ابوعبدالعزيز
17-11-2008, 08:28 PM
بدائل السجن دراسة فقهية
الطيب السنوسي أحمد
من مزايا الفقه الإسلامي أنه تشريع واقعي، يتعامل مع واقع البشر ويسع جميع تصرفاتهم بأحكامه المنصوصة في الكتاب والسنة، أو المستنبطة منهما بطريق من طرق الاستنباط والاستدلال، وليس منهجاً صورياً بعيداً عن الواقع، ومن هنا وسعت قواعده وضوابطه كل جديد من الأحداث والتصرفات، وعمت بكليتها كل مكان وزمان.
ومن المسائل التي تتخرج على جملة من قواعد الفقه: مسألة بدائل السجن، وهذه دراسة فقهية مختصرة لهذه المسألة، سميتها: "بدائل السجن دراسة فقهية". أسأل الله أن ينفع بها.
وقد جعلت هذه الدراسة في ثلاثة محاور رئيسة هي:
المحور الأول: في بيان معنى العقوبة والتعزير:
وذلك بناء على أن السجن أحد أفراد التعزير، والتعزير أحد أنواع العقوبة الشرعية.
تعريف العقوبة:
العقوبة في اللغة: اسم مصدر من عاقب يعاقب عقاباً ومعاقبة، وهي الجزاء على الفعل السيئ(1)، وعرفت في الاصطلاح بأنها: الجزاء المقرر على مخالفة الشرع بانتهاك حق الله - تعالى -، حداً كان أو كفارة أو تعزيراً(2).
أنواع العقوبة:
العقوبة في العرف الفقهي: اسم جنس تشمل مصطلحات شرعية ثلاثة كل منها عقوبة شرعية، هي: الحد، والتعزير، والكفارة(3).
معنى التعزير:
التعزير في لغة العرب من عزره يعزره، مخففاً، ويشدد، والعزر: الرد والمنع، ولذا أطلق على التأديب؛ لأنه يمنع المؤدب من الرجوع إلى الخطأ، ويطلق التعزير على النصرة، كما قال - تعالى -: وآمنتم برسلي وعزرتموهم(12) {المائدة: 12}؛ لأن من نصر إنساناً فقد رد عنه أعداءه ومنعهم من أذاه(4).
والتعزير في الاصطلاح: "التأديب في معصية، لا حد فيها ولا كفارة"(5).
موجب التعزير:
موجب التعزير: "كل جناية أو جريمة(6) لا حد فيها ولا كفارة"(7).
والتعزير قد يكون حقاً خالصاً لله - تعالى -، وقد يكون حقاً خالصاً للآدميين، وقد يكون في فعل فيه حق الله وحق الخلق.
خصائص التعزير:
تتميز التعازير عن عقوبة الحد وبقية العقوبات الشرعية الأخرى بأمور أذكر منها ما يلي:
1- أنها غير محددة شرعاً بمقدار معين ولا بنوع معين، وإنما فوض تقديرها إلى اجتهاد من يقيمها ممن هو أهل للاجتهاد من القضاة الشرعيين.
2- أنها تختلف باختلاف الناس شرفاً وضعة، كبراً وصغراً، مهابة وحقارة، والحدود لا تختلف باختلاف فاعلها. يقول القرافي: "لابد في التعزير من اعتبار مقدار الجناية والجاني والمجني عليه"(8).
3- أنها لا تسقط بالشبهات، كما نص عليه الزركشي في: المنثور قائلاً: "لا تسقط التعزيرات بالشبهة".
4- أنها تابعة للمفاسد سواء كانت جنايات أو جرائم، وسواء كانت معاصي أو مجرد مفاسد، أما الحدود فإنها باستقراء أفرادها في الشرع لم توجد إلا في معصية، كما بينه القرافي(9).
5- سعة مجالها من حيث السبب الموجب لها، وتقديرها، وعموم من تقع عليه.
6- مناسبتها للجناية قدراً ونوعاً وصفة، ولذلك تتفاوت بتفاوت الجناية، يقول العز بن عبد السلام - رحمه الله -: "وأما التعزيرات فزواجر عن ذنوب لم تشرع فيها حدود ولا كفارات، وهي متفاوتة بتفاوت الذنوب في القبح والأذى"(10). وقال ابن تيمية - بعد أن عدد بعض الجرائم التعزيرية -: "فهؤلاء يعاقبون تعزيراً وتنكيلاً وتأديباً بقدر ما يراه الوالي على حسب كثرة ذلك الذنب في الناس وقلته، فإذا كان كثيراً زاد في العقوبة، بخلاف ما إذا كان قليلاً، وعلى حسب حال المذنب، فإذا كان من المدمنين على الفجور زيد في عقوبته بخلاف المقل من ذلك، وعلى حسب كبر الذنب وصغره، فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولادهم بما لا يعاقب من لم يتعرض إلا لمرأة واحدة، أو صبي واحد"(11).
7- دخول التخيير فيها، بخلاف الحدود، حاشا حد الحرابة(12).
المحور الثاني: في السجن.
تعريف السجن:
السجن في اللغة: بفتح السين مصدر سجن، وهو نفس الحبس الواقع على الشخص المحكوم عليه، وبكسر السين: اسم للمكان الذي يسجن فيه، وقرئ قوله - تعالى -: قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه 33 {يوسف: 33} بالكسر على الموضع، وبالفتح على المصدر، ومادة الحبس تدل على المنع(13).
وأما السجن في اصطلاح الفقهاء فإن طائفة من الباحثين المعاصرين(14) ذكروا - حسب اطلاعهم - أن أول من عرف السجن اصطلاحاً هو شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن كل من أتى بعده نقل التعريف عنه، لكني اطلعت على أن ابن حزم سبق ابن تيمية؛ حيث ذكر تعريف السجن في كتابه الإحكام فقال(15): "السجن: منع المسجون من الأذى للناس أو من الفرار بحق لزمه وهو قادر على أدائه".
وتعريف ابن تيمية ذكره بقوله: "الحبس الشرعي: ليس هو السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه سواء كان في بيت أو مسجد، أو كان بتوكيل نفس الخصم أو وكيل الخصم عليه"(16).
ومصطلح السجن له مدلول في العرف الفقهي، هو ما دل عليه تعريف ابن حزم وابن تيمية، وهو بهذا العرف أعم من أن يكون في مكان معد لذلك سلفاً أو في أي مكان.
وله مدلول في العرف المعاصر، يسبق إلى الذهن عند الإطلاق، وهو معنى يشارك المدلول الذي ذكره الفقهاء المتقدمون إلا أنه أخص منه، ويمكن أن يعرف بالمدلول المعاصر بأنه: "حبس في مكان مخصوص عن طريق السلطة القائمة" وقد صيغت له عدة تعاريف معاصرة اقتصرت على هذه النظرة"(17).
والمراد بالسجن في هذا البحث الإطلاق المعاصر وهو الحبس في المكان المعروف.
خصائص السجن:
أريد بخصائص السجن القيود التي تضمنها تعريفه، والأوصاف التي تميزه - غالباً - عن بقية العقوبات التعزيرية، ومن ذلك ما يلي:
1- إعاقة المسجون عن التصرف المطلق بنفسه.
وهذه الخاصية واضحة من تعريف السجن وواقعه؛ فإن السجن بأي إطلاق كان، يلازمه المنع من التصرف بالنفس.
2- الإهانة والإذلال في الظاهر.
دل العرف على أن السجن مكان للإهانة والذل الظاهر، ولذا قالت امرأة العزيز: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم 25 {يوسف: 25}، ولو لم يكن مكاناً للإهانة الظاهرة ما قابلته بالعمل الذي وصفته بالسوء، قال البقاعي: السجن سبب ظاهر في الإهانة(18).
3- منعه من مخالطة الآخرين مخالطة مطلقة ومنع الآخرين من مخالطته:
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض حديثه عن نفي المحارب من الأرض: بأن السجن المشروع يتضمن منع المسجون من مخالطة الناس، ومنع الناس من مخالطته(19).
أنواع السجن:
يمكن أن يقسم السجن إلى أنواع تبعاً لتعدد حيثيات التقسيم.
فمن حيث كونه مقصوداً لذاته بوصفه عقوبة تعزيرية، أو كونه تمهيداً لعقوبة أخرى محددة شرعاً، ينقسم قسمين:
الأول: سجن مقصود لذاته.
الثاني: سجن يكون تمهيداً ووسيلة إلى غيره من العقوبات المحددة شرعاً، من باب: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
وبالنظر إلى مدته: قسم قسمان (20): سجن محدد المدة، سجن دائم.
ويظهر من تصرفات أهل العلم أن محدد المدة يمكن تقسيمه إلى نوعين:
محدد بمدة زمنية معلومة. معلق على صفة تقوم بالمسجون. ذلك أنهم كثيراً ما يعلقون نهاية السجن بصفة تتعلق بالمسجون، كقول الطبري(21): "معنى النفي من الأرض في هذا الموضع: هو نفيه من بلد إلى بلد غيره، وحبسه في السجن في البلد الذي نفي إليه، حتى تظهر توبته من فسوقه ونزوعه عن معصيته ربه". وهو كثير في كلام الفقهاء، يقولون: حتى يتوب، أو حتى يحضر الخصم، أو حتى يفصل في القضية.
الحكمة من مشروعية السجن:
الحكمة من شرع السجن هي الحكمة من شرع العقوبات التعزيرية بصفة عامة؛ إذ هو فرد من أفرادها، والعقوبات إنما شرعت للمحافظة على نظام الكون بحفظ مصالح الخلق التي لا تقوم حياتهم إلا بإيجادها وتأمينها، ودفع الفساد والإفساد عنها.
والجرائم والجنايات لا تنعدم إلا بإقامة العقوبات من حدود وقصاص وتعزيرات؛ ولذا حرم - سبحانه - الجرائم والجنايات، وأوجب العقوبات، وأوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالقصد من السجن: الردع، والزجر، وحفظ الأمن، والمصالح العامة، وليس الانتقام، والتشفي، أو الإيذاء، والإضرار.
طبيعة السجن في الإسلام:
طبيعة السجن أنه عقوبة تعزيرية إصلاحية ليست محتمة في كل حال، وليس وسيلة إيذاء وانتقام.
المحور الثالث: بدائل السجن:
معنى بدائل السجن:
البدائل: جمع: بديل، على غير القياس الصرفي؛ والبديل في اللغة: ما يخلف الشيء ويقوم مقامه(22).
وبدائل السجن مصطلح لم يتعرض له الفقهاء؛ ولذا لم يوجد له تعريف في كتبهم - حسب اطلاعي - وقد عرفه من أعد مشروع بدائل السجن المقترح في وزارة العدل المملكة العربية السعودية بأنه: "مجموعة من التدابير التي تحل محل عقوبة السجن وتعمل على تطبيق سياسة منع الجريمة"(23).
ويمكن الإتيان بتعريف قريب إلى تصرفات الفقهاء فيقال: بدائل السجن اصطلاحاً: "ما يحل محل السجن في تحقيق المصلحة الشرعية للفرد والجماعة من عقوبات التعزير".
مشروعية بدائل السجن:
بدائل السجن لها حكم التعزير؛ إذ هي أفراد داخلة تحت اسمه، والأصل في التعزير ثبوت شرعيته إجمالاً من الكتاب والسنة والإجماع، ويزيد طائفة من الأصوليين في مشروعية السجن أنه من باب المصلحة المرسلة، ويسندون اتخاذ الصحابة مكاناً معيناً للسجن إلى المصلحة المرسلة؛ إذ لم يكن عندهم في ذلك نص خاص قولي أو فعلي(24).
سبب التطرق إلى البدائل:
يفهم من لفظ: (البديل) لغة وعرفاً أنه عوض عن مبدل عنه، فالمبدل عنه أصل مستقر يأتي البديل خلفاً ونائباً له، ولم يتطرق متقدمو الفقهاء - حسب إطلاعي - للبحث عن قضية بدائل السجن؛ لأن السجن كان ينظر إليه على أنه أحد أفراد العقوبات التعزيرية، ولم يتقرر كونه أصلاً في العقوبات، ولم ينحصر التعزير فيه حتى يبحث له عن بديل، بل إنه بصفته فرداً من أفراد التعزير يصح أن يوصف بأنه بديل عن غيره أحياناً.
فالبحث عن بدائل السجن دليل على سبقه في باب العقوبات، وطغيان استعماله سواء كان استعمالاً مشروعاً أو غير مشروع.
ويبدو لي أن السبب في إثارة البحث عن بدائل للسجن في العصور المتأخرة، أمور منها ما يلي:
1- طغيان استعمال السجن على جل الجرائم؛ حتى أصبح التعزير منحصراً فيه غالباً.
2- التنبه إلى بعض العيوب الجسيمة للسجن وعدم تحقيقه للمصلحة المقصودة من تشريع العقوبات التعزيرية؛ ولذا عقدت مؤتمرات دولية ومحلية لدراسة أوضاع السجون وإصلاحها.
ومن العيوب التي ذكرت للسجن(25): ما يحصل للمسجون من نتائج اختلاطه بالمسجونين الذين يغلب على بعضهم الفساد والإفساد، فهو إن كان صالحاً قد يفسد، وإن غير ذلك قد يفسد غيره؛ لما علم من قوة تأثير الخلطة في الأخلاق سلباً وإيجاباً.
3- توافر بدائل للسجن، تقوم مقامه - أحياناً - مع تجنب عيوبه.
4- عدم تحقيقه - إما مطلقاً أو غالباً - للغاية التي من أجلها شرع السجن وفتحت السجون، وهي إصلاح الجاني وحماية المجتمع.
نماذج من بدائل السجن:
عنونت هذه المسألة بنماذج؛ لأن بدائل السجن نوع من أنواع العقوبات التعزيرية، ومن طبيعة التعزير أن تحديده وتقديره وتعيينه مفوض إلى اجتهاد الحاكم المتأهل لذلك.
ويترتب على ذلك أمور، منها:
1- أن السجن ليس ضربة لازب يتحتم الحكم به في كل قضية لا حد فيها ولا كفارة، بل هو فرد من أفراد التعزير، قد يختاره الحاكم وقد يختار غيره.
2- أنه من الطبيعي أن يكون للسجن بديل يقوم مقامه ويحقق غايته.
3- أن الأصل في بدائل السجن عدم حصرها؛ نظراً لتبعيتها لاجتهاد من هو أهل للاجتهاد من القضاة من ناحية، وارتباطها بتحقيق المصلحة الشرعية المقصودة من تشريع العقوبات من ناحية أخرى.
4- أن كل فرد من أفراد التعزير يصلح أن يكون بديلاً عن السجن، إذا توافرت فيه شروط البدلية، وانتفت عنه الموانع الشرعية.
وبناء على ما سبق فليس أمام الباحث إلا أن يذكر نماذج، ومن حاول حصرها فقد جاوز الصواب.
ومن النماذج التي يمكن أن تذكر: الجلد، والحرمان من ممارسة بعض التصرفات، والعزل عن العمل، والإقامة الجبرية في المنزل، وتكليف الجاني بعمل يراه القاضي، وسحب الأوراق الرسمية (جواز السفر)، إلى غير ذلك.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - جملة من البدائل بقوله: "قد يعزر الرجل بوعظه وتوبيخه، والإغلاظ له، وقد يعزر بهجره وترك السلام عليه حتى يتوب....وقد يعزر بعزله عن ولايته... وقد يعزر بترك استخدامه في جند المسلمين... وقد يعزر بالحبس، وقد يعزر بالضرب، وقد يعزر بتسويد وجهه وإركابه على دابة مقلوباً"(26).
شروط إقامة البدائل:
ملاحظة تحقق الشروط لترتب آثار تصرفات المكلفين، من القضايا العلمية التي ينبغي التنبه إليها؛ إذ هي سارية في كثير من المجالات العلمية والعملية، ومع ذلك يغفل عنها كثيراً، ويترتب على هذه الغفلة خلل يجل ويصغر بحسب الحال. يقول العز بن عبد السلام: "كل تصرف جالب لمصلحة أو دارئ لمفسدة، فقد شرع الله فيه من الأركان والشرائط ما يحصل تلك المصالح المقصودة الجلب بشرعه، أو يدرأ المفاسد المقصودة الدرء بوضعه"(27).
ومن الشروط التي يجب توافرها لمشروعية الأخذ ببدائل السجن ما يلي:
1- أن يكون البديل محققاً للمصلحة المقصودة من شرع التعزير:
وبيان ذلك أن البديل قد تتجاذبه المصالح البشرية الشخصية، إلا أنه لا يكون بديلاً شرعياً إلا إذا كان محققاً للمصلحة الشرعية، يقول القرافي: "متى قلنا الإمام مخير في التعزير فمعناه أن ما تعين سببه ومصلحته وجب عليه فعله ويأثم بتركه، فهو أبداً ينتقل من واجب إلى واجب كما ينتقل المكفر في كفارة الحنث من واجب إلى واجب...، والإمام يتحتم في حقه ما أدت المصلحة إليه، لا أن هاهنا إباحة ألبتة، ولا أنه يحكم في التعازير بهواه وإرادته كيف خطر له، وله أن يعرض عما شاء ويقبل منها ما شاء، هذا فسوق وخلاف الإجماع"(28).
2- أن يكون المحل قابلاً لإقامة البديل في حقه:
الجناة ليسوا في درجة واحدة ولا على وصف واحد، فبعضهم يكون فيه وصف يوجب تخفيف العقوبة كالمرض والصغر والكبر، وعدم قصد الجناية، وكونه امرأة، كما يتصف بعضهم بوصف موجب للتشديد كتكرر الجريمة منه، أو كونه قاصداً للجريمة، أو مماطلاً للحق مع قدرته على السداد. الخ.
3- أن لا يكون في البديل ضرر أكبر من ضرر السجن.
مع ما في السجن من مصالح متعددة؛ فإنه قد تنتج عنه أضرار، وقد يغلب ضرر السجن أحياناً على مصلحته، كما أن البديل أيضاً قد يكون فيه ضرر أشد من ضرر السجن، وإذا لم يكن بد من ارتكاب الضرر فالقاعدة الفقهية تقضي بارتكاب أخف الضررين، وإلغاء ما فيه ضرر أشد.
4- أن لا يوجد مانع من تطبيق البديل على المحكوم عليه.
القواعد والضوابط الفقهية التي تتخرج عليها بدائل السجن:
هناك عدد من القواعد الفقهية التي يمكن أن تسند إليها بدائل السجن نظراً وتطبيقاً، ومن هذه القواعد ما يلي:
القاعدة الأولى: كل تصرف لا يترتب عليه مقصوده لا يشرع ويبطل إن وقع"(29):
التصرف المحكوم عليه في هذه القاعدة يدخل تحته كل تصرف سواء كان تصرفاً مالياً أم تصرفاً غير مالي كالحد والتعزير، وغيرهما، والسجن تصرف من تصرفات الولاة، وإذا لم يحقق المقصود منه فإنه لا يجوز الأخذ به بل يعد الأخذ به حينئذ محرماً شرعاً، ويترتب على ذلك أن يؤخذ ببدائله.
وقد علم أيضاً أن السجن جنس واحد، وأن الجنايات متفاوتة من حيث الجسامة، ومن حيث قصد الجاني وعدم قصده، وتكرار الجناية من عدمها، ومن حيث خطر الجاني، والسجن وحده قد لا يكون محققاً المصلحة المقصودة، ويلزم من هذا إيجاد بدائل للسجن تحقق المصلحة الشرعية المقصودة من تشريع التعزير.
القاعدة الثانية: "الأصل ملاءمة العقوبات التعزيرية للجنايات"(30).
بناء على هذا الأصل مع ما عرف من أن السجن لا يلائم كل الجنايات، فإن إقامة بدائل للسجن أمر لا بد منه.
القاعدة الثالثة: مهما حصل التأديب بالأخف من الأفعال والأقوال والحبس والاعتقال لم يعدل إلى الأغلظ؛ إذ هو مفسدة لا فائدة فيه لحصول الغرض بما دونه"(31).
هذا الضابط الذي نص عليه العز ابن عبد السلام، واضح الدلالة على المراد؛ إذ كل فرد من أفراد التعزير ومنها السجن إذا كان غيره أقوم بالمصلحة منه فإنه لا يعدل إلى الأشد الأغلظ.
أنواع بدائل السجن:
تقسم بدائل السجن أقساماً، فمن ذلك:
أنه بالنظر إلى تعينه وعدم تعينه، يمكن أن يقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما يتعين فيه البديل لعدم تحقيق الحبس للمصلحة الشرعية، بأن يكون - مثلا - في الحبس ظلم أو مفسدة ظاهرة للمسجون.
الثاني: ما يتعين فيه الحبس لعدم تحقيق البديل للمصلحة الشرعية، وذلك إذا كان السجن هو الوحيد من بين أفراد التعزير يحقق المقصود، سواء حماية المجتمع، أو إصلاح الجاني، أو حفظ الحقوق وغيرها.
الثالث: ما لا يتعين فيه أحدهما، بل يختار ولي الأمر ما يراه راجحاً من أفراد العقوبات التعزيرية.
وهذا التعين وعدمه قد يكون أساسه صفة قائمة بالشخص المحكوم عليه، تمنع من إقامة البديل في حقه أو تعينه، وقد يكون أساسه نوع القضية وصفتها.
وقد أشار القرافي(32) إلى نماذج من موجبات السجن فذكر منها: حبس الجاني لغيبة المجني عليه حفظاً لمحل القصاص، وحبس الممتنع عن دفع الحق، وحبس الجاني تعزيراً وردعاً عن معاصي الله - تعالى -، وحبس الممتنع في حق الله - تعالى - الذي لا تدخله النيابة كالصوم عند الشافعية، وحبس من أقر بمجهول عين أو بشيء في الذمة، وامتنع من تعيينه فيحبس حتى يعينهما.
ثم أشار إلى ما تتعين فيه البدائل قائلاً: "ولا يجوز الحبس في الحق إذا تمكن الحاكم من استيفائه فإن امتنع من دفع الدين، ونحن نعرف ماله أخذنا منه مقدار الدين، ولا يجوز لنا حبسه، وكذلك إذا ظفرنا بماله أو داره أو شيء يباع له في الدين كان رهناً أم لا فعلنا ذلك، ولا نحبسه لأن في حبسه استمرار ظلمه، ودوام المنكر في الظلم وضرره هو مع إمكان أن لا يبقى شيء من ذلك كله".
ومن ناحية أخرى يقسم البديل إلى قسمين: بديل عن أصل السجن، وبديل عن بعض المدة المقررة.
وبالنظر إلى نسبتها إلى السجن في الشدة والضعف تنقسم إلى بدائل أشد من السجن وبدائل أخف منه.
وبالنظر إلى نوع البديل يقسم إلى بديل مالي وبديل غير مالي، وبديل حسي وبديل معنوي.
______________________
الهوامش:
1- لسان العرب (619/1)، مادة: عقب.
2- التشريع الجنائي الإسلامي، لعبد القادر عودة (609/1).
3- إعلام الموقعين (118/2).
4- النهاية في غريب الحديث (228/3).
5- القواعد الكبرى للعز بن عبد السلام (293/1)، وإعلام الموقعين (118/2)، والتعريفات للجرجاني (85).
6- عرف الماوردي الجريمة اصطلاحاً بأنها: "محظورات شرعية زجر الله - تعالى - عنها بحد أو تعزير" الأحكام السلطانية ص: (273). وأما الجناية فأكثر الفقهاء يخصونها بالأفعال المنهي عنها الواقعة على نفس الإنسان أو أطرافه، لكن ابن رشد في بداية المجتهد (394/2-395)، وغيره، ذكروا أن الجناية تشمل التعدي على النفوس والفروج والأموال والأعراض والعقول.
7- إعلام الموقعين (118/2).
8- الفروق (182/4).
9- الفروق للقرافي (180/4)، والذخيرة له (271/8)، والأشباه والنظائر للسيوطي (748). وقد ترتب على التلازم بين الحد والمعصية أمران: 1- أن الحدود لا تقبل شهادته لأنه ذاهب العدالة. 2- أنه لا يجوز أن يبلغ في التأديب على المفاسد العادية غير المعاصي مبلغ الحد، كتأديب الصبيان والمجانين والبهائم، والتعزير على ما ليس معصية.
10- القواعد الكبرى للعز بن عبدالسلام (293/1).
11- مجموع الفتاوى (343/28).
12- الفروق (182/4).
13- معجم مقاييس اللغة (137/3)، والتعليق على الموطأ في تفسير لغاته للوقشي (33/2)، وعمدة الحفاظ (200/2).
14- السجن وموجباته في الشريعة، للدكتور محمد بن عبد الله الجريوي (37/1).
15- الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (462/2).
16- مجموع الفتاوى لابن تيمية (398/35).
17- انظر بعض هذه التعاريف في: السجن وموجباته للجريوي (40/1-42).
18- نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي (79/10).
19- مجموع الفتاوى (311/15).
20- السجن وموجباته محمد الجريوي (556/1).
21- تفسير الطبري (218/6).
22- القاموس المحيط (1247).
23- مشروع بدائل السجن المقترح، إعداد وزارة العدل بالمملكة العربية السعودية ص: (3).
24- نشر البنود على مراقي السعود (185/2).
25- موجبات السجن محمد الجريوي (139/1-146).
26- مجموع الفتاوى (344/28).
27- القواعد الكبرى (258/2).
28- الفروق للقرافي (182/4).
29- القواعد الكبرى للعز بن عبد السلام (249/2)، والذخيرة للقرافي (341/4)، والفرق(184) من فروق القرافي، والمجموع المذهب للعلائي (346/2).
30- الفروق للقرافي (179/4).
31- القواعد الكبرى (157/2).
32- الفروق للقرافي (79/4-80).
*دكتوراه في أصول الفقه - كلية الشريعة بالرياض.
الطيب السنوسي أحمد
من مزايا الفقه الإسلامي أنه تشريع واقعي، يتعامل مع واقع البشر ويسع جميع تصرفاتهم بأحكامه المنصوصة في الكتاب والسنة، أو المستنبطة منهما بطريق من طرق الاستنباط والاستدلال، وليس منهجاً صورياً بعيداً عن الواقع، ومن هنا وسعت قواعده وضوابطه كل جديد من الأحداث والتصرفات، وعمت بكليتها كل مكان وزمان.
ومن المسائل التي تتخرج على جملة من قواعد الفقه: مسألة بدائل السجن، وهذه دراسة فقهية مختصرة لهذه المسألة، سميتها: "بدائل السجن دراسة فقهية". أسأل الله أن ينفع بها.
وقد جعلت هذه الدراسة في ثلاثة محاور رئيسة هي:
المحور الأول: في بيان معنى العقوبة والتعزير:
وذلك بناء على أن السجن أحد أفراد التعزير، والتعزير أحد أنواع العقوبة الشرعية.
تعريف العقوبة:
العقوبة في اللغة: اسم مصدر من عاقب يعاقب عقاباً ومعاقبة، وهي الجزاء على الفعل السيئ(1)، وعرفت في الاصطلاح بأنها: الجزاء المقرر على مخالفة الشرع بانتهاك حق الله - تعالى -، حداً كان أو كفارة أو تعزيراً(2).
أنواع العقوبة:
العقوبة في العرف الفقهي: اسم جنس تشمل مصطلحات شرعية ثلاثة كل منها عقوبة شرعية، هي: الحد، والتعزير، والكفارة(3).
معنى التعزير:
التعزير في لغة العرب من عزره يعزره، مخففاً، ويشدد، والعزر: الرد والمنع، ولذا أطلق على التأديب؛ لأنه يمنع المؤدب من الرجوع إلى الخطأ، ويطلق التعزير على النصرة، كما قال - تعالى -: وآمنتم برسلي وعزرتموهم(12) {المائدة: 12}؛ لأن من نصر إنساناً فقد رد عنه أعداءه ومنعهم من أذاه(4).
والتعزير في الاصطلاح: "التأديب في معصية، لا حد فيها ولا كفارة"(5).
موجب التعزير:
موجب التعزير: "كل جناية أو جريمة(6) لا حد فيها ولا كفارة"(7).
والتعزير قد يكون حقاً خالصاً لله - تعالى -، وقد يكون حقاً خالصاً للآدميين، وقد يكون في فعل فيه حق الله وحق الخلق.
خصائص التعزير:
تتميز التعازير عن عقوبة الحد وبقية العقوبات الشرعية الأخرى بأمور أذكر منها ما يلي:
1- أنها غير محددة شرعاً بمقدار معين ولا بنوع معين، وإنما فوض تقديرها إلى اجتهاد من يقيمها ممن هو أهل للاجتهاد من القضاة الشرعيين.
2- أنها تختلف باختلاف الناس شرفاً وضعة، كبراً وصغراً، مهابة وحقارة، والحدود لا تختلف باختلاف فاعلها. يقول القرافي: "لابد في التعزير من اعتبار مقدار الجناية والجاني والمجني عليه"(8).
3- أنها لا تسقط بالشبهات، كما نص عليه الزركشي في: المنثور قائلاً: "لا تسقط التعزيرات بالشبهة".
4- أنها تابعة للمفاسد سواء كانت جنايات أو جرائم، وسواء كانت معاصي أو مجرد مفاسد، أما الحدود فإنها باستقراء أفرادها في الشرع لم توجد إلا في معصية، كما بينه القرافي(9).
5- سعة مجالها من حيث السبب الموجب لها، وتقديرها، وعموم من تقع عليه.
6- مناسبتها للجناية قدراً ونوعاً وصفة، ولذلك تتفاوت بتفاوت الجناية، يقول العز بن عبد السلام - رحمه الله -: "وأما التعزيرات فزواجر عن ذنوب لم تشرع فيها حدود ولا كفارات، وهي متفاوتة بتفاوت الذنوب في القبح والأذى"(10). وقال ابن تيمية - بعد أن عدد بعض الجرائم التعزيرية -: "فهؤلاء يعاقبون تعزيراً وتنكيلاً وتأديباً بقدر ما يراه الوالي على حسب كثرة ذلك الذنب في الناس وقلته، فإذا كان كثيراً زاد في العقوبة، بخلاف ما إذا كان قليلاً، وعلى حسب حال المذنب، فإذا كان من المدمنين على الفجور زيد في عقوبته بخلاف المقل من ذلك، وعلى حسب كبر الذنب وصغره، فيعاقب من يتعرض لنساء الناس وأولادهم بما لا يعاقب من لم يتعرض إلا لمرأة واحدة، أو صبي واحد"(11).
7- دخول التخيير فيها، بخلاف الحدود، حاشا حد الحرابة(12).
المحور الثاني: في السجن.
تعريف السجن:
السجن في اللغة: بفتح السين مصدر سجن، وهو نفس الحبس الواقع على الشخص المحكوم عليه، وبكسر السين: اسم للمكان الذي يسجن فيه، وقرئ قوله - تعالى -: قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه 33 {يوسف: 33} بالكسر على الموضع، وبالفتح على المصدر، ومادة الحبس تدل على المنع(13).
وأما السجن في اصطلاح الفقهاء فإن طائفة من الباحثين المعاصرين(14) ذكروا - حسب اطلاعهم - أن أول من عرف السجن اصطلاحاً هو شيخ الإسلام ابن تيمية، وأن كل من أتى بعده نقل التعريف عنه، لكني اطلعت على أن ابن حزم سبق ابن تيمية؛ حيث ذكر تعريف السجن في كتابه الإحكام فقال(15): "السجن: منع المسجون من الأذى للناس أو من الفرار بحق لزمه وهو قادر على أدائه".
وتعريف ابن تيمية ذكره بقوله: "الحبس الشرعي: ليس هو السجن في مكان ضيق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه سواء كان في بيت أو مسجد، أو كان بتوكيل نفس الخصم أو وكيل الخصم عليه"(16).
ومصطلح السجن له مدلول في العرف الفقهي، هو ما دل عليه تعريف ابن حزم وابن تيمية، وهو بهذا العرف أعم من أن يكون في مكان معد لذلك سلفاً أو في أي مكان.
وله مدلول في العرف المعاصر، يسبق إلى الذهن عند الإطلاق، وهو معنى يشارك المدلول الذي ذكره الفقهاء المتقدمون إلا أنه أخص منه، ويمكن أن يعرف بالمدلول المعاصر بأنه: "حبس في مكان مخصوص عن طريق السلطة القائمة" وقد صيغت له عدة تعاريف معاصرة اقتصرت على هذه النظرة"(17).
والمراد بالسجن في هذا البحث الإطلاق المعاصر وهو الحبس في المكان المعروف.
خصائص السجن:
أريد بخصائص السجن القيود التي تضمنها تعريفه، والأوصاف التي تميزه - غالباً - عن بقية العقوبات التعزيرية، ومن ذلك ما يلي:
1- إعاقة المسجون عن التصرف المطلق بنفسه.
وهذه الخاصية واضحة من تعريف السجن وواقعه؛ فإن السجن بأي إطلاق كان، يلازمه المنع من التصرف بالنفس.
2- الإهانة والإذلال في الظاهر.
دل العرف على أن السجن مكان للإهانة والذل الظاهر، ولذا قالت امرأة العزيز: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم 25 {يوسف: 25}، ولو لم يكن مكاناً للإهانة الظاهرة ما قابلته بالعمل الذي وصفته بالسوء، قال البقاعي: السجن سبب ظاهر في الإهانة(18).
3- منعه من مخالطة الآخرين مخالطة مطلقة ومنع الآخرين من مخالطته:
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض حديثه عن نفي المحارب من الأرض: بأن السجن المشروع يتضمن منع المسجون من مخالطة الناس، ومنع الناس من مخالطته(19).
أنواع السجن:
يمكن أن يقسم السجن إلى أنواع تبعاً لتعدد حيثيات التقسيم.
فمن حيث كونه مقصوداً لذاته بوصفه عقوبة تعزيرية، أو كونه تمهيداً لعقوبة أخرى محددة شرعاً، ينقسم قسمين:
الأول: سجن مقصود لذاته.
الثاني: سجن يكون تمهيداً ووسيلة إلى غيره من العقوبات المحددة شرعاً، من باب: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
وبالنظر إلى مدته: قسم قسمان (20): سجن محدد المدة، سجن دائم.
ويظهر من تصرفات أهل العلم أن محدد المدة يمكن تقسيمه إلى نوعين:
محدد بمدة زمنية معلومة. معلق على صفة تقوم بالمسجون. ذلك أنهم كثيراً ما يعلقون نهاية السجن بصفة تتعلق بالمسجون، كقول الطبري(21): "معنى النفي من الأرض في هذا الموضع: هو نفيه من بلد إلى بلد غيره، وحبسه في السجن في البلد الذي نفي إليه، حتى تظهر توبته من فسوقه ونزوعه عن معصيته ربه". وهو كثير في كلام الفقهاء، يقولون: حتى يتوب، أو حتى يحضر الخصم، أو حتى يفصل في القضية.
الحكمة من مشروعية السجن:
الحكمة من شرع السجن هي الحكمة من شرع العقوبات التعزيرية بصفة عامة؛ إذ هو فرد من أفرادها، والعقوبات إنما شرعت للمحافظة على نظام الكون بحفظ مصالح الخلق التي لا تقوم حياتهم إلا بإيجادها وتأمينها، ودفع الفساد والإفساد عنها.
والجرائم والجنايات لا تنعدم إلا بإقامة العقوبات من حدود وقصاص وتعزيرات؛ ولذا حرم - سبحانه - الجرائم والجنايات، وأوجب العقوبات، وأوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فالقصد من السجن: الردع، والزجر، وحفظ الأمن، والمصالح العامة، وليس الانتقام، والتشفي، أو الإيذاء، والإضرار.
طبيعة السجن في الإسلام:
طبيعة السجن أنه عقوبة تعزيرية إصلاحية ليست محتمة في كل حال، وليس وسيلة إيذاء وانتقام.
المحور الثالث: بدائل السجن:
معنى بدائل السجن:
البدائل: جمع: بديل، على غير القياس الصرفي؛ والبديل في اللغة: ما يخلف الشيء ويقوم مقامه(22).
وبدائل السجن مصطلح لم يتعرض له الفقهاء؛ ولذا لم يوجد له تعريف في كتبهم - حسب اطلاعي - وقد عرفه من أعد مشروع بدائل السجن المقترح في وزارة العدل المملكة العربية السعودية بأنه: "مجموعة من التدابير التي تحل محل عقوبة السجن وتعمل على تطبيق سياسة منع الجريمة"(23).
ويمكن الإتيان بتعريف قريب إلى تصرفات الفقهاء فيقال: بدائل السجن اصطلاحاً: "ما يحل محل السجن في تحقيق المصلحة الشرعية للفرد والجماعة من عقوبات التعزير".
مشروعية بدائل السجن:
بدائل السجن لها حكم التعزير؛ إذ هي أفراد داخلة تحت اسمه، والأصل في التعزير ثبوت شرعيته إجمالاً من الكتاب والسنة والإجماع، ويزيد طائفة من الأصوليين في مشروعية السجن أنه من باب المصلحة المرسلة، ويسندون اتخاذ الصحابة مكاناً معيناً للسجن إلى المصلحة المرسلة؛ إذ لم يكن عندهم في ذلك نص خاص قولي أو فعلي(24).
سبب التطرق إلى البدائل:
يفهم من لفظ: (البديل) لغة وعرفاً أنه عوض عن مبدل عنه، فالمبدل عنه أصل مستقر يأتي البديل خلفاً ونائباً له، ولم يتطرق متقدمو الفقهاء - حسب إطلاعي - للبحث عن قضية بدائل السجن؛ لأن السجن كان ينظر إليه على أنه أحد أفراد العقوبات التعزيرية، ولم يتقرر كونه أصلاً في العقوبات، ولم ينحصر التعزير فيه حتى يبحث له عن بديل، بل إنه بصفته فرداً من أفراد التعزير يصح أن يوصف بأنه بديل عن غيره أحياناً.
فالبحث عن بدائل السجن دليل على سبقه في باب العقوبات، وطغيان استعماله سواء كان استعمالاً مشروعاً أو غير مشروع.
ويبدو لي أن السبب في إثارة البحث عن بدائل للسجن في العصور المتأخرة، أمور منها ما يلي:
1- طغيان استعمال السجن على جل الجرائم؛ حتى أصبح التعزير منحصراً فيه غالباً.
2- التنبه إلى بعض العيوب الجسيمة للسجن وعدم تحقيقه للمصلحة المقصودة من تشريع العقوبات التعزيرية؛ ولذا عقدت مؤتمرات دولية ومحلية لدراسة أوضاع السجون وإصلاحها.
ومن العيوب التي ذكرت للسجن(25): ما يحصل للمسجون من نتائج اختلاطه بالمسجونين الذين يغلب على بعضهم الفساد والإفساد، فهو إن كان صالحاً قد يفسد، وإن غير ذلك قد يفسد غيره؛ لما علم من قوة تأثير الخلطة في الأخلاق سلباً وإيجاباً.
3- توافر بدائل للسجن، تقوم مقامه - أحياناً - مع تجنب عيوبه.
4- عدم تحقيقه - إما مطلقاً أو غالباً - للغاية التي من أجلها شرع السجن وفتحت السجون، وهي إصلاح الجاني وحماية المجتمع.
نماذج من بدائل السجن:
عنونت هذه المسألة بنماذج؛ لأن بدائل السجن نوع من أنواع العقوبات التعزيرية، ومن طبيعة التعزير أن تحديده وتقديره وتعيينه مفوض إلى اجتهاد الحاكم المتأهل لذلك.
ويترتب على ذلك أمور، منها:
1- أن السجن ليس ضربة لازب يتحتم الحكم به في كل قضية لا حد فيها ولا كفارة، بل هو فرد من أفراد التعزير، قد يختاره الحاكم وقد يختار غيره.
2- أنه من الطبيعي أن يكون للسجن بديل يقوم مقامه ويحقق غايته.
3- أن الأصل في بدائل السجن عدم حصرها؛ نظراً لتبعيتها لاجتهاد من هو أهل للاجتهاد من القضاة من ناحية، وارتباطها بتحقيق المصلحة الشرعية المقصودة من تشريع العقوبات من ناحية أخرى.
4- أن كل فرد من أفراد التعزير يصلح أن يكون بديلاً عن السجن، إذا توافرت فيه شروط البدلية، وانتفت عنه الموانع الشرعية.
وبناء على ما سبق فليس أمام الباحث إلا أن يذكر نماذج، ومن حاول حصرها فقد جاوز الصواب.
ومن النماذج التي يمكن أن تذكر: الجلد، والحرمان من ممارسة بعض التصرفات، والعزل عن العمل، والإقامة الجبرية في المنزل، وتكليف الجاني بعمل يراه القاضي، وسحب الأوراق الرسمية (جواز السفر)، إلى غير ذلك.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - جملة من البدائل بقوله: "قد يعزر الرجل بوعظه وتوبيخه، والإغلاظ له، وقد يعزر بهجره وترك السلام عليه حتى يتوب....وقد يعزر بعزله عن ولايته... وقد يعزر بترك استخدامه في جند المسلمين... وقد يعزر بالحبس، وقد يعزر بالضرب، وقد يعزر بتسويد وجهه وإركابه على دابة مقلوباً"(26).
شروط إقامة البدائل:
ملاحظة تحقق الشروط لترتب آثار تصرفات المكلفين، من القضايا العلمية التي ينبغي التنبه إليها؛ إذ هي سارية في كثير من المجالات العلمية والعملية، ومع ذلك يغفل عنها كثيراً، ويترتب على هذه الغفلة خلل يجل ويصغر بحسب الحال. يقول العز بن عبد السلام: "كل تصرف جالب لمصلحة أو دارئ لمفسدة، فقد شرع الله فيه من الأركان والشرائط ما يحصل تلك المصالح المقصودة الجلب بشرعه، أو يدرأ المفاسد المقصودة الدرء بوضعه"(27).
ومن الشروط التي يجب توافرها لمشروعية الأخذ ببدائل السجن ما يلي:
1- أن يكون البديل محققاً للمصلحة المقصودة من شرع التعزير:
وبيان ذلك أن البديل قد تتجاذبه المصالح البشرية الشخصية، إلا أنه لا يكون بديلاً شرعياً إلا إذا كان محققاً للمصلحة الشرعية، يقول القرافي: "متى قلنا الإمام مخير في التعزير فمعناه أن ما تعين سببه ومصلحته وجب عليه فعله ويأثم بتركه، فهو أبداً ينتقل من واجب إلى واجب كما ينتقل المكفر في كفارة الحنث من واجب إلى واجب...، والإمام يتحتم في حقه ما أدت المصلحة إليه، لا أن هاهنا إباحة ألبتة، ولا أنه يحكم في التعازير بهواه وإرادته كيف خطر له، وله أن يعرض عما شاء ويقبل منها ما شاء، هذا فسوق وخلاف الإجماع"(28).
2- أن يكون المحل قابلاً لإقامة البديل في حقه:
الجناة ليسوا في درجة واحدة ولا على وصف واحد، فبعضهم يكون فيه وصف يوجب تخفيف العقوبة كالمرض والصغر والكبر، وعدم قصد الجناية، وكونه امرأة، كما يتصف بعضهم بوصف موجب للتشديد كتكرر الجريمة منه، أو كونه قاصداً للجريمة، أو مماطلاً للحق مع قدرته على السداد. الخ.
3- أن لا يكون في البديل ضرر أكبر من ضرر السجن.
مع ما في السجن من مصالح متعددة؛ فإنه قد تنتج عنه أضرار، وقد يغلب ضرر السجن أحياناً على مصلحته، كما أن البديل أيضاً قد يكون فيه ضرر أشد من ضرر السجن، وإذا لم يكن بد من ارتكاب الضرر فالقاعدة الفقهية تقضي بارتكاب أخف الضررين، وإلغاء ما فيه ضرر أشد.
4- أن لا يوجد مانع من تطبيق البديل على المحكوم عليه.
القواعد والضوابط الفقهية التي تتخرج عليها بدائل السجن:
هناك عدد من القواعد الفقهية التي يمكن أن تسند إليها بدائل السجن نظراً وتطبيقاً، ومن هذه القواعد ما يلي:
القاعدة الأولى: كل تصرف لا يترتب عليه مقصوده لا يشرع ويبطل إن وقع"(29):
التصرف المحكوم عليه في هذه القاعدة يدخل تحته كل تصرف سواء كان تصرفاً مالياً أم تصرفاً غير مالي كالحد والتعزير، وغيرهما، والسجن تصرف من تصرفات الولاة، وإذا لم يحقق المقصود منه فإنه لا يجوز الأخذ به بل يعد الأخذ به حينئذ محرماً شرعاً، ويترتب على ذلك أن يؤخذ ببدائله.
وقد علم أيضاً أن السجن جنس واحد، وأن الجنايات متفاوتة من حيث الجسامة، ومن حيث قصد الجاني وعدم قصده، وتكرار الجناية من عدمها، ومن حيث خطر الجاني، والسجن وحده قد لا يكون محققاً المصلحة المقصودة، ويلزم من هذا إيجاد بدائل للسجن تحقق المصلحة الشرعية المقصودة من تشريع التعزير.
القاعدة الثانية: "الأصل ملاءمة العقوبات التعزيرية للجنايات"(30).
بناء على هذا الأصل مع ما عرف من أن السجن لا يلائم كل الجنايات، فإن إقامة بدائل للسجن أمر لا بد منه.
القاعدة الثالثة: مهما حصل التأديب بالأخف من الأفعال والأقوال والحبس والاعتقال لم يعدل إلى الأغلظ؛ إذ هو مفسدة لا فائدة فيه لحصول الغرض بما دونه"(31).
هذا الضابط الذي نص عليه العز ابن عبد السلام، واضح الدلالة على المراد؛ إذ كل فرد من أفراد التعزير ومنها السجن إذا كان غيره أقوم بالمصلحة منه فإنه لا يعدل إلى الأشد الأغلظ.
أنواع بدائل السجن:
تقسم بدائل السجن أقساماً، فمن ذلك:
أنه بالنظر إلى تعينه وعدم تعينه، يمكن أن يقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما يتعين فيه البديل لعدم تحقيق الحبس للمصلحة الشرعية، بأن يكون - مثلا - في الحبس ظلم أو مفسدة ظاهرة للمسجون.
الثاني: ما يتعين فيه الحبس لعدم تحقيق البديل للمصلحة الشرعية، وذلك إذا كان السجن هو الوحيد من بين أفراد التعزير يحقق المقصود، سواء حماية المجتمع، أو إصلاح الجاني، أو حفظ الحقوق وغيرها.
الثالث: ما لا يتعين فيه أحدهما، بل يختار ولي الأمر ما يراه راجحاً من أفراد العقوبات التعزيرية.
وهذا التعين وعدمه قد يكون أساسه صفة قائمة بالشخص المحكوم عليه، تمنع من إقامة البديل في حقه أو تعينه، وقد يكون أساسه نوع القضية وصفتها.
وقد أشار القرافي(32) إلى نماذج من موجبات السجن فذكر منها: حبس الجاني لغيبة المجني عليه حفظاً لمحل القصاص، وحبس الممتنع عن دفع الحق، وحبس الجاني تعزيراً وردعاً عن معاصي الله - تعالى -، وحبس الممتنع في حق الله - تعالى - الذي لا تدخله النيابة كالصوم عند الشافعية، وحبس من أقر بمجهول عين أو بشيء في الذمة، وامتنع من تعيينه فيحبس حتى يعينهما.
ثم أشار إلى ما تتعين فيه البدائل قائلاً: "ولا يجوز الحبس في الحق إذا تمكن الحاكم من استيفائه فإن امتنع من دفع الدين، ونحن نعرف ماله أخذنا منه مقدار الدين، ولا يجوز لنا حبسه، وكذلك إذا ظفرنا بماله أو داره أو شيء يباع له في الدين كان رهناً أم لا فعلنا ذلك، ولا نحبسه لأن في حبسه استمرار ظلمه، ودوام المنكر في الظلم وضرره هو مع إمكان أن لا يبقى شيء من ذلك كله".
ومن ناحية أخرى يقسم البديل إلى قسمين: بديل عن أصل السجن، وبديل عن بعض المدة المقررة.
وبالنظر إلى نسبتها إلى السجن في الشدة والضعف تنقسم إلى بدائل أشد من السجن وبدائل أخف منه.
وبالنظر إلى نوع البديل يقسم إلى بديل مالي وبديل غير مالي، وبديل حسي وبديل معنوي.
______________________
الهوامش:
1- لسان العرب (619/1)، مادة: عقب.
2- التشريع الجنائي الإسلامي، لعبد القادر عودة (609/1).
3- إعلام الموقعين (118/2).
4- النهاية في غريب الحديث (228/3).
5- القواعد الكبرى للعز بن عبد السلام (293/1)، وإعلام الموقعين (118/2)، والتعريفات للجرجاني (85).
6- عرف الماوردي الجريمة اصطلاحاً بأنها: "محظورات شرعية زجر الله - تعالى - عنها بحد أو تعزير" الأحكام السلطانية ص: (273). وأما الجناية فأكثر الفقهاء يخصونها بالأفعال المنهي عنها الواقعة على نفس الإنسان أو أطرافه، لكن ابن رشد في بداية المجتهد (394/2-395)، وغيره، ذكروا أن الجناية تشمل التعدي على النفوس والفروج والأموال والأعراض والعقول.
7- إعلام الموقعين (118/2).
8- الفروق (182/4).
9- الفروق للقرافي (180/4)، والذخيرة له (271/8)، والأشباه والنظائر للسيوطي (748). وقد ترتب على التلازم بين الحد والمعصية أمران: 1- أن الحدود لا تقبل شهادته لأنه ذاهب العدالة. 2- أنه لا يجوز أن يبلغ في التأديب على المفاسد العادية غير المعاصي مبلغ الحد، كتأديب الصبيان والمجانين والبهائم، والتعزير على ما ليس معصية.
10- القواعد الكبرى للعز بن عبدالسلام (293/1).
11- مجموع الفتاوى (343/28).
12- الفروق (182/4).
13- معجم مقاييس اللغة (137/3)، والتعليق على الموطأ في تفسير لغاته للوقشي (33/2)، وعمدة الحفاظ (200/2).
14- السجن وموجباته في الشريعة، للدكتور محمد بن عبد الله الجريوي (37/1).
15- الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (462/2).
16- مجموع الفتاوى لابن تيمية (398/35).
17- انظر بعض هذه التعاريف في: السجن وموجباته للجريوي (40/1-42).
18- نظم الدرر في تناسب الآيات والسور للبقاعي (79/10).
19- مجموع الفتاوى (311/15).
20- السجن وموجباته محمد الجريوي (556/1).
21- تفسير الطبري (218/6).
22- القاموس المحيط (1247).
23- مشروع بدائل السجن المقترح، إعداد وزارة العدل بالمملكة العربية السعودية ص: (3).
24- نشر البنود على مراقي السعود (185/2).
25- موجبات السجن محمد الجريوي (139/1-146).
26- مجموع الفتاوى (344/28).
27- القواعد الكبرى (258/2).
28- الفروق للقرافي (182/4).
29- القواعد الكبرى للعز بن عبد السلام (249/2)، والذخيرة للقرافي (341/4)، والفرق(184) من فروق القرافي، والمجموع المذهب للعلائي (346/2).
30- الفروق للقرافي (179/4).
31- القواعد الكبرى (157/2).
32- الفروق للقرافي (79/4-80).
*دكتوراه في أصول الفقه - كلية الشريعة بالرياض.