نشرت في مجلة الدعوة العدد 1763

فقهيات للحِسبة - الممثَّلة في هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - دورٌ كبير في أيِّ مجتمعٍ مسلمٍ .
وحُقَّ للمملكة العربية السعودية أن تفخرَ بكونها البلدَ الأوحدَ على وجه الأرض ـ الآن ـ التي تُعنى بالحِسْبَة عناية فائقة ؛ حتى أنها جعلت لها وزارة خاصة بها بِمَا لَهَا من اعتماداتٍ ماليَّةٍ ووظيفيَّةٍ متناميةٍ سنةً بعد سنة ؛ كغيرها من وزارات الدولة أيدها الله . وما ذلك إلا استشعاراً من ولاة الأمر في هذه البلاد ـ وفقهم الله ـ بِعِظَمِ دَورها في المجتمع المسلم ؛ الذي وصلت الحِسْبَة فيه إلى اعتبارها الركنَ السادسَ من أركان الإسلام ؛ كما ذكره بعض أهل العلم .

والهيئات مثل غيرها من إدارات المصالح العامة ؛ لها حقوق وعليها واجبات ومتى شاءت القيام بواجباتها لَزِمَهَا توفيرُ الإمكاناتِ الماديَّةِ والكوادرِ الوظيفيَّةِ المناسبةِ وعقدِ الدوراتِ التطويريةِ للطَّاقاتِ البَشَريَّةِ .
وكُلُّ ذلك تقوم به الدولةُ دون تحميل القطاع الخاص أيَّ جزءٍ من هذه التبعاتِ الماليَّةِ المتزايدةِ .

ومن يطَّلعُ على إحصاءات نشاط هذه الهيئات المباركة يقفُ على ما يسُرُّ الخاطرَ ، ويُثلِجُ الصَّدرَ ، ويرفعُ الرأسَ عالياً أمام الأمم الأخرى .
ولاشك أنَّ عمل الهيئات منصبٌ على المخالفات ؛ التي لا ينفكُّ عنها أيُّ مجتمعٍ مهما بلغ من المكانة في تحضُّره وتمدُّنِه ؛ وسواءٌ كانت تلك المخالفات : في مجال العبادات ، أو السلوك العام .
فمنها : ما هو من قبيل المكروهات ، ومنها : ما هو في عِداد المحرمات .
وكُلٌ من هذين النوعين درجاتٌ بحسب الأثر الناتج عنها .

ولذلك تفاوتت عقوباتها في الشرع ؛ ابتداءً من : القتل ؛ قصاصاً ، أو حداً أو تعزيراً ، مروراً : بالقطع ، والجلد ، والتغريب ، وانتهاءً : بالإعراض ، والهجر والتأنيب .

ولو تَـمَّ تصنيفُ المخالفات تصنيفاً نوعياً ، وترتيبُها بحسب أثرها ، وتحديدُ غرامةٍ ماليةٍ لِكُلِّ مخالفةٍ من باب التعزير بالمال : لَعَادَ ذلك الأمر بالفائدة الكبرى على كلٍ من : المُخالف ، وجهاز الحِسْبَة ، والمجتمع .

فالمخالف : يرتدع - ولاشكَّ - بتغريمه أكثر مما يرتدع بجلده أو بحبسه . فكيف به ! إذا استوجب بفعله أن يجتمعا في حقه .

وجهاز الحِسْبَة : يستفيد من العوائد المالية ؛ في تطوير الجهاز وتحديثه ؛ بما يرفع من كفاءته ؛ فيًحَقِّقُ بذلك الكثيرَ مما يُؤَمَّل منه .

والمجتمع : الذي ترقى فيه قُدُرَاتُ الحِسْبَة إلى تحقيق وظائفها ومسؤولياتها ، وإلى النهوض بأعبائها والتزاماتها أو بعضها : لاشك أن الخير والأمن سيحالفانه ، ويقترنان به ، فيصرف طاقاتِه فيما لا مخالفة فيه ؛ فيعلو شأنُه في ذاته وبين الأمم المجاورة له ويكون مجتمعاً دعوياً بسيرته وسلوكه ، وبما يُحَقِّقُهُ من إنجازاتٍ في أمر دينه ودنياه عندما يصرف همَّه إلى ما ينفعه عمَّا يضره في دنياه وآخرته .

وهذا الإجراء مصلحيٌ لا يخالف الشرع ؛ لا في أصله ومستنده ، ولا في غايته ومقصده .
قَالَ صلى الله عليه وسلم * فِي كُلِّ سَائِمَةِ إِبِلٍ فِي أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ ، وَلا يُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا . مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا بِهَا : فَلَهُ أَجْرُهَا ، وَمَنْ مَنَعَهَا : فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ ؛ لَيْسَ لآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ * رواه أبو داود .
فهذا المانع زكاةَ مالِهِ يحكم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأخذها منه ، مع تعزيره بالمال ؛ وذلك بمصادرة نصف ما يملكه من المال الذي منع زكاته ؛ يأخذه الإمام ، ويصرفه في مصالح المسلمين .

وروى النسائي في سننه : أَنَّ رَجُلاً مِنْ مُزَيْنَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! كَيْفَ تَرَى فِي حَرِيسَةِ الْجَبَلِ ؟ . فَقَالَ : هِيَ وَمِثْلُهَا وَالنَّكَالُ ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَاشِيَةِ قَطْعٌ ؛ إِلا فِيمَا آوَاهُ الْمُرَاحُ ، فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ : فَفِيهِ قَطْعُ الْيَدِ ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْمِجَنِّ : فَفِيهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ . قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! كَيْفَ تَرَى فِي الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ ؟ . قَالَ : هُوَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ وَالنَّكَالُ ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ قَطْعٌ ؛ إِلا فِيمَا آوَاهُ الْجَرِينُ ، فَمَا أُخِذَ مِنْ الْجَرِينِ ، فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ : فَفِيهِ الْقَطْعُ ، وَمَا لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنَ الْمِجَنِّ : فَفِيهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ *
فهذا السارق - الذي يسرق الماشية أو الثمار من غير حِرْزٍ - سلَّمه الله من قطع يده ، وأوقع عليه عقوبةً ماليةً ؛ هي غرامةُ مثلي المسروق لبيت مال المسلمين .

فهذه المخالفات قضى فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-بالتعزير المالي زيادة على الواجب الشرعي في حق المخالف . وهو ما ندعو إليه للقضاء على المخالفات التي تختص الهيئات بأمر الإنكار على فاعليها .

والدعوة في هذه الوقفة / موجهة للرئاسة العامة لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكذلك : للجامعات المتخصصة في الدراسات الشرعية والاجتماعية والنفسية والإدارية ؛ لدراسة جدوى هذا الأمر وأبعاده وطريقة تنفيذه .

الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود

ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 4434 | تأريخ النشر : الخميس 14 رجب 1421هـ الموافق 12 أكتوبر 2000م

اضغط هنا للحصول على صورة المقالة

طباعة المقال

إرسال المقالة
الحسبة ، والغرامات المالية . للحسبة - الممثلة في هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - دور كبير في أي مجتمع مسلم . وحق للمملكة العربية السعودية أن تفخر بكونها البلد الأوحد على وجه الأرض ـ الآن ـ التي تعنى بالحسبة عناية فائقة ؛ حتى أنها جعلت لها وزارة خاصة بها بما لها من اعتمادات مالية ووظيفية متنامية سنة بعد سنة ؛ كغيرها من وزارات الدولة أيدها الله . وما ذلك إلا استشعارا من ولاة الأمر في هذه البلاد ـ وفقهم الله ـ بعظم دورها في المجتمع المسلم ؛ الذي وصلت الحسبة فيه إلى اعتبارها الركن السادس من أركان الإسلام ؛ كما ذكره بعض أهل العلم . والهيئات مثل غيرها من إدارات المصالح العامة ؛ لها حقوق وعليها واجبات ومتى شاءت القيام بواجباتها لزمها توفير الإمكانات المادية والكوادر الوظيفية المناسبة وعقد الدورات التطويرية للطاقات البشرية . وكل ذلك تقوم به الدولة دون تحميل القطاع الخاص أي جزء من هذه التبعات المالية المتزايدة . ومن يطلع على إحصاءات نشاط هذه الهيئات المباركة يقف على ما يسر الخاطر ، ويثلج الصدر ، ويرفع الرأس عاليا أمام الأمم الأخرى . ولاشك أن عمل الهيئات منصب على المخالفات ؛ التي لا ينفك عنها أي مجتمع مهما بلغ من المكانة في تحضره وتمدنه ؛ وسواء كانت تلك المخالفات : في مجال العبادات ، أو السلوك العام . فمنها : ما هو من قبيل المكروهات ، ومنها : ما هو في عداد المحرمات . وكل من هذين النوعين درجات بحسب الأثر الناتج عنها . ولذلك تفاوتت عقوباتها في الشرع ؛ ابتداء من : القتل ؛ قصاصا ، أو حدا أو تعزيرا ، مرورا : بالقطع ، والجلد ، والتغريب ، وانتهاء : بالإعراض ، والهجر والتأنيب . ولو تـم تصنيف المخالفات تصنيفا نوعيا ، وترتيبها بحسب أثرها ، وتحديد غرامة مالية لكل مخالفة من باب التعزير بالمال : لعاد ذلك الأمر بالفائدة الكبرى على كل من : المخالف ، وجهاز الحسبة ، والمجتمع . فالمخالف : يرتدع - ولاشك - بتغريمه أكثر مما يرتدع بجلده أو بحبسه . فكيف به ! إذا استوجب بفعله أن يجتمعا في حقه . وجهاز الحسبة : يستفيد من العوائد المالية ؛ في تطوير الجهاز وتحديثه ؛ بما يرفع من كفاءته ؛ فيحقق بذلك الكثير مما يؤمل منه . والمجتمع : الذي ترقى فيه قدرات الحسبة إلى تحقيق وظائفها ومسؤولياتها ، وإلى النهوض بأعبائها والتزاماتها أو بعضها : لاشك أن الخير والأمن سيحالفانه ، ويقترنان به ، فيصرف طاقاته فيما لا مخالفة فيه ؛ فيعلو شأنه في ذاته وبين الأمم المجاورة له ويكون مجتمعا دعويا بسيرته وسلوكه ، وبما يحققه من إنجازات في أمر دينه ودنياه عندما يصرف همه إلى ما ينفعه عما يضره في دنياه وآخرته . وهذا الإجراء مصلحي لا يخالف الشرع ؛ لا في أصله ومستنده ، ولا في غايته ومقصده . قال صلى الله عليه وسلم * في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون ، ولا يفرق إبل عن حسابها . من أعطاها مؤتجرا بها : فله أجرها ، ومن منعها : فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا عز وجل ؛ ليس لآل محمد منها شيء * رواه أبو داود . فهذا المانع زكاة ماله يحكم عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- بأخذها منه ، مع تعزيره بالمال ؛ وذلك بمصادرة نصف ما يملكه من المال الذي منع زكاته ؛ يأخذه الإمام ، ويصرفه في مصالح المسلمين . وروى النسائي في سننه : أن رجلا من مزينة أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال : يا رسول الله ! كيف ترى في حريسة الجبل ؟ . فقال : هي ومثلها والنكال ، وليس في شيء من الماشية قطع ؛ إلا فيما آواه المراح ، فبلغ ثمن المجن : ففيه قطع اليد ، وما لم يبلغ ثمن المجن : ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال . قال : يا رسول الله ! كيف ترى في الثمر المعلق ؟ . قال : هو ومثله معه والنكال ، وليس في شيء من الثمر المعلق قطع ؛ إلا فيما آواه الجرين ، فما أخذ من الجرين ، فبلغ ثمن المجن : ففيه القطع ، وما لم يبلغ ثمن المجن : ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال * فهذا السارق - الذي يسرق الماشية أو الثمار من غير حرز - سلمه الله من قطع يده ، وأوقع عليه عقوبة مالية ؛ هي غرامة مثلي المسروق لبيت مال المسلمين . فهذه المخالفات قضى فيها النبي -صلى الله عليه وسلم-بالتعزير المالي زيادة على الواجب الشرعي في حق المخالف . وهو ما ندعو إليه للقضاء على المخالفات التي تختص الهيئات بأمر الإنكار على فاعليها . والدعوة في هذه الوقفة / موجهة للرئاسة العامة لهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكذلك : للجامعات المتخصصة في الدراسات الشرعية والاجتماعية والنفسية والإدارية ؛ لدراسة جدوى هذا الأمر وأبعاده وطريقة تنفيذه .
التعليقات متاحة للزوار التعليقات تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر عن رأي صاحب الموقع