ابوعبدالعزيز
22-11-2008, 10:30 AM
جريدة الرياض - الجمعة 23 ذي القعدة 1429هـ - 21 نوفمبر 2008م - العدد 14760
لكي يظل لواء العدل مرفوعاً..
محمد عبدالعزيز المحمود / باحث قانوني
حفلت الجلسة الأخيرة لمجلس الشورى بمداخلات صادقة لبعض الأعضاء الذين تكلموا بلسان المجتمع وانتقدوا وسط استغراب شديد ما يتعلق برفض وزارة المالية صرف الاعتماد المالية اللازمة لإنشاء (75 ) محكمة عامة وافقت عليها وزارة العدل وتنفذها خلال فترة خطة التنمية الثامنة بمعدل (15) محكمة في العام الواحد ، وكذلك إنشاء (75) محكمة متخصصة ( عمالية، تجارية، وأحوال شخصية) خلال نفس الفترة بمعدل (15) محكمة سنوياً، وإنشاء (25) كتابة عدل بواقع (5) كتابات عدل سنوياً. بل وطالب بعض الأعضاء بسرعة التحرك لعلاج الإشكالية التي تواجه أجهزة العدالة في المملكة العربية السعودية التي يأتي القضاء على هرمها ؛ إذ لا بد أن تواكب وزارة العدل ما صدر من أنظمة قضائية جديدة ، وأن تعد نفسها لتهيئة العدد الكافي من القضاة ، ومعاونيهم ، مع ضرورة الدعم بالإمكانات والموارد المادية والبشرية .
وعند التأمل في حال الجهات القضائية في المملكة وضعف إمكانياتها في استحداث مبانٍ تليق بسمعة هذا الجهاز الهام لنعجب من عدم التخطيط المناسب للتخلص من تلك المباني المستأجرة منذ عقودٍ من الزمن والتي باتت لا تصلح بأن تكون مكاناً لائقاً بمقرري العدالة وحاملي رايتها .
بل يزداد العجب حين نعلم أن ديوان المظالم الذي أنشئ منذ أكثر من خمسين عاماً لا يملك مقراً واحداً طيلة تلك السنين الماضية !! ، وإنما هو في أجار دائم ، وانتقال مستمر ، ولا أعلم السر في ذلك ، خصوصاً ونحن نرى تطوراً في وزارات أخرى كوزارة التربية والتعليم التي خطت في السنوات الأخيرة خطوات واثقة للتخلص من المباني المستأجرة حتى أنشئت مجمعات تعليمية راقية في قرى وهجر قد لا تتقن نطق اسمها بالشكل الصحيح ولا يتبادر إلى ذهنك معرفة مكانها أفي الشمال أم الجنوب ؟ أم في الشرق أم الغرب ؟ في حين أن ديوان المظالم في العاصمة الرياض يقبع في مبانٍ مستأجرة منذ نصف قرن تقريباً !! .
هذا ما يتعلق بالمباني التي تكون ظاهرةً للعيان ، أما ما يتعلق بوظائف القضاة وأعوانهم فليست من هذا ببعيد ؛ إذ لا يزيد عدد القضاة في المملكة على ألفي قاضٍ ينظرون مئات الألوف من القضايا سنوياً ، ومع ذلك فهم في إنجازٍ مستمر ، وأداءٍ راقٍ يليق بسمعة القضاة في بلاد الحرمين الشريفين ، فنسأل الله لهم التوفيق والإعانة .
وكلنا أملٌ في أن يكون مشروع الملك عبد الله بن عبد العزيز لتطوير مرفق القضاء والذي تم الإعلان عنه إبان صدور نظام القضاء الجديد في 19 / 9 / 1429ه سبباً في تطوير هذا المرفق الهام ، وأن يتم استقطاب الكفاءات المتميزة من باقي قطاعات الدولة – كأساتذة كليات الشريعة المتخصصين في الفقه وأصوله ، والمتميزين من أعضاء هيئة التحقيق والادعاء العام - والتي تنطبق عليهم شروط القضاء ، وأن يتم تأهيلهم التأهيل العملي الجيد ويكونوا سنداً لإخوانهم القضاة ، ورافداً هاماً في إعداد الكوادر المؤهلة لتولي هذه المهنة العظيمة .
كما أننا نأمل من المعهد العالي للقضاء التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أن يواكب هذا المشروع ، وأن يتم تفعيل حلقات النقاش فيه بين مقرري العدالة ورجالها من قضاةٍ ومحققين ورجال ضبط جنائي، وأن تعقد الندوات المستمرة التي يتبادل فيها رجال العدالة همومهم وما يعترضهم من مشكلات، وما توصل له بعضهم من اقتراحات نبعت من واقع عملي، وتطبيق ميداني على أرض الواقع ومعايشة القضايا وواقع المتهمين والمتضررين، ولا أقل من أن يعيّن المعهد العالي للقضاء حالياً مكاناً للتواصل ولو عن طريق الشبكة الإلكترونية ، تُستقبل فيه آراء المختصين وهمومهم واستفساراتهم ويتم الإجابة عنها بعد دراستها من قبل أساتذة المعهد والمتعاونين معهم.
فالمعهد العالي للقضاء عليه مسؤولية كبيرة في متابعة المستجدات النظامية على أرض الواقع ، فينبغي أن يواكب ذلك، وأن يكون مرشداً علمياً نظامياً لاستفسارات مقرري العدالة وحماتها، وأن يخصص الأساتذة فيه جزءاً من وقتهم لدراسة الظواهر القضائية والمستجدات التي قد تُشكل على أصحاب الفضيلة القضاة ، وألا يكتفي الأكاديميون في المعهد بالدراسة النظرية، فلا بد أن يقفوا على القضية بأبعادها على أرض الواقع ؛ بأن يخصصوا جزءاً من وقتهم لحضور جلسات المحاكمة في المحاكم، وجلسات التحقيق في هيئة التحقيق والادعاء العام أو هيئة الرقابة والتحقيق، وقبل ذلك الاطلاع على مرحلة جمع الاستدلالات وما فيها من لحظة استقبال رجال الضبط الجنائي للبلاغ إلى حين الرفع لجهات التحقيق، والنظر في سير الدعوى، والإشكالات التي تحتاج لدراسة.. إذ لن يتقبّل الدارسون كلاماً نظرياً من أستاذٍ ربما لم يقف بنفسه على قضيةٍ بعينها فيكون كلامه نظرياً بعيداً عن الواقع الجاري العمل عليه.
كما نأمل أن يظل لواء العدل مرفوعاً بأن يعاد النظر في الميزات المقدمة للقضاة ، وأن يكون مرفق القضاء بعيداً عن أي مؤثرٍ من المؤثرات التي تعوق سير عمل القاضي وتجعله محتاجاً لغيره من الموظفين والمسئولين ليلبوا له احتياجاته العامة والخاصة ، وأن يحاط القضاء بكل مظاهر الهيبة والتكريم ، وأن يغرس في قلوب الجميع أن هؤلاء الأفراد الذين يقودون زمام المحاكم ، ويقبعون في مجلس الحكم مترئسين ؛ أن هؤلاء هم صوت العدالة التي أمر الله عز وجل بتحقيقها ، وهم الحكم والفصل فيما يعتري الناس في هذه الحياة من خصوماتٍ ومظالم وغيرها ، وهم الملجأ بعده سبحانه لكل منْ انتُهكت حرمته ، واعتُدي على نفسه أو ماله أو عرضه ، فيجب أن يُضمن لهم الاحترام والنفاذ ، وأن تُرفع مكانتهم ، ويُعلى من شأنهم ، وتُغرس في قلوب العامة والخاصة هيبتهم ؛ إحقاقاً للحق ، وإرساءً لقواعد العدل.
إذا تقرر هذا ، فقد علمنا يقيناً أن هؤلاء القضاة الذين تشرّفوا بحمل هذه المهمة العظيمة، يجب أن يستقلوا استقلالاً تاماً عن أي أحد، وأن يستغنوا من أن يحتاجوا لغيرهم في تسيير أمورهم الحياتية الخاصة، ولا يتأتى ذلك إلا حين توفر لهذا القاضي الحد الأدنى - على أقل تقدير - من الأمور التي تكفل له المعيشة الكريمة ، وتضمن له الاستقلالية التامة بعيداً عن عوامل الإغراء التي تعج بها المجتمعات اليوم مع الانفتاح الرهيب ، وتوفرْ السيولة النقدية، وكثرة العوامل التي تنقل الفرد من حياة الكفاف إلى الغنى الفاحش بمجرد صفقةٍ أو صفقتين.
وبلادنا المباركة أولت القضاء والقضاة جلّ اهتمامها ، واعتنت بهم عناية خاصة ، ووفرت لهم الأسباب والوسائل التي تعينهم على النظر في الخصومات باستقلالية ونزاهة تامة، فأجزلت لهم العطايا الشهرية ، وأحاطت القضاء بسياجاتٍ متينة تمنع أصحاب النفوذ - مهما علوا - من أن يتدخلوا في عمل القضاة أو التأثير عليهم بأي نوعٍ من أنواع التأثير، فالقضاة في المملكة العربية السعودية خاضعين لكتاب الله تعالى ، ولسنة نبيه المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم ، ولما صدر من الأنظمة التي لا تتعارض مع الكتاب والسنة ، ولا سلطان لأحد عليهم، وهذا أمرٌ يعرفه القريب والبعيد.
إلا أننا نلحظ أن هناك نقصاً في تلك الحقوق المقررة لأصحاب الفضيلة القضاة والتي يجب أن تتوفر لتضمن لهم الاستقلال التام ، وعدم الحاجة إلى مساعدة الأفراد أو القائمين على الخدمات الحكومية أو الأهلية.
ومن تلك الحقوق : الرعاية الصحية للقضاة وعائلاتهم ، فليس هناك مستشفى يراجع فيه القضاة وعائلاتهم ، ولا أقل من أن يتم التأمين الصحي للقضاة مؤقتاً حتى تشرع الوزارة في إعداد مستشفى خاص بمنسوبيها ،ومن الملفت أيضاً في حال مقرري العدالة وحماتها ، عدم تأمين سكنٍ خاص يليق بهم وبأعمالهم ومكانتهم ، وخصوصاً مَنْ يعيّن منهم خارج مدينته التي نشأ فيها - وهم الغالب - .
ولا أعلم ما السبب في عدم بناء وحدات سكنية في كل محافظة يوجد بها محكمة ويكون ذلك السكن قريباً من المحكمة يؤجّر على القضاة بأسعار رمزية، وخصوصاً وقد جاء النظام الجديد في المادة الثالثة والخمسون منه : بإلزام القضاة بالإقامة في البلد الذي فيه مقر عملهم ، وأنه يجوز للمجلس الأعلى للقضاء لظروف استثنائية أن يرخص للقاضي في الإقامة مؤقتاً في بلد آخر قريب من مقر عمله.
إن القضاء هو الساهر على فرض احترام النظام من طرف الجميع، ودون تمييز بين الأشخاص سواء من حيث العنصر أو اللون أو الجنس، والقضاء هو حامي الأفراد والجماعات من التعسف والظلم والشطط ، وهو الذي يحد من التجاوزات ويوفر العدل الذي يهيأ المناخ السليم لاستقرار الدولة وتقدمها اجتماعياً واقتصادياً وأمنياً، ولذا كان لا بد على القائمين على أمور القضاة من تهيئة المقام المناسب لهم، وتفريغهم التفرغ التام لممارسة عملهم الذي هو من أشرف الأعمال، وعدم جعلهم يحتاجون لأحدٍ في تخليص أمورهم وتعقيب حاجاتهم لأنهم قد يتعرضون خلال هذا الاتصال إلى المحاباة أو الابتزاز، ولا يليق ذلك بمنصب مقرري العدالة وحماتها.
يقول الله تبارك وتعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق ) .
لكي يظل لواء العدل مرفوعاً..
محمد عبدالعزيز المحمود / باحث قانوني
حفلت الجلسة الأخيرة لمجلس الشورى بمداخلات صادقة لبعض الأعضاء الذين تكلموا بلسان المجتمع وانتقدوا وسط استغراب شديد ما يتعلق برفض وزارة المالية صرف الاعتماد المالية اللازمة لإنشاء (75 ) محكمة عامة وافقت عليها وزارة العدل وتنفذها خلال فترة خطة التنمية الثامنة بمعدل (15) محكمة في العام الواحد ، وكذلك إنشاء (75) محكمة متخصصة ( عمالية، تجارية، وأحوال شخصية) خلال نفس الفترة بمعدل (15) محكمة سنوياً، وإنشاء (25) كتابة عدل بواقع (5) كتابات عدل سنوياً. بل وطالب بعض الأعضاء بسرعة التحرك لعلاج الإشكالية التي تواجه أجهزة العدالة في المملكة العربية السعودية التي يأتي القضاء على هرمها ؛ إذ لا بد أن تواكب وزارة العدل ما صدر من أنظمة قضائية جديدة ، وأن تعد نفسها لتهيئة العدد الكافي من القضاة ، ومعاونيهم ، مع ضرورة الدعم بالإمكانات والموارد المادية والبشرية .
وعند التأمل في حال الجهات القضائية في المملكة وضعف إمكانياتها في استحداث مبانٍ تليق بسمعة هذا الجهاز الهام لنعجب من عدم التخطيط المناسب للتخلص من تلك المباني المستأجرة منذ عقودٍ من الزمن والتي باتت لا تصلح بأن تكون مكاناً لائقاً بمقرري العدالة وحاملي رايتها .
بل يزداد العجب حين نعلم أن ديوان المظالم الذي أنشئ منذ أكثر من خمسين عاماً لا يملك مقراً واحداً طيلة تلك السنين الماضية !! ، وإنما هو في أجار دائم ، وانتقال مستمر ، ولا أعلم السر في ذلك ، خصوصاً ونحن نرى تطوراً في وزارات أخرى كوزارة التربية والتعليم التي خطت في السنوات الأخيرة خطوات واثقة للتخلص من المباني المستأجرة حتى أنشئت مجمعات تعليمية راقية في قرى وهجر قد لا تتقن نطق اسمها بالشكل الصحيح ولا يتبادر إلى ذهنك معرفة مكانها أفي الشمال أم الجنوب ؟ أم في الشرق أم الغرب ؟ في حين أن ديوان المظالم في العاصمة الرياض يقبع في مبانٍ مستأجرة منذ نصف قرن تقريباً !! .
هذا ما يتعلق بالمباني التي تكون ظاهرةً للعيان ، أما ما يتعلق بوظائف القضاة وأعوانهم فليست من هذا ببعيد ؛ إذ لا يزيد عدد القضاة في المملكة على ألفي قاضٍ ينظرون مئات الألوف من القضايا سنوياً ، ومع ذلك فهم في إنجازٍ مستمر ، وأداءٍ راقٍ يليق بسمعة القضاة في بلاد الحرمين الشريفين ، فنسأل الله لهم التوفيق والإعانة .
وكلنا أملٌ في أن يكون مشروع الملك عبد الله بن عبد العزيز لتطوير مرفق القضاء والذي تم الإعلان عنه إبان صدور نظام القضاء الجديد في 19 / 9 / 1429ه سبباً في تطوير هذا المرفق الهام ، وأن يتم استقطاب الكفاءات المتميزة من باقي قطاعات الدولة – كأساتذة كليات الشريعة المتخصصين في الفقه وأصوله ، والمتميزين من أعضاء هيئة التحقيق والادعاء العام - والتي تنطبق عليهم شروط القضاء ، وأن يتم تأهيلهم التأهيل العملي الجيد ويكونوا سنداً لإخوانهم القضاة ، ورافداً هاماً في إعداد الكوادر المؤهلة لتولي هذه المهنة العظيمة .
كما أننا نأمل من المعهد العالي للقضاء التابع لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية أن يواكب هذا المشروع ، وأن يتم تفعيل حلقات النقاش فيه بين مقرري العدالة ورجالها من قضاةٍ ومحققين ورجال ضبط جنائي، وأن تعقد الندوات المستمرة التي يتبادل فيها رجال العدالة همومهم وما يعترضهم من مشكلات، وما توصل له بعضهم من اقتراحات نبعت من واقع عملي، وتطبيق ميداني على أرض الواقع ومعايشة القضايا وواقع المتهمين والمتضررين، ولا أقل من أن يعيّن المعهد العالي للقضاء حالياً مكاناً للتواصل ولو عن طريق الشبكة الإلكترونية ، تُستقبل فيه آراء المختصين وهمومهم واستفساراتهم ويتم الإجابة عنها بعد دراستها من قبل أساتذة المعهد والمتعاونين معهم.
فالمعهد العالي للقضاء عليه مسؤولية كبيرة في متابعة المستجدات النظامية على أرض الواقع ، فينبغي أن يواكب ذلك، وأن يكون مرشداً علمياً نظامياً لاستفسارات مقرري العدالة وحماتها، وأن يخصص الأساتذة فيه جزءاً من وقتهم لدراسة الظواهر القضائية والمستجدات التي قد تُشكل على أصحاب الفضيلة القضاة ، وألا يكتفي الأكاديميون في المعهد بالدراسة النظرية، فلا بد أن يقفوا على القضية بأبعادها على أرض الواقع ؛ بأن يخصصوا جزءاً من وقتهم لحضور جلسات المحاكمة في المحاكم، وجلسات التحقيق في هيئة التحقيق والادعاء العام أو هيئة الرقابة والتحقيق، وقبل ذلك الاطلاع على مرحلة جمع الاستدلالات وما فيها من لحظة استقبال رجال الضبط الجنائي للبلاغ إلى حين الرفع لجهات التحقيق، والنظر في سير الدعوى، والإشكالات التي تحتاج لدراسة.. إذ لن يتقبّل الدارسون كلاماً نظرياً من أستاذٍ ربما لم يقف بنفسه على قضيةٍ بعينها فيكون كلامه نظرياً بعيداً عن الواقع الجاري العمل عليه.
كما نأمل أن يظل لواء العدل مرفوعاً بأن يعاد النظر في الميزات المقدمة للقضاة ، وأن يكون مرفق القضاء بعيداً عن أي مؤثرٍ من المؤثرات التي تعوق سير عمل القاضي وتجعله محتاجاً لغيره من الموظفين والمسئولين ليلبوا له احتياجاته العامة والخاصة ، وأن يحاط القضاء بكل مظاهر الهيبة والتكريم ، وأن يغرس في قلوب الجميع أن هؤلاء الأفراد الذين يقودون زمام المحاكم ، ويقبعون في مجلس الحكم مترئسين ؛ أن هؤلاء هم صوت العدالة التي أمر الله عز وجل بتحقيقها ، وهم الحكم والفصل فيما يعتري الناس في هذه الحياة من خصوماتٍ ومظالم وغيرها ، وهم الملجأ بعده سبحانه لكل منْ انتُهكت حرمته ، واعتُدي على نفسه أو ماله أو عرضه ، فيجب أن يُضمن لهم الاحترام والنفاذ ، وأن تُرفع مكانتهم ، ويُعلى من شأنهم ، وتُغرس في قلوب العامة والخاصة هيبتهم ؛ إحقاقاً للحق ، وإرساءً لقواعد العدل.
إذا تقرر هذا ، فقد علمنا يقيناً أن هؤلاء القضاة الذين تشرّفوا بحمل هذه المهمة العظيمة، يجب أن يستقلوا استقلالاً تاماً عن أي أحد، وأن يستغنوا من أن يحتاجوا لغيرهم في تسيير أمورهم الحياتية الخاصة، ولا يتأتى ذلك إلا حين توفر لهذا القاضي الحد الأدنى - على أقل تقدير - من الأمور التي تكفل له المعيشة الكريمة ، وتضمن له الاستقلالية التامة بعيداً عن عوامل الإغراء التي تعج بها المجتمعات اليوم مع الانفتاح الرهيب ، وتوفرْ السيولة النقدية، وكثرة العوامل التي تنقل الفرد من حياة الكفاف إلى الغنى الفاحش بمجرد صفقةٍ أو صفقتين.
وبلادنا المباركة أولت القضاء والقضاة جلّ اهتمامها ، واعتنت بهم عناية خاصة ، ووفرت لهم الأسباب والوسائل التي تعينهم على النظر في الخصومات باستقلالية ونزاهة تامة، فأجزلت لهم العطايا الشهرية ، وأحاطت القضاء بسياجاتٍ متينة تمنع أصحاب النفوذ - مهما علوا - من أن يتدخلوا في عمل القضاة أو التأثير عليهم بأي نوعٍ من أنواع التأثير، فالقضاة في المملكة العربية السعودية خاضعين لكتاب الله تعالى ، ولسنة نبيه المصطفى الكريم صلى الله عليه وسلم ، ولما صدر من الأنظمة التي لا تتعارض مع الكتاب والسنة ، ولا سلطان لأحد عليهم، وهذا أمرٌ يعرفه القريب والبعيد.
إلا أننا نلحظ أن هناك نقصاً في تلك الحقوق المقررة لأصحاب الفضيلة القضاة والتي يجب أن تتوفر لتضمن لهم الاستقلال التام ، وعدم الحاجة إلى مساعدة الأفراد أو القائمين على الخدمات الحكومية أو الأهلية.
ومن تلك الحقوق : الرعاية الصحية للقضاة وعائلاتهم ، فليس هناك مستشفى يراجع فيه القضاة وعائلاتهم ، ولا أقل من أن يتم التأمين الصحي للقضاة مؤقتاً حتى تشرع الوزارة في إعداد مستشفى خاص بمنسوبيها ،ومن الملفت أيضاً في حال مقرري العدالة وحماتها ، عدم تأمين سكنٍ خاص يليق بهم وبأعمالهم ومكانتهم ، وخصوصاً مَنْ يعيّن منهم خارج مدينته التي نشأ فيها - وهم الغالب - .
ولا أعلم ما السبب في عدم بناء وحدات سكنية في كل محافظة يوجد بها محكمة ويكون ذلك السكن قريباً من المحكمة يؤجّر على القضاة بأسعار رمزية، وخصوصاً وقد جاء النظام الجديد في المادة الثالثة والخمسون منه : بإلزام القضاة بالإقامة في البلد الذي فيه مقر عملهم ، وأنه يجوز للمجلس الأعلى للقضاء لظروف استثنائية أن يرخص للقاضي في الإقامة مؤقتاً في بلد آخر قريب من مقر عمله.
إن القضاء هو الساهر على فرض احترام النظام من طرف الجميع، ودون تمييز بين الأشخاص سواء من حيث العنصر أو اللون أو الجنس، والقضاء هو حامي الأفراد والجماعات من التعسف والظلم والشطط ، وهو الذي يحد من التجاوزات ويوفر العدل الذي يهيأ المناخ السليم لاستقرار الدولة وتقدمها اجتماعياً واقتصادياً وأمنياً، ولذا كان لا بد على القائمين على أمور القضاة من تهيئة المقام المناسب لهم، وتفريغهم التفرغ التام لممارسة عملهم الذي هو من أشرف الأعمال، وعدم جعلهم يحتاجون لأحدٍ في تخليص أمورهم وتعقيب حاجاتهم لأنهم قد يتعرضون خلال هذا الاتصال إلى المحاباة أو الابتزاز، ولا يليق ذلك بمنصب مقرري العدالة وحماتها.
يقول الله تبارك وتعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهوائهم عما جاءك من الحق ) .