|
نشرت في مجلة اليمامة العدد 1917
قضائيات قَدِمَ أحدُ المغاربةِ مهاجراً إلى ألمانيا ، وخلال رحلةِ البحثِ عن عملٍ صادف رجلاً مغربياً يعمل في بقالةٍ صغيرةٍ فَأَنِسَ به وَتَلَطَّفَ ذلك المهاجر له حتى اقترض منه خمسمائة يورو (2500 ريال ) ، فلما عَثَرَ على عملٍ مناسبٍ يُؤَمِّنُ به معيشته ويستعين به على مصاريفِ دراسته انقطعَ عن زيارةِ صاحبه ، ومضت مدةٌ على ذلك ، فلما التقيا اعتذر عن سدادِ الدينِ إلى أجلٍ ، وتَكَرَّرَ ذلك منه دون وفاءٍ مِمَّا حدا بالدائن إلى طلب السداد منه ابتداءً ، وراسله بخطاباتٍ مسجلةٍ دون فائدة ، فاضطُرَّ الدائنُ إلى توكيلِ محامٍ لتحصيل ماله من هذا الناكر للجميل .تولى مكتبُ المحامي مراسلةَ المدينِ ومطالبته بألفِ يورو (5000 ريال ) هي مبلغُ الدينِ وأتعابُ مكتبِ المحاماةِ ، فلم يهتم المدينُ بذلك الأمر ، فورده كتابٌ ثانٍ من مكتبِ المحامي يطالبه فيه بألفٍ ومائةِ يورو (5500 ريال ) هي مبلغُ الدينِ وأتعابُ المحاماةِ وأجورُ المراسلةِ في المرتين مضافاً إليها رسومُ تقديمِ الدعوى إلى المحكمة المختصة .
لم يهتم المدينُ كعادته لهذا التحذير ، وعند جلبه إلى القاضي وسماعِ الدعوى ضده وجوابه عليها صَدَرَ الحكمُ عليه بلزومِ سدادِ خمسةِ آلاف يورو (25,000 ريال ) !!! ، هي مبلغُ الدينِ وأجورُ المحامي بعد ضَمِّ رسومِ المحكمةِ وغراماتِ الإخلالِ بالالتزاماتِ الماليةِ وإشغالِ السُّلُطَات .
لا أشك أنَّ أتعاب المحامي المحكوم بها (3000 ريال ) تُعَدُّ أجرةً زهيدةً لمحامٍ في بلدٍ من بلدان العالم الصناعي ( الأول ) ، غير أنَّ ذلك قد رُوعِيَ فيه قِلَّةُ المبلغِ المدعى به ، أما رسومُ المحاكمةِ والغراماتُ فلعلها رسومٌ محددةٌ لِكُلِّ دعوىً أياً كانت ، فلا يُنظَرُ فيها إلى الشيءِ المطالبِ به ولا إلى ثمنه .
ولو أنَّ المدينَ تَأَخَّرَ في سدادِ تلك المبالغِ بعد الحكمِ لأُلزِمَ بسدادِ فوائدها تبعاً لها ، ولو حُبِسَ لأجلِ ذلك لزادت أعباؤه بتحميله نفقاتِ سجنه وحراسته ؛ يدفعها ولو مُقَايَضَةً بالخدمة فيما يُحَدِّدُهُ القضاءُ من أعمالٍ تكون أجرتها ما يُنفق عليه في سجنه ، لا وَكْسَ ولا شَطَطَ .
إنَّ أولئك القومَ يشهدون انضباطاً فائقاً في معاملاتهم التجارية ؛ لا يكاد العارفُ بصرامةِ قوانينهم أنْ يحيدَ قيدَ أَنْمُلَةٍ عن طريقِ الحقِّ والعدلِ الذي نصت عليه تلك القوانين ، ولو فَعَلَ لَوَجَدَ الدولةَ بمحاكمها وحرسها له بالمرصاد ؛ كما حصل من مدينٍ بـ (2500 ريال ) غَرِمَ باستهتاره (25,000 ريال ).
إنَّ هناك - وكما قال محمد إقبال رحمه الله - إسلامٌ بلا مسلمين ، كما أننا هنا مسلمونَ مُفَرِّطُونَ في تطبيقِ مبادئ إسلامنا ؛ إما جهلاً من عامتنا ، أو عِنَاداً من خاصتنا ؛ الذين لا يزيدهم نقلُ مثلِ هذه الأخبار إلا عتواً ونفوراً !!! ، كأنهم لا يعلمونَ أنَّ الحكمةَ ضالةُ المؤمنِ ، أينما وجدها فهو أحقُّ بها ، كيف !! وتلك الحكمةُ من المسلمين بدأت ، ولابد أن تعودَ إليهم طال الزمانُ أو قصُر .
إنَّ قواعدَ العدالةِ والإنصافِ المُقَرَّرَةِ عند أولئك القومِ لم يسبقونا إليها ، بل استفادوها من شريعتنا الغَرَّاءِ ؛ التي نَعِمْنا بها وَقْتَ أن كانوا هم قبائلَ وثنيةً متناحرةً ، حتى بزغت شموسُ حضارتنا في الأندلسِ السليبِ على بلادهم ، فترجموا الأحكامَ الفقهيةَ في التجاراتِ وسياسةِ المُلْكِ وسائرِ العلومِ النظريةِ والتطبيقية ، ومنها : قواعدُ وتطبيقاتُ العدلِ بين الرَّعِيَّةِ ، فنحن الآن نَسْتَرِدُّهَا لا نَسْتَمِدُّهَا .
يقولُ ابن تيميةَ في الاختياراتِ ( وإذا كان الذي عليه الحقُّ قادراً على الوفاءِ ، وَمَطَلَ صاحبَ الحقِّ حتى أَخْرَجَهُ إلى الشِّكَايةِ فما غَرَمَهُ بسبب ذلك فهو على الظالمِ المُبْطِلِ إذا كان غُرْمُهُ على الوجهِ المعتادِ ) .
ويقول ابنُ فرحونَ المالكيُّ في التبصرة ( إذا تَبَيَّنَ أن المطلوبَ أَلَدَّ بالمدعي ، وَدَعَاهُ الطالبُ إلى الارتفاعِ إلى القاضي فأبى، فيكونُ على المطلوبِ أجرةُ الرسولِ إليه ، ولا يكونُ على الطالبِ من ذلك بشيءٍ ) .
ويقول البهوتيُّ الحنبليُّ في شرحِ المنتهى ( وما غَرَمَ رَبُّ دينٍ بِسَبَبِهِ ، أي : بِسَبَبِ مَطْلِ مدينٍ أَحْوَجَ رَبَّ الدَّينِ إلى شكواه ، فعلى مُمَاطِلٍ لِتَسَبُّبِهِ في غُرْمِهِ ) .
وقال مفتي الديار السعودية في وقته الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ( وذلك أنَّ العلماءَ نَصُّوا على أنَّ كُلَّ مَنْ غَرِمَ غرامةً بسببِ عُدوانِ شخصٍ آخرَ عليه أنَّ ذلكَ الشخصَ هو الذي يَتَحَمَّلُ تلك الغرامة ) .
رحم الله هؤلاء الأعلام ، ورضي اللهُ عنهم وأرضاهم .
المُهِمُّ في الأمرِ : أنَّ تطبيقَ الغربِ لقواعدَ قانونيةٍ صارمةٍ في سبيلِ ضبطِ أمورِ الناسِ وحقوقهم مستمدٌ في غالبه - ولاشك - من الدينِ الخاتم ؛ الذي أكمله اللهُ لعباده ، ومن الشريعةِ التي رضيها اللهُ لخلقه ، فَأَتَمَّ الله بها عليهم النعمةَ جل جلاله وتقدست أسماؤه سبحانه .
فهل نرى من حكوماتِ المسلمين التفاتاً صادقاً نحو تطبيقِ شرعِ اللهِ كما يُرِيدُهُ اللهُ ؟!!.
وهل نرى من علمائِنا اهتماماً بتقريرِ قواعدَ ذلك وإعانةِ وُلاةِ المسلمين وحُكامِهم على سياسةِ أمورِ الناس في بلادهم ؟!! ، سيكون ذلك - إن شاء الله - متى ابتعدنا عن حظوظِ النفسِ والهوى وعن التنافسِ والحِرْصِ على المالِ والشَّرَفِ والسلطانِ ؛ التي هي لِدِينِ المسلمِ أفسدُ من الذئابِ الجائعةِ الضَّارِيَةِ في غَنَمٍ قد أَغْفَلَهَا رِعَاؤُهَا ؛ كما جاء في الحديث الصحيح . والله المستعان .
وبالمناسبة : كنتُ وزملائي في اللجنةِ التحضيريةِ لإعدادِ اللوائحِ التنفيذيةِ لنظامِ المرافعاتِ الشرعيةِ قد رَتَّبْنَا فقرةً في فصل : الطلبات العارضة من الباب السادس ، نَصُّهَا ( 80/1 للمدعى عليه المطالبةُ بالتعويضِ عن تأخيرِ سَفَرِهِ ، أو إغلاقِ مَتْجَرِهِ ، أو حَسْمِ رواتبه مِنْ مَرْجِعِهِ ، أو عن أتعابِ المحامي عنه ، وجميعِ ما أنفقه لأجلِ الدعوى ؛ في حال كَذِبِهَا وَتَعَمُّدِ المدعي الإضرارَ به ) .
إلا أنَّ هذا النَّصَّ غيرُ موجودٍ في اللوائحِ المعتمدةِ للمادةِ (80) من النظامِ ضمن أكثرَ من مائتين وخمسين فقرةً استُغْنِيَ عنها من لجنةِ المراجعةِ ؛ كما سأوضحه بالتفصيلِ في أعدادٍ لاحقة .
الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود
ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 4459 | تأريخ النشر : السبت 3 رجب 1427هـ الموافق 29 يوليو 2006ماضغط هنا للحصول على صورة المقالة
إرسال المقالة
|
|||
|
|
|||
|