما ، وبحصول إطلاق النار عليهم من تلك السيارة ، وبالعثور على الرشاش واثنتين وستين طلقة ومخزني ذخيرة بحوزتهما . ثالثا : حكمنا على المدعى عليهما بحد الحرابة ، ورأينا : أن العقوبة المناسبة في حقهما هي القتل ؛ بضرب عنق كل منهما بالسيف حتى الموت ؛ من بين العقوبات الأربع المنصوص عليها في قول الله تعالى { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } . رابعا : كان لمحكمة التمييز موقف آخر من الحكم ؛ مفاده : أن رجوع المدعى عليهما عن اعترافهما شبهة تدرأ عنهما الحد ، وأن الحد لا يثبت بالقرائن ، فكان الجواب منا على ذلك بالآتي : أ/ أن إقرار المدعى عليهما جاء مفصلا وموثقا من ثلاثة قضاة مرتين ، وليس هو الدليل الأوحد على صدور الفعل منهما ؛ حتى يعتبر انتفاؤه مسقطا لما بني عليه . ب/ شهد عليهما خمسة من رجال دوريات الشرطة بهروبهما ، ومطاردتهم لهما ، وبأنهما أطلقا النار عليهم أثناء المطاردة . ج/ اعترف المدعى عليهما بالهروب والمطاردة وحيازة السلاح وذخيرته ، ولم يرجعا عن شيء من ذلك . د/ أن المدعى عليهما من رجال الأمن السابقين ، ومثلهما يحافظ على الأمن لا أن يخل به ، فكيف إذا ناوءا رجال الأمن ، وأرادا بهم السوء وهم يؤدون أعمالهم . هـ/ أن حد الحرابة ليس كغيره من الحدود ؛ بدليل قول الله جل وعلا { إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم } ، فتوبة المحاربين لا تقبل منهم بعد القدرة عليهم ، فكيف يمكنون من قبول الرجوع عن إقرارهم . و/ قال ابن شاس المالكي في عقد الجواهر 3/ 346 [ وإذا كان المحارب مشهورا ، وكان حاله في الحرابة مستفيضا ، فشهد عليه من يعرفه بعينه : أن هذا فلان المشهور : أقام الإمام عليه الحد بهذه الشهادة وقتله ؛ وإن لم يشهد عليه هؤلاء الشهود بمعاينة القتل والسلب وقطع الطريق ] انتهى ز/ ونقل ابن تيمية في مجموع الفتاوى 16/ 32 أقوال أهل العلم في سقوط الحد بالرجوع عن الإقرار ، ونص على تضعيف القول بقبول الرجوع ، ثم قال [ بل فرق بين من أقر تائبا ، ومن أقر غير تائب ، فإسقاط العقوبة بالتوبة - كما دلت عليه النصوص - أولى من إسقاطها بالرجوع عن الإقرار ؛ والإقرار شهادة منه على نفسه ، ولو قبل الرجوع لما قام حد بإقرار . فإذا لم تقبل التوبة بعد الإقرار - مع أنه قد يكون صادقا - فالرجوع الذي هو فيه كاذب أولى ] انتهى ح/ ذكر الماوردي الشافعي في الحاوي الكبير 13/ 333 عن الإمام مالك وأشهب وابن الماجشون والإمام الشافعي في أحد قوليه : أن الرجوع عن الإقرار لا يقبل إلا لشبهة . وضبط ذلك الإمام القرافي فقال : ما لا يجوز الرجوع عنه من الأقارير هو ما ليس له فيه عذر عادي . انتهى = أعيدت المعاملة إلى المحكمة ثلاث مرات من الدائرة الثانية لنظر القضايا المشتركة في محكمة التمييز ، قبل أن تقرر نقض الحكم بالقرار ذي الرقم 507/ م2/ب وتأريخ 19/ 8/ 1417هـ . والتشريع القضائي المطلوب هو التالي :- 1/ ضرورة الإسراع بإعداد القانون الجنائي المبني على أرجح أقوال أهل العلم ؛ لإحكام السيطرة على الاجتهادات المؤثرة على سلامة الأمن . 2/ لزوم تعديل أنظمة التأديب للعسكريين ؛ بما يحفظ لرجال الأمن حقوقهم وكرامتهم ، ويحفظ للمواطنين والمقيمين أمنهم وسلامتهم من مثل هؤلاء الشواذ . 3/ وضع المفصول من رجال الأمن تحت المراقبة ، وتأهيله للعيش في المجتمع بعد الاستغناء عن خدماته ؛ حتى لا يتحول إلى سبع ضار ينهش استقرار الدولة وأمنها . 4/ الحرص على انتقاء رجال الأمن - خصوصا : في الرتب الدنيا - وعدم تمكين أرباب السوابق من العمل في المجال الأمني ؛ حتى لا يتهيأوا للإجرام أسوأ من ذي قبل ، فيكونوا حربة في خاصرة الأمة . 5/ تشديد العقوبة على مهربي السلاح والمخدرات ومن في حكمهم ؛ بما يقطع شرهم ويحسم ضررهم . 6/ تكثيف مراقبة أطراف المدن والقرى والطرق العامة خارج العمران ؛ بدعم أجهزة الأمن المختصة بذلك . 7/ الاهتمام بمبدأ الثواب والعقاب في أجهزة الأمن ؛ لتشجيع المثابرين ، وتأديب المتخاذلين ؛ بما يحقق أمن البلاد وسلامة المجتمع . والله أعلم
التعليقات متاحة للزوار التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع