المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ضوابط النظر في النوازل والمتغيرات في اجتهادات الفقهاء



ابوعبدالعزيز
24-11-2008, 09:35 AM
ضوابط النظر في النوازل والمتغيرات في اجتهادات الفقهاء
د.صالح بن عبدالله بن حميد

مقدمة
لعل من المناسب التقديم بكلمات مختصرة, وإشارات موجزة حول ضوابط النظر في النوازل والمتغيرات في اجتهادات الفقهاء وكلام أهل الأصول - رحمهم الله – مربوطاً ذلك بخوض بعض المعاصرين المنتسبين إلى الثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي, مما يستدعي ترسيخ النظر في الضوابط, وتأكيد ثوابت الشرع المطهر, مع وفائه التام بحاجة البشرية في كل مستجداتها ونوازلها.
نزلت شريعة الإسلام وحياً من عند الله تبارك وتعالى تحمل في أصولها ما يعالج قضايا الإعتقاد ويرسي قواعد العدل والمصلحة, والرحمة في الأحكام واستقامة السلوك.
وخلود الشريعة, وكمالها, وتمام النعمة بها يصدق بنصوصها وأصولها الثوابت منضماً إلى ذلك مجالات الاجتهادات النابعة من أصالة الفكر في تفهم النصوص ومقرراتها, وفي حسن تطبيقها في كل ما يجد في الحياة من وقائع, وما يلم بها من تطورات ومتغيرات بسبب إحداثات الفكر الإنساني, وتلوث البيئات والتحولات في المجتمع وما تقتضيه سنن الله في هذا.
والاجتهاد في تفسير النصوص أو النظر في الوقائع لتنال حكمها في الشرع, كل ذلك طريقه, إما النص في المنصوص عليه, وإما فهم النص فيما لم ينص عليه, ولا يكون ذلك إلا لذي الرأي الحصيف, المدرك لعلم الشرع الشريف.
وفي هذا يقول أبو حامد الغزالي:
"وأشرف العلوم ما ازدوج فيها العقل والسمع, واصطحب فيه الرأي والشرع. وميدان هذا علم أصول الفقه, فإنه يأخذ في هذا سواء السبيل, فلا هو تصرف بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول, ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له عقل بالتأييد والتسديد".
وذلكم هو ميدان الاجتهاد من أجل تحصيل الحكم الشرعي في مسألة غير من منصوصة.
وبتعبير آخر:هو بذل المجهود في طلب المقصود من جهة الاستدلال.
والاجتهاد يشمل الدقة في فهم النص, وفي طريقة تطبيق حكمه, أو في مسلك ذلك التطبيق على ضوء الملاءمة بين ظروف النازلة التي يتناولها النص, والمقصد الذي يستشرفه النص نفسه من تطبيقه.
يوضح ذلك شمس الدين ابن القيم في عبارة سلسة مبيناً نهج الصحابة - رضوان الله عليهم – فيقول:
"...فالصحابة - رضي الله عنهم – مثلوا الوقائع بنظائرها, وشبهوها بأمثالها, وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها, وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد, ونهجوا لهم طريقة, وبينوا لهم سبيلة".
وليس المقصود بالاجتهاد التفكير العقلي المجرد, فهذا ليس منهجاً مشروعاً, بل هو افتئاب على حق الله في التشريع, حتى ولو كان جاداً بعيداً عن الهوى, مادام أنه لم ينطلق من مفاهيم الشرع, ومبادئه, وأصوله, وحقائق تنزيليه, ومثله العليا ومقاصده الأساسية.
ومن أجل هذا فإن نطاق الاجتهاد الشرعي يتمثل في فهم النصوص الشرعية, وتطبيقاتها, ودلالتها, وقواعد الشرع المرعية.
يقول أبو حامد الغزالي:
"اعلم أن العلم في قسمين: أحمدهما شرعي, والآخر عقلي, وأكثر العلوم الشرعية عقلية عند عالمها, وأكثر العلوم العقلية شرعية عند عارفها(ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور).
فالعلوم الشرعية أكثرها عقلي؛لأنه لابد فيها من استعمال طلاقة العقل, وكذلك أكثر العلوم العقلية شرعي عند التحقيق, لأنه لابد من مراعاة قيد الشرع, والجمود والتقليد لا يكونان فقط بالكف عن استعمال العقل, وإنما يكونان أيضاً بالفصل بين ما هو شرعي وما هو عقلي, والاستغناء بأحدهما عن الآخر؛ فعدم استعمال العقل في الشرعي جمود وتحجر, وكذلك عدم الاهتداء بالشرع في العلوم العقلية جمود وتحجر،
لأن الحق الواصل عن طريق الوحي لا يتعارض مع الحق الواصل عن طريق العقل الصحيح بالبحث والنظر".
مصادر التشريع
ومصادر التشريع الأساسية هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس, ثم بعدها مصادر توصف بالمصادر التبعية, أي أنها مبنية على هذه المصادر ومنبثقة منها وفي إطارها لا تعدوها ولا تخرج عنها.
-من أبرز هذه المصادر التبعية وما يتعلق بها:
المصلحة المرسلة, والعرف, والاستحسان, والاحتياط, وسد الذرائع, وقاعدة الضرر والضرورات, وعموم البلوى, والاستصحاب, والبراءة الأصلية, والمقام ليس مقام بسط للحديث عن هذه المصادر كلها.
-وفي مدخل هذا الموضوع يقال:
إن هذه المصادر من العرف, والاستحسان, والمصلحة هي المحك الدقيق والمرتقى الصعب في النظر فيما بسطه علماء الأصول والقواعد - رحمهم الله – حينما بحثوا في أعراف الناس وحاجاتهم وضروراتهم, وأثر المتغيرات والأحداث على استمساكهم بدينهم, وانتظام أمور معايشهم, فكان ذلك معتركاً دقيقاً يجب التثبت فيه على ما سوف يتبين إن شاء الله.
-وعليه فإن الحديث سيكون متناولاً مسألتين رئيسيتين:
أولاهما: استعراض لبعض هذه المصادر التي تعد قواعد أساسية ينبني عليها التغير والتجديد, مع إنهاء الحديث في كل مصدر بما يضبطه بخصوصه.
ثانيتهما: ضوابط عامة في النظر في المتغيرات.
أولاً: استعراض لبعض المصادر في التشريع:
سوف يقتصر الكلام على المصادر التالية:
(المصلحة المرسلة – الاستحسان – سد الذرائع والاحتياط – عموم البلوى – العرف).
1-المصلحة المرسلة:
هي المصلحة التي شهد الشرع لجنسها, بمعنى أنها تدخل تحت أصل شهدت له النصوص في الجملة. وليست هي المصلحة الغريبة التي لم يشهد النصوص لنوعها حتى تكون قياساً, ولا لجنسها حتى تكون استدلالاً مرسلاً, فهذه الأخيرة ليست حجة عند أحد من الأئمة, والغزالي الشافعي, والشاطبي المالكي يحكيان إجماع أهل العلم على رد المصالح الغريبة’ ويُدخلانها في باب الاستحسان الذي رده الشافعي – رحمه الله – وشدد النكير على القائلين به, وهو غير الاستحسان الذي روي عن مالك وأبي حنيفة – رضي الله عنهما – والأخذ به. فهذا الأخير استدلال بنص, أو إجماع, أو عرف, أو مصلحة في مقابلة عموم أو قياس. وهو الذي ستأتي الإشارة إليه.
غير أن الأخذ بالمصلحة المرسلة لابد فيه من أمور:
الأول:أن تكون معقولة بحيث تجري على الأوصاف المناسبة التي إذا عرضت على أهل العقول تلقتها بالقبول.
الثاني:أن يكون الأخذ بها راجعا إلى حفظ أمر ضروري أو رفع حرج لازم في الدين؛ بحيث لو لم يأخذ بالمصلحة المعقولة في موضعها لكان الناس في حرج شديد.
الثالث:الملاءمة بين المصلحة التي تعد أصلاً قائماً بذاته وبين مقاصد الشارع, فلا تنافي أصلاً من أصوله, ولا تعارض دليلاً من أدلته, بل تكون منسجمة مع المصالح التي يقصد الشارع إلى تحصيلها, بأن تكون من جنسها ليست غريبة عنها.
والمصلحة أو الاستصلاح باب واسع ومدخل عريض, قد يدخل منه من لا يفقه في الشريعة ولا يدرك مراميها, ومن أجل هذا منع منه من منع من المجتهدين خشية من هذا الباب.
ومن المقرر والمعلوم أن الشريعة تراعي مصالح العباد, وباب الاجتهاد مفتوح فيما لا نص فيه, ولكن للاجتهاد شروطه وللمصلحة ضوابطها وحدودها.
فليس مرد المصلحة إلى تقرير الناس فيما يكون به الصلاح والفساد, فإذا حسب الناس أن التعامل بالربا – مثلاً – قد بات مصلحة نحتاج إليها, ولا يقوم أمر الناس إلا بها, فهو بمقتضى هذا الضر مصلحة حقيقية, وعلى الشريعة بما التزمته من تحقيق مصالح الناس ورفع الحرج عنهم أن تتسع لقبول هذا الحكم, لأنه قد رأى ذلك علماء في الاقتصاد, وخبراء في التجارة من أجل تنشيط الحركة التجارية والنهوض بها.
وقد يرى بل قد يتفق علماء التربية وعلماء النفس على أن الجمع بين الجنسين في مرافق المجتمع يهذب الأخلاق, ويخفف من شدة الميل الجنسي, ويمكن من استخدام كافة القوى البشرية المتاحة من أجل التنمية, فلا يبقى نصف المجتمع معطلا, فهو مصلحة ينبغي تحقيقها والشريعة تراعي تحقيق المصالح.
وقد يقول الأطباء: أن لحم الخنزير ليس بمستخبث, وإن أكله لا يعقب أي آثار سيئة في الخلق والجسم.
إن تقدير ما به يكون الصلاح والفساد عائد إلى الشريعة نفسها, قد وضع ذلك في مقاصد الشريعة الخمسة وهي: حفظ الدين, وحفظ النفس, وحفظ العقل, وحفظ النسل, وحفظ المال.
وبناء عليه؛ فإن كل ما توهمه الناس مصلحة مما يخالف تلك الأسس العامة في جوهرها, أو الترتيب فيما بينها, أو يخالف دليلاً من الأدلة الشرعية من كتاب, أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح ليس من المصلحة في شيء, وإن توهمه من توهمه.
أما نتائج خبرات الناس وتجاربهم فيجب عرضها على نصوص الشريعة وأحكامها الثابتة, فما وافقها أخذ به, والحكم في ذلك للنصوص الشرعية ومقاصد الشريعة, وما خالف ذلك فيجب طرحه وإهماله واعتباره مصلحة ملغاة.
ويجب أن يفهم أن الشارع لم يلغ مصلحة دلت عليها تجارب الناس وعلومهم, بل الواقع أن تقدير هؤلاء المجربين والخبراء للمصلحة كان خطأ, صاحبه خلل نابع من هوى في نفس المجرب, أو خطأ في وسائل التجربة, أو نقص في الاستقراء, فنحن نتهم تقدير هؤلاء, ولا نتهم نصوص الشريعة.
نخلص من ذلك إلى أن الخبرات العادية, والموازين العقلية, والتجريبية المحضة لا يجوز أن تستقل وحدها بفهم مصالح العباد وتنسيقها.
إن مدار المصلحة التي ينبني عليها الحكم الشرعي هي المصلحة الشرعية, والمصلحة الشرعية ليس لها طريق غير الوحي.
أما المصلحة الدنيوية فلا اعتبار لها في نظر المسلم عند مخالفتها للنص الشرعي.
2-الاستحسان:
عرفه ابن رشد المالكي فقال:"إنه طرح لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه, فيعدل عنه في بعض المواضع, لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع".
وعرفه أبو الحسن الكرخي الحنفي حيث قال:"هو العدول عن الحكم في مسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه بوجه أقوى يقتضي العدول عن الأول".
فالاستحسان نوع من الترجيح بين الأدلة, وحقيقته كما يلاحظ, وكما يصرح به كثير من الأصوليين أنه أخذ بأقوى الدليلين.
أنواع الاستحسان:
ينقسم الاستحسان من حيث ابتناؤه على الأدلة الشرعية إلى أربعة أقسام:
أ.الاستحسان بالنص:
وذلك يجري في كل أنوا العقود التي قالوا أنها على خلاف القياس كالسلم, والإجارة, والقرض ونحوها. وهي استحسان بالنص لأنها قد ثبتت بنصوص شرعية على غير وفق القاعدة العامة من عدم صحة بيع المعدوم, وعقود الربا, ونحو ذلك. وأغلب إطلاقات الاستحسان في كتب الفروع تتصرف إلى هذا النوع, وعلى الخصوص في فروع الحنفية,فيقولون هذا جائز استحساناً, ويسمونه الاستحسان بالنص.
ب.الاستحسان بالإجماع:
أي أن الاستحسان هو الإجماع كما في مسألة الاستصناع.
ج- استحسان الضرورة:
كما في مسألة الحياض والآبار؛ ووجه الاستحسان في هذه المسألة أن الماء إذا خالطته نجاسة ولو كان كثيراً فإنه ينجس مادام ليس جارياً, ولكن عفي عن ذلك استحسانا للضرورة, وبيان ذلك: أن القياس يأبى طهارتها. لأن الدلو ينجس بملاقاة الماء, فلا يزال يعود وهو نجس, ولأن نزع بعض الماء لا يؤثر في طهارة الباقي, وكذلك خروج بعضه عن الحوض, وكذا الماء ينجس بملاقاة الآنية النجسة, والنجس لا يفيد الطهارة, فاستحسنوا ترك العمل بموجب القياس للضرورة, فإن الحرج مرفوع بالنص. وفي موضع الضرورة يتحقق معنى الحرج لو أخذ بالقياس.
د- الاستحسان بمعنى القياس الخفي:
وقد سمي قياساً خفياً في مقابلة القياس الجلي, وهو القياس المصطلح عليه. والاستحسان بهذا المعنى يقصدون به ما قوي أثره. ومن أمثلته طهارة سؤر سباع الطير, فالقياس الجلي أن سؤره نجس, لأنه من السباع. ودليل النجاسة حرمة أكل لحمه كسائر السباع. وفي الاستحسان هو طاهر لأن السبع ليس بنجس العين بدليل جواز الانتفاع به شرعا كالصيد, وكذلك الانتفاع بجلده وعظمه, ولو كان نجس العين لما جاز كالخنزير, وسؤر سباع البهائم إنما كان نجساً باعتبار حرمة الأكل لأنها تشرب بلسانها وهو رطب من لعابها, ولعابه متولد من لحمها, وهذا لا يوجد في سباع الطير لأنها تأخذ الماء بمنقارها, ومنقارها عظم, وعظم الميتة طاهر, فعظم الحي أولى. فصار هذا الاستحسان وإن كان باطناً أقوى من القياس وإن كان ظاهراً, وهذا النوع من الاستحسان هو الذي يغلب إطلاقه عند الأصوليين.
3.سد الذرائع والاحتياط:
سد الذرائع يعني أن ما كان ذريعة أو وسيلة إلى شيء يأخذ حكمه, فما كان وسيلة إلى الحرام يحرم, وإن كان في أصله حلالاً, ومعنى هذا الأمر الجائز في الأصل يمنع منه في الحالات التي يؤدي فيها إلى مالا يجوز. فعقد البيع حلال مشروع في أصله لقوله تعالى(وأحل الله البيع)ولكن قاعدة سد الذرائع تقتضي بطلان هذا البيع إذا قصد به المحرم, أو كان الباعث الدافع إليه غير مشروع, كما في بيع السلاح لمن يقتل مسلماً, أو لأهل الحرب, وبيع العنب لمن يتخذه خمراً.
أما الاحتياط:"فهو احتراز المكلف عن الوقوع فيما يشك فيه من حرام أو مكروه".
مجال الأخذ بالاحتياط: والمكلف يأخذ بالاحتياط في مجالين:
الأول: تحقق الشبهة.
الثاني: حصول الشك في الحكم الشرعي.
المجال الأول: تحقق الشبهة:
الشبهة التي تعرض للمكلف في الأحكام الشرعية قسمان:
القسم الأول: الشبهة الحكمية:
وهي التي تقع في الحكم الشرعي بمعنى أن حكم الشارع غير ظاهر من الدليل على وجه العلم أو الظن, وهي متوجهة إلى الحكم الشرعي نفسه من حل أو حرمة وغيرهما من أقسام الحكم الشرعي, لذا سميت بالشبهة الحكمية, وهذا يحصل غالباً حين تتعارض الأدلة لدى المجتهد.
القسم الثاني: الشبهة المحلية:
وهي التي ترد على المحكوم فيه الذي هو محل الحكم من حيث دخوله تحت حكم الشارع من حل أو حرمة أو غير ذلك. كاشتباه ميتة بمذكاة ومحرمة بأجنبيات وهو أنواع:-
1-اشتباه بعدد محصور: كما لو اختلطت الميتة بمذكاة أو مذكيات محصورات, أو رضيعة بعشر نسوة فهذه شبهة يجب اجتنابها بالاتفاق.
2-حرام محصور بحلال غير محصور: كما لو اختلطت الرضيعة بنساء البلد, فلا يجب اجتناب نكاح نساء أهل البلاد.
3-حرام لا يحصر بحلال لا يحصر: كاختلاط الحلال بالحرام في أسواق الناس, والأسواق فيها المغصوب, والمسروق, والربوي, مما يقل ويكثر, حسب ورع أهل الزمان, ولا يقال بالمنع من التعامل مع أهل الزمان, أو البلد ما لم يقترن بالأعيان علامات تدل على أنه من الحرام, فإن لم يكن في العين علامة تدل على أنه من الحرام, فتركه ورع, وأخذه حلال, لا يفسق به آكله.
المجال الثاني:
الشك في الحكم الشرعي الطارئ بسبب الشك في الواقع: فيطرأ الشك في الحرمة والوجوب أو الإباحة فيحتاط المكلف لنفسه فانه لا يخرج من عهدة الواجب- مثلاً- إلا بيقين أو ظن غالب. كالشك في عدد الركعات, والنظر في ذلك في أربعة أقسام:
1-التحريم معلوم ثم يطرأ الشك في الحل, فهذه شبهة يجب اجتنابها, ويحرم الإقدام عليها, كما لو رمى صيداً فوقع في الماء فيخرج ميتاً, ولا يدري هل مات بالغرق, أو بسبب جرح الرماية.
2-الحل معلوم ثم يطرأ الشك في التحريم, حكمه الحل, فلا ينجس الماء بمجرد ظن النجاسة.
3-الأصل التحريم ثم يطرأ ظن غالب على الحل, كمن يرمي صيدا فيغيب عن ناظره ثم يدركه ميتاً وليس عليه أثر سوى أثر رميه, فهو حلال, وان احتمل أنه مات بسبب شدت السقوط.
4-الأصل الحل ثم يطرأ ما يفيد غلبت الظن التحريم, كما لو رأى حيواناً يبول بماء كثير ثم وجد الماء متغيراً واحتمل أن يكون الماء قد تغير بطول المكث فيحكم بنجاسة الماء.
على أن الاحتياط في جملته مطلوب فيما علم أمره وتحقق فيه يقين اختلاط الحلال بالحرام أو ظن غالب, وذلك بقرائن وعلامات توصل إلى ذلك, كما لو كان في بلاد غير المسلمين أو مع فساق لا يتورعون عن اقتراف المنهيات, أما إذا كان في ديار المسلمين, ولم يظهر ما يدعوا إلى الاشتباه فلا ينبغي التدقيق والإلحاح في الأسئلة مع أعيان المسلمين, بل قد يصل الأمر إلى تحريم السؤال إذا كان فيه إيذاء للمسلم المستقيم.
4-عموم البلوى :
يظهر عموم البلوى في موضعين:-
الأول : ماتمس الحاجة في عموم الأحوال , بحيث يعسر الاستغناء عنه إلا بمشقة زائدة .
الثاني: شيوع الوقوع والتلبس , بحيث يعسر على المكلف الاحتراز عنه أو الانفكاك منه إلا بمشقة زائدة.
ففي الموضع الأول ابتلاء بمسيس الحاجة, وفي الثاني ابتلاء بمشقة الدفع.
الضابط في عموم البلوى :
يرجع النظر في عموم البلوى إلى ضابطين رئيسين:-
الأول: الضابط في نزارة الشيء وقلته:
أي أن مشقة الاحتراز من الشيء وعموم الابتلاء به قد يكون نابعاً من قلته ونزارته, ومن أجل هذا عفي عن يسير النجاسات, وعن أثر الاستجمار في محله, عما لا يدركه الطرف , وما لا نفس له سائلة ونيم الذباب(ما يخرج من فضلاته), وما ترشش من الشوارع مما لا يمكن الاحتراز عنه , وما ينقله الذباب من العذرة وأنواع النجاسات.
الثاني: كثرة الشيء وشيوعه وانتشاره:
كما أن عموم الابتلاء ومشقة التحرز قد تكون نابعة من تفاهة الشيء ونزارته, كذلك قد يكون الأمر لكثرته وشيوعه فيشق الاحتراز عنه ويعم البلاء به.
وقد نبه الغزالي إلى أن الغلبة التي تصلح عذراً في الأحكام ليس المراد بها الغلبة المطلقة , وإنما يكفي أن يكون الاحتراز أو الاستغناء عنه فيه مشقة وصعوبة نظراً لاشتباهه بغيره من الحلال والمباح واختلاطه به وامتزاجه معه بحيث يصعب الانفكاك عنه, كما هو ظاهر في بعض صور النجاسات والمستقذرات واختلاط الأموال.
5-العرف:
ويراد به: ما استقر في النفوس من جهة العقول, وتلقته الطباع السليمة بالقبول ".
فهو شامل لما عرفته النفوس وألفته, سواء كان قولا أوفعلا ولم ينكره أصحاب الذوق السليم . ويحصل الاستقرار في النفوس والقبول للطباع بالاستعمال المتكرر الصادر عن الميل والرغبة . ويخرج من ذلك العرف الفاسد, وهو ما استقر لا من جهة العقول كتعاطي المسكرات, وأنواع الفجور التي تستقر من جهة الأهواء والشهوات
كما يخرج ما لم تتلقه الطباع السليمة بالقبول كالكشف عن العورات , وعدم الاحتشام , والألفاظ المستقبحة . ويحسن الوقوف هنا وقفة ـ ونحن بصدد الحديث عن العرف ـ حول مسألة تغير العادات والأعراف ,وبخاصة أن ذلك مزلق خطير, وقد يكون مركباً أثيرا لبعض المتعجلين أو المغرضين. والوقفة ذات شقين: -
أحدهما: تأكيد العلماء لقضية اعتبار الأعراف والعوائد .
وثانيهما: التفسير العلمي الفقهي للمقصود باعتبار الأعراف والعوائد . على أنه يحسن التنبيه على مسألة مهمة تتعلق بتغير الحكم لتغير العادة أو العرف وذلك أنه لا ينبغي أن يفهم من اختلاف الأحكام باختلاف العادات أنه اختلاف في أصل خطاب الشرع, بل معنى هذا الاختلاف أن العادات إذا اختلفت اقتضت كل عادة حكماًَ يلائمها, فالواقعة إذا صحبتها عادة اقتضت حكماً غير الحكم الذي تقتضيه عندما تقترن بغيرها من العادات. فإذا جرت عادة قوم باستقباح كشف الرأس كان التعزير بكشف الرأس مجزئاً , وإذا لم يكن كشف الرأس في عادة قوم مستقبحاً امتنع أن يكون طريقاً كافياً للتعزير ولا بد للقاضي من اتخاذ طريق آخر يكون له وقع الألم في نفس المستحق للتعزير. فخطاب الشرع الذي تعلق بالواقعة المقتضية للتعزير حال صحبتها عادة استقباح كشف الرأس غير الخطاب الذي يتعلق بواقعة مثلها تصاحب عادة عدم استقباح ذلك .
تغير الأحكام بتغير العادات والأعراف:
يقول الإمام القرافي : (إن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت, وتبطل معها إذا أبطلت:- وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام, فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه, ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك , بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك, واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وافته به دون عرف بلدك, والمقرر في كتبك , فهذا هو الحق الواضح. والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين, وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين ) ويقرر السيوطي في أشباهه أن العادة والعرف مرجوع إليهما في الفقه في مسائل كثيرة ويزيد ابن عابدين الموضوع جلاء إذ يقول: (كثير من الأحكام يختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله, أو لحدوث ضرورة , أو لفساد أهل الزمان بحيث لو يبقى الحكم على ما كان عليه أولاً , لزم عنه المشقة والضرر بالناس , ومخالفة قوانين الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر )
ثم قال: (ولهذا نرى مشايخ المذهب –يعني الحنفية – خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا من قواعد المذهب)
ويقول الحافظ ابن القيم:
( ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم فقد ضل وأضل , وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم, بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان) يوضح ذلك : أن هناك أوصافاً ربط الشارع الحكم بها , وبني عليها أمور الناس فالعدالة – مثلاً- شرط في قبول الشهادة بنص كتاب الله( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) وحينما نراجع كلام أهل العلم وتعريفاتهم للعدالة وأوصاف أصحابها نلاحظ أنهم يربطونها بمألوف الناس , ودلائل التعقل والمروءة , وهذا حق لا مرية فيه . ومن المعلوم أن هذا شيء متغير , فما يكون مألوفاً في بلد أو دلالة مروءة فيه قد لا يكون في البلد الآخر, وكذلك عند اختلاف الزمن . ولكي يزداد الأمر وضوحاً, فإن السير مكشوف الرأس أو الأكل في الأسواق كان في يوم من الأيام, أو بلد من البلدان مظهراً من مظاهر قلة المروءة واستمع في ذلك إلى القرافي في كتابه حين يقول: ( ما الصحيح في هذه الأحكام الواقعة في مذهب الشافعي ومالك وغيرهما المرتبة على العوائد والعرف الذين كانا حاصلين حالة جزم العلماء بهذه الأحكام؟ فهل إذا تغيرت تلك العوائد , وصارت العوائد تدل على ضد ما كانت تدل عليه أولاً فهل تبطل هذه الفتاوى المسطورة في كتب الفقهاء ويفتى بما تقتضيه العوائد المتجددة ؟ أو يقال: نحن مقلدون وما لنا إحداث شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد؟ فنفتي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين ؟ )ويأتي الجواب منه –رحمه الله تعالى- ليقول : (إن استمرا ر الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع, وجهالة في الدين. بل كل ماهو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغيره إلى ما تقتضيه العادة المتجددة, وليس هذا تجديدا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد, بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد).
ومن كل ما تقدم يتبين بلا ريب أن للظروف الملابسة للأشخاص أو للوقائع والأحداث أثراً في إدراك العلل وتوجيه الاستدلال بمدركه ودليله , وتبين مسالك تطبيقه ضماناً لمشروعية نتائجه, إذ العبرة بالنتائج العلمية الواقعة أو المتوقعة.
وبيان ذلك أن الظروف المتجددة الواقعة أو المتوقعة والتي تلابس الأشخاص أو الوقائع ينشأ عنها دلائل تكليفيه جديدة تقتضي أحكاماً جديدة تناسبها, وبما أن الظروف تتغاير وتتمايز باطراد, فاقتضى هذا وجوب اعتبارها شرعاً . ولهذا التغير ضوابط ومسارات نشير إليها بإيجاز فيما يلي:-
الضوابط العامة في النظر في المتغيرات:
حينما يكون الحديث عن الاجتهاد ومشروعيته في الإسلام واختلاف أنظار المجتهدين وتوصلهم إلى آراء مختلفة , بل قد يتغير رأي المجتهد في قضية واحدة في وقت بعد وقت فذلك كله يحتاج إلى تأمل وتدبر:-
1/إن كل ذلك لا يجوز أن يفهم منه أن النصوص غير ثابتة أو أنها لا تضع تشريعاً دائماً ثابتاً مستقراً شاملاً في الزمان , والمكان. بل إن الأصل في النصوص هو الثبات والدوام.
ومن أجل هذا يجب لزوم الحذر التام من التساهل أمام نصوص الشرع , أو محاولة التحلل منها, فذلك مزلق خطير, ومركب عسير تزل فيه الأقدام وتضل الأفهام وتنهار الأحكام.
إن مما يجب أن يعلم في هذا الباب أن شريعة الإسلام قد حكمت في ديار متباعدة الأقطار, مترامية الأطراف حكمت قروناً متوالية وأزمنة متتالية , ولاقت مختلف العادات والتقاليد, وعاشت عصور الرخاء والشدة ,والقوة والضعف, واجهت الأحداث في جميع الأطوار فما قصرت عن حاجة , وما عجزت عن واقعة, ولا قعدت عن مطلب.
والأمر الذي يجب التنبه إليه وهو منطلق مهم من منطلقات هذا الموضوع, هو أن في سنن الله وفي شرعه عنصرين. أحدهما ثابت, والآخر متغير. فالاستمساك بأحدهما وإهمال الآخر يترتب عليه فساد عريض.
الثابت يجب أن يبقى ثابتاً, بل لا يمكن زحزحته فضلاً عن أن يسعى في زحزحته.
والمتغير طبيعته التغير, وجعله ثابتاً والالتزام به دائماً أبداً يوقع في عسر وحرج لا يطيقه المكلف.
ومن أجل مزيد إيضاح فليعلم أن دعاة التحرر في هذه العصور المتأخرة المتأثرين بالتيارات الوافدة من الغرب أو الشرق استمسكوا بالمتغير, وجعلوه ركن تفكيرهم , وأصل حضارتهم, وظنوا أن الحياة تستقيم بهذا المفهوم للحرية , وهي التغير في كل شيء أصولاً وفروعاً.
وبهذا –وكما هو مشاهد- حين لم يكن لهم ثوابت مستقرة, ومحاور راسية يستندون إليها فقد ضاعوا , فلم تنضبط لهم موازين, وفقدوا معنى الثبات.
أما معرفة الثوابت والاستمساك بها, وتمييز المتغيرات, وضبط حركتها حول المحور الثابت حتى لا تخرج عن المسار الصحيح , فبه يكون الدوام والاستقرار والتمشي مع المتغيرات في الأزمنة والأمكنة والناس, مع بقاء الأصول الثوابت, والمحافظة على الجوهر , وهذا هو سر بقاء الشريعة وحيويتها. هذا منطلق.
2/ ومنطلق آخر : وهو منطلق عقدي صرف, من لا يؤمن بالشرع فلا خطاب معه , وذلك هو ما يجيب على هذا التساؤل: كيف يتأتى للشريعة التي نزلت قبل أربعة عشر قرناً أن تواكب ماجد في حياة الناس من تغيرات؟
الجواب-كما أسلفت- عقدي إيماني- نابع من الإيمان بالله الحق العليم الخبير الحكيم , فكأن هذا المتسائل أو المتشكك يظن أن الله لم يكن يعلم –تعالى الله- حين أنزل هذه الشريعة أن أموراً ستجد في حياة الناس تختلف عن الأوضاع التي كانوا عليها يوم نزلت هذه الشريعة.
وحكمته سبحانه ـ لو كانوا يعلمون ـ تقتضي ألا ينزل شريعة غير ممكنة التطبيق في حيز من الزمن ثم يلزم الناس بها إلى يوم القيامة , ألا ساء ما يظنون . ولكي يزداد الأمر وضوحا في هذا الأمر الإيماني لو نظرت إلى بعض الضعاف في هذا المضمار ممن استهوتهم الحضارة المعاصرة , وسولت لهم أنفسهم ما سولت ويحبون ـ أمام الناس ـ أن يبقى لهم الانتساب إلى الإسلام ، مع إتباعهم أهوائهم ، فهم يريدون إسلاماً على مايشتهون ، أو على ما يشتهي إخوانهم في الغيّ من المستشرقين والمستغربين .
فتبدأ مقولتهم بأنهم لايأخذون بأقوال الفقهاء ، والمفسرين ، والشراح ، والمحدثين ، فهم بشر ورجال ، ولا تعبد بآراء الرجال ، ولا يأخذون إلا من الكتاب والسنة ،ثم يتدرج بهم الأمر بأن يأخذوا القرآن ، والمتواتر من السنة ،وما كان قطعياً في ثبوته ودلالاته ، فالسنة فيها الضعيف والمردود والموضوع ،بل حتى أخبار الآحاد فيها عندهم نظر ، ثم يتدرجون ليطعنوا في بعض الدلالات ليقولوا إن القرآن الكريم إنما كان يعالج أوضاعاً وبيئات قد اندرست ، ويهتم بشؤون مجتمعات بدائية وبدوية ، وقد يترقى بهم الحال ليقولوا: (إن القرآن إذا قال إن الخنزير رجس قالوا:إنما كان ذلك في خنازير سيئة التغذية ، أما خنازير اليوم فتلقى عناية خاصة ، وحينما ينظرون في الميراث وفيه : ( فللذكر مثل حظ الأنثيين ) يقولون : إنما كان ذلك قبل أن تخرج المرأة إلى ميادين العمل ، وتثبت وجودها في جوانب الحياة المختلفة ، والخمر حرم في بيئة حارة ، ولو نزل القرآن في بيئة باردة لكان له شأن آخر ).وهكذا نلاحظ التحلل من الأحكام ، حتى ترقى الأمر إلى نسبة الله جل وعز إلى الجهل بشؤون خلقه فيما يضرهم وما ينفعهم تعالى الله عما يقولون علواً كبيرا .
3/ ومنطق ثالث : ذلكم أن الحديث عن التغير والتطور ، ومجاراة العادات والأعراف ، لايعني أن هم المجتهد والفقيه تبريد الواقع ، وتلمس السند الشرعي له والتعسف وسوء التأويل بدعوى أن ذلك هو مفهوم المرونة والتطور .
فالإسلام لم يأت ليخضع لأهواء الناس ، ومجريات حياتهم ، ولكنه جاء ليرفع الناس إلى ميزان الحق ،والعدل، والمصلحة الحقيقية ، ويكف عنهم الإثم والظلم ، ويرفع الآصار والأغلال . إن هذا التشريع لم يضعه المجتمع حتى يخضع له ويستجيب لظروفه وأوضاعه . إنه تشريع إلهي وضع ليرقى بالمجتمع ، وتخضع أوضاعه لهدايته ، فكلمة هذا التشريع هي العليا.
إن مهمة التشريع أن يصوب الخطأ ويقوم العوج, لا أن يبرر الأوضاع ويسوغ التصرفات، إنه يستعصي على الذوبان والتميع.
وفي جانب آخر فإن للاجتهاد من أهله مجالاً كبيراً, اجتهاد في فهم النصوص, واجتهاد –أحياناً- في ثبوت بعضها (أي في مدى تصحيح بعض الأحاديث ودرجة قبولها).
ثم الاجتهاد فيما نص فيه بخصوصه مضبوط بطرق القياس , والمصلحة المرسلة ,والاستحسان , والنظر في العوائد , والاستصحاب , والبراءة الأصلية وأحكام الضرر والضرورات, وأمثالها من مجالات النظر التي تختلف في تقديرها آراء أهل الاجتهاد باختلاف مداركهم وفهومهم كما سبق إيضاحه. والأصول الثوابت التي لا مساغ للاجتهاد فيها هي القطعيات وما علم من الدين بالضرورة , وما تلقته الأمة بالقبول من الفرائض المحكمات, والنصوص القطعيات, كفرائض الصلاة والزكاة, والصيام, والحج, والمواريث, والحدود , والحجاب, والمحرمات من الربا, والزنا, والخمر والميسر والطلاق والوفاة, وأمثال ذلك.
فهذه دوائر لا تقبل الاجتهاد والجدل ,كأن يقول بعض الناس بتعطيل فريضة الزكاة اكتفاء بالضرائب –فضلاً عما في الضرائب من نقاش- أو تعطيل فريضة الصيام تشجيعاً للإنتاج, أو إلغاء فريضة الحج توفيراً للعملة الصعبة , أو إباحة الزنا والخمر وما يتبعها ترغيباً في السياحة, واستحلال الربا دعماً لمشروعات التنمية والإنتاج.
4/ليس لأحد الحق في أن يقول في دين الله مالا يعلم, فباب الاجتهاد والفتوى يجب أن يكون مقصوراً على أهله ومع الأسف فإن فشو القراءة والكتابة في الناس, والمفهوم الخاطئ لحرية البحث العلمي جعلت أناساً يتجرؤون على أحكام الله ويتجاوزون حدود الله في اقتحام أبواب الحلال والحرام ولم يعرف لهم زاد من العلم سوى ما يسمى بثقافة إسلامية عامة, فجعلوا ساحة الحلال والحرام مباحة لكل من هب ودب , فظهرت أقوال من غير خطم ولا أزمة, ونزعت الثقة في أولي العلم والأئمة.
ومسئولية الحراسة في ذلك يجب أن يتولاها العلماء الربانيون المخلصون, والمراكز والهيئات الإسلامية العريقة المعروفة إذا أخلصت لله, وبنت منهجها وطريقها على خالص شرع الله, فتستعيد مكانها وموضعها, وتحمي حمى الدين وساحة الأحكام كدور الإفتاء, والقضاء الشرعي, وهيئات كبار العلماء.
5/ يعيش المسلمون في هذه الأزمنة حالات من الضعف في كثير من أمورهم وشؤونهم, ومنها أوضاعهم الاقتصادية وبخاصة المستجد من النوازل فيها, وعليه فمن العسير أن تسير معاملات المسلمين على العزائم دون الرخص, وعلى المجمع عليه دون المختلف فيه, وعلى الحلال الخالص دون المشوب, مما يقتضي النظر في هذه الواقعات والنازلات من أجل تلمس الحلول النافعة,والمخارج للأمة ولو قامت على رأي فقيه واحد معتبر خالفه جمع كبير من أهل العلم ما دام هذا رأي يحقق مصلحة للمسلمين ولا يصادم نصاً , بل قد لا يكون من المتعين أن يكون في المسألة رأي سابق لإمام من الأئمة, أو عالم من العلماء ما دام أنه في دائرة الضوابط الشرعية , والأصول العامة , والقواعد الكلية في الشريعة (الأسهم المالية في نظر الشريعة , صفوت الشوادفي. بحث الاستثمار في الأسهم د. علي محي الدين القره داغي, ص32.).
يقول الأستاذ مصطفى الزرقاء –رحمه الله-: (إن الآراء والنظريات الفقهية في المذاهب المعتبرة, سواء منها الراجح والمرجوح كلها ثروة تشريعية قيمة وقد يظهر تطور المصالح الزمنية, وإعادة النظر أن ما كان من الآراء الفقهية وهو الذي يجب أن يكون الراجح وما كان يظن ضعيف المبنى هو في الحقيقة أقوى وأسد, ولكن مرمى نظر صاحبه قد كان أمام قافلته بمسافات لا تدركها أبصارهم, فيبقى غير معتمد عليه حتى تصل العصور بالأجيال إلى مرمى ذلك النظر, فإذا هو البصر الحديد, والفهم الرشيد.
وفي كل مذهب أنظار فقهية شتى من هذا القبيل يمتاز فيها المذهب بما لم يدركه سواه من المذاهب)) (المدخل, الزرقاء. ج1,ص568.).
ليس كل ما قال فقيه , أو عالم برمته كان حراماً في نفس الأمر , وإنما الحرام ما ثبت تحريمه بالكتاب أو السنة أو الإجماع أو قياس مرجح لذلك أو ما تنازع فيه العلماء رد إلى هذه الأصول( الأسهم المالية في نظر الشريعة , صفوت الشوادفي.ص 38, نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية, مجموع الفتاوى"29/211-223").
الاجتهاد الجماعي:
مما مضت به سنة الخلفاء الراشدين –رضوان الله عليهم- أنهم كانوا إذا نزلت بهم نازلة , أو استفتاهم مستفت في مسألة أن يجمعوا لها أعيان الصحابة وكبارهم ليبدي كل واحد منهم رأيه بدءا بما يحفظ من النص الشرعي كتابا وسنة، فإذا لم يوجد نص صاروا إلى الرأي , فيجري التشاور بينهم والمداولة حتى يصلوا إلى رأي يتفقون عليه بالإجماع أو بما يشبه الإجماع, وذلك في كل ما يعرض لهم.
ولقد كان ذلك عاملاً قوياً في الحفاظ على وحدة الأمة وتماسكها فكرياً وسياسياً, واجتماعياً.
وقد أخرج الدارمي في مسنده عن المسيب بن رافع قال: (كانوا- يعني صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذا نزلت بهم قضية ليس فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر اجتمعوا لها وأجمعوا فالحق فيما رأوا) "مسند الدارمي, ج1 ص46 وما بعدها.".
وتتأكد أهمية المسلك الجماعي في الاجتهاد مع متغيرات العصر , وسعة الاتصال والتواصل بين الناس, ولا سيما مع ملاحظة ما يجري من خلال القنوات الفضائية وشبكات المعلومات, وكثرة الخوض فيها من قبل أناس لا صلة لهم بالعلوم الشرعية المتخصصة.
ومن المؤكد أن جانباً من هيبة الأمة ومهابتها في قرونها الأولى المفضلة وحفظها لحقوقها يعود إلى المنهج الجماعي الذي يقي-بإذن الله- من الزلات والهفوات والأخطاء القاتلة, ويحفظ من الشقاق والفرقة.
وفي الغالب فإن الاجتهاد الجماعي يجمع علماء قادرين متخصصين مدركين لأصول الاستدلال ومن ثم تكون لهم هيبتهم ووزنهم في الأمة.
والمجامع الفقهية الموجودة خطوة طيبة في هذا المضمار, وينبغي أن تتسع دائرة التجمع, كما ينبغي أن ينظر في طريقة الاختيار أو الترشيح للأعضاء يبعده عن بعض المؤثرات التي لا علاقة لها بالتخصص العلمي, ومتطلبات الاجتهاد, وشروط الإفتاء.
ومما يعين على إعطاء الاجتهاد الجماعي أثره في استصدار الأحكام الفقهية في مكانتها اللائقة بها كمنتدى لكبار فقهاء الأمة بعيداً عن المؤثرات الخارجية والتوجهات السياسية وغير السياسية, ذلك أنه قد كثر الأدعياء , وانتشر المغررون, والمتهورون, والمتهتكون الذين لو فتح لهم الباب لاجترؤوا على حدود الله, وغيروا معالم الشرع إرضاء لنزوة , وسعياً لشهرة, أو إتباعا لهوى , فيصبح الدين والناس فوضى فيضلوا ويضلوا.
ومن أجل أن يعطى الاجتهاد الجماعي أثره على مستوى الإنتاج والقبول والثقة يحسن مراعاة ما يلي:-
1-ينبغي أن يكون هناك تنسيق كامل بين المؤسسات العلمية الشرعية وبين المراكز الأخرى من طبية, واقتصادية وسياسية, واجتماعية وغيرها, وذلك لتحقيق هدفين رئيسين:-
أحدهما: اتصال المؤسسات الشرعية بالواقع ومستجدات الناس فيكون الاجتهاد مبنياً على تصور صحيح.
ثانيهما: معرفة كل جديد في وقته, وبيان حكمه الشرعي.
2- التنسيق بين دور الإفتاء والمجامع الفقهية والجهات البحثية الشرعية في الجامعات وغيرها لإمدادها بالموضوعات المستجدة , والنوازل, والواقعات وما تحتاج إليه الأمة من بحوث , بدلاً من التكرار أو البحث في قضايا ومسائل لا تطبيق لها, أو أنها ذات أهمية محدودة.
3- إعادة النظر في طريقة تدريس الفقه ولا سيما في المستويات العليا من الكليات الشرعية , ومرحلة ما فوق الجامعة, ويكون هذا النظر من جهتين:-
أولهما: أسلوب البحث والتأليف والتدريس بطريق القواعد الفقهية والأصولية والنظريات الفقهية.
وهو أمر ليس بمستغرب إذا نظرت في بعض طرائق المتقدمين كالشاطبي في كتابه الموافقات وتوجهه نحو إعادة النظر في طرق الكتابة والتأليف في أصول الفقه. ثم توجهه إلى العناية بمقاصد الشريعة ,وكذلك أسلوب ابن رجب في كتابة القواعد الفقهية.
ثانيهما: العناية التفصيلية بالمسائل المستجدة , فلو قارنت في كتابة المتقدمين في الزكاة والأموال الزكوية –ولا سيما زكاة السائمة من بهيمة الأنعام وطرق تفصيلها-لوجدت أنها متمشية مع مصطلحات وقتهم وما هو سائد فيهم من ألفاظ وأسلوب حياة , بينما جد في الوقت الحاضر أنواع من الأموال نحتاج إلى تبسيطها وتقريبها لطلاب العلم في مراحل الطلب , كالأسهم في معرفة أنواعها وشركاتها وكيفية إخراج الزكاة فيها.
وقبل إنهاء هذه المقدمة يحسن إيضاح معنى التجديد في الفقه مما يؤكد كل المعاني السابقة.
التجديد في الفقه
التجديد: من الجدة والقوة, والتجديد: إعادة الجدة.
وفي الحديث: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها)).
والمراد بتجديد الدين هنا-والله اعلم- ما يعيد له القوة ويرجعه إلى أصل صفائه الذي كان عليه حين البعثة وتنزل الوحي, وليس التجديد هو التغيير والتبديل.
إن التجديد هو العودة إلى أصل الشيء عند بدايته وظهوره لأول مرة, وإصلاح ما أصابه من خلل أو ناله من ضعف, ليعود قوياً كما كان حين بدأ, وذلك بإبراز حقائقه الناصعة, وتجلية خصائصه المميزة.
فيكون تجديد الدين وتجديد الفقه بتقوية التمسك به, وإحسان تطبيقه وتنفيذه.
وبناء على ذلك فتجديد الدين لا يكون إلا بالدين وللدين, لا بالدنيا, ولا للدنيا, ولا يكون إلا من داخل الدين, وبمفاهيم الدين, لا من خارج الدين, وبمفاهيم مستوردة وأفكار دخيلة.