نشرت في صحيفة الوطن

قضائيات القضاة كغيرهم من موظفي الخدمة العامة في جميع الحكومات يعتريهم ما يعتري سائر الموظفين من العوارض والصفات، وينتابهم ما ينتابهم من المشاعر والآفات.
وإن كانت تلك السلبيات في القضاة أشنع وأقسى مما تكون في غيرهم؛ لأنهم هم المخاطبون الأُوَل بقول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
وما ذلك إلا لأن الله جعلهم ورثة الأنبياء، وجمعهم معهم في قوله جل ذكره (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، وحفظ الله لهم حقوقهم الأدبية كما حفظ لمورثيهم من الأنبياء والرسل، عليهم الصلاة والسلام، في قوله جلت عظمته (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ).

وسأتعرض لصفات ثلاث تخيِّم على كثير من القضاة، لا عاصم لهم منها إلا الله.
الأولى: وهي أول وأقبح ما يكون في القضاة من الصفات التي تعتري بعضهم في مسيرتهم القضائية، وهي صفة: الكبر والتعالي؛ وهي أسوأ صفة في الإنسان بعامة؛ مهما كان مركزه، فضلا عن طالب العلم والقاضي بالعدل بين الناس.

والكبر أول ما يغزو القاضي من الصفات الرذيلة في مراحله الأولى، وقت الملازمة بالذات وأول ما يتولى القضاء، لما يفاجأ به من صدمة تحولية في وضعه الاجتماعي، بين كونه طالبا في كلية الشريعة، ووضعه التالي وهو على كرسي القضاء.

وأول من يشكو من صلف القاضي المبتدئ وتجبره هم أقرانه الذين كتب الله لهم النجاة من القضاء، فاتجهوا إلى العمل الكتابي أو التعليم، أو تحولوا للعمل الخاص.

وأذكر يوما: أن زميلين صار أحدهما ملازما قضائيا والآخر كاتب عدل، باشرا في يوم واحد، فحظيت بزيارتيهما واحدا تلو الآخر، وعلى كلٍّ منهما مشلح مزرَّى غاية في الجودة لم يعتادا عليه، فلم يُحسِنا لِبسَتَه، غير أن الثاني منهما لم يكن سعيداً وقت دخوله المكتب، فاستفسرت منه عن سبب اندهاشه، فأخبر بأن زميله الأول لم يرد السلام عليه، فاعتذرت له بما يحسن الظن به، غير أن حال هذا المتكبر اتضح للجميع بعد ذلك أن من هم دونه لا يستحقون منه حتى رد السلام، ولذلك: لم يطُل عهده بالعمل الحكومي، فوقع في أمور تسببت في استقالته مبكرا. عفى الله عنا وعنه.

وليس لهذه الصفة النكراء من واق وعاصم بعد الله إلا إحداث برزخ يكون بين الكلية والمحكمة، وأصلح ما يكون هو معهد التدريب القضائي يتلقى فيه الملازم من الدورات العلمية والعملية ما يهذب نفسه ويرقق قلبه ويليِّن خشونته.


الصفة الثانية: وهي أوسط ما يعتري القاضي من الصفات السلبية في ثنايا فترة عمله، ألا وهي: صفة التباهي والفخر بمنجزاته بما يثير عليه حسد أقرانه القضاة، وقد يوصله إلى التطاول على من هم فوقه بغير حق.

وهذه الصفة يتجاذبها حق وباطل، فالحق منها: أن لكل إنسان أن يفرح بنعمة الله عليه؛ لقول الله تبارك وتعالى (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، وأن له أن يتحدث بذلك؛ تحقيقا لأمر الله جل شأنه (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)، وأن له أيضا أن يحب الثناء عليه بما يفعل، لا بما لم يفعل؛ استئناسا بمفهوم قوله جل جلاله (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا).

أما باطل تلك الصفة: فعلاجه محصور في يد صديق رفيق شفيق؛ ينصحه ويرشده ويذيب نوازع الخيلاء في نفسه، ويذكِّره بقول الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح [مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ يُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَهُوَ فِي النَّارِ]، ولن تضر القاضي تلك الصفة -ولو طال أمدها- ما دام صادقا في نفسه، عادلا بين الناس، فالحسنات يذهبن السيئات من فضل الله.


الصفة الثالثة: وهي من آخر ما يعتري القاضي من الصفات الرديئة في مسيرته القضائية، وهي صفة: الفتور والملل، وهي صفة لا ينفك عنها أحد؛ حتى في باب الطاعات وأداء الواجبات، ولها من الله ما يداويها فيمن أراد الله بهم الخير، فما إن يصاب أحدهم بمصيبة في نفسه أو ماله أو في أهله حتى يعود إلى الله وينشط في طاعته وكأنه أفلت من عقال.

أما القاضي فبسبب ما يتكرر عليه من أصناف القضايا وأجناس الناس قد يجد في نفسه مللا وإعياء لا يشعر بسببه، وقد لا يفطن له أصلا، مما يكون سببا في إهماله تحديث معلوماته، أو تطوير إمكاناته؛ فينحدر مستواه، وتضعف تقديراته.

وله من المعالجات أمور؛ منها: تقنين ما يسمى بالإجازة القضائية الإلزامية؛ ليعود بعدها نشطا متوقدا.

ومنها: تنظيم بقاء القاضي في المحكمة الواحدة مدة لا تزيد على خمس سنين؛ لتجديد مداركه وتنويع معارفه وتغيير مسارات عمله.

ومنها: إشراكه في مؤتمرات وندوات يخطط لها مقدما؛ حتى لا تؤثر على مسار عمله فتتعطل قضاياه.

لقد اخترت أسوأ ثلاث صفات تعتري صلحاء القضاة وتزول عاجلا من فضل الله تعالى، ولم أتعرض لصفات سوء أخرى؛ لأنها لا تكون في إنسان صالح، ولا فيمن يرجى صلاحه ونفعه. أعاذ الله القضاء والمتقاضين منهم.

الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود

ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 3469 | تأريخ النشر : الأحد 18 جمادى الآخرة 1437هـ الموافق 27 مارس 2016م

طباعة المقال

إرسال المقالة
أدواء القضاة القضاة كغيرهم من موظفي الخدمة العامة في جميع الحكومات يعتريهم ما يعتري سائر الموظفين من العوارض والصفات، وينتابهم ما ينتابهم من المشاعر والآفات. وإن كانت تلك السلبيات في القضاة أشنع وأقسى مما تكون في غيرهم؛ لأنهم هم المخاطبون الأول بقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون). وما ذلك إلا لأن الله جعلهم ورثة الأنبياء، وجمعهم معهم في قوله جل ذكره (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم)، وحفظ الله لهم حقوقهم الأدبية كما حفظ لمورثيهم من الأنبياء والرسل، عليهم الصلاة والسلام، في قوله جلت عظمته (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس). وسأتعرض لصفات ثلاث تخيم على كثير من القضاة، لا عاصم لهم منها إلا الله. الأولى: وهي أول وأقبح ما يكون في القضاة من الصفات التي تعتري بعضهم في مسيرتهم القضائية، وهي صفة: الكبر والتعالي؛ وهي أسوأ صفة في الإنسان بعامة؛ مهما كان مركزه، فضلا عن طالب العلم والقاضي بالعدل بين الناس. والكبر أول ما يغزو القاضي من الصفات الرذيلة في مراحله الأولى، وقت الملازمة بالذات وأول ما يتولى القضاء، لما يفاجأ به من صدمة تحولية في وضعه الاجتماعي، بين كونه طالبا في كلية الشريعة، ووضعه التالي وهو على كرسي القضاء. وأول من يشكو من صلف القاضي المبتدئ وتجبره هم أقرانه الذين كتب الله لهم النجاة من القضاء، فاتجهوا إلى العمل الكتابي أو التعليم، أو تحولوا للعمل الخاص. وأذكر يوما: أن زميلين صار أحدهما ملازما قضائيا والآخر كاتب عدل، باشرا في يوم واحد، فحظيت بزيارتيهما واحدا تلو الآخر، وعلى كل منهما مشلح مزرى غاية في الجودة لم يعتادا عليه، فلم يحسنا لبسته، غير أن الثاني منهما لم يكن سعيدا وقت دخوله المكتب، فاستفسرت منه عن سبب اندهاشه، فأخبر بأن زميله الأول لم يرد السلام عليه، فاعتذرت له بما يحسن الظن به، غير أن حال هذا المتكبر اتضح للجميع بعد ذلك أن من هم دونه لا يستحقون منه حتى رد السلام، ولذلك: لم يطل عهده بالعمل الحكومي، فوقع في أمور تسببت في استقالته مبكرا. عفى الله عنا وعنه. وليس لهذه الصفة النكراء من واق وعاصم بعد الله إلا إحداث برزخ يكون بين الكلية والمحكمة، وأصلح ما يكون هو معهد التدريب القضائي يتلقى فيه الملازم من الدورات العلمية والعملية ما يهذب نفسه ويرقق قلبه ويلين خشونته. الصفة الثانية: وهي أوسط ما يعتري القاضي من الصفات السلبية في ثنايا فترة عمله، ألا وهي: صفة التباهي والفخر بمنجزاته بما يثير عليه حسد أقرانه القضاة، وقد يوصله إلى التطاول على من هم فوقه بغير حق. وهذه الصفة يتجاذبها حق وباطل، فالحق منها: أن لكل إنسان أن يفرح بنعمة الله عليه؛ لقول الله تبارك وتعالى (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)، وأن له أن يتحدث بذلك؛ تحقيقا لأمر الله جل شأنه (وأما بنعمة ربك فحدث)، وأن له أيضا أن يحب الثناء عليه بما يفعل، لا بما لم يفعل؛ استئناسا بمفهوم قوله جل جلاله (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا). أما باطل تلك الصفة: فعلاجه محصور في يد صديق رفيق شفيق؛ ينصحه ويرشده ويذيب نوازع الخيلاء في نفسه، ويذكره بقول الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح [من تعلم العلم ليباهي به العلماء، أو يماري به السفهاء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فهو في النار]، ولن تضر القاضي تلك الصفة -ولو طال أمدها- ما دام صادقا في نفسه، عادلا بين الناس، فالحسنات يذهبن السيئات من فضل الله. الصفة الثالثة: وهي من آخر ما يعتري القاضي من الصفات الرديئة في مسيرته القضائية، وهي صفة: الفتور والملل، وهي صفة لا ينفك عنها أحد؛ حتى في باب الطاعات وأداء الواجبات، ولها من الله ما يداويها فيمن أراد الله بهم الخير، فما إن يصاب أحدهم بمصيبة في نفسه أو ماله أو في أهله حتى يعود إلى الله وينشط في طاعته وكأنه أفلت من عقال. أما القاضي فبسبب ما يتكرر عليه من أصناف القضايا وأجناس الناس قد يجد في نفسه مللا وإعياء لا يشعر بسببه، وقد لا يفطن له أصلا، مما يكون سببا في إهماله تحديث معلوماته، أو تطوير إمكاناته؛ فينحدر مستواه، وتضعف تقديراته. وله من المعالجات أمور؛ منها: تقنين ما يسمى بالإجازة القضائية الإلزامية؛ ليعود بعدها نشطا متوقدا. ومنها: تنظيم بقاء القاضي في المحكمة الواحدة مدة لا تزيد على خمس سنين؛ لتجديد مداركه وتنويع معارفه وتغيير مسارات عمله. ومنها: إشراكه في مؤتمرات وندوات يخطط لها مقدما؛ حتى لا تؤثر على مسار عمله فتتعطل قضاياه. لقد اخترت أسوأ ثلاث صفات تعتري صلحاء القضاة وتزول عاجلا من فضل الله تعالى، ولم أتعرض لصفات سوء أخرى؛ لأنها لا تكون في إنسان صالح، ولا فيمن يرجى صلاحه ونفعه. أعاذ الله القضاء والمتقاضين منهم.
التعليقات متاحة للزوار التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع