نشرت في صحيفة الوطن

قضائيات في حديث ماتع مع رئيس إحدى المحاكم قال لي فيه : إن أهل هذه البلدة ينعمون برخاء في إقامة الدعاوى على بعضهم إلى حدٍ عجزت معه المحكمة أن تستوعب ما يرد إليها من ملفات ، وجلها دعاوى كيدية ، إذ ما إن يسمع الرجل من صاحبه أدنى كلمة - يظن منها أنه يسخر به ، أو يشم منها رائحة السب - إلا ويسارع إلى المحكمة لطلب تعزيره على إهانته وتأديبه على انتهاك حمى عرضه الفسيح ، ثم ما يلبث أن يتقدم مرة أخرى بدعوى جديدة ، وهكذا كل يوم لكل واحد دعوى أو أكثر ضد شخص بعينه أو أشخاص ، وقد يكون منشأ تلك الدعاوى واحداً ، وقلما يكون السبب متعدداً .


= يقول فضيلته يرحمه الله : لقد حيرني هذا الوضع من أهل البلدة وما يعانيه أهلها من تفكك في الظاهر ، وهم في الباطن على خير وئام ، فالمتداعيان يتواعدان في منزل أحدهما قبل المثول أمام المحكمة ، ويمكن أن يضيف أحدهما الآخر قبل وبعد الجلسة ، وقد يترافقان في وسيلة نقلهما إلى المحكمة ، وما إن يجلسان أمام القاضي حتى تعلو أصواتهما ، ويكشر كل منهما في وجه صاحبه طالباً إنزال أشد العقوبات في حقه .


= وأردف فضيلته غفر الله له قائلاً : فسننت لهم سنة - لعلها حسنة - بأن منعت قبول أي دعوى من أي شخص له دعوى لا تزال قائمة ، وجعلت انتهاء الدعوى القائمة أجلاً لقبول الدعوى التالية .
إن هذا الإجراء الطارئ لم يحد من كثرة الدعاوى ، لكنه كان سبباً في استعجال المدعين لإنهاء قضاياهم القائمة ليتاح لهم المجال في تقديم الدعوى اللاحقة .


= يقول فضيلته : كانت تلك القضايا تخلو من البينات غالباً ، ولذلك يلجأ أصحابها إلى طلب اليمين من أول جلسة ، وكأني بالواحد منهم يريد التباهي بتحليف خصمه أمام القاضي ، أو تعييره بإلجائه إلى الحلف ليسلم من الحكم عليه .


= لم يكن أمام القاضي من سبيل للحد من كثرة الدعاوى الكيدية إلا أن يخترع إجراءات تبطئ من ترادف الدعاوى إلى المحكمة ، ولو أن النظام القضائي - آنذاك - أجاز للمدعى عليهم المطالبة بالتعويض عن كل دعوى كيدية لما شهدت المحاكم ذلك الكم الهائل منها ، ولتفرغ القضاة لما هو أهم منها .


= إن إغفال قضاء التعويض ، وعدم الاهتمام به جعل للكائد سوقاً رابحة يكسب فيها ما شاء ، فقد ذكر لي أحد المحامين عن أحد موكليه الذين ابتلوا بدعوى كيدية نشأ عنها صدور قرار بمنع موكله من السفر ، فاضطر لعرض مليوني ريال على المدعي ليتنازل عن دعواه ؛ حتى يسافر فلا يؤثر القرار على سمعته في السوق ، وعلى مكانته الاجتماعية .


= لقد روى البخاري في صحيحه عن وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ ) .

- وروى أبو داود والنسائي عَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقُوبَتَهُ ) . وصححه الألباني

- ومن عقوبة الخصم الكائد والمماطل : تحميله أجرة المحاماة ومصاريف الدعوى والسفر ؛ لقاء مطله ومنعه الحق الذي عليه .

- ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نفيس نقله عنه صاحب الاختيارات الفقهية ، ونصه [ إذا كان الذي عليه الحق قادراً على الوفاء وماطل حتى أحوجه إلى الشكاية : فما غرمه بسبب ذلك على الظالم المماطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد ] .


= وقد جاء في جميع القوانين الإشارة إلى تحميل الخصم الظالم مصاريف الدعوى من باب العقوبة له ، ولم أر من استوفى بحث ما يتعلق بالتعويض عن الدعوى الكاذبة ، ومنها :-

1/ مصاريف الدعوى . ويقصد بها رسوم وضرائب قبول الدعوى في المحاكم التي تفرض رسوماً على التقاضي .

2/ أجرة المحامي . ومن الطبيعي أن لا يقبل قول المحامي ولا موكله في تحديد الأجرة ، بل يلجأ إلى نسبة من المبلغ المحكوم به ، أو إلى أجرة محددة لكل جلسة ، أو لكل ساعة من ساعات دراسة الدعوى ، ويمكن الالتجاء إلى أهل الخبرة لتحديدها عند الاختلاف .

3/ مصاريف السفر . وهذه تحدد لمن يضطر إلى السفر لمحاكمة من يدعيه أو يدعي عليه .

4/ التعويض المعنوي . وهذه تعتمد على مقدار الضرر المتحقق من الدعوى ، ومنه : إدراج المتضرر في قائمة المتعثرين عن السداد لدى شركة ( سمة ) للمعلومات الائتمانية .

5/ حبس المال . وهذا في المطالبات المالية التي يتأخر فيها المدين عن سداد ما عليه مما يحرم الدائن من استثمار ماله مدة من الزمن يمكنه فيها الاستفادة منه لولا مطل المدين .

6/ نقص السعر . وهذا في المطالبات بالسلع التي تنقص قيمتها مع فوات الوقت قبل الحكم بها لصاحبها .

7/ زيادة السعر . وهذه تأتي في المطالبات بأقيام السلع التي تزيد مع الوقت فتكون أقيامها يوم الحكم أكثر منها يوم إقامة الدعوى .

8/ فوات الكسب . وهذا يكون عند تسبب الخصم المماطل في فوات كسب محقق لخصمه بسبب دعواه الكائدة .

9/ قيمة العلاج . وهذه تكون للمصاب بجروح أو أعراض مرضية تسبب بها خصمه .


= ولأن وزارة العدل السعودية بصدد وضع تنظيم خاص للحكم على الطرف الخاسر بمصاريف الدعوى كما جاء في تصريح لمعالي الوزير قبل سنة ونصف تقريباً ، فلعل الوزارة الموقرة تحيط في دراستها هذه بكل ما يدخله التعويض من أفرع الضرر من الدعاوى الكيدية ، والمماطلات المقصودة .

- كما يمكن الوزارة الموقرة أن تسترشد بما جاء في قوانين المرافعات العربية والعالمية ، ومنها : قانون المرافعات الخليجي الاسترشادي ؛ ففيه سبع مواد عن مصاريف الدعوى ، ومنها ما لا يتحمله الطرف الخاسر إلا إن كان كائداً لخصمه .

http://www.cojss.com/vb/showthread.php?p=38065

الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود

ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 7427 | تأريخ النشر : الأحد 10 ذو الحجة 1432هـ الموافق 6 نوفمبر 2011م

طباعة المقال

إرسال المقالة
(( قضاء التعويض )) في حديث ماتع مع رئيس إحدى المحاكم قال لي فيه : إن أهل هذه البلدة ينعمون برخاء في إقامة الدعاوى على بعضهم إلى حد عجزت معه المحكمة أن تستوعب ما يرد إليها من ملفات ، وجلها دعاوى كيدية ، إذ ما إن يسمع الرجل من صاحبه أدنى كلمة - يظن منها أنه يسخر به ، أو يشم منها رائحة السب - إلا ويسارع إلى المحكمة لطلب تعزيره على إهانته وتأديبه على انتهاك حمى عرضه الفسيح ، ثم ما يلبث أن يتقدم مرة أخرى بدعوى جديدة ، وهكذا كل يوم لكل واحد دعوى أو أكثر ضد شخص بعينه أو أشخاص ، وقد يكون منشأ تلك الدعاوى واحدا ، وقلما يكون السبب متعددا . = يقول فضيلته يرحمه الله : لقد حيرني هذا الوضع من أهل البلدة وما يعانيه أهلها من تفكك في الظاهر ، وهم في الباطن على خير وئام ، فالمتداعيان يتواعدان في منزل أحدهما قبل المثول أمام المحكمة ، ويمكن أن يضيف أحدهما الآخر قبل وبعد الجلسة ، وقد يترافقان في وسيلة نقلهما إلى المحكمة ، وما إن يجلسان أمام القاضي حتى تعلو أصواتهما ، ويكشر كل منهما في وجه صاحبه طالبا إنزال أشد العقوبات في حقه . = وأردف فضيلته غفر الله له قائلا : فسننت لهم سنة - لعلها حسنة - بأن منعت قبول أي دعوى من أي شخص له دعوى لا تزال قائمة ، وجعلت انتهاء الدعوى القائمة أجلا لقبول الدعوى التالية . إن هذا الإجراء الطارئ لم يحد من كثرة الدعاوى ، لكنه كان سببا في استعجال المدعين لإنهاء قضاياهم القائمة ليتاح لهم المجال في تقديم الدعوى اللاحقة . = يقول فضيلته : كانت تلك القضايا تخلو من البينات غالبا ، ولذلك يلجأ أصحابها إلى طلب اليمين من أول جلسة ، وكأني بالواحد منهم يريد التباهي بتحليف خصمه أمام القاضي ، أو تعييره بإلجائه إلى الحلف ليسلم من الحكم عليه . = لم يكن أمام القاضي من سبيل للحد من كثرة الدعاوى الكيدية إلا أن يخترع إجراءات تبطئ من ترادف الدعاوى إلى المحكمة ، ولو أن النظام القضائي - آنذاك - أجاز للمدعى عليهم المطالبة بالتعويض عن كل دعوى كيدية لما شهدت المحاكم ذلك الكم الهائل منها ، ولتفرغ القضاة لما هو أهم منها . = إن إغفال قضاء التعويض ، وعدم الاهتمام به جعل للكائد سوقا رابحة يكسب فيها ما شاء ، فقد ذكر لي أحد المحامين عن أحد موكليه الذين ابتلوا بدعوى كيدية نشأ عنها صدور قرار بمنع موكله من السفر ، فاضطر لعرض مليوني ريال على المدعي ليتنازل عن دعواه ؛ حتى يسافر فلا يؤثر القرار على سمعته في السوق ، وعلى مكانته الاجتماعية . = لقد روى البخاري في صحيحه عن وهب بن منبه أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مطل الغني ظلم ) . - وروى أبو داود والنسائي عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لي الواجد يحل عرضه وعقوبته ) . وصححه الألباني - ومن عقوبة الخصم الكائد والمماطل : تحميله أجرة المحاماة ومصاريف الدعوى والسفر ؛ لقاء مطله ومنعه الحق الذي عليه . - ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام نفيس نقله عنه صاحب الاختيارات الفقهية ، ونصه [ إذا كان الذي عليه الحق قادرا على الوفاء وماطل حتى أحوجه إلى الشكاية : فما غرمه بسبب ذلك على الظالم المماطل إذا كان غرمه على الوجه المعتاد ] . = وقد جاء في جميع القوانين الإشارة إلى تحميل الخصم الظالم مصاريف الدعوى من باب العقوبة له ، ولم أر من استوفى بحث ما يتعلق بالتعويض عن الدعوى الكاذبة ، ومنها :- 1/ مصاريف الدعوى . ويقصد بها رسوم وضرائب قبول الدعوى في المحاكم التي تفرض رسوما على التقاضي . 2/ أجرة المحامي . ومن الطبيعي أن لا يقبل قول المحامي ولا موكله في تحديد الأجرة ، بل يلجأ إلى نسبة من المبلغ المحكوم به ، أو إلى أجرة محددة لكل جلسة ، أو لكل ساعة من ساعات دراسة الدعوى ، ويمكن الالتجاء إلى أهل الخبرة لتحديدها عند الاختلاف . 3/ مصاريف السفر . وهذه تحدد لمن يضطر إلى السفر لمحاكمة من يدعيه أو يدعي عليه . 4/ التعويض المعنوي . وهذه تعتمد على مقدار الضرر المتحقق من الدعوى ، ومنه : إدراج المتضرر في قائمة المتعثرين عن السداد لدى شركة ( سمة ) للمعلومات الائتمانية . 5/ حبس المال . وهذا في المطالبات المالية التي يتأخر فيها المدين عن سداد ما عليه مما يحرم الدائن من استثمار ماله مدة من الزمن يمكنه فيها الاستفادة منه لولا مطل المدين . 6/ نقص السعر . وهذا في المطالبات بالسلع التي تنقص قيمتها مع فوات الوقت قبل الحكم بها لصاحبها . 7/ زيادة السعر . وهذه تأتي في المطالبات بأقيام السلع التي تزيد مع الوقت فتكون أقيامها يوم الحكم أكثر منها يوم إقامة الدعوى . 8/ فوات الكسب . وهذا يكون عند تسبب الخصم المماطل في فوات كسب محقق لخصمه بسبب دعواه الكائدة . 9/ قيمة العلاج . وهذه تكون للمصاب بجروح أو أعراض مرضية تسبب بها خصمه . = ولأن وزارة العدل السعودية بصدد وضع تنظيم خاص للحكم على الطرف الخاسر بمصاريف الدعوى كما جاء في تصريح لمعالي الوزير قبل سنة ونصف تقريبا ، فلعل الوزارة الموقرة تحيط في دراستها هذه بكل ما يدخله التعويض من أفرع الضرر من الدعاوى الكيدية ، والمماطلات المقصودة . - كما يمكن الوزارة الموقرة أن تسترشد بما جاء في قوانين المرافعات العربية والعالمية ، ومنها : قانون المرافعات الخليجي الاسترشادي ؛ ففيه سبع مواد عن مصاريف الدعوى ، ومنها ما لا يتحمله الطرف الخاسر إلا إن كان كائدا لخصمه . http://www.cojss.com/vb/showthread.php?p=38065
التعليقات متاحة للزوار التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع