|
نشرت في صحيفة الإقتصادية العدد 4920
نظاميات في الحلقات الأربع السابقة تعرضنا لذكر تسعٍ من آليات تطوير العمل القضائي هي : اللقاءات القضائية الرسمية ، البحوث والدراسات ، التفاعل الفوري مع الشكاوى المعلنة والنقد ، الحضور الإعلامي القضائي ، الزيارات الداخلية ، الاحتكاك الخارجي ، برامج التدريب ، منهجية التقييم ، أسس الاختيار .وننهي في هذه الحلقة الحديث عن آليات التطوير باستعراض الآليات الثلاث المتبقية منها .
الآلية العاشرة : الجولات التفقدية .
لابد لكل مسؤولٍ عامٍ - في هذه البلاد - أن يشخص بنفسه إلى فروع دائرته في كافة مناطق المملكة في زياراتٍ رسميةٍ محدَّدةٍ ومفاجئة ؛ للوقوف على سير الأعمال وسبر الحاجات وحلِّ المشكلات ؛ توفيراً للوقت والجهد والنفقات .
ويمكن القيادة القضائية أن تختصر جولاتها التفقدية لتكون على مستوى المناطق أولاً ، فتأمر باجتماعٍ لقضاة كل منطقةٍ في عاصمتها ، كي تقف في هذا الاجتماع على المشكلات القائمة والحاجات الماسة لإتقان العمل وتسريعه ، وتجمع الآراء المقترحة ، وتضع الحلول اللازمة أو المؤقتة ؛ حتى لا يتأثر مستوى الإنجاز المعقول ، ريثما يتوفر المطلوب لتحقيق الإنجاز المأمول .
على أنَّ تَفَقُّدَ المحاكمِ جميعها ليس بالأمر العسير على المسؤول عن القضاء ؛ إذ لا يلزم أن يكون ذلك كله في عامٍ واحد ، فمن الممكن - بالتخطيط السليم - للمسؤول عن القضاء أن يقوم بجولاتٍ فصليَّة ، وبواقع أربعة أسابيع في العام الواحد يخصصها للتفقد المطلوب على أن يُشرك معه خبراء في الإدارة والشؤون المالية والقضائية ونحوها .
كما أنَّه من المهم تفعيل دور الوزارة الإشرافي والرقابي والتطويري والتوجيهي باستخدام التقنيات الحديثة ؛ مثل : الاتصال بقضاة المناطق - في الأمور العاجلة والضرورية - عبر الدوائر التلفازية المغلقة من صالات المحاضرات في الجامعات ، أو قاعات المؤتمرات في الفنادق الكبرى .
ومن المهم أيضاً : تخصيص يومٍ واحد من كل أسبوع يتفقد فيه رؤساء محاكم المناطق ما هو في مشمول إدارتهم من محاكم وكتابات عدل ؛ ضمن جدولٍ معدٍ مسبقاً يعلم به قضاة تلك المحاكم ومراجعوها ؛ ليقف الرئيس على سير العمل ، ومن ثَمَّ يرفع بشأنه إلى الجهات المسؤولة في الوزارة والمجلس مشمولاً بوجهة نظره حياله .
الآلية الحادية عشرة : التواصل الوجداني .
كثيرٌ من الناس تؤدي مشاركة رؤسائهم إياهم إلى زيادة أفراحهم وتخفيف أتراحهم ، مع ما يحظى به المسؤول من ثوابٍ أخروي وحُسْنِ ذِكْرٍ دنيوي ، مما ينعكس على العمل المنوط بالمسؤول ومرؤوسيه .
وللقضاة مع رؤسائهم نصيبٌ من هذا التواصل الوجداني ، ولذلك صورٌ عدة منها :
1 = التهنئة بالمناسبات السعيدة ؛ سواءٌ في مجال العمل ، مثل : التعيين في القضاء ابتداءً ، التثبيت بعد مضي سنة التجربة ، الترقية ، أو في المناسبات الشخصية ، مثل : الزواج ، الإنجاب ، التفوُّق العلمي .
2 = السؤال عن أحوال المرضى منهم ، والسعي لحصولهم على العلاج المناسب في حينه .
3 = التعزية بفقد قريب ؛ بحضور عزائه ، أو عبر الهاتف ، أو بإرسال كتاب مواساةٍ للقاضي أو لذويه .
4 = تشجيع المجتهدين من القضاة في آرائهم واقتراحاتهم بخطابات الشكر والثناء .
5 = الاستعانة بالمبرِّزين من القضاة للعمل في اللجان التطويرية ، مع إفساح المجال للكثير منهم لقياس استعدادهم للإفادة والاستفادة في تطوير العمل القضائي .
6 = اغتفار الأخطاء والمواساة في حال التَّعَثُّر بالتوجيه والإرشاد والمناصحة والمسامحة ؛ فتلك هي النصرة الأخوية المأمور بها شرعاً ، ولنا الأسوة الحسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم مع خالد بن الوليد ، وأسامة بن زيد ، وحاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنهم ؛ يوم أن أخطأ الأولان في سفك دمٍ حرام وأوشك الثالث على إفشاء سرٍ من أسرار الحرب إلى العدو ، وقد كان السلف رضوان الله عليهم يرددون مقولة ( والمنصفُ من اغْتَفَرَ قليلَ خطأِ المرءِ في كثيرِ صوابه ) ، فأين نحن من هؤلاء ؟! والله المستعان .
الآلية الثانية عشرة : التجاوب مع الاقتراحات .
لي تجاربٌ عدة على مدى ثلاثين عاماً في العمل القضائي حول الاقتراحات ومواقف المسؤولين حيالها ، سأذكر نماذج منها بحسب المواقف تجاهها :
1 = في عام 1402هـ اقترحت : رسم مخطط العقار خلف صك الاستحكام الخاص به عن طريق مساح المحكمة بما فيه من تعرجاتٍ وانكساراتٍ وميول ، وفي حال انتقال جزءٍ من العقار بالبيع ونحوه يظلل عليه بالأحمر ويشار إلى رقم صك الإفراغ وتاريخه ، وهكذا مهما تعددت الانتقالات ، مع ذكر مقياس الرسم بحسب مساحة العقار .
وكان الموقف من الاقتراح : خطاب شكرٍ وتقديرٍ من الوكيل بالنيابة رئيس التفتيش القضائي في حينه الشيخ : محمد الفنتوخ مضمناً اعتذارٌ لعدم توفر الإمكانات .
وأكرر هنا الدعوة لتحقيقه ، فلاشك أنَّ الإمكانات قد توفرت خلال أكثر من ربع قرن مضت من إرسال هذا الاقتراح .
2 = في عام 1405هـ اقترحت : تدقيق الأحكام التي تنقضها محكمة التمييز بالأكثرية من قبل مجلس القضاء الأعلى بصفةٍ تلقائية ؛ لأنَّ القاضي وعضو التمييز المخالف اثنان وعضوي التمييز الناقضين للحكم اثنان أيضاً ، وما دام العددان قد تساويا فلابد من مرجح ، وخير مرجحٍ لأيٍ من الرأيين هو الجهة الأعلى من كلٍ منهما ، واحتياطاً لأيِّ اعتراضٍ فقد بحثت عن عدد القضايا المنقوضة بالأكثرية من محكمة التمييز في أحد كتب الإحصاء السنوي لقضايا وزارة العدل ، فوجدتها لا تتعدى خمساً وخمسين قضية ، وبقسمتها على عدد أعضاء الهيئة الدائمة الخمسة ظهر أنَّ عمل العضو الواحد لن يزيد عن سابقه إلا قضيةً واحدة في الشهر تقريباً ، وتلك زيادة معقولة قطعاً .
الموقف من الاقتراح : اتصالٌ هاتفيٌ من وكيل الوزارة السابق تضمن : اللومَ !، والتخويفَ بأنَّ عرض الأمر على المجلس مدعاةٌ لإصدار عقوبة صارمة !!، والمنَّةَ عليَّ بحفظ الاقتراح حتى لا يصل خبره إلى من بيده التأديب !!!.
3 = في عام 1410هـ ابتدأت صنع نظامٍ كامل للمحاماة ، وبعد اكتماله في ثمانٍ وثمانين مادة أرسلت منه أربع نسخٍ : واحدةً لمعالي وزير العدل الراحل الشيخ محمد بن جبير يرحمه الله ، وثانيةً لوكيله الشيخ بكر أبو زيد شفاه الله ، وثالثةً لأحد أعضاء مجلس القضاء الأعلى ، والرابعة لمعالي رئيس شعبة الخبراء آنذاك الأستاذ مطلب النفيسة .
أما موقفي بعد الاقتراح : فتعليل النفس بأنَّ هذه الرسائل لم تصل إلى أيٍ من الأربعة المذكورين ؛ وخصوصاً رابعهم !.
4 = في عام 1413هـ لم أصنع شيئاً من تلقاء نفسي كالعادة ، بل إني تلقيت اتصالاً من معالي وزير العدل الحالي الشيخ الدكتور : عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ وفقه الله يطلب مني زيارته في مكتبه مصطحباً ما يتيسر لي من اقتراحات حول العمل القضائي ، فانبريت لتحقيق طلب معاليه مسطراً ستين مقترحاً ، تباحثت مع معاليه بشأن بعضها في تلك الزيارة ، ورأى أغلبها النور خلال مسيرة معاليه الموفقة في قيادة وزارة العدل .
المهم في الأمر : أنَّ تفعيل آلية التواصل مع الاقتراحات مدعاةٌ لإثراء العمل القضائي ، وسبيلٌ من سبل تطويره ، وطريقٌ إلى تحقيق الأفضل ؛ من حيث : العلاقة بين المسؤول والمرؤوس ، وبين العامل والعمل ، وبين الدائرة والمراجع . وفق الله الجميع لما يرضيه .
الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود
ليست هناك تعليقات | عدد القراء : 4717 | تأريخ النشر : الأحد 13 ربيع الأول 1428هـ الموافق 1 أبريل 2007مإرسال المقالة
|
|||
|
|
|||
|