ناصر بن زيد بن داود
27-05-2009, 01:14 AM
الأشراف وإشكالية الإنصاف
يدور في أروقة بعض المحسوبين على النخب الثقافية من طلبة علم وصحفيين؛ بين فينة وأخرى الحديث في موضوعات تندُّ عن مُوجب العقل ومقتضى العلم وتكتسحها الأهواء أحياناً وسوء الفهم أحياناً أخرى.
ومن هذه الموضوعات التي تُنبش نبشاً؛ مايتعلق بقبيلة الأشراف( آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم) فيما يخص مكانتهم أو طريقة التعامل معهم.
وتطرح في ثنايا هذا الموضوع بعض الآراء غير المتزنة بميزان العدل فضلاً عن العقل كذلك ، تؤزُّها أحياناً مخابئ العصبيّة وسوء الطويّة، وهو ما اعتقدتُ ترفّع أهل العلم وطلبته بل والعقلاء عنه ، إلا أن تتابع عددٍ ممن ينتسب إلى العلم ويوصف بالفضل على الولوغ فيما لايليق به ولا بالوسط الذي ينتمي إليه = كان مصدر إزعاج وقلق لبعض الغيورين على هذا النسب الشريف والمحبين له، مما استدعى مناقشة هذه المشكلة والتنبيه على جملة من القضايا المتعلقة بها .
وقد بدا لي أن أُديرَ الكلام حول أبرز المشكلات التي يمكن إثارتها في هذه القضية ، مفتتحاً الحديث بإقرار لابد منه ، ومختتما إياه بتنبيهات من باب التذكير .
فأقول مستعينا بالله :
إن من الأمور التي ينبغي على الشريف من آل البيت استحضارها والانتباه لها ، بل والإقرار بها ؛ أنه ليس من السهل على النفس البشرية بطبيعتها تفضيل الغير وتقديمه عليها لمجرد النسب والولادة ، فالنفس الإنسانية مطبوعة على الشُحّ وحب النفس وهذا قَدَرُها الكوني من خالقها جل وعلا. فمطالبة الناس بتفضيل آل البيت وتقديمهم لهم على أنفسهم طلب فيه مشقة وثقل ، وهذا من المعاني الواردة في فهم الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم ، حينما قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً في آخر حياته ، فقال :" ... وأنا تاركٌ فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله ... وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي " . فالثقلان هما : كتاب الله ، وآل بيت النبي ، سُميا بذلك-كما قال العلماء- لأن الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل ، ويظهر من التذكير وتكراره الإيماء لمشقة هذا الأمر الذي يحتاج إلى هذا الأسلوب من الحث والتأكيد . وليس هناك تفسير لهذه الطلب المُكْلِف سوى الابتلاء والامتحان من الله سبحانه وتعالى لعباده إكراماً لنبيه صلوات الله وسلامه عليه ، وهذا من جملة شرائع الدين التي ابتلى الله بها عباده ورتّب عليها الأجر والثواب في قليلها وكثيرها ودِقّها وجَلّها ، فلن يضيع شيئٌ حتى الابتسامة العابرة في وجه الشريف من آل البيت إذا أُستحضرت النية الصالحة .
أما ما نحن بصدده في هذه العجالة ، فأرجو أن أوفق لاستعراض أبرز الشُبَه المُشْكِلة في هذا العصر المتأخر المليئ بالأزمات .
فمن ذلك...
الأولى: إشكالية الطبقية المتوهمة في تفضيل آل البيت. وهذا معنى يتوارد على بعض الأذهان ، خاصةً عند غير الإسلاميين المتأثرين بشيءٍ من النزعات الاشتراكية. والجواب المختصر حول هذا الإيراد يتضح من خلال تأمّل النص التالي ، وفهمه في السياق المناسب .
روى مسلم في صحيحه من حديث واثلة بن الأسقع يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم".
فهذ النص متسقٌ مع سُنّة الاصطفاء الكوني التي أرادها الله تعالى في عامة خلقه، حيث اصطفى سبحانه خير الأماكن مكة، وخير الأزمان رمضان وليلة القدر ويوم عرفة، وخير السماوات وخير الأرضين. واصطفى أيضاً خير الأجناس في الدم والنسب وهم العرب، ومنهم قريش، وبنو هاشم خير قريش، واصطفى سبحانه هذا الحي من قريش إكراماً لإمام المُصطفين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
ويظهر في هذا الحديث طبقات واضحة أرادها الله تعالى كوناً في نوعيّة الجنس البشري، لكن حرف المسألة يتمحور حول مفهوم هذه الطبقية.
حيث أن المراد مطلق التفضيل من غير تفريق بين الناس في المطالبات والحقوق والواجبات بناءً عليها- إلا بعض الأحكام الفقهية زيادة على آل البيت كتحريم الزكاة عليهم - ولم يترتب على هذه الطبقية الكونية استعباد واستحقار للغير أوهضمٌ للحقوق وسلب للملكيّات، وهذا هو المفهوم المرذول للطبقية، والذي يحاول البعض أن يقحمه في فهم تفضيل آل البيت على غيرهم.
الثانية:
مشكلة موقف بعض المذاهب المبتدعة من آل البيت، وإقحام ذكر هذه الطوائف في سياق الحديث عن آل البيت ومعاملتهم، وإيراد شواذ الأحوال وسوءات الصّور. وهذا خطأٌ منهجي في صياغة الأفكار والمبادئ ومناقشتها.
حيث نجد بعض الكُتّاب يستدعى غلوَّ الشيعة وباطلهم ويجمع إليها حال المتصوفة مع آل البيت وغلّوهم في ذلك. حتى لكأن الأشراف (آل البيت) مذرّعةَ الشرك وبوابات البدع .. كلُّ ذلك يُحشر ويُعصف به بألوان ناشزة داخل إطار رسم الأشراف!! حينها لم يكن لأيّ قارئ ـ ساذج ـ إلا استهجان الحال، وفقد الثقة في مصداقية النسب، وطرح الحقّ في مطالبة أهله بأيّ حق !
الثالثة:
عدم التفريق بين المبدأ (المعتقد)، وبين الممارسات الخاطئة لآحاد الأشراف. فما يقع فيه الشريف من خطأ يلحقه وحده، ولا يعود على أصله بالنقض ولا على أهله بالخطل. وليس لأحد أن يُحمّل شرف النسب وحق أهله بعضاً من تلك الممارسات الخاطئة التي يقع فيها البشر بطبيعتهم. فالأشراف لم يدّعِ أحدٌ فيهم أنهم استثناءٌ من بيئتهم؛ فهم خريجوا تلك البيئات المليئة بالخطايا والنعرات، ولم تكن فِعال بعضهم بدعاً من الصنائع حتى يُسْتَهتر بالقول فيهم.
ومما ينبغي التنبه له أن العصبيّة للعرق هي صفة الطّبع لا صفة النسب، وهي ظاهرة بوضوح في جميع المجتمعات القبليّة، بل حتى غير القبليّة فإن العصبية تظهر بين العوائل، وهو أمرٌ ظاهر عند الغرب فضلاً عن العرب.. فدعوى الخصوصية بالأشراف باطلة، بل هي صفة تلحق بالمجتمع عامةً. كما هي ظاهرة من قبل الإسلام.
ثم إن التفاضل في الأنساب موجود غير منكر من قبل الإسلام، وإنما أنكر الإسلام التفاخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، ولم ينفِ حقيقة التفاضل. ويا قومِ.. انظروا إلى معتقدكم الذي تتعبدون الله به وتبغون أجره ورضاه بغضِّ النظر عمّا يفعل القوم، فصنيعكم لله، وليس لهم.. أقول ذلك منبّهاً على ما يقرّره بعض المتكلمين في هذا الشأن حينما يسمح لهواه لا لعقله: أن يحزم بكل قطعيّة ومحدوديّة- تحجيما لما ينبغي عمله- بأن: ليس لآل البيت إلا الحبّ فقط!!! حتى ليخيّل للقارئ أن الحبّ كلمة جوفاء جامدة أو ممنوعة من الصرف، أو ليس لهما معنى في قاموس القلوب ومعجم الحياء. الحبّ فقط!!
هكذا(سادة)! بلا طعم ولالون ولارائحة!!!
يا قوم .. أنصفونا.. بالله عليكم لو صدق الحب (فحسب) أكنتم ترون مثل تلك الأنفس المتشنجة في معالجة موضوع معاملة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد علمت الكآفّة والعامة أن الحبّ عمل.. وعمل الحبّ بلا حدود.. إلا حدود الشرع.. لكن لمّا لم يكن هناك حبّ؛ لم يقوَ قلم الشانئ إلا على رسم الحبّ.. وكلمة (الحبّ) فقط!!
الرابعة:
من الأنساق الاجتماعية المعمول بها؛ أن علاقات الناس متسقةٌ عادةً ضمن الإطار الكوني الذي أشار إليه نبينا الكريم في حديث "الأرواح جنود مجنّدة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف". إلا أن الإسلام في معاملة آل البيت تطلّب اعتباراً إضافياً، ورتّب عليه الأجر والمثوبة إغراءً وحثّاً للناس في ممارسته.
لكن الواقع ـ وأقولها كشاهد عيان في البيئة السلفيّة تحديداًـ تغيب محبة (الأشراف) لكونهم من آل البيت إلا النزر اليسير، وقليل ما همّ.. بل لا أبالغ إذا ذكرت أنها تغيب كثيراً كذلك في وسط طلبة العلم الشرعي تحديداً؛ وذلك لاستمراء تلك التقريرات الباردة الجافّة سواءً في الدروس أو الفتاوى، والتي إن لم تحمل تهويناً في شأن آل البيت لم يكن فيها مزيد حث على محبتهم، وإحسان معاملتهم.
وقد يلتزم بعض كبار طلبة العلم بعرض محبة آل البيت مقرونةً بشنائع الشيعة والمتصوفة وغلوّهم؛ مما يشوّه الصورة ويفتّر العزم عن دَرْك الحق الواجب تجاههم. وفي هذا كلّه فتح باب للمزايدة على آل البيت مِن جهة أولئك المبتدعة، فيتبجحون بحبهم لآل البيت، ويظهرون جفاء السلفية السُنيّة لهم، فيدلسون بذلك على عوام المسلمين في أرجاء العالم الإسلامي.
ومن جهة أخرى فإن (عوامّ) الأشراف يرون البون شاسعاً في معاملة المتصوّفة مثلاً لآل البيت، وجفوة المنتسبين للسلفية مما يثير فضولاً لديهم قد يصل إلى الفتنة والعياذ بالله. وعلى إثْر ذلك يقع المنصفون وطَلبة العلم من الأشراف في ورطةٍ لتحليل تلك المفارقات.
ثم إنّ عامة ما يجده (الأشراف) من تودّد ومحبة إنما هو في سياق المحبة الطبيعية القائمة على التجانس في الطباع، والتوافق في الأهواء والنفسيات، أو لخلّةٍ ما ليس منها كونهم من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
يا قوم.. إن خطاب بعض (المنتسبين للسلفيّة) تجاه الأشراف إنما هو تنفيرٌ وتحييز لهم من حيث لا يشعرون. وعجباً لأولئك المتشدقين بسياسة الاحتواء مع الأعداء بتلك اللغة البريئة القريبة.. أين هذه السياسة ممن احتواؤهم والتودد لهم مأجورٌ عليه، ليس مجاناً!!
الخامس: مشكلة لقب "الشريف"، والمفاهيم المغلوطة:
يعلم الجميع أن التلقّب بهذا اللقب خرج مبكراً جداً، ولم يكن بسبب الشيعة كما يتوهم البعض. ولست بصدد رصدٍ تاريخي لنشأة هذا اللقب، لكن ما يُحْسن التأكيد عليه، هو أن الأمّة تواترت كابراً عن كابر، وجيلاً بعد جيل على استعماله وبذله لأهله، وهذه كتب التواريخ والتراجم مليئة بألقاب "الشريف"، من غير نكير ولو على أشفار قطمير!!
ولعل من خبايا الزوايا، معرفة أن مقتضى كرم النفس؛ هو بذل النعمة الكريمة التي تتمناها بطيب خاطر.. كما أن الشحّ صفةٌ في النفس قبل صفة اليد!!
أما المراد بالتشريف في هذا اللقب.. فهو صفةٌ أنعم الله بها على فئة مِن عباده؛ إكراماً لنبيه صلى الله عليه وسلم في آل بيته. وهذه الصفة متعلقةٌ بالنسب الذي ينتقل بالولادة من شخص لآخر ـ هكذا رضي مَنْ رضي وسخط مَنْ سخط- إلى يوم الدين كما أرادها الله رب العالمين..
وبعد هذا، أَيُعقل أن عاقلاً ـ لا من الرعاع والعامّةـ يفهم اللقب بمفهوم المخالفة؛ أعني أن يفهم من سماع لقب التشريف تحقيراً له!! فإذا كان بعضهم كذلك.. أفلا يفهم مَنْ يرى وسيماً أو جميلاً أنّ في ذلك تقبيحاً له؟!! وكذا إذا سمع (الأمير)؛ فليفهم حينئذٍ أن في ذلك ضعةً وترقيقاً لحاله!! وستعظم مصيبته حين يرى الموصوفين بالكرم والشجاعة ونحوها..
هذه من حقائق العُقدة عند بعض الناس.. ولو فُهم موضوع التلقّب بالشريف، على أنه صفةٌ موهوبة، مثل صفات الجمال، والمال، والجاه، والكرم، والشجاعة، والإمارة... ونحوها من الصفات التي يقسمها الله بين عباده= لسَهُلَ الأمر، وتنزّل على قَدْره الموفور له، ولما استحق كل تلك الحبكة المعقّدة التي يريدها بعض مَنْ نزغ الشيطان قلبه!
وبعد هذا التبيان، ليس لأحد أن يُهاتر علينا بتلك المعاني التي لا تنتطح في تقريرها عنزان!! فيتحدث عن شرف النفس وشرف العمل، وأن الإنسان يبني شرفه ومجده بنفسه... فالجهة منفكة أيها الشادي بين شرف النسب المراد هنا، وبين تلك المعاني البدهيّة التي تؤمن بها عجائز نيسابور!!! وحديث البدهيّات فيه استخفاف بالقارئ، وحَرْقٌ للفكر العميق..
وقد تتابع جلةٌ من العلماء والمشاهير عبر التاريخ على التلقب بلقب (الشريف) ومنهم :
-الشريف أبي علي محمد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي، شيخ الحنابلة (ت 428)، صاحب التصانيف المشهورة صاحب كتاب (الإرشاد) كما يقول الذهبي في تاريخ الإسلام.
- والشريف أبي جعفر بن أبي موسى الفقيه ابن عم أبي علي، إمام الطائفة الحنبلية في زمانه بلا مدافعة، وأجلّ أصحاب القاضي أبي يعلى كما يقول الذهبي في تاريخ الإسلام.
- والشريف محمد بن الحسن بن عبد الرحيم القنّائي المالكي، الفقيه، (ت692)، ولم يسمع بالشريف التلمساني المالكي (ت 771)، صاحب مفتاح الوصول، وغيره..
- والشريف برهان الدين الحسيني الحنفي (ت689) إمام محراب الحنفية بالجامع الأموي.
- السيّد الشريف الجرجاني (ت 816)، صاحب كتاب التعريفات وغيرها كثير.
- الشريف أبي السعادات ابن الشجري، هبة الله الإمام اللغوي الأديب، صاحب الأمالي.
ومما يلحق بهذا المقام - أعني المفاهيم المغلوطة – فهم التزكية المطلقة من لقب (الشريف) ، فحينما يسمع البعض اسم الشريف يورد حينها قول الله تعالى { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} ويجبه صاحبه بالإنكار عليه ، وهذا الفهم غلطٌ محض ؛ لأن المراد في الآية هي التزكية في الدين، فالتزكية التي جاء النهي عنها هي تزكية النفس من الذنوب والمعاصي، أي ادعاء الإيمان والتقوى والتزيّد به والتباهي به على الناس. وعليه فتزكية النفس المنهي عنها لاعلاقة لها بلقب (الشريف) ؛ لأن هذا اللقب ليس المقصود به تزكية ديانة المُلقَّب به ، بل المراد تزكية نسبه المتصل بالنبي عليه الصلاة والسلام .
وأختم بتنبيهين لأبناء عمومتي الأشراف :
الأول : أن من نوازع الطبيعة الإنسانية وصفاتها الحيوانية التحاسد وشح الطبع وأثرة النفس ، فلاتتوهموا أن كل الناس أو أكثرهم سيستجيبون لحقكم عليهم، أو أن كونكم من آل البيت سيمنع بغضهم لكم إذا توفر سببه، بل لن تسلموا من حسد الناس على هذا النسب وهذه المكانة ، وهذه آفةٌ كانت وما زالت منذ الزمن الأول حين شكا العباس بن عبدالمطلب إلى رسول الله عليه السلام تغيُِّر قريش على بني هاشم، فقال صلى الله عليه وسلم :"والله لايدخل قلب امرئٍ إيمانٌ حتى يحبكم لله ولقرابتي "( صححه الترمذي وابن تيمية وشيخنا حاتم الشريف).
فانظر! هذه قريش أصل وصُلب بني هاشم لم تسمح نفوس باقي بطونها بهذا الفضل وهذه المكانة لبني عمِّهم !! فكيف بغيرهم ومَنْ هم أبعد منهم . فالمقصود التنبيه على أهمية تهيئة النفس وتقدير مواقف الناس مهما بلغت من الجفاء ، والإعذار لمن يستحق قدر الإمكان .
الثاني : تساؤلات اطرحها بين يدي إخوتي السادة الأشراف :
فهل تأمّل أحدنا ماذا يعني أن تكون من آ ل البيت ؟!!
ماذا يعني لك- أيها الشريف - أن يتصل نسبك بالمصطفى صلوات الله وسلامه عليه ؟!!
ماهو الشعور الذي يتملًَّكُكَ - أيها الحبيب – حينما يمرّ بخلدكَ أنك حفيد محمد صلى الله عليه وسلم ، خليل الرحمن ، وإمام المتقين ، وسيد الخلق أجمعين ؟!!
كأنِّي بك تشعر بأن شيئاً من الصفات"الجينية" الوراثية التي كانت في جسد النبوة الطاهر قد عبر أسوار هذه السنين الغابرة حتى تماهت واستقرت بين جنبيك !!
يالها من مشاعر عظيمة – لايشرككَ فيها أحدٌ من العالمين- حينما تقرأ في التاريخ سيرة أجدادك الأماجد صُنّاع الحضارة وقادة الإنسانية وبُناة لبِنات الدين!! يالهناء مُخيِّلتك حينما تتذكر علياً جدّك أو الحسن والحسين أو زين العابدين أو جعفراً الصادق ...!!!
ما أعظم النعمة بتلك الأحاسيس !!
هل استشعرت أخي الشريف أن هذه نعمة عظيمة من ربِّك الكريم ؟! كثيرٌ من الناس يتمناها ويفتقدها ، ويفوتنا كثيراً أن نقدِّرها حقَّ قدرها ونقوم بحقها ونشكرها .
أيها الشريف ، إن من الأصول العظيمة التي لاينبغي أن تنساها يوما ما ؛ أن هذا الشرف الذي تنعم به ، والحق الذي وجب لك وتطالب به ؛ إنما سببه الدين ، ومصدره الدين ، وامتداده وقوّته وعزّته بالدين ، ومهما ابتغينا العزة في غيره فليس لنا من مزيد فضلٍ نزايد به على الآخرين . وهذه حقيقة الاعتراف بها فضيلة ، ومراعاتها عقل وعدل .
كثيرٌ منّا آل البيت يستحضر ما في هذا النسب من التشريف ويفوته مافيه من التَّبِعة والتكليف، والغُنْم بالغرم والخراج بالضمان كما يعبّر الفقهاء، فهذا النسب الشريف يستلزم من المنتسبين إليه احترامه وتقديره حتى لايتعدّى السفهاء ومَنْ تسوّل له نفسه على مقام السادة الأشراف. ولاشك أن الإنسان إذا أرخص نفسه فلن يأبه الناس بأصله وعشيرته وسيقابلون السيئة بمثلها ، ومَنْ بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه وحسبه، لكن محل الحرج حينما ينسحب الأذى والإساءة إلى قوم الرجل وأجداده أو تاريخ ومكانة قبيلته، ويكون هو السبب في ذلك، وهذا الأمر من الأسباب الحقيقية التي أساءت إلى الأشراف آل البيت، فقد يقف بعض الناس على أخطاء وزلاّت وسوء سلوك لبعض الأشراف فيغلب على ظنِّه أن سبب هذه التجاوزات هي كونه شريفاً من آل البيت-وقد يكون ذلك صحيحاً أحياناً- فيتجرأ على النسب الشريف ويقدح فيه وفي أهله بكل ما يمكنه، حتى يصل إلى نفي وجود النسب متصوراً استحالة امتداده عبر التاريخ إلى هذا الزمن – وكأن النسب بئرُ ماءٍ قد تنفد يوماً ما !!- وهذا ما وقع مِن بعض مَنْ أدركتهم غفلة الصالحين - وغيره غفلة الحاقدين – فأقحم نفسه فيما أظهر جهله وأبان عورته في هذا الموضوع ، وقد كان غنيّاً عن التسفّل في مثل هذه المظانّ. والمقصود هنا أن بعض الناقدين قد توسل بسوء سلوك وممارسات بعض الأشراف إلى التنقص منهم . والمرجو في هذا المقام أن يستحضر الشريف- بعد مخافة الله تعالى- هذا الأصل الشريف ولايدنّسه بمجاهرة المعاصي والمفسِّقات ولابما يُسْقط المروءات، وليتذكر العين المجهريِّة التي قد ينظر الناس بها إليه ، والعرض التلسكوبي الذي سيعرضون به ما قد يقع فيه من صغائر. هذا قَدْرٌ زائدٌ بعد مراقبة الله جل وعلا لكن في حدود الاستطاعة البشرية التي لاتحيل حياتك إلى تكلّف ومشقة.
أسأل الله الكريم أن يصلح أحوال آل بيت نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يهديهم لأحسن الأقوال والأعمال، وأن يوفقهم لنصرة دينهم وأمتهم، وأن تجمعهم مع جدِّهم ونبيِّهم في دار كرامتك يا أكرم الأكرمين،،،،، آمين.
الشريف وائل بن سلطان بن حمزة الحارثي.
يدور في أروقة بعض المحسوبين على النخب الثقافية من طلبة علم وصحفيين؛ بين فينة وأخرى الحديث في موضوعات تندُّ عن مُوجب العقل ومقتضى العلم وتكتسحها الأهواء أحياناً وسوء الفهم أحياناً أخرى.
ومن هذه الموضوعات التي تُنبش نبشاً؛ مايتعلق بقبيلة الأشراف( آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم) فيما يخص مكانتهم أو طريقة التعامل معهم.
وتطرح في ثنايا هذا الموضوع بعض الآراء غير المتزنة بميزان العدل فضلاً عن العقل كذلك ، تؤزُّها أحياناً مخابئ العصبيّة وسوء الطويّة، وهو ما اعتقدتُ ترفّع أهل العلم وطلبته بل والعقلاء عنه ، إلا أن تتابع عددٍ ممن ينتسب إلى العلم ويوصف بالفضل على الولوغ فيما لايليق به ولا بالوسط الذي ينتمي إليه = كان مصدر إزعاج وقلق لبعض الغيورين على هذا النسب الشريف والمحبين له، مما استدعى مناقشة هذه المشكلة والتنبيه على جملة من القضايا المتعلقة بها .
وقد بدا لي أن أُديرَ الكلام حول أبرز المشكلات التي يمكن إثارتها في هذه القضية ، مفتتحاً الحديث بإقرار لابد منه ، ومختتما إياه بتنبيهات من باب التذكير .
فأقول مستعينا بالله :
إن من الأمور التي ينبغي على الشريف من آل البيت استحضارها والانتباه لها ، بل والإقرار بها ؛ أنه ليس من السهل على النفس البشرية بطبيعتها تفضيل الغير وتقديمه عليها لمجرد النسب والولادة ، فالنفس الإنسانية مطبوعة على الشُحّ وحب النفس وهذا قَدَرُها الكوني من خالقها جل وعلا. فمطالبة الناس بتفضيل آل البيت وتقديمهم لهم على أنفسهم طلب فيه مشقة وثقل ، وهذا من المعاني الواردة في فهم الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم ، حينما قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً في آخر حياته ، فقال :" ... وأنا تاركٌ فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله ... وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي " . فالثقلان هما : كتاب الله ، وآل بيت النبي ، سُميا بذلك-كما قال العلماء- لأن الأخذ بهما والعمل بهما ثقيل ، ويظهر من التذكير وتكراره الإيماء لمشقة هذا الأمر الذي يحتاج إلى هذا الأسلوب من الحث والتأكيد . وليس هناك تفسير لهذه الطلب المُكْلِف سوى الابتلاء والامتحان من الله سبحانه وتعالى لعباده إكراماً لنبيه صلوات الله وسلامه عليه ، وهذا من جملة شرائع الدين التي ابتلى الله بها عباده ورتّب عليها الأجر والثواب في قليلها وكثيرها ودِقّها وجَلّها ، فلن يضيع شيئٌ حتى الابتسامة العابرة في وجه الشريف من آل البيت إذا أُستحضرت النية الصالحة .
أما ما نحن بصدده في هذه العجالة ، فأرجو أن أوفق لاستعراض أبرز الشُبَه المُشْكِلة في هذا العصر المتأخر المليئ بالأزمات .
فمن ذلك...
الأولى: إشكالية الطبقية المتوهمة في تفضيل آل البيت. وهذا معنى يتوارد على بعض الأذهان ، خاصةً عند غير الإسلاميين المتأثرين بشيءٍ من النزعات الاشتراكية. والجواب المختصر حول هذا الإيراد يتضح من خلال تأمّل النص التالي ، وفهمه في السياق المناسب .
روى مسلم في صحيحه من حديث واثلة بن الأسقع يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم".
فهذ النص متسقٌ مع سُنّة الاصطفاء الكوني التي أرادها الله تعالى في عامة خلقه، حيث اصطفى سبحانه خير الأماكن مكة، وخير الأزمان رمضان وليلة القدر ويوم عرفة، وخير السماوات وخير الأرضين. واصطفى أيضاً خير الأجناس في الدم والنسب وهم العرب، ومنهم قريش، وبنو هاشم خير قريش، واصطفى سبحانه هذا الحي من قريش إكراماً لإمام المُصطفين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
ويظهر في هذا الحديث طبقات واضحة أرادها الله تعالى كوناً في نوعيّة الجنس البشري، لكن حرف المسألة يتمحور حول مفهوم هذه الطبقية.
حيث أن المراد مطلق التفضيل من غير تفريق بين الناس في المطالبات والحقوق والواجبات بناءً عليها- إلا بعض الأحكام الفقهية زيادة على آل البيت كتحريم الزكاة عليهم - ولم يترتب على هذه الطبقية الكونية استعباد واستحقار للغير أوهضمٌ للحقوق وسلب للملكيّات، وهذا هو المفهوم المرذول للطبقية، والذي يحاول البعض أن يقحمه في فهم تفضيل آل البيت على غيرهم.
الثانية:
مشكلة موقف بعض المذاهب المبتدعة من آل البيت، وإقحام ذكر هذه الطوائف في سياق الحديث عن آل البيت ومعاملتهم، وإيراد شواذ الأحوال وسوءات الصّور. وهذا خطأٌ منهجي في صياغة الأفكار والمبادئ ومناقشتها.
حيث نجد بعض الكُتّاب يستدعى غلوَّ الشيعة وباطلهم ويجمع إليها حال المتصوفة مع آل البيت وغلّوهم في ذلك. حتى لكأن الأشراف (آل البيت) مذرّعةَ الشرك وبوابات البدع .. كلُّ ذلك يُحشر ويُعصف به بألوان ناشزة داخل إطار رسم الأشراف!! حينها لم يكن لأيّ قارئ ـ ساذج ـ إلا استهجان الحال، وفقد الثقة في مصداقية النسب، وطرح الحقّ في مطالبة أهله بأيّ حق !
الثالثة:
عدم التفريق بين المبدأ (المعتقد)، وبين الممارسات الخاطئة لآحاد الأشراف. فما يقع فيه الشريف من خطأ يلحقه وحده، ولا يعود على أصله بالنقض ولا على أهله بالخطل. وليس لأحد أن يُحمّل شرف النسب وحق أهله بعضاً من تلك الممارسات الخاطئة التي يقع فيها البشر بطبيعتهم. فالأشراف لم يدّعِ أحدٌ فيهم أنهم استثناءٌ من بيئتهم؛ فهم خريجوا تلك البيئات المليئة بالخطايا والنعرات، ولم تكن فِعال بعضهم بدعاً من الصنائع حتى يُسْتَهتر بالقول فيهم.
ومما ينبغي التنبه له أن العصبيّة للعرق هي صفة الطّبع لا صفة النسب، وهي ظاهرة بوضوح في جميع المجتمعات القبليّة، بل حتى غير القبليّة فإن العصبية تظهر بين العوائل، وهو أمرٌ ظاهر عند الغرب فضلاً عن العرب.. فدعوى الخصوصية بالأشراف باطلة، بل هي صفة تلحق بالمجتمع عامةً. كما هي ظاهرة من قبل الإسلام.
ثم إن التفاضل في الأنساب موجود غير منكر من قبل الإسلام، وإنما أنكر الإسلام التفاخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، ولم ينفِ حقيقة التفاضل. ويا قومِ.. انظروا إلى معتقدكم الذي تتعبدون الله به وتبغون أجره ورضاه بغضِّ النظر عمّا يفعل القوم، فصنيعكم لله، وليس لهم.. أقول ذلك منبّهاً على ما يقرّره بعض المتكلمين في هذا الشأن حينما يسمح لهواه لا لعقله: أن يحزم بكل قطعيّة ومحدوديّة- تحجيما لما ينبغي عمله- بأن: ليس لآل البيت إلا الحبّ فقط!!! حتى ليخيّل للقارئ أن الحبّ كلمة جوفاء جامدة أو ممنوعة من الصرف، أو ليس لهما معنى في قاموس القلوب ومعجم الحياء. الحبّ فقط!!
هكذا(سادة)! بلا طعم ولالون ولارائحة!!!
يا قوم .. أنصفونا.. بالله عليكم لو صدق الحب (فحسب) أكنتم ترون مثل تلك الأنفس المتشنجة في معالجة موضوع معاملة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد علمت الكآفّة والعامة أن الحبّ عمل.. وعمل الحبّ بلا حدود.. إلا حدود الشرع.. لكن لمّا لم يكن هناك حبّ؛ لم يقوَ قلم الشانئ إلا على رسم الحبّ.. وكلمة (الحبّ) فقط!!
الرابعة:
من الأنساق الاجتماعية المعمول بها؛ أن علاقات الناس متسقةٌ عادةً ضمن الإطار الكوني الذي أشار إليه نبينا الكريم في حديث "الأرواح جنود مجنّدة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف". إلا أن الإسلام في معاملة آل البيت تطلّب اعتباراً إضافياً، ورتّب عليه الأجر والمثوبة إغراءً وحثّاً للناس في ممارسته.
لكن الواقع ـ وأقولها كشاهد عيان في البيئة السلفيّة تحديداًـ تغيب محبة (الأشراف) لكونهم من آل البيت إلا النزر اليسير، وقليل ما همّ.. بل لا أبالغ إذا ذكرت أنها تغيب كثيراً كذلك في وسط طلبة العلم الشرعي تحديداً؛ وذلك لاستمراء تلك التقريرات الباردة الجافّة سواءً في الدروس أو الفتاوى، والتي إن لم تحمل تهويناً في شأن آل البيت لم يكن فيها مزيد حث على محبتهم، وإحسان معاملتهم.
وقد يلتزم بعض كبار طلبة العلم بعرض محبة آل البيت مقرونةً بشنائع الشيعة والمتصوفة وغلوّهم؛ مما يشوّه الصورة ويفتّر العزم عن دَرْك الحق الواجب تجاههم. وفي هذا كلّه فتح باب للمزايدة على آل البيت مِن جهة أولئك المبتدعة، فيتبجحون بحبهم لآل البيت، ويظهرون جفاء السلفية السُنيّة لهم، فيدلسون بذلك على عوام المسلمين في أرجاء العالم الإسلامي.
ومن جهة أخرى فإن (عوامّ) الأشراف يرون البون شاسعاً في معاملة المتصوّفة مثلاً لآل البيت، وجفوة المنتسبين للسلفية مما يثير فضولاً لديهم قد يصل إلى الفتنة والعياذ بالله. وعلى إثْر ذلك يقع المنصفون وطَلبة العلم من الأشراف في ورطةٍ لتحليل تلك المفارقات.
ثم إنّ عامة ما يجده (الأشراف) من تودّد ومحبة إنما هو في سياق المحبة الطبيعية القائمة على التجانس في الطباع، والتوافق في الأهواء والنفسيات، أو لخلّةٍ ما ليس منها كونهم من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم.
يا قوم.. إن خطاب بعض (المنتسبين للسلفيّة) تجاه الأشراف إنما هو تنفيرٌ وتحييز لهم من حيث لا يشعرون. وعجباً لأولئك المتشدقين بسياسة الاحتواء مع الأعداء بتلك اللغة البريئة القريبة.. أين هذه السياسة ممن احتواؤهم والتودد لهم مأجورٌ عليه، ليس مجاناً!!
الخامس: مشكلة لقب "الشريف"، والمفاهيم المغلوطة:
يعلم الجميع أن التلقّب بهذا اللقب خرج مبكراً جداً، ولم يكن بسبب الشيعة كما يتوهم البعض. ولست بصدد رصدٍ تاريخي لنشأة هذا اللقب، لكن ما يُحْسن التأكيد عليه، هو أن الأمّة تواترت كابراً عن كابر، وجيلاً بعد جيل على استعماله وبذله لأهله، وهذه كتب التواريخ والتراجم مليئة بألقاب "الشريف"، من غير نكير ولو على أشفار قطمير!!
ولعل من خبايا الزوايا، معرفة أن مقتضى كرم النفس؛ هو بذل النعمة الكريمة التي تتمناها بطيب خاطر.. كما أن الشحّ صفةٌ في النفس قبل صفة اليد!!
أما المراد بالتشريف في هذا اللقب.. فهو صفةٌ أنعم الله بها على فئة مِن عباده؛ إكراماً لنبيه صلى الله عليه وسلم في آل بيته. وهذه الصفة متعلقةٌ بالنسب الذي ينتقل بالولادة من شخص لآخر ـ هكذا رضي مَنْ رضي وسخط مَنْ سخط- إلى يوم الدين كما أرادها الله رب العالمين..
وبعد هذا، أَيُعقل أن عاقلاً ـ لا من الرعاع والعامّةـ يفهم اللقب بمفهوم المخالفة؛ أعني أن يفهم من سماع لقب التشريف تحقيراً له!! فإذا كان بعضهم كذلك.. أفلا يفهم مَنْ يرى وسيماً أو جميلاً أنّ في ذلك تقبيحاً له؟!! وكذا إذا سمع (الأمير)؛ فليفهم حينئذٍ أن في ذلك ضعةً وترقيقاً لحاله!! وستعظم مصيبته حين يرى الموصوفين بالكرم والشجاعة ونحوها..
هذه من حقائق العُقدة عند بعض الناس.. ولو فُهم موضوع التلقّب بالشريف، على أنه صفةٌ موهوبة، مثل صفات الجمال، والمال، والجاه، والكرم، والشجاعة، والإمارة... ونحوها من الصفات التي يقسمها الله بين عباده= لسَهُلَ الأمر، وتنزّل على قَدْره الموفور له، ولما استحق كل تلك الحبكة المعقّدة التي يريدها بعض مَنْ نزغ الشيطان قلبه!
وبعد هذا التبيان، ليس لأحد أن يُهاتر علينا بتلك المعاني التي لا تنتطح في تقريرها عنزان!! فيتحدث عن شرف النفس وشرف العمل، وأن الإنسان يبني شرفه ومجده بنفسه... فالجهة منفكة أيها الشادي بين شرف النسب المراد هنا، وبين تلك المعاني البدهيّة التي تؤمن بها عجائز نيسابور!!! وحديث البدهيّات فيه استخفاف بالقارئ، وحَرْقٌ للفكر العميق..
وقد تتابع جلةٌ من العلماء والمشاهير عبر التاريخ على التلقب بلقب (الشريف) ومنهم :
-الشريف أبي علي محمد بن أحمد بن أبي موسى الهاشمي، شيخ الحنابلة (ت 428)، صاحب التصانيف المشهورة صاحب كتاب (الإرشاد) كما يقول الذهبي في تاريخ الإسلام.
- والشريف أبي جعفر بن أبي موسى الفقيه ابن عم أبي علي، إمام الطائفة الحنبلية في زمانه بلا مدافعة، وأجلّ أصحاب القاضي أبي يعلى كما يقول الذهبي في تاريخ الإسلام.
- والشريف محمد بن الحسن بن عبد الرحيم القنّائي المالكي، الفقيه، (ت692)، ولم يسمع بالشريف التلمساني المالكي (ت 771)، صاحب مفتاح الوصول، وغيره..
- والشريف برهان الدين الحسيني الحنفي (ت689) إمام محراب الحنفية بالجامع الأموي.
- السيّد الشريف الجرجاني (ت 816)، صاحب كتاب التعريفات وغيرها كثير.
- الشريف أبي السعادات ابن الشجري، هبة الله الإمام اللغوي الأديب، صاحب الأمالي.
ومما يلحق بهذا المقام - أعني المفاهيم المغلوطة – فهم التزكية المطلقة من لقب (الشريف) ، فحينما يسمع البعض اسم الشريف يورد حينها قول الله تعالى { فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى} ويجبه صاحبه بالإنكار عليه ، وهذا الفهم غلطٌ محض ؛ لأن المراد في الآية هي التزكية في الدين، فالتزكية التي جاء النهي عنها هي تزكية النفس من الذنوب والمعاصي، أي ادعاء الإيمان والتقوى والتزيّد به والتباهي به على الناس. وعليه فتزكية النفس المنهي عنها لاعلاقة لها بلقب (الشريف) ؛ لأن هذا اللقب ليس المقصود به تزكية ديانة المُلقَّب به ، بل المراد تزكية نسبه المتصل بالنبي عليه الصلاة والسلام .
وأختم بتنبيهين لأبناء عمومتي الأشراف :
الأول : أن من نوازع الطبيعة الإنسانية وصفاتها الحيوانية التحاسد وشح الطبع وأثرة النفس ، فلاتتوهموا أن كل الناس أو أكثرهم سيستجيبون لحقكم عليهم، أو أن كونكم من آل البيت سيمنع بغضهم لكم إذا توفر سببه، بل لن تسلموا من حسد الناس على هذا النسب وهذه المكانة ، وهذه آفةٌ كانت وما زالت منذ الزمن الأول حين شكا العباس بن عبدالمطلب إلى رسول الله عليه السلام تغيُِّر قريش على بني هاشم، فقال صلى الله عليه وسلم :"والله لايدخل قلب امرئٍ إيمانٌ حتى يحبكم لله ولقرابتي "( صححه الترمذي وابن تيمية وشيخنا حاتم الشريف).
فانظر! هذه قريش أصل وصُلب بني هاشم لم تسمح نفوس باقي بطونها بهذا الفضل وهذه المكانة لبني عمِّهم !! فكيف بغيرهم ومَنْ هم أبعد منهم . فالمقصود التنبيه على أهمية تهيئة النفس وتقدير مواقف الناس مهما بلغت من الجفاء ، والإعذار لمن يستحق قدر الإمكان .
الثاني : تساؤلات اطرحها بين يدي إخوتي السادة الأشراف :
فهل تأمّل أحدنا ماذا يعني أن تكون من آ ل البيت ؟!!
ماذا يعني لك- أيها الشريف - أن يتصل نسبك بالمصطفى صلوات الله وسلامه عليه ؟!!
ماهو الشعور الذي يتملًَّكُكَ - أيها الحبيب – حينما يمرّ بخلدكَ أنك حفيد محمد صلى الله عليه وسلم ، خليل الرحمن ، وإمام المتقين ، وسيد الخلق أجمعين ؟!!
كأنِّي بك تشعر بأن شيئاً من الصفات"الجينية" الوراثية التي كانت في جسد النبوة الطاهر قد عبر أسوار هذه السنين الغابرة حتى تماهت واستقرت بين جنبيك !!
يالها من مشاعر عظيمة – لايشرككَ فيها أحدٌ من العالمين- حينما تقرأ في التاريخ سيرة أجدادك الأماجد صُنّاع الحضارة وقادة الإنسانية وبُناة لبِنات الدين!! يالهناء مُخيِّلتك حينما تتذكر علياً جدّك أو الحسن والحسين أو زين العابدين أو جعفراً الصادق ...!!!
ما أعظم النعمة بتلك الأحاسيس !!
هل استشعرت أخي الشريف أن هذه نعمة عظيمة من ربِّك الكريم ؟! كثيرٌ من الناس يتمناها ويفتقدها ، ويفوتنا كثيراً أن نقدِّرها حقَّ قدرها ونقوم بحقها ونشكرها .
أيها الشريف ، إن من الأصول العظيمة التي لاينبغي أن تنساها يوما ما ؛ أن هذا الشرف الذي تنعم به ، والحق الذي وجب لك وتطالب به ؛ إنما سببه الدين ، ومصدره الدين ، وامتداده وقوّته وعزّته بالدين ، ومهما ابتغينا العزة في غيره فليس لنا من مزيد فضلٍ نزايد به على الآخرين . وهذه حقيقة الاعتراف بها فضيلة ، ومراعاتها عقل وعدل .
كثيرٌ منّا آل البيت يستحضر ما في هذا النسب من التشريف ويفوته مافيه من التَّبِعة والتكليف، والغُنْم بالغرم والخراج بالضمان كما يعبّر الفقهاء، فهذا النسب الشريف يستلزم من المنتسبين إليه احترامه وتقديره حتى لايتعدّى السفهاء ومَنْ تسوّل له نفسه على مقام السادة الأشراف. ولاشك أن الإنسان إذا أرخص نفسه فلن يأبه الناس بأصله وعشيرته وسيقابلون السيئة بمثلها ، ومَنْ بطّأ به عمله لم يسرع به نسبه وحسبه، لكن محل الحرج حينما ينسحب الأذى والإساءة إلى قوم الرجل وأجداده أو تاريخ ومكانة قبيلته، ويكون هو السبب في ذلك، وهذا الأمر من الأسباب الحقيقية التي أساءت إلى الأشراف آل البيت، فقد يقف بعض الناس على أخطاء وزلاّت وسوء سلوك لبعض الأشراف فيغلب على ظنِّه أن سبب هذه التجاوزات هي كونه شريفاً من آل البيت-وقد يكون ذلك صحيحاً أحياناً- فيتجرأ على النسب الشريف ويقدح فيه وفي أهله بكل ما يمكنه، حتى يصل إلى نفي وجود النسب متصوراً استحالة امتداده عبر التاريخ إلى هذا الزمن – وكأن النسب بئرُ ماءٍ قد تنفد يوماً ما !!- وهذا ما وقع مِن بعض مَنْ أدركتهم غفلة الصالحين - وغيره غفلة الحاقدين – فأقحم نفسه فيما أظهر جهله وأبان عورته في هذا الموضوع ، وقد كان غنيّاً عن التسفّل في مثل هذه المظانّ. والمقصود هنا أن بعض الناقدين قد توسل بسوء سلوك وممارسات بعض الأشراف إلى التنقص منهم . والمرجو في هذا المقام أن يستحضر الشريف- بعد مخافة الله تعالى- هذا الأصل الشريف ولايدنّسه بمجاهرة المعاصي والمفسِّقات ولابما يُسْقط المروءات، وليتذكر العين المجهريِّة التي قد ينظر الناس بها إليه ، والعرض التلسكوبي الذي سيعرضون به ما قد يقع فيه من صغائر. هذا قَدْرٌ زائدٌ بعد مراقبة الله جل وعلا لكن في حدود الاستطاعة البشرية التي لاتحيل حياتك إلى تكلّف ومشقة.
أسأل الله الكريم أن يصلح أحوال آل بيت نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يهديهم لأحسن الأقوال والأعمال، وأن يوفقهم لنصرة دينهم وأمتهم، وأن تجمعهم مع جدِّهم ونبيِّهم في دار كرامتك يا أكرم الأكرمين،،،،، آمين.
الشريف وائل بن سلطان بن حمزة الحارثي.