نشرت في صحيفة الوطن

قضائيات في عام 1398 طبعت وزارة العدل أول كتاب يحوي الأنظمة واللوائح والتعاميم المبلغة للمحاكم وكتابات العدل، وكان مرجعاً للقضاة يرجعون إليه في تسيير أعمال محاكمهم الإدارية والقضائية، ولم يكن لهم من مرجع غير هذا الكتاب؛ على ما فيه من ازدواج في المرجعية التي يتلقى منها القضاة الأوامر والتعليمات الواجب اتباعها.

ولم يكن القضاة كلهم يعتنون بهذا الكتاب، إذ كان كثير منهم يعتمدون على إخوانهم القضاة في تلقي ما يجب على القاضي عمله تجاه ما يستعصي عليهم من أمور الإدارة والقضاء.

بل إن أحدهم -وهو قاضٍ في محكمة جزائية ليس معه فيها أحد- استفسر عن أمرٍ، فأخبرته بجوابه، ولما سأل عن المستند وأظهرت له ذلك من الكتاب وقف مشدوهاً مما حواه من تعليمات كان يحتاج إليها في عمله، ولم يكن على علمٍ به أصلاً؛ مما يعني: أن القاضي الذي تدرب هو في مكتبه لم يطلعه عليه هذا إن كان على علم به.

هذا الكتاب المرجع في وقته كان النصيب الأوفر منه لما يسمى بـ(التعاميم)، وكانت هذه التعاميم مرتبة بحسب قوة مرجعيتها، فأولها للتعاميم المبلغة من سماحة رئيس القضاة في وقته الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ثم لفضيلة نائب رئيس القضاة، ثم لمعالي وزير العدل، ثم لوكلاء الوزارة، رحم الله الجميع.

وكان الغالب على تلك التعاميم إفادة القضاة بما يجب عليهم تجاه قضايا استفسروا عنها، ومنها ما يكون تبليغاً لأوامر ملكية أو مراسيم أو أوامر سامية.

وكان كثير منها يعمم على القضاة من وكلاء وزارة العدل أو من رؤساء المحاكم بطلب العمل بموجبها؛ ومصدرها ممن لا صلاحية له للأمر على القضاة بشيء، كبعض الوزراء ووكلاء الوزارات ومديري الشرط ونحوهم.

وعندما صدر (نظام المرافعات الشرعية) الأول احتفيت به في مقالة نشرتها مجلة الدعوة في شهر ذي القعدة من عام 1421؛ لأنه سيقطع الطريق على هذه الفوضى التشريعية، غير أن المد التشريعي الفوضوي لم ينقطع، ومع ترادف الأنظمة والتنظيمات واللوائح التنفيذية طيلة الفترة اللاحقة لنظام المرافعات حتى اليوم إلا أن ما يسمى بـ(التعاميم) لا يزال له حضور تشريعي، وسيفه مسلط على المحاكم بالأمر بالعمل بموجب ما تضمنه من أمور محلها الأنظمة المبلغة بالمراسيم الملكية، لا الخطابات الواردة للمحاكم من إمارات المناطق والمحافظات.

ولعل آخر هذه التعاميم ما صدر عن إمارة الجوف تحت مسمى (تعميم برقي عاجل) بشأن تسهيل شروط الزواج للشباب، والمصدر بالتوجيه إلى فضيلة رئيس المحكمة العامة بسكاكا و6 من قيادات المنطقة، وفيه: -تحديد الحد الأعلى لمهر الثيب بثلاثين ألف ريال، والبكر بأربعين ألف ريال.
والمذيل بما نصه: نرغب من الجميع العمل بموجبه.. إلخ..

وفي هذا الأمر من إمارة المنطقة مخالفات نظامية وشرعية أوجزها في الآتي:
أولاً/ أن الإمارة ليست جهة تبليغ للتعليمات القضائية، بل هي جهة تنفيذ للأحكام وإدارة شؤون المنطقة الإدارية.

ثانياً/ أن المحاكم ليست من فروع الإمارات التي تستقي التعليمات منها، وتأتمر ابتداءً بأوامرها.

ثالثاً/ أن الإلزام بهذا التحديد للمهور لا يكون مصدره اللجان المشكلة من مندوبي الجمعيات الخيرية والشرطة وبنك التسليف، بل مصدره القرارات الصادرة من المؤسسات التشريعية؛ مثل: هيئة كبار العلماء، ومجلس الشورى.

رابعاً/ أن التنظيمات الخاصة بشؤون الأسرة ليس أداة تبليغها الخطابات الصادرة من إمارات المناطق ومحافظاتها، بل أداة تبليغها المراسيم الملكية.

خامساً/ أن مثل هذه التحديدات تفتح الباب على مصراعيه للاحتيال عليها؛ باتفاق ولي المرأة مع الخاطب على مخالفة التحديد باطناً لا ظاهراً.

سادساً/ أن إلجاء الأسر إلى مخالفة التحديد سيكون سبباً في نشوء قضايا تعتمد على التجاحد، وتركن إلى المسجل خلافاً للواقع بسبب الإلزام بالتحديد.

سابعاً/ أن أنسب إجراء لتفعيل هذا التحديد لا يكون بالإلزام به ابتداء، بل بالتمهيد لصدوره بالترغيب في آثاره والتحذير من عواقب مخالفته؛ حتى يستقر لدى العامة ويصبح مستمرأً، ويصير المخالف له شاذاً مفارقاً للجماعة في هذا الأمر، فيسهل حينئذٍ التعامل معه بتشريعٍ يجيز عقوبته.

ثامناً/ كان على الجهات التنفيذية التهيئة للتحديد بالأمر على الدعاة والخطباء وأئمة المساجد بالتعرض لهذا الموضوع، وتكثيف الحديث عنه موثقاً بالأدلة العقلية والنقلية المرغبة في الالتزام به طواعية لا قهراً.

تاسعاً/ أن الله أوجب الوفاء للمرأة بمهرها وإن كان قنطاراً، في قوله سبحانه {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} ويبلغ القنطار حوالي المائة وأربعين كيلوجراما، وهو من الفضة يزيد على المائتين وخمسين ألف ريال في يومنا هذا، فكيف به إذا كان من الذهب؟

إن على المحاكم الإجابة بعدم نظامية مثل هذه التجاوزات، أو الرفع عنها لمراجعهم في وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء، وإن على الإمارات طلب التوجيه من مراجعهم في وزارة الداخلية قبل التورط في مثل هذه الأمور المخالفة للنظام الأساسي للحكم.

الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود

ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 3742 | تأريخ النشر : الأحد 22 شعبان 1437هـ الموافق 29 مايو 2016م

طباعة المقال

إرسال المقالة
فوضى التشريع في عام 1398 طبعت وزارة العدل أول كتاب يحوي الأنظمة واللوائح والتعاميم المبلغة للمحاكم وكتابات العدل، وكان مرجعا للقضاة يرجعون إليه في تسيير أعمال محاكمهم الإدارية والقضائية، ولم يكن لهم من مرجع غير هذا الكتاب؛ على ما فيه من ازدواج في المرجعية التي يتلقى منها القضاة الأوامر والتعليمات الواجب اتباعها. ولم يكن القضاة كلهم يعتنون بهذا الكتاب، إذ كان كثير منهم يعتمدون على إخوانهم القضاة في تلقي ما يجب على القاضي عمله تجاه ما يستعصي عليهم من أمور الإدارة والقضاء. بل إن أحدهم -وهو قاض في محكمة جزائية ليس معه فيها أحد- استفسر عن أمر، فأخبرته بجوابه، ولما سأل عن المستند وأظهرت له ذلك من الكتاب وقف مشدوها مما حواه من تعليمات كان يحتاج إليها في عمله، ولم يكن على علم به أصلا؛ مما يعني: أن القاضي الذي تدرب هو في مكتبه لم يطلعه عليه هذا إن كان على علم به. هذا الكتاب المرجع في وقته كان النصيب الأوفر منه لما يسمى بـ(التعاميم)، وكانت هذه التعاميم مرتبة بحسب قوة مرجعيتها، فأولها للتعاميم المبلغة من سماحة رئيس القضاة في وقته الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، ثم لفضيلة نائب رئيس القضاة، ثم لمعالي وزير العدل، ثم لوكلاء الوزارة، رحم الله الجميع. وكان الغالب على تلك التعاميم إفادة القضاة بما يجب عليهم تجاه قضايا استفسروا عنها، ومنها ما يكون تبليغا لأوامر ملكية أو مراسيم أو أوامر سامية. وكان كثير منها يعمم على القضاة من وكلاء وزارة العدل أو من رؤساء المحاكم بطلب العمل بموجبها؛ ومصدرها ممن لا صلاحية له للأمر على القضاة بشيء، كبعض الوزراء ووكلاء الوزارات ومديري الشرط ونحوهم. وعندما صدر (نظام المرافعات الشرعية) الأول احتفيت به في مقالة نشرتها مجلة الدعوة في شهر ذي القعدة من عام 1421؛ لأنه سيقطع الطريق على هذه الفوضى التشريعية، غير أن المد التشريعي الفوضوي لم ينقطع، ومع ترادف الأنظمة والتنظيمات واللوائح التنفيذية طيلة الفترة اللاحقة لنظام المرافعات حتى اليوم إلا أن ما يسمى بـ(التعاميم) لا يزال له حضور تشريعي، وسيفه مسلط على المحاكم بالأمر بالعمل بموجب ما تضمنه من أمور محلها الأنظمة المبلغة بالمراسيم الملكية، لا الخطابات الواردة للمحاكم من إمارات المناطق والمحافظات. ولعل آخر هذه التعاميم ما صدر عن إمارة الجوف تحت مسمى (تعميم برقي عاجل) بشأن تسهيل شروط الزواج للشباب، والمصدر بالتوجيه إلى فضيلة رئيس المحكمة العامة بسكاكا و6 من قيادات المنطقة، وفيه: -تحديد الحد الأعلى لمهر الثيب بثلاثين ألف ريال، والبكر بأربعين ألف ريال. والمذيل بما نصه: نرغب من الجميع العمل بموجبه.. إلخ.. وفي هذا الأمر من إمارة المنطقة مخالفات نظامية وشرعية أوجزها في الآتي: أولا/ أن الإمارة ليست جهة تبليغ للتعليمات القضائية، بل هي جهة تنفيذ للأحكام وإدارة شؤون المنطقة الإدارية. ثانيا/ أن المحاكم ليست من فروع الإمارات التي تستقي التعليمات منها، وتأتمر ابتداء بأوامرها. ثالثا/ أن الإلزام بهذا التحديد للمهور لا يكون مصدره اللجان المشكلة من مندوبي الجمعيات الخيرية والشرطة وبنك التسليف، بل مصدره القرارات الصادرة من المؤسسات التشريعية؛ مثل: هيئة كبار العلماء، ومجلس الشورى. رابعا/ أن التنظيمات الخاصة بشؤون الأسرة ليس أداة تبليغها الخطابات الصادرة من إمارات المناطق ومحافظاتها، بل أداة تبليغها المراسيم الملكية. خامسا/ أن مثل هذه التحديدات تفتح الباب على مصراعيه للاحتيال عليها؛ باتفاق ولي المرأة مع الخاطب على مخالفة التحديد باطنا لا ظاهرا. سادسا/ أن إلجاء الأسر إلى مخالفة التحديد سيكون سببا في نشوء قضايا تعتمد على التجاحد، وتركن إلى المسجل خلافا للواقع بسبب الإلزام بالتحديد. سابعا/ أن أنسب إجراء لتفعيل هذا التحديد لا يكون بالإلزام به ابتداء، بل بالتمهيد لصدوره بالترغيب في آثاره والتحذير من عواقب مخالفته؛ حتى يستقر لدى العامة ويصبح مستمرأ، ويصير المخالف له شاذا مفارقا للجماعة في هذا الأمر، فيسهل حينئذ التعامل معه بتشريع يجيز عقوبته. ثامنا/ كان على الجهات التنفيذية التهيئة للتحديد بالأمر على الدعاة والخطباء وأئمة المساجد بالتعرض لهذا الموضوع، وتكثيف الحديث عنه موثقا بالأدلة العقلية والنقلية المرغبة في الالتزام به طواعية لا قهرا. تاسعا/ أن الله أوجب الوفاء للمرأة بمهرها وإن كان قنطارا، في قوله سبحانه {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا (20) وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا} ويبلغ القنطار حوالي المائة وأربعين كيلوجراما، وهو من الفضة يزيد على المائتين وخمسين ألف ريال في يومنا هذا، فكيف به إذا كان من الذهب؟ إن على المحاكم الإجابة بعدم نظامية مثل هذه التجاوزات، أو الرفع عنها لمراجعهم في وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء، وإن على الإمارات طلب التوجيه من مراجعهم في وزارة الداخلية قبل التورط في مثل هذه الأمور المخالفة للنظام الأساسي للحكم.
التعليقات متاحة للزوار التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع