ناصر بن زيد بن داود
30-03-2009, 04:38 AM
في يوم خميسٍ من عام 1404هـ اتصل بي والد أحد أصهاري يطلب مني استقباله في مطار الأحساء القديم ( مطار أرامكو ) على طريق الرياض - المبرز ؛ في أول زيارةٍ له إلى الأحساء الميمونة قادماً من جدة .
حطت به الطائرة قرابة الساعة السابعة صباحاً ، وبعد قهوة الصباح وتناول الفطور أراد إيصاله إلى السوق ، وقبيل الظهر عاد إلى المنزل ، وكان على موعد غداءٍ مع ابن عمٍ له - شيخ طاعن في السن جاوز الثمانين من عمره - وكان ضيفنا وقتها قد قارب الستين ، فرغب إليَّ إيصاله إلى منزل مضيفه ومشاركته في غداءه ، فاعتذرت له عن المشاركة ، واصطحبته إلى منزل صاحبه عند الساعة الواحدة ظهراً ، بعد أن سألته عن موعد عودته؟ ، فذكر لي : أنه سيعود بعد صلاة العصر بساعة تقريباً .
كنت وقتها أسكن في دورٍ علويٍ ، وأترك بابه مفتوحاً ؛ ليسهل عليَّ الإذن للقادمين بالدخول ؛ دون تكرار النزول والصعود .
وقبل صلاة العصر ( بساعةٍ ونصف! ) سمعت ضيفي يهتف بي أسفل الدرج ، فرحبت به ودعوته ، وأثناء صعوده الدرج كان يردد فيقول : اللهم صلِّ على نبينا سليمان !.
فقلت له : اللهم صلِّ على نبي الله سليمان وعلى نبينا محمد .
فأعاد مقولته : اللهم صلِّ على نبينا سليمان !!.
فربطت - على الفور - بين هذه المقولة الغريبة وبين القدوم المبكر فجأة على غير الاتفاق السابق .
فقلت له : ما القصة ؟ أبا عبد الرحمن .
وبعد أن استقر جالساً ، قال : كان نبي الله سليمان - عليه الصلاة والسلام - إذا أراد أن يؤدِّب طيراً حبسه مع غير جنسه .
ثم أردف قائلاً : وجدت مضيفي الشيخ مجهداً جداً ، فاعتذر لي من مواصلة الجلوس معه ، وأمر الحاضرين من أبنائه وأحفاده بإكمال مراسم الاحتفاء بي .
ثم توقف محدثي برهة ، وشرع قائلاً : بعد خروج الشيخ خيم الصمت على المجلس ، فطرقت مجالاتٍ عدةً في الحديث مع الحاضرين ( وكلهم من الشباب ) ، فكان تجاوبهم معي محدوداً ، فتركتهم يتجاذبون الحديث ؛ لأعرف اهتماماتهم ، فأدخل معهم فيما أحسنه منها ، فتحدثوا في السفر وفي الرياضة .
فقلت في نفسي : أما الرياضة : فلا أعلم منها غير نادي الاتحاد الذي يشجعه أبنائي .
وأما السفر : فأنا لم أغادر المملكة طيلة حياتي ؛ لكن يمكنني الحديث عن بلاد مصر واليمن مما أسمعه من جيراني وبعض أقاربي .
لذلك حاولت ليَّ عنق الحديث نحو السفر إلى هذين البلدين ؛ لأتمكن من المشاركة بما لديَّ عنهما ، غير أن الجماعة لم يحيدوا عن ذكر باريس وجنيف ولندن ، عندها علمت أني قد حبست حبساً سليمانياً .
لم يسعف ضيفنا العزيز - أمد الله في عمره - إلا داعي الغداء ، وما إن وضع يده فيه حتى رفعها داعياً لمضيفيه بما يستحقون ، واستأذن في الانصراف ؛ ليجد نفسه على الطريق العام منتشياً جذلاً بانطلاقه من حبسه وإطلاقهم سراحه .
كانت تلك اللحظات مليئة بالعبرة والطرافة والفكاهة .
ومع تلك التجربة العجيبة في أول زيارة لضيفنا إلى الأحساء ؛ إلا أن الضيف الكريم لم يُخف إعجابه بتلك المدينة الفريدة ، فأظهر سروره بما شاهده فيها ، وقال لي : أنت محظوظٌ بهذه البلدة المباركة .
فقلت له : الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، فما أعجبك منها ؟.
فقال لي : ثلاثة أمور ، الأول : ستر جميع نسائها المتمثل في انحطاط العباءة إلى ما تحت الكعبين .
والثاني : إفشاء جميع رجالها السلام بينهم على من يعرفون ومن لا يعرفون .
والثالث : اندفاع كل من تسأله منهم عن مكانٍ ما إلى ترك ما بيده واصطحابك إلى حيث تريد .
ثم قال : وهذه الثلاثة ليست مجتمعة فيما مررته من البلدان .
ودعت الضيف العزيز في رحلة عودته ذلك اليوم ، وعادت بي ذكراه الطريفة هذا اليوم ، بعد ستةٍ وعشرين عاماً ، عندما تردد بين القضاة والملازمين - هذه الأيام - وضع المجلس الأعلى للقضاء ، مع تقديرهم الفائق لمواقف رئيسه - الرجل الصالح ، الإداري الناجح ، العالم الناصح - ، ومع ثقتهم في قدراته وفي علمه نفع الله به ، إلا أنهم قلقون من إمكان تكيُّف معاليه مع أجواء العمل القضائي ، وخوفهم من أن يكون في حالٍ كحال صاحبنا وطير سليمان عليه الصلاة والسلام .
نسأل الله للجميع دوام التوفيق لكل ما يحبه الله ويرضاه .
حطت به الطائرة قرابة الساعة السابعة صباحاً ، وبعد قهوة الصباح وتناول الفطور أراد إيصاله إلى السوق ، وقبيل الظهر عاد إلى المنزل ، وكان على موعد غداءٍ مع ابن عمٍ له - شيخ طاعن في السن جاوز الثمانين من عمره - وكان ضيفنا وقتها قد قارب الستين ، فرغب إليَّ إيصاله إلى منزل مضيفه ومشاركته في غداءه ، فاعتذرت له عن المشاركة ، واصطحبته إلى منزل صاحبه عند الساعة الواحدة ظهراً ، بعد أن سألته عن موعد عودته؟ ، فذكر لي : أنه سيعود بعد صلاة العصر بساعة تقريباً .
كنت وقتها أسكن في دورٍ علويٍ ، وأترك بابه مفتوحاً ؛ ليسهل عليَّ الإذن للقادمين بالدخول ؛ دون تكرار النزول والصعود .
وقبل صلاة العصر ( بساعةٍ ونصف! ) سمعت ضيفي يهتف بي أسفل الدرج ، فرحبت به ودعوته ، وأثناء صعوده الدرج كان يردد فيقول : اللهم صلِّ على نبينا سليمان !.
فقلت له : اللهم صلِّ على نبي الله سليمان وعلى نبينا محمد .
فأعاد مقولته : اللهم صلِّ على نبينا سليمان !!.
فربطت - على الفور - بين هذه المقولة الغريبة وبين القدوم المبكر فجأة على غير الاتفاق السابق .
فقلت له : ما القصة ؟ أبا عبد الرحمن .
وبعد أن استقر جالساً ، قال : كان نبي الله سليمان - عليه الصلاة والسلام - إذا أراد أن يؤدِّب طيراً حبسه مع غير جنسه .
ثم أردف قائلاً : وجدت مضيفي الشيخ مجهداً جداً ، فاعتذر لي من مواصلة الجلوس معه ، وأمر الحاضرين من أبنائه وأحفاده بإكمال مراسم الاحتفاء بي .
ثم توقف محدثي برهة ، وشرع قائلاً : بعد خروج الشيخ خيم الصمت على المجلس ، فطرقت مجالاتٍ عدةً في الحديث مع الحاضرين ( وكلهم من الشباب ) ، فكان تجاوبهم معي محدوداً ، فتركتهم يتجاذبون الحديث ؛ لأعرف اهتماماتهم ، فأدخل معهم فيما أحسنه منها ، فتحدثوا في السفر وفي الرياضة .
فقلت في نفسي : أما الرياضة : فلا أعلم منها غير نادي الاتحاد الذي يشجعه أبنائي .
وأما السفر : فأنا لم أغادر المملكة طيلة حياتي ؛ لكن يمكنني الحديث عن بلاد مصر واليمن مما أسمعه من جيراني وبعض أقاربي .
لذلك حاولت ليَّ عنق الحديث نحو السفر إلى هذين البلدين ؛ لأتمكن من المشاركة بما لديَّ عنهما ، غير أن الجماعة لم يحيدوا عن ذكر باريس وجنيف ولندن ، عندها علمت أني قد حبست حبساً سليمانياً .
لم يسعف ضيفنا العزيز - أمد الله في عمره - إلا داعي الغداء ، وما إن وضع يده فيه حتى رفعها داعياً لمضيفيه بما يستحقون ، واستأذن في الانصراف ؛ ليجد نفسه على الطريق العام منتشياً جذلاً بانطلاقه من حبسه وإطلاقهم سراحه .
كانت تلك اللحظات مليئة بالعبرة والطرافة والفكاهة .
ومع تلك التجربة العجيبة في أول زيارة لضيفنا إلى الأحساء ؛ إلا أن الضيف الكريم لم يُخف إعجابه بتلك المدينة الفريدة ، فأظهر سروره بما شاهده فيها ، وقال لي : أنت محظوظٌ بهذه البلدة المباركة .
فقلت له : الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، فما أعجبك منها ؟.
فقال لي : ثلاثة أمور ، الأول : ستر جميع نسائها المتمثل في انحطاط العباءة إلى ما تحت الكعبين .
والثاني : إفشاء جميع رجالها السلام بينهم على من يعرفون ومن لا يعرفون .
والثالث : اندفاع كل من تسأله منهم عن مكانٍ ما إلى ترك ما بيده واصطحابك إلى حيث تريد .
ثم قال : وهذه الثلاثة ليست مجتمعة فيما مررته من البلدان .
ودعت الضيف العزيز في رحلة عودته ذلك اليوم ، وعادت بي ذكراه الطريفة هذا اليوم ، بعد ستةٍ وعشرين عاماً ، عندما تردد بين القضاة والملازمين - هذه الأيام - وضع المجلس الأعلى للقضاء ، مع تقديرهم الفائق لمواقف رئيسه - الرجل الصالح ، الإداري الناجح ، العالم الناصح - ، ومع ثقتهم في قدراته وفي علمه نفع الله به ، إلا أنهم قلقون من إمكان تكيُّف معاليه مع أجواء العمل القضائي ، وخوفهم من أن يكون في حالٍ كحال صاحبنا وطير سليمان عليه الصلاة والسلام .
نسأل الله للجميع دوام التوفيق لكل ما يحبه الله ويرضاه .