|
نشرت في صحيفة الوطن
فقهيات الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه . أما بعد :-فمما لاشك فيه أن لكل أمة من الأمم أعياداً يتخذونها ، ويظهرون فيها سرورهم وأفراحهم ، ويفرِّغون فيها أحزانهم وأتراحهم ، منها : ما هو مشروع في أصل دياناتهم ، ومنها : ما هو من وضع زعمائهم ورهبانهم ، فاعتادوه وتعارفوا عليه .
روى الشيخان عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت : دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان من جواري الأنصار في أيام منى تدففان وتضربان وتغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث ، فاضطجع على الفراش ، وحوَّل وجهه ، ودخل أبو بكر والنبي صلى الله عليه وسلم متغشٍ بثوبه فانتهرهما ، وقال : أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟. فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه ، فقال : دعهما يا أبا بكر !؛ فإن لكل قوم عيداً وهذا عيدنا " الحديث
ولذلك لا يحجر على أهل الديانات الاحتفال بما اعتادوا عليه ، أو زعموا أنه من شعائر أديانهم ، ومنه ما اعتاده النصارى العرب من احتفال بعيد الميلاد للمسيح عليه السلام ، فلا يمنعوا منه ما داموا قد اعتادوه ، ولا يضيق عليهم في ما تعارفوا عليه ، ولا يلزمون بما يراه غيرهم في خطأ تحديد يوم الميلاد لنبي الله عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام ، ما داموا لم يستفتونا في أمره ، ولم يسترشدوا عن تحديده .
وأما إظهار تلك الاحتفالات في بلاد المسلمين وإشهارها فيما بينهم : فما كان منها خالياً مما نهى الله عنه من أمور شركية أو مخلة بالآداب العامة أو بالنظام العام للدولة : فالأمر فيه واسع .
خصوصاً : أن علينا - لهؤلاء النصارى العرب - أربعة حقوق /
الأول/ حق المواطنة ، والمشاركة في الانتماء إلى البلاد التي نعيش فيها وإياهم .
الثاني/ حق الرحم ، التي جعلت من العرب أبناء عمومة لأهل الكتاب ؛ حيث يجمعهم ببعضهم أبوهم إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام .
الثالث/ حق الصهر مرتين ؛ الأول/ حين نكح الخليل هاجر ، فأنجبت إسماعيل عليه السلام ، والثاني/ حين تسرَّى نبينا الكريم بمارية القبطية رضي الله عنها ، فأولدها ابنه الثالث إبراهيم ، وهذان الحقان ( الرحم والصهر ) أوصانا بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حيث قال [ إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ ، وَهِيَ أَرْضٌ يُسَمَّى فِيهَا : الْقِيرَاطُ ، فَإِذَا فَتَحْتُمُوهَا فَأَحْسِنُوا إِلَى أَهْلِهَا ؛ فَإِنَّ لَهُمْ ذِمَّةً وَرَحِمًا . أَوْ قَالَ : ذِمَّةً وَصِهْرًا ] رواه مسلم
الرابع/ حق الملة الواحدة : التي جمعت بين المسلمين وبين أهل الكتاب ؛ قال تعالى { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ }. فالديانة النصرانية مستمدة في أصلها من الوحي الإلهي ، ولأهلها في الإسلام من الأحكام ما ليس لغيرهم من المشركين .
ولذلك فلهم علينا من الحقوق : تهنئتهم في أفراحهم ، ومواساتهم في أتراحهم ؛ كما شرع لنا صلتهم ، وعيادة مرضاهم ، وقبول دعوتهم .
ولا ننسى لهم ما شهد به الحق تبارك وتعالى في كتابه العزيز حيث قال { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ }.
كما لا نغفل عما قاله الله عنهم في محكم تنزيله { ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } .
أما ما يفعله عوام المسلمين اليوم من الاستغناء بالتأريخ الميلادي المسيحي عن التأريخ الهجري الإسلامي ، ومن الاحتفال بأعياد النصارى أو المجوس : فذلك مما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم منفراً عنه في الحديث المتفق عليه حيث قَالَ { وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ وَبَاعًا فَبَاعًا ؛ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ . قَالُوا : وَمَنْ هُمْ ؟، يَا رَسُولَ اللَّهِ !، أَهْلُ الْكِتَابِ ؟. قَالَ : فَمَنْ ؟. }
على أن موافقة أهل الكتاب ليست محظورة على إطلاقها فيما كان من باب العادات ، لا من باب العبادات ؛ فقد ثبت في الحديث المتفق عليه عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قَالَ { كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ } .
غير أن مشاركتهم في الاحتفال بأعيادهم التي ابتدعوها لأنفسهم ، واتخذوها شعاراً لدينهم : مما أغنانا الله عنه بما لنا من أعياد ، والدليل ما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ : قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَلَهُمْ يَوْمَانِ يَلْعَبُونَ فِيهِمَا . فَقَالَ : مَا هَذَانِ الْيَوْمَانِ ؟. قَالُوا : كُنَّا نَلْعَبُ فِيهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبْدَلَكُمْ بِهِمَا خَيْرًا مِنْهُمَا يَوْمَ الْأَضْحَى وَيَوْمَ الْفِطْرِ } . والله أعلم
-
-
الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود
ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 6799 | تأريخ النشر : الاثنين 17 صفر 1434هـ الموافق 31 ديسمبر 2012مإرسال المقالة
|
|||
|
|
|||
|