|
نشرت في صحيفة الإقتصادية العدد 4997
قضائيات على ضِفَافِ شارع الملك فيصل يرحمه الله ( الوزير سابقاً ) من جهة الغرب يرتكز معلمٌ رئيسٌ لمدينة الرياض ، يبدو من الطائرة وكأنَّه مسمارٌ من الصُّلبِ قد ثُبِّتَ في الأرض ، ويقع عنه من جهة الجنوب قصرٌ كان مسكناً لإحدى كريمات المؤسِّسِ الملك عبد العزيز يرحمه الله ، تَحَوَّلَ إلى مقرٍ لديوان مجلس الوزراء حُقبةً من الزمن ، ثم صار جزؤه الغربي مقراً لمحكمة التمييز ، وجزؤه الشرقي للمحكمة الجزئية ، أما الملاحق الشمالية فقد شُغِلَت بمحكمة الضمان والأنكحة قبل انتقالها الأخير إلى حي السليمانية .= في محكمة الضمان والأنكحة هذه عملت مندوباً ستة أشهر اِمْتَنَّ بها عليَّ مجلسُ القضاءِ الأعلى ، فكانت نقطةَ تَحَوُّلٍ هَامَّةً في مسيرة عملي القضائي ؛ لأمورٍ سأبسطها في حينها .
المهم في الأمر : أنَّ هذه المحكمة يعمل بها ذلك الوقت قاضيان رسميان ، ولا تنفك عن ثلاثةٍ أو أربعةِ قضاةٍ مندوبين من مقام الوزارة من ذوي الحاجات والظروف الطارئة .
= في تلك المحكمة كان لي مكتبٌ ضمن غرفةٍ مشغولةٍ بأربعة مكاتب لاستيعاب قضاة الندب أمثالي ، ويفصلها جدارٌ لم يكتمل عن غرفةٍ أخرى جُعِلَت مقراً لمكتب الصلح في المحكمة ؛ للتوفيق بين الزوجين متى طلب الزوج تطليق زوجته .
= كان القائم على مكتب الصلح هذا رجلٌ صالحٌ - أحسبه كذلك ، والله حسيبه – شهادته النظامية الثانوية العامة ، وشهاداته الأخرى : الخبرة ، الحكمة ، الأناة ، حسن القصد بصدق إرادة الإصلاح ؛ كما قال تعالى ( إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ) ، وشواهد ذلك كثيرة ؛ منها :-
1/ في الوقت الذي يستغرقه ستة قضاةٍ في إثبات النكاح والطلاق والرجعة والحاجة للضمان الاجتماعي ، يكون هذا المصلح قد وَفَّقَ بين أزواجٍ وزوجاتهم بما نسبته 40% تقريباً من قضايا الطلاق المعروضة على تلك المحكمة .
2/ إثبات الطلاق في العادة يرصده كاتب الضبط قبل توثيقه من القاضي ، الذي مهمته التأكد من صحة المعلومات الواردة في نموذج إثبات الحالة قبل التوقيع ، في حين يتولى المصلح نفسه مناقشةَ كلٍ من الزوجين ، وسماعَ ما لديهما ، وتحديدَ سبب المشكلة ، وبذلَ الوِسعِ في التقريب بين الزوجين باستخدام أنواع المُرَغِّبَاتِ التي دَرَجَ الأزواجُ على المطالبة بها أو الاقتناع بجدواها ، مثل : تعويض الترضية ، تخصيص السكن المستقل ولو بعد حين ، فرض الزيارة المطلوبة ، تحديد وقت الزيارة ومدتها بحسب الحالة ، إقامة عدلٍ يرتضيه الزوجان لمتابعة تطبيقهما شروط الاتفاق ، والتبليغ عن المخالف ونوع المخالفة ، ونحو ذلك من الحلول المؤقتة والجذرية .
3/ أغلب القضايا المعروضة على القضاة للبت فيها بصفةٍ حاسمة لا تقبل المراجعة ؛ إلا في إجراءٍ جديدٍ محسوبٍ ومقتسمٍ بين القضاة بالسويَّة ، في حين هذا المصلح يتولى كُلَّ مضاعفات القضايا التي يُصلح فيها بين الأزواج ؛ خصوصاً عند اختلال الاتفاق لأيِّ عارضٍ دون كللٍ ولا ملل .
= الغريب في أمر هذا المصلح : أنَّني في لحظات الاسترخاء النادرة في تلك المحكمة ، ولأنَّ الجدار الفاصلَ بين غرفتينا مفتوحٌ في ثلثه الأعلى تقريباً ، كنت أسمع كلام الزوجين بوضوحٍ تامٍ ؛ هذا إن لم يكن الصوتُ يُسمع أحياناً من أبعد من مكاني ، أمَّا كلام المصلح للزوجين - فَعَلَى قِلَّتِهِ وَوَجَازَتِهِ - يكاد يكون همساً ، لا يُمكِنُ استيعابُ محتواه كاملاً لغير المخاطبين به .
= لقد رأيت الإسهاب في هذا الموضوع ؛ لمعايشتي إياه أكثر من ستة أشهر ، ولأني اطلعت على خبر سقوط توصية الأستاذ حمد القاضي بتكوين لجانٍ للصلح في المحاكم بعد التصويت عليها في مجلس الشورى يوم الأحد 11/ 5/ 1428هـ ، فأحزنني كثيراً أنَّ الغالبية في مجلس الشورى لم يتصوروا أهمية هذه التوصية ، الأمر الذي دعاهم للتسبب في إسقاطها سامحهم الله .
= للبيان أكثر : أعرض للإخوة الأفاضل في مجلس الشورى - بعد الإشادة بموقف الأستاذ حمد القاضي - أمر قسم الصلح في المحكمة العامة بمدينة جده .
أولاً/ يحال إلى قسم الصلح فيها أكثر من ربع القضايا الواردة إلى المحكمة في القضايا الأسرية .
ثانياً/ ينتهي بالصلح أكثر من نصف القضايا المحالة إلى القسم ، ولا يحتاج للمتابعة منها إلا 20% فقط .
ثالثاً/ ما لا ينتهي بالصلح من القضايا المنظورة في القسم المذكور يصدر - بشأن 70% منه - توصياتٌ موفقةٌ للقاضي تساعده في حسم القضية .
رابعاً/ ما لم أقدر على استيعابه للوهلة الأولى هو : أنَّ المصلحين الثمانية العاملين في هذا القسم محتسبون ، أي : بلا رواتب! ، ولا مكافآت! .
خامساً/ عندما سألت عن مِهَنِ هؤلاء الأفذاذ - في الأصل - ذكر لي فضيلة رئيس المحكمة : أنَّ أغلبهم من رجال التربية والتعليم المتقاعدين ، كما أفاد : أنَّهم ملتزمون بالدوام الرسمي ؛ كما لو كانوا في دوائرهم قبل التقاعد ، بل أضاف فضيلته : أنَّ بعضهم قد يُسهم بشيءٍ من ماله في بعض الحالات التي تحتاج للدعم المادي .
سادساً/ أجرت المحكمة دراسةً حول موضوع الصلح جاء فيها : أنَّ لجنة العفو وإصلاح ذات البين في إمارة منطقة مكة المكرمة قد أنهت بالصلح ما يقرب من ربع قضايا طلب القصاص في المنطقة ، كما جاء في الدراسة : أنَّ مركز المودة الاجتماعي بجدة أنهى 76% من القضايا التي استقبلها بالصلح أيضاً .
= تُرى لو أُحيلت تلك القضايا إلى المحاكم ابتداءً ، كم سيزداد العبء على قضاتها فوق ما هم محتملون .
= إذا كانت هذه إنجازات مكاتب الصلح ، فهل لأحدٍ بعد ذلك أن يتسبب في إسقاط توصيةٍ بإقرارها وتنميتها ورعايتها ؛ لِتُحَقِّقَ نتائج أَعَمَّ وَأَشمَلَ في قضايا المنازعات .
= إنني إذ أذكر هذه البشائر السارة حول ما يجري من محاولاتٍ جادةٍ من نفرٍ من المخلصين ؛ لإحقاق الحق والعدل والإحسان بين أفراد المجتمع السعودي : لأرجو من مجلس الشورى الموقر إعادةَ النظرِ في توصية الأستاذ الفاضل حمد القاضي ، فما مَثَلُهُ - يحفظه الله - إلا كَمِثلِ مَن مَرَّ ذِكرهم من المصلحين ؛ إذ كُلُّ إِنَاءٍ يَنضَحُ بِمَا فِيه . والله الموفق .
الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود
عدد التعليقات : 1 | عدد القراء : 6052 | تأريخ النشر : الأحد 2 جمادى الآخرة 1428هـ الموافق 17 يونيو 2007مإرسال المقالة
إرسال المقالة والتعليقات إلى صديق
|
|||
|
|
|||
|
|
|||
|
تأريخ النشر: الاثنين 27 شعبان 1428هـ الموافق 10 سبتمبر 2007مسيحية
طباعة التعليق