نشرت في صحيفة الوطن

قضائيات الناس درجات في الصحة واللون والجاه والغنى والجمال، وتلك حكمة الله جل جلاله التي أرادها لعباده كما قال جل شأنه {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}.
ولذلك ندب الله الفقراء إلى الصبر، كما ندب الأغنياء إلى الشكر، وأمر الأغنياء بالإحسان، والفقراء بالعرفان، ونهى الأغنياء عن البطر، ونهى الفقراء عن الجزع.

واستثنى الله من البطر إكرام الضيف، والوليمة في العرس، والإهداء في الحج، مع أمره بالإحسان إلى الفقراء وإطعامهم من تلك الذبائح.

كما استثنى الله من البطر استمتاع المرء بنعمة الله عليه، وهو ما يسمى بـ (الاستهلاك المظهري)؛ الذي يدل على شكر العبد لربه بإظهار نعمته عليه؛ فقال عليه الصلاة والسلام [لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ. فقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ !، إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، أَفَمِنَ الْكِبْرِ هُوَ؟ قَالَ: لا، إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ].
غير أن بعض الممارسات من بعض الأغنياء والمفتونين لا تدل على شكر النعمة، ولا على احترامها، ولا على رعاية الغني المستهتر لمشاعر العامة من الناس؛ فضلاً عن أن يراعي في ممارساته الشاذة شرع الله واتباع أوامره.

ومن ذلك: ما أعلن للناس ممن يراؤون بفخامة ولائمهم اللاتي لا يحتاطون لفوائضها، فترمى في المزابل، في مشاهد مقززة استفزت العالم أجمع؛ خصوصاً: عند مقارنتها بمشاهد الجوع والعري والفاقة في مجتمعات مسلمة في قارتي آسيا وأفريقيا.

وظهر من الناس من يفترش المئات من الأوراق النقدية ويلتحف بها، في مشهدٍ مستهترٍ باردٍ مثيرٍ للرأي العام الداخلي والخارجي، ومسيءٍ لسمعة المملكة وشعبها.

وظهر من الناس من يطعم إبله الأوراق النقدية التي لو وجدت سبيلها إلى الفقراء المعوزين ولمن أثقلتهم الديون لكان خيراً لصاحبها من السفه الرديء الذي أشبع نزوته الشيطانية به.

وظهر من الشباب من يستهين بالأوراق النقدية بإزالة الأذى بها، أو نثرها على الأرض وتجميعها باستخدام المكنسة، وما في ذلك المشهد من احتقار للنعمة التي ابتلاه الله بها، والتي يخشى عليه في قابل أيامه أن يسعى جهده للحصول على أقل فئاتها فلا يكاد يقدر على تحصيلها.

وظهر من النساء من تريد التميز على غيرها بصنع فستان لعرسها من الأوراق النقدية فئة الخمسمائة ريال، مجموعها مليون ريال.

كل هذه المشاهد يتعمد أصحابها تصويرها ونشرها بين الناس في مواقع التواصل الاجتماعي، التي لا تغيب شمس اليوم الأول حتى يراها مئات الألوف من الناس، وتنتقل عبرها إلى خارج البلاد، فيفرح بها الأعداء والمتربصون والحاقدون؛ ليوسعوا بلادنا وأهلها شتماً وذماً.

إن هؤلاء الممارسين المترفين استدعوا فئة أخرى ليست محلاً لمثل هذا الهياط، فأظهروا تفنناً ساذجاً في الرغبة في التميز، فمنهم: من استخدم دهن العود لغسيل يد الضيف بدلاً عن الماء والصابون، ومنهم: من سكب الدهن على يد الضيف ليتساقط على الطعام في مشهدٍ مقززٍ لا صلة له بالكرم ولا بالاحتفاء بالضيف، ومنهم: من يطبخ الأوراق النقدية مع القهوة زاعماً أن بهار القهوة بها هو الذي يليق بضيفه.

كل هذه المشاهد لا يراد بها غير المراءاة وحب الشهرة، وإن عادت على المجتمع السعودي بالضرر والكدر عربياً وإسلامياً وعالمياً.

فكان من حق حكومتنا ومجتمعنا المسلم المحافظ المحسن في عموم أفراده أن يشرع المختصون نظاماً يأخذ على أيدي مثل هؤلاء المستهترين بتجريم أعمالهم، وتغريمهم بما يردهم إلى صوابهم، ويسخر الغرامات التي تفرض عليهم في دعم من كسروا قلوبهم باستفزازاتهم الشاذة، ويحفظون المجتمع من عقاب الله للأمة التي ترى المنكر فلا يتناهون عنه؛ كما قال جلت عظمته {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}. ولقوله جل وعلا {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}.
ولقول رسول الهدى عليه الصلاة والسلام [وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْ عِنْدِهِ، ثُمَّ لَتَدْعُوُنَّهُ وَلَا يَسْتَجِيبُ لَكُمْ].

ولأن الأمة التي لا تنهى سفهاءها عن الفعل الرديء تعد آمرة به؛ كما قال الشاعر:
بني [فُلانٍ] أَلا فَانْهَوا سَفِيْهَكُمُ *** إِنَّ السَّفِيهَ إذا لم يُنْهَ مَأمُورُ

إن مظاهر البطر الخفية لا تمتد المسؤولية عنها إلا إلى أصحابها ومن رضي بها؛ كما جاء في الحديث الصحيح [مَثَلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ كَمَثَلِ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ، رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا، فَهُوَ يَعْمَلُ بِعِلْمِهِ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ. وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ اللَّهُ عِلْمًا وَلَا مَالًا، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ].

ولكن المسؤولية عن الأفعال المجرمة شرعاً تصل إلى الجميع حتماً متى أعلن بها أصحابها، ولم تنكر عليهم بتجريم ولا عقاب؛ كما قال عليه الصلاة والسلام [يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا ..] الحديث.

إن على مجالسنا وهيئاتنا التشريعية أن تسن نظاماً يعنى بمكافحة البطر وكفر النعمة؛ لتكون شهادة لنا عند الله؛ أننا لم نأمر ولم نرض بتلك الأفعال المخزية، ولنأخذ به على أيدي السفهاء من قومنا، ولنظهر للمسلمين وغيرهم أننا نحقق إسلامنا وما يرضي ربنا بتشريعاتنا المستمدة من كتاب ربنا وسنة نبينا.

الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود

ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 3536 | تأريخ النشر : الأحد 8 شعبان 1437هـ الموافق 15 مايو 2016م

طباعة المقال

إرسال المقالة
مكافحة البطر وكفر النعمة الناس درجات في الصحة واللون والجاه والغنى والجمال، وتلك حكمة الله جل جلاله التي أرادها لعباده كما قال جل شأنه {أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمت ربك خير مما يجمعون}. ولذلك ندب الله الفقراء إلى الصبر، كما ندب الأغنياء إلى الشكر، وأمر الأغنياء بالإحسان، والفقراء بالعرفان، ونهى الأغنياء عن البطر، ونهى الفقراء عن الجزع. واستثنى الله من البطر إكرام الضيف، والوليمة في العرس، والإهداء في الحج، مع أمره بالإحسان إلى الفقراء وإطعامهم من تلك الذبائح. كما استثنى الله من البطر استمتاع المرء بنعمة الله عليه، وهو ما يسمى بـ (الاستهلاك المظهري)؛ الذي يدل على شكر العبد لربه بإظهار نعمته عليه؛ فقال عليه الصلاة والسلام [لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: يا رسول الله !، إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، أفمن الكبر هو؟ قال: لا، إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس]. غير أن بعض الممارسات من بعض الأغنياء والمفتونين لا تدل على شكر النعمة، ولا على احترامها، ولا على رعاية الغني المستهتر لمشاعر العامة من الناس؛ فضلا عن أن يراعي في ممارساته الشاذة شرع الله واتباع أوامره. ومن ذلك: ما أعلن للناس ممن يراؤون بفخامة ولائمهم اللاتي لا يحتاطون لفوائضها، فترمى في المزابل، في مشاهد مقززة استفزت العالم أجمع؛ خصوصا: عند مقارنتها بمشاهد الجوع والعري والفاقة في مجتمعات مسلمة في قارتي آسيا وأفريقيا. وظهر من الناس من يفترش المئات من الأوراق النقدية ويلتحف بها، في مشهد مستهتر بارد مثير للرأي العام الداخلي والخارجي، ومسيء لسمعة المملكة وشعبها. وظهر من الناس من يطعم إبله الأوراق النقدية التي لو وجدت سبيلها إلى الفقراء المعوزين ولمن أثقلتهم الديون لكان خيرا لصاحبها من السفه الرديء الذي أشبع نزوته الشيطانية به. وظهر من الشباب من يستهين بالأوراق النقدية بإزالة الأذى بها، أو نثرها على الأرض وتجميعها باستخدام المكنسة، وما في ذلك المشهد من احتقار للنعمة التي ابتلاه الله بها، والتي يخشى عليه في قابل أيامه أن يسعى جهده للحصول على أقل فئاتها فلا يكاد يقدر على تحصيلها. وظهر من النساء من تريد التميز على غيرها بصنع فستان لعرسها من الأوراق النقدية فئة الخمسمائة ريال، مجموعها مليون ريال. كل هذه المشاهد يتعمد أصحابها تصويرها ونشرها بين الناس في مواقع التواصل الاجتماعي، التي لا تغيب شمس اليوم الأول حتى يراها مئات الألوف من الناس، وتنتقل عبرها إلى خارج البلاد، فيفرح بها الأعداء والمتربصون والحاقدون؛ ليوسعوا بلادنا وأهلها شتما وذما. إن هؤلاء الممارسين المترفين استدعوا فئة أخرى ليست محلا لمثل هذا الهياط، فأظهروا تفننا ساذجا في الرغبة في التميز، فمنهم: من استخدم دهن العود لغسيل يد الضيف بدلا عن الماء والصابون، ومنهم: من سكب الدهن على يد الضيف ليتساقط على الطعام في مشهد مقزز لا صلة له بالكرم ولا بالاحتفاء بالضيف، ومنهم: من يطبخ الأوراق النقدية مع القهوة زاعما أن بهار القهوة بها هو الذي يليق بضيفه. كل هذه المشاهد لا يراد بها غير المراءاة وحب الشهرة، وإن عادت على المجتمع السعودي بالضرر والكدر عربيا وإسلاميا وعالميا. فكان من حق حكومتنا ومجتمعنا المسلم المحافظ المحسن في عموم أفراده أن يشرع المختصون نظاما يأخذ على أيدي مثل هؤلاء المستهترين بتجريم أعمالهم، وتغريمهم بما يردهم إلى صوابهم، ويسخر الغرامات التي تفرض عليهم في دعم من كسروا قلوبهم باستفزازاتهم الشاذة، ويحفظون المجتمع من عقاب الله للأمة التي ترى المنكر فلا يتناهون عنه؛ كما قال جلت عظمته {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون (78) كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون}. ولقوله جل وعلا {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا}. ولقول رسول الهدى عليه الصلاة والسلام [والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا من عنده، ثم لتدعونه ولا يستجيب لكم]. ولأن الأمة التي لا تنهى سفهاءها عن الفعل الرديء تعد آمرة به؛ كما قال الشاعر: بني [فلان] ألا فانهوا سفيهكم *** إن السفيه إذا لم ينه مأمور إن مظاهر البطر الخفية لا تمتد المسؤولية عنها إلا إلى أصحابها ومن رضي بها؛ كما جاء في الحديث الصحيح [مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر، رجل آتاه الله مالا وعلما، فهو يعمل بعلمه في ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علما ولم يؤته مالا، فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهما في الأجر سواء. ورجل آتاه الله مالا ولم يؤته علما، فهو يخبط في ماله ينفقه في غير حقه، ورجل لم يؤته الله علما ولا مالا، فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهما في الوزر سواء]. ولكن المسؤولية عن الأفعال المجرمة شرعا تصل إلى الجميع حتما متى أعلن بها أصحابها، ولم تنكر عليهم بتجريم ولا عقاب؛ كما قال عليه الصلاة والسلام [يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ..] الحديث. إن على مجالسنا وهيئاتنا التشريعية أن تسن نظاما يعنى بمكافحة البطر وكفر النعمة؛ لتكون شهادة لنا عند الله؛ أننا لم نأمر ولم نرض بتلك الأفعال المخزية، ولنأخذ به على أيدي السفهاء من قومنا، ولنظهر للمسلمين وغيرهم أننا نحقق إسلامنا وما يرضي ربنا بتشريعاتنا المستمدة من كتاب ربنا وسنة نبينا.
التعليقات متاحة للزوار التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع