|
نشرت في منتدى المركز
قضائيات عندما يقدم المسؤول إلى دائرته - أول مرة - يكون ممتلئاً حماساً لطبع بصمته على الجهاز الذي أسند إليه ؛ إما : بإصلاح فاسد ، أو : بتحريك راكد ، فإذا مضى عليه وقتٌ ، ووجد أن الشق أكبر مما بيده من الرقاع ، وأدرك أن الحمل ثقيل ، وأنه لن يُحَقِّق ما كان يظن أنه فاعله ، وأنه غير قادرٍ عليه ؛ لا بذاته ولا بأعوانه : فإنه - بحسب ما انطوت عليه نفسه من نزعاتٍ وعُقدٍ وملكاتٍ فطرية - يلجأ إلى أحد طريقين :الطريق الأولى : الانسحاب من المهمة ، من باب :
إذَا لَمْ تستطِعْ شيئاً فدَعْهُ = وجاوِزْهُ إلى مَا تَستَطِيعُ
والانسحاب بعامة نوعٌ من أنواع الفشل ودليل من دلائله ، إلا أنه لازمٌ من لوازم النجاح المراد ؛ متى كان سبباً في انتهاج طريقٍ آخر يستطيع فاعله - باستطراقه - إظهار مواهبه وتفعيل إبداعاته .
الطريق الثاني : الاستتار عن أخبار الدائرة ، وهذا الطريق مسلكٌ للعاجزين من المسؤولين متى تحقق منهم ولهم ثلاثة أمور :
1/ افتقادهم القدرة على القيام بواجبهم تجاه المرافق التي أسندت إليهم .
2/ انطراحهم لأهوائهم ، واستمتاعهم بما كفلته لهم وظائفهم من أمورٍ لا يمكنهم نيلها ولا بلوغها بغير تلك الوظائف المبتلاة بهم .
3/ ضعف الرقابة والمتابعة ؛ سواء : بإهمالهم بالكلية ، أو بتصديقهم فيما يرفعونه إلى مراجعهم دون تحرٍ ولا تدقيق من جهة محايدة مسؤولة .
واللجوء إلى الاستتار خير وسيلة لهؤلاء ، من باب : إذا سفت الريح التراب فبادر بالاحتجاب ؛ لأن الأخبار بسوء حال الدائرة تُكَدِّر خاطر المسؤول العاجز ، وتُزعجه عما هو فيه من طيب عيشٍ وهناء بال .
ولو أدركوا لقالوا : إذا سفت الريح التراب فأغلق الباب ، وتفقَّد الأطناب قبل الاحتجاب ، ولذلك بالغ حكماء العرب في ذم استتار المسؤول عن الأخبار ، وأجمع كل من كتب في علم السياسة على أن احتجاب المسؤول عن ذوي الحاجات ، واستسلامه لمن يمنعها عنه : من أهم أسباب زوال سلطته ؛ لأنها أول دركات الظلم ، وثاني أسباب افتقاد المحبة ، وثالث بواعث زوال الهيبة ، ورابع دواعي نصرة الأضداد .
إن كلمة الحق محببة لنفوس الصالحين من المسؤولين ؛ وإن كانت في أصلها مُرَّةً خشنة ، في الوقت الذي ينفر منها الفاسدون والعاجزون والمغرورون والمغرَّر بهم من المغفلين والمتغافلين .
ولقد جعل الله لكلمة الحق وقعاً كبيراً على الجبابرة والظلمة فكانت في حق قائلها أفضل الجهاد في سبيل الله جل في علاه فيما رواه النسائي بسند صحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه .
ولما يكتنفها من المكاره فقد جعل الله على من يعلمها حق البيان كما قال جلت عظمته { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ } .
وقال سبحانه { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } .
وروى الإمام أحمد والحاكم والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أَلَا إِنَّ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ ، أَلَا وَأَكْبَرُ الْغَدْرِ غَدْرُ أَمِيرِ عَامَّةٍ ، أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا مَهَابَةُ النَّاسِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْحَقِّ إِذَا عَلِمَهُ ، أَلَا إِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ ) .
ولأن التاريخ يحوي العبر فقد جاء في بهجة المجالس لابن عبد البر المالكي يرحمه الله قال : [ سئل رجلٌ من بني أمية عاقل، فقيل له: أخبرنا عن أول شيء كان بدء زوال ملككم، فقال : سألتَ فاسمع، وإذا سمعتَ فافهم. تشاغلنا عن تفقُّد ما كان تفقده يلزمنا، ووثقنا بوزراء آثروا مرافقهم على منافعها، وأبرموا أموراً أسرُّوها عنا، فظُلمت رعيتنا، ففسدت نياتهم لنا، وجدب معاشنا فخلت بيوت أموالنا، وقلَّ جندنا فزالت هيبتنا، واستدعاهم أعداؤنا فظاهروهم علينا، وكان أكثر الأسباب في ذلك استتار الأخبار عنا ] .
ولأبي القاسم محمد بن نصير وكان كاتباً لأحد خلفاء بني أمية في الأندلس :-
إذا ما الله شاء صلاح قومٍ = أتاح لهم أكابر مصلحينا
ذوي رأيٍ ومعرفةٍ وفهمٍ = وإعدادٍ لما قد يحذرونا
فلم يستأثروا بكثير جمعٍ = وكانوا للمصالح مؤثرينا
ويسَّرهم لفعل الخير فيما = إليهم من أمور المسلمينا
وإن يشأ الإله فساد قومٍ = أتاح لهم أكابر معتدينا
ذوي كبرٍ ومجهلةٍ وجبنٍ = وإهمالٍ لما يتوقَّعونا
فظلُّوا يشرهون ويجمعونا = وليسوا في العواقب يَفكُرونا
وجاروا حيثما أمروا بعدلٍ = كأن قد قيل كونوا جائرينا
ذوي رأيٍ ومعرفةٍ وفهمٍ = وإعدادٍ لما قد يحذرونا
فلم يستأثروا بكثير جمعٍ = وكانوا للمصالح مؤثرينا
ويسَّرهم لفعل الخير فيما = إليهم من أمور المسلمينا
وإن يشأ الإله فساد قومٍ = أتاح لهم أكابر معتدينا
ذوي كبرٍ ومجهلةٍ وجبنٍ = وإهمالٍ لما يتوقَّعونا
فظلُّوا يشرهون ويجمعونا = وليسوا في العواقب يَفكُرونا
وجاروا حيثما أمروا بعدلٍ = كأن قد قيل كونوا جائرينا
هذا ما جاء في كتاب الله الملك العلام ، وما حوته سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام ، وما جاء به التاريخ من العِبر من أخبار السادة والحكام ، فهل يعتبر من كل ذلك من لا يزيدون عن سائر الخدام لمن استرعاهم أمر الخاص والعام . إنها دعوة للاعتبار والادِّكار ليس إلا .
الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود
عدد التعليقات : 1 | عدد القراء : 4652 | تأريخ النشر : السبت 27 صفر 1433هـ الموافق 21 يناير 2012مإرسال المقالة
إرسال المقالة والتعليقات إلى صديق
|
|||
|
|
|||
|
|
|||
|
تأريخ النشر: الأربعاء 1 ربيع الأول 1433هـ الموافق 25 يناير 2012مسيحية
طباعة التعليق