ناصر بن زيد بن داود
13-07-2009, 03:52 PM
هذه القضية من القضايا العقارية الشاملة لجميع مراحل الدعوى الكاملة ؛ ففيها الدعوى والجواب وعدد من الدفوع والأدلة المتنوعة من الشهادات والوثائق وشهادات جرح الشهود ، مما جعل نظرها يستغرق ستة أشهر حتى انتهت بثلاثة أحكام .
لقد انتهجت في هذه القضية نهجاً جديداً ، ولكثرة البينات فقد نقدت الدليل عند إيراده ؛ درءاً للتكرار من جهة ، وتجنباً للإحالة على الأدلة عند تحليلها .
وكان محلها في الحكم ضمن أسبابه ، مما جعل طول الصك يربو على الثلاثة أمتار ، وهو ثاني أكبر صك أخرجته في مسيرتي القضائية . نسأل الله السلامة وحسن الخاتمة
وملخصها كما يلي :-
= في أول العقد الثالث من القرن الماضي اشترى ( محمد بن علي ) مزرعة خربة ، تحوي نخلاً كثيراً متفاوت الأحجام ، فقلع أشجار النخيل كلها حتى صارت أرضاً بيضاء ؛ ليبدأ زراعتها من جديد ، وكان قلع النخيل حدثاً مشهوداً في القرية ، واستبشر به الكادحون ؛ لأنه يُؤمِّن لهم عملاً مدة طويلة .
= توفي المشتري قبل أن يبدأ زراعة الأرض قريباً من العام 1338هـ ، فانتقلت ملكية الأرض إلى ورثته ، وهم : ابناه علي وحسين وابنته حجية ، ثم توفي ابنه (عليٌ) قريباً من العام 1362هـ ، وانتقل نصيبه لورثته ، ومنهم ابنه (محمد) .
= نشأ حفيد صاحب المزرعة وهو يسمع أن الأرض لجده (محمد بن علي) ، فخطر له أن يستقل بملكية الأرض عن بقية الورثة ؛ مستغلاً تشابه اسمه الثلاثي مع اسم جده المالك الأول للأرض .
= وجد الحفيد أنَّ العقبة الكأداء هم ورثة أبيه فاصطلح معهم ، وأعطاهم عوضاً عن نصيبهم من سهم والدهم في الأرض وقدره 40% .
= في منتصف العام 1390هـ استطاع الحفيد أن يستخرج صكاً على الأرض بإسمه هو فقط ، وكان المساعد له على تخليص إجراءات الاستحكام رجلٌ ضليعٌ في أمور التعقيب والمحاماة .
= بعد صدور صك الاستحكام باسم الحفيد فقط ، اقتطع من الأرض جزءان لصالح دائرة حكومة ، واستلم الحفيد التعويض المقدر ، بعد أن تنازل عن المقتطع لصالح أملاك الدولة كالمتبع .
= ثارت ثائرة بقية ورثة الجد ؛ لأنَّ لهم 60% من ملكية الأرض ، وتوسَّط كثيرٌ من أهل القرية بين الحفيد وشركائه في الإرث ، وكان الحفيد يُكثر من الوعود بالتسوية مع أبناء عمومته ، ساعده على المطل والتسويف أنَّ أكثر الورثة نساء وقاصرون .
= أشار المحامي على الحفيد أن يبيعه الأرض ؛ ليقطع الطريق على الورثة في أمر مطالبته ، فباعه إياها عام 1399هـ بثمنٍ كبيرٍ نسبياً .
= اقتطع من الأرض جزءان آخران ، وقبض المشتري تعويضهما .
= استمرت محاولات المصلحين في التوفيق بين البائع وشركائه على تسليمهم نصيبهم من قيمة الأرض نحواً من ثلاث سنوات ، فلما لم يفلحوا أجمع الورثة أمرهم ، ثم أقاموا دعواهم على المشتري الأخير ؛ لتبدأ مغامرات الكر والفر في هذه القضية بين كلا الطرفين ، وبين المحكمة والمدعى عليه ، وأخيراً بين المحكمة ومحكمة التمييز ، وقد تجلت في هذه المغامرات مقدرة المحامي على المناورة .
= ابتدأت النظر في القضية كالتالي :-
أولاً : طلب وكيل المدعين رفع يد المشتري عن نصيب موكليه من الأرض وقدره ثلاثة أخماسها ؛ لكونه ملكاً لهم بالإرث من جدهم ، كما طلب رفع يد المشتري عن باقي الأرض وقدره الخمسان ؛ لأنَّ موكليه يشفعون عليه في شرائه من شريكهم في أصل الملك .
ثانياً : كان ملخص جواب المدعى عليه : أنَّ الأرض - في الأصل - حقٌ للبائع عليه بموجب حجة الاستحكام ، وأنَّ ادعاء الاشتراك معه لا دليل عليه . فأدخلت البائع في الدعوى مع المشتري منه ؛ ليكونا مدعىً عليهما .
ثالثاً : أحضر المدعون شاهدين من كبار السن من أهل القرية ؛ فشهدا : أنَّ الأرض ملكٌ في الأصل لجد الورثة ( محمد بن علي ) اشتراها وقلع نخيلها منذ زمنٍ طويل ، وقال أحدهما : إن ذلك كان قبل عام كنزان الموافق 1334هـ .
رابعاً : أحضر المدعون شاهدين آخرين ، فشهدا : أنهما سمعا الحفيد يُقِرُّ بأن الأرض لجده ، وأنه سيعطي بقية الورثة حقوقهم ؛ بعد أن وعظاه عن أكل مال اليتامى من أولاد عمه ؛ غير أنَّ سماعهما لإقراره هذا جاء بعد بيعه الأرض على محاميه ، وزاد أحدهما : أنه سمع ذلك منه مرتين ، بين المرة الأولى والثانية مدة سنتين ، وأنَّه قال له في المرة الثانية : لقد أودعت نصيب الأيتام من أولاد عمي في البنك . وأنه رَدَّ عليه قائلاً : لماذا لا تُسَلِّمه لِوَلِيِّهم ؟. فأجابه بقوله : أنا أقرب منه لهم .
خامساً : عند هذا الحد انتهت الدعوى وما لدى المدعين من بينات ، فبدأ المدعى عليه (المحامي) في ممارسة خبراته وإظهار قدراته في استيعاب المواقف المضادة ، فشرع في محاولات نقض الدعوى .
سادساً : استدل المدعى عليهما على نفي الدعوى بوثيقة اقتسام ورثة الجد لجميع أملاكه بعد وفاته المؤرخة عام 1339هـ ، ولم يرد فيها ذكرٌ للأرض موضع الدعوى ؛ مما يعني أنها ليست ملكاً له .
قلت : وهذا لا يمنع من ادعاء الملكية ؛ فقد يكون الورثة اقتسموا ما تصالحوا على قسمته ، وتركوا ما لم يتصالحوا عليه في حينه ، كما أنَّ الوثيقة نصت على قسمة النخيل ، والعقار موضع الدعوى ليس بنخل ، بل أحالها الجد أرضاً بيضاء منذ اشتراها قبل ثمانية أعوام من وفاته .
سابعاً : قدح المدعى عليه في أحد الشاهدين الأخيرين : بأنَّ والده المتوفى كان ولياً على بعض المدعين .
قلت : أراد المحامي أن يبطل شهادة الشاهد بأنه يشهد لمن كان والده ولياً عليهم . وليس ذلك بقادحٍ للشهادة ؛ لأنَّ نفعَ الشهادة لغير أبيه لو كان حياً ؛ فكيف به وقد مات قبل أداء الشهادة .
ثامناً : جَرَّبَ المدعى عليه إبطال الدعوى بالتقادم ؛ وذكر : أنَّ المدعين لم يُقيموا دعواهم طيلة المدة الماضية ؛ إلا بعد أن اقتطعت مصلحة أملاك الدولة من الأرض أربعة أجزاء .
قلت : الأمر يخص ورثة محمد بن علي الأول وقد ماتوا كلهم ، ولحق بهم غير واحد من ورثتهم ؛ بحسب وثائق حصر الإرث المرصودة في الدعوى ، وبعضهم لا يزالون قاصرين وقت قيام الدعوى ، بل إن بعض وثائق حصر الإرث لم تستخرج إلا قبل قيام الدعوى بعام أو عامين .
تاسعاً : ذكر المحامي أن سجلات مشروع الري والصرف ذكر فيها اسم مالك الأرض ، وأنه والد البائع (علي بن محمد بن علي) وليس اسم الجد ؛ مما يعني أنَّ الأرض ليست للجد في الأصل ، ثم أبرز كشفاً جاء فيه ذكر مجموعة من الأملاك وأسماء أصحابها ، بعضها لأوقاف ، وبعضها لورثة فلان ، وبعضها لفلان وشركاه ، وبعضها لفلان وأخيه .
قلت : مثل هذا الكشف لا حجة فيه للمدعى عليه ؛ لأنَّ تاريخ كتابته جاء بعد وفاة والد البائع بخمسٍ وعشرين سنة ، ولو كان البيان دقيقاً لذكر فيه اسم صاحب الملك : ورثة علي ؛ كما في بعض الأملاك الواردة في البيان ذاته .
عاشراً : واصل المحامي مناوراته بتقديم وصية الجد المحررة بتأريخ 5/ 7/ 1338هـ ، كما قدم وثيقة صلح على فاضل الثلث الوصية حررت عام 1339هـ ، ولم يرد فيهما ذكر للأرض موضع الدعوى .
قلت : عدم ذكرها لا يدل على عدمها ، فإذا لم تكن من الوصية فلن تكون ضمن الصلح على فاضل الوصية ، وبالتالي فلا حاجة لذكرها في الوثيقتين .
حادي عشر : لجأ المحامي إلى قدح الشاهدين الأولين بأنَّ وفاة الجد حصلت عام 1339هـ وهذا يستلزم أن يكونا راشدين ذلك التاريخ .
قلت : بالاطلاع على حفيظتي نفوس الشاهدين وجدت أن أعمارهما أكثر من ثمانين عاماً ، أي أن ميلادهما حصل في حدود العام 1320هـ ، فهما بالغان - ولاشك - وقت وفاة الجد ، ومميزان - حتماً - وقت شراء الملك .
ثاني عشر : طلبت إحضار شاهدي حجة الاستحكام ، فحضر أحدهما وشهد بأنه ليس من أهل القرية ؛ غير أنَّ له ملكاً فيها يجاور الأرض ، وقال : لقد شهدت بأنَّ الأرض تحت يد والد المدعى عليه (البائع) فقط ، ولا أعلم إن كان وارثاً أو مشترياً ، كما لم أشهد بشراء (الحفيد) الأرض كما ورد في الصك !!.
ثالث عشر : أحضرت الشاهد الثاني ، فقال : إنني جار الأرض من الشمال ، وشهادتي إنما هي بتملك (محمد بن علي) الجد وليس الحفيد ؛ كما نسمع من كبار السن في القرية !!.
قلت : انقلب شاهد حجة الاستحكام الثاني ليكون شاهداً للمدعين ، كما ظهر من شهادة شاهدي الاستحكام : أنهما لم يشهدا بتملك المدعى عليه البائع ، ولا بشرائه !!!.
رابع عشر : كان الخصمان يتحاوران فيما بينهما وقت إملائي على كاتب الضبط ، فورد في ثنايا كلام وكيل المدعى عليهما ذِكْرُ رجلين استدل بهما الوكيل على منازل شاهدي الاستحكام لإبلاغهما بموعد الجلسة ، ولأني لم أعهد إليه بأمر التبليغ رأيت من المناسب طلب حضور هذين الدليلين ، فشهدا : بأنهما أرشدا الوكيل إلى منزل كلٍ من شاهدي الاستحكام ، وسمعاه يُغري الشاهدين ليشهدا لموكله البائع ، غير أنهما رفضا ذلك .
قلت : الطريف في الأمر : أنَّ هذين الدليلين شقيقا زوجة المدعى عليه (المحامي) .
خامس عشر : وجد المحامي أن لا سبيل له على المدعين إلا بإبطال شهادة الشهود ، فقرر القدح في شهادة الشاهدين الأخيرين أولاً ، فأحضر من شهد : بأن بينهما وبين البائع عليه جفوةً تمنعهما من السلام عليه ، ومن الدخول إلى أيِّ مكانٍ يريانه فيه ، غير أنهما ذكرا أيضاً : أنَّ البائع على المدعى عليه يفعل معهما مثل ذلك ، فلا يُسَلِّمُ عليهما ، ولا يدخل المكان اللذان يكونان فيه .
سادس عشر : التفت المحامي نحو الشاهدين المسنين ، فأحضر خمسة من الشهود الشباب دون العشرين ؛ ليشهدوا أنهم سمعوا الشاهدين الكبيرين يطلبان من البائع نصيبهما من السعي ، وإلا فسوف يشهدان عليه زوراً !!! . هكذا قالوا أنهم سمعوه من الشاهدين نصاً . ولا تعليق !.
وتعمدت إحضارهم في جلسة أخرى لإعادة شهادتهم ، فاضطربوا وَغَيَّروا من وصف أحداث الشهادة ، ومن أسماء أناسٍ ذكروهم في شهادتهم الأولى .
فسألت أحدهم : من هو الأعمى من الشاهدين المقدوح فيهما ؟. فقال : لا أدري ، وحار في الجواب .
مع أنَّ الشاهدين كلاهما بصيران . وأحد هؤلاء الخمسة أخٌ من الأم للبائع ، أي : أنَّ أمه ممن باع على المدعى عليه كامل الملك .
سابع عشر : ختم المحامي مناوراته بإحضار شاهدين من جيران الأرض ، فشهدا : بأنهما يريان الأرض في يد المدعى عليه البائع منذ تاريخ إخراجه حجة الاستحكام ، ولا يعلمان إن كان له شركاء أو لا .
قلت : لا خلاف في أن الأرض بعد خروج حجة الاستحكام كانت في يد المدعى عليه البائع ، والمطلوب هو ما قبل ذلك .
ثامن عشر : أحضر المدعي من عَدَّل شهوده الأربعة ، أما شاهدا حجة الاستحكام فقد سبق تعديلهما في صك الحجة ، فاكتفيت به .
= عند هذا الحد قرر الطرفان : رغبتهما في إنهاء القضية ؛ لاستنفاذهم ما لديهم من بيناتٍ وأقوال .
فرأيت : أنَّ المدعين قد استقر لهم شهادة ثلاثة رجال - أحدهم شاهد حجة الاستحكام - بأنَّ الأرض ملك للجد في الأصل .
كما سلمت لهم شهادة رجلين بإقرار المدعى عليه البائع بحق المدعين في الأرض .
ولم تسلم جميع محاولات المدعى عليهما لإبطال الدعوى ، ولا للقدح في الشهادات ، ولا لتقوية جانبهما ، فكان من اللازم الحكم للمدعين بما لهم من حقٍ ، وكذا ضمان حق المشتري تجاه البائع ، فجاء الحكم على النحو التالي :
أ/ أفهمت الطرفين بثبوت كون الأرض ملكاً لمورثهم جميعاً (الجد) ، وأنها ملك لورثته من بعده .
ب/ أفهمت المدعي أن لا حق لموكليه البالغين وقت حصول البيع عام 1399هـ في الشفعة على المشتري ؛ لفوات الفورية في إعلانها .
ج/ أفهمت المشتري : أنَّ عليه رفع يده عن 60% من الأرض ، وتخليتها للمدعين ، وكذا تسليمهم قدر تلك النسبة من التعويض الذي قبضه من أملاك الدولة .
د/ أفهمت المشتري : أنَّ له الحقَّ في الإبقاء على نصيب البائع عليه كاملاً ( ما آل إليه بالإرث من أبيه ، وما آل إليه بالشراء من بقية ورثة والده ) وقدره 40% من الأرض ، وإن لم يرغب في ذلك فعليه رفع يده عن باقي الأرض ، وتخليتها للبائع عليه ، وتسليمه باقي التعويض ، وله تَسَلُّمُ عوض شرائه كاملاً من البائع عليه .
هـ/ أفهمت البائع : بأنَّ المشتري منه بالخيار في الإبقاء والرد على النحو السالف .
و/ أفهمت البائع : أنَّ عليه تسليم المدعين بقدر نصيبهم من التعويض الذي قبضه من أملاك الدولة قبل البيع .
هكذا حكمت ، وقنع به الجميع سوى المشتري ، وكان لمحكمة التمييز استدراكٌ غريب ؛ مفاده : أنَّ الحكم لا زال معلقاً ، وأنَّ على القاضي البتَّ في القضية بما يحسم النزاع وينهي الخلاف !!!.
فأجبتهم : بأنَّ الحكم ليس معلقاً ، بل جاء شاملاً جميع ما للخصوم وما عليهم . أما الحكم بالخيار للمشتري فليس تعليقاً ، بل هو حكمٌ بإلزامه بأيِّ الأمرين أراد . وأما عدم تخصيص أحد الخيارين للمشتري لإلزامه به : فلأنه لم يرض بالحكم أصلاً ، فكيف يُلزم بالاختيار قبل اكتساب الحكم القطعية !!!، ثم ذكرت لهم : أنَّ الحكم بالخيار قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث المصراة ، فصدق الحكم بالقرار ذي الرقم 890/ 1 وتأريخ 20/ 7/ 1403هـ .
والتشريع القضائي المطلوب هو التالي :-
1/ لزوم الإسراع في اعتماد الإدارة العامة لشؤون القاصرين ؛ لتدارك ما لهم من حقوق ، قبل ضياعها .
2/ فرض الغرامات على المماطلين في سداد ما عليهم من حقوق ، وكذا فرض العقوبات المقننة على المراوغين في حقوق الناس .
3/ وجاهة تمكين الخصم من مناقشة خصمه ومحاورته تحت إشراف القاضي ؛ فقد يخرج من أيٍ منهما ما ينير الطريق نحو إحقاق الحق .
4/ سن القوانين وإشهارها بين الناس في أمر تزوير الشهادة أو كتمانها أمر لازم ؛ للحد من الجرأة على شهادة الزور ، والتخاذل عن أدائها ، فتضيع حقوق الناس .
5/ حفظ حق القاضي عند الاستفسار منه عن شيء من أحكامه ؛ بما لا يخرج عن أدب أهل العلم ، فلربما انقلب الأمر ، فصار الطالب مطلوباً . والله أعلم
http://www.cojss.com/article.php?a=266
لقد انتهجت في هذه القضية نهجاً جديداً ، ولكثرة البينات فقد نقدت الدليل عند إيراده ؛ درءاً للتكرار من جهة ، وتجنباً للإحالة على الأدلة عند تحليلها .
وكان محلها في الحكم ضمن أسبابه ، مما جعل طول الصك يربو على الثلاثة أمتار ، وهو ثاني أكبر صك أخرجته في مسيرتي القضائية . نسأل الله السلامة وحسن الخاتمة
وملخصها كما يلي :-
= في أول العقد الثالث من القرن الماضي اشترى ( محمد بن علي ) مزرعة خربة ، تحوي نخلاً كثيراً متفاوت الأحجام ، فقلع أشجار النخيل كلها حتى صارت أرضاً بيضاء ؛ ليبدأ زراعتها من جديد ، وكان قلع النخيل حدثاً مشهوداً في القرية ، واستبشر به الكادحون ؛ لأنه يُؤمِّن لهم عملاً مدة طويلة .
= توفي المشتري قبل أن يبدأ زراعة الأرض قريباً من العام 1338هـ ، فانتقلت ملكية الأرض إلى ورثته ، وهم : ابناه علي وحسين وابنته حجية ، ثم توفي ابنه (عليٌ) قريباً من العام 1362هـ ، وانتقل نصيبه لورثته ، ومنهم ابنه (محمد) .
= نشأ حفيد صاحب المزرعة وهو يسمع أن الأرض لجده (محمد بن علي) ، فخطر له أن يستقل بملكية الأرض عن بقية الورثة ؛ مستغلاً تشابه اسمه الثلاثي مع اسم جده المالك الأول للأرض .
= وجد الحفيد أنَّ العقبة الكأداء هم ورثة أبيه فاصطلح معهم ، وأعطاهم عوضاً عن نصيبهم من سهم والدهم في الأرض وقدره 40% .
= في منتصف العام 1390هـ استطاع الحفيد أن يستخرج صكاً على الأرض بإسمه هو فقط ، وكان المساعد له على تخليص إجراءات الاستحكام رجلٌ ضليعٌ في أمور التعقيب والمحاماة .
= بعد صدور صك الاستحكام باسم الحفيد فقط ، اقتطع من الأرض جزءان لصالح دائرة حكومة ، واستلم الحفيد التعويض المقدر ، بعد أن تنازل عن المقتطع لصالح أملاك الدولة كالمتبع .
= ثارت ثائرة بقية ورثة الجد ؛ لأنَّ لهم 60% من ملكية الأرض ، وتوسَّط كثيرٌ من أهل القرية بين الحفيد وشركائه في الإرث ، وكان الحفيد يُكثر من الوعود بالتسوية مع أبناء عمومته ، ساعده على المطل والتسويف أنَّ أكثر الورثة نساء وقاصرون .
= أشار المحامي على الحفيد أن يبيعه الأرض ؛ ليقطع الطريق على الورثة في أمر مطالبته ، فباعه إياها عام 1399هـ بثمنٍ كبيرٍ نسبياً .
= اقتطع من الأرض جزءان آخران ، وقبض المشتري تعويضهما .
= استمرت محاولات المصلحين في التوفيق بين البائع وشركائه على تسليمهم نصيبهم من قيمة الأرض نحواً من ثلاث سنوات ، فلما لم يفلحوا أجمع الورثة أمرهم ، ثم أقاموا دعواهم على المشتري الأخير ؛ لتبدأ مغامرات الكر والفر في هذه القضية بين كلا الطرفين ، وبين المحكمة والمدعى عليه ، وأخيراً بين المحكمة ومحكمة التمييز ، وقد تجلت في هذه المغامرات مقدرة المحامي على المناورة .
= ابتدأت النظر في القضية كالتالي :-
أولاً : طلب وكيل المدعين رفع يد المشتري عن نصيب موكليه من الأرض وقدره ثلاثة أخماسها ؛ لكونه ملكاً لهم بالإرث من جدهم ، كما طلب رفع يد المشتري عن باقي الأرض وقدره الخمسان ؛ لأنَّ موكليه يشفعون عليه في شرائه من شريكهم في أصل الملك .
ثانياً : كان ملخص جواب المدعى عليه : أنَّ الأرض - في الأصل - حقٌ للبائع عليه بموجب حجة الاستحكام ، وأنَّ ادعاء الاشتراك معه لا دليل عليه . فأدخلت البائع في الدعوى مع المشتري منه ؛ ليكونا مدعىً عليهما .
ثالثاً : أحضر المدعون شاهدين من كبار السن من أهل القرية ؛ فشهدا : أنَّ الأرض ملكٌ في الأصل لجد الورثة ( محمد بن علي ) اشتراها وقلع نخيلها منذ زمنٍ طويل ، وقال أحدهما : إن ذلك كان قبل عام كنزان الموافق 1334هـ .
رابعاً : أحضر المدعون شاهدين آخرين ، فشهدا : أنهما سمعا الحفيد يُقِرُّ بأن الأرض لجده ، وأنه سيعطي بقية الورثة حقوقهم ؛ بعد أن وعظاه عن أكل مال اليتامى من أولاد عمه ؛ غير أنَّ سماعهما لإقراره هذا جاء بعد بيعه الأرض على محاميه ، وزاد أحدهما : أنه سمع ذلك منه مرتين ، بين المرة الأولى والثانية مدة سنتين ، وأنَّه قال له في المرة الثانية : لقد أودعت نصيب الأيتام من أولاد عمي في البنك . وأنه رَدَّ عليه قائلاً : لماذا لا تُسَلِّمه لِوَلِيِّهم ؟. فأجابه بقوله : أنا أقرب منه لهم .
خامساً : عند هذا الحد انتهت الدعوى وما لدى المدعين من بينات ، فبدأ المدعى عليه (المحامي) في ممارسة خبراته وإظهار قدراته في استيعاب المواقف المضادة ، فشرع في محاولات نقض الدعوى .
سادساً : استدل المدعى عليهما على نفي الدعوى بوثيقة اقتسام ورثة الجد لجميع أملاكه بعد وفاته المؤرخة عام 1339هـ ، ولم يرد فيها ذكرٌ للأرض موضع الدعوى ؛ مما يعني أنها ليست ملكاً له .
قلت : وهذا لا يمنع من ادعاء الملكية ؛ فقد يكون الورثة اقتسموا ما تصالحوا على قسمته ، وتركوا ما لم يتصالحوا عليه في حينه ، كما أنَّ الوثيقة نصت على قسمة النخيل ، والعقار موضع الدعوى ليس بنخل ، بل أحالها الجد أرضاً بيضاء منذ اشتراها قبل ثمانية أعوام من وفاته .
سابعاً : قدح المدعى عليه في أحد الشاهدين الأخيرين : بأنَّ والده المتوفى كان ولياً على بعض المدعين .
قلت : أراد المحامي أن يبطل شهادة الشاهد بأنه يشهد لمن كان والده ولياً عليهم . وليس ذلك بقادحٍ للشهادة ؛ لأنَّ نفعَ الشهادة لغير أبيه لو كان حياً ؛ فكيف به وقد مات قبل أداء الشهادة .
ثامناً : جَرَّبَ المدعى عليه إبطال الدعوى بالتقادم ؛ وذكر : أنَّ المدعين لم يُقيموا دعواهم طيلة المدة الماضية ؛ إلا بعد أن اقتطعت مصلحة أملاك الدولة من الأرض أربعة أجزاء .
قلت : الأمر يخص ورثة محمد بن علي الأول وقد ماتوا كلهم ، ولحق بهم غير واحد من ورثتهم ؛ بحسب وثائق حصر الإرث المرصودة في الدعوى ، وبعضهم لا يزالون قاصرين وقت قيام الدعوى ، بل إن بعض وثائق حصر الإرث لم تستخرج إلا قبل قيام الدعوى بعام أو عامين .
تاسعاً : ذكر المحامي أن سجلات مشروع الري والصرف ذكر فيها اسم مالك الأرض ، وأنه والد البائع (علي بن محمد بن علي) وليس اسم الجد ؛ مما يعني أنَّ الأرض ليست للجد في الأصل ، ثم أبرز كشفاً جاء فيه ذكر مجموعة من الأملاك وأسماء أصحابها ، بعضها لأوقاف ، وبعضها لورثة فلان ، وبعضها لفلان وشركاه ، وبعضها لفلان وأخيه .
قلت : مثل هذا الكشف لا حجة فيه للمدعى عليه ؛ لأنَّ تاريخ كتابته جاء بعد وفاة والد البائع بخمسٍ وعشرين سنة ، ولو كان البيان دقيقاً لذكر فيه اسم صاحب الملك : ورثة علي ؛ كما في بعض الأملاك الواردة في البيان ذاته .
عاشراً : واصل المحامي مناوراته بتقديم وصية الجد المحررة بتأريخ 5/ 7/ 1338هـ ، كما قدم وثيقة صلح على فاضل الثلث الوصية حررت عام 1339هـ ، ولم يرد فيهما ذكر للأرض موضع الدعوى .
قلت : عدم ذكرها لا يدل على عدمها ، فإذا لم تكن من الوصية فلن تكون ضمن الصلح على فاضل الوصية ، وبالتالي فلا حاجة لذكرها في الوثيقتين .
حادي عشر : لجأ المحامي إلى قدح الشاهدين الأولين بأنَّ وفاة الجد حصلت عام 1339هـ وهذا يستلزم أن يكونا راشدين ذلك التاريخ .
قلت : بالاطلاع على حفيظتي نفوس الشاهدين وجدت أن أعمارهما أكثر من ثمانين عاماً ، أي أن ميلادهما حصل في حدود العام 1320هـ ، فهما بالغان - ولاشك - وقت وفاة الجد ، ومميزان - حتماً - وقت شراء الملك .
ثاني عشر : طلبت إحضار شاهدي حجة الاستحكام ، فحضر أحدهما وشهد بأنه ليس من أهل القرية ؛ غير أنَّ له ملكاً فيها يجاور الأرض ، وقال : لقد شهدت بأنَّ الأرض تحت يد والد المدعى عليه (البائع) فقط ، ولا أعلم إن كان وارثاً أو مشترياً ، كما لم أشهد بشراء (الحفيد) الأرض كما ورد في الصك !!.
ثالث عشر : أحضرت الشاهد الثاني ، فقال : إنني جار الأرض من الشمال ، وشهادتي إنما هي بتملك (محمد بن علي) الجد وليس الحفيد ؛ كما نسمع من كبار السن في القرية !!.
قلت : انقلب شاهد حجة الاستحكام الثاني ليكون شاهداً للمدعين ، كما ظهر من شهادة شاهدي الاستحكام : أنهما لم يشهدا بتملك المدعى عليه البائع ، ولا بشرائه !!!.
رابع عشر : كان الخصمان يتحاوران فيما بينهما وقت إملائي على كاتب الضبط ، فورد في ثنايا كلام وكيل المدعى عليهما ذِكْرُ رجلين استدل بهما الوكيل على منازل شاهدي الاستحكام لإبلاغهما بموعد الجلسة ، ولأني لم أعهد إليه بأمر التبليغ رأيت من المناسب طلب حضور هذين الدليلين ، فشهدا : بأنهما أرشدا الوكيل إلى منزل كلٍ من شاهدي الاستحكام ، وسمعاه يُغري الشاهدين ليشهدا لموكله البائع ، غير أنهما رفضا ذلك .
قلت : الطريف في الأمر : أنَّ هذين الدليلين شقيقا زوجة المدعى عليه (المحامي) .
خامس عشر : وجد المحامي أن لا سبيل له على المدعين إلا بإبطال شهادة الشهود ، فقرر القدح في شهادة الشاهدين الأخيرين أولاً ، فأحضر من شهد : بأن بينهما وبين البائع عليه جفوةً تمنعهما من السلام عليه ، ومن الدخول إلى أيِّ مكانٍ يريانه فيه ، غير أنهما ذكرا أيضاً : أنَّ البائع على المدعى عليه يفعل معهما مثل ذلك ، فلا يُسَلِّمُ عليهما ، ولا يدخل المكان اللذان يكونان فيه .
سادس عشر : التفت المحامي نحو الشاهدين المسنين ، فأحضر خمسة من الشهود الشباب دون العشرين ؛ ليشهدوا أنهم سمعوا الشاهدين الكبيرين يطلبان من البائع نصيبهما من السعي ، وإلا فسوف يشهدان عليه زوراً !!! . هكذا قالوا أنهم سمعوه من الشاهدين نصاً . ولا تعليق !.
وتعمدت إحضارهم في جلسة أخرى لإعادة شهادتهم ، فاضطربوا وَغَيَّروا من وصف أحداث الشهادة ، ومن أسماء أناسٍ ذكروهم في شهادتهم الأولى .
فسألت أحدهم : من هو الأعمى من الشاهدين المقدوح فيهما ؟. فقال : لا أدري ، وحار في الجواب .
مع أنَّ الشاهدين كلاهما بصيران . وأحد هؤلاء الخمسة أخٌ من الأم للبائع ، أي : أنَّ أمه ممن باع على المدعى عليه كامل الملك .
سابع عشر : ختم المحامي مناوراته بإحضار شاهدين من جيران الأرض ، فشهدا : بأنهما يريان الأرض في يد المدعى عليه البائع منذ تاريخ إخراجه حجة الاستحكام ، ولا يعلمان إن كان له شركاء أو لا .
قلت : لا خلاف في أن الأرض بعد خروج حجة الاستحكام كانت في يد المدعى عليه البائع ، والمطلوب هو ما قبل ذلك .
ثامن عشر : أحضر المدعي من عَدَّل شهوده الأربعة ، أما شاهدا حجة الاستحكام فقد سبق تعديلهما في صك الحجة ، فاكتفيت به .
= عند هذا الحد قرر الطرفان : رغبتهما في إنهاء القضية ؛ لاستنفاذهم ما لديهم من بيناتٍ وأقوال .
فرأيت : أنَّ المدعين قد استقر لهم شهادة ثلاثة رجال - أحدهم شاهد حجة الاستحكام - بأنَّ الأرض ملك للجد في الأصل .
كما سلمت لهم شهادة رجلين بإقرار المدعى عليه البائع بحق المدعين في الأرض .
ولم تسلم جميع محاولات المدعى عليهما لإبطال الدعوى ، ولا للقدح في الشهادات ، ولا لتقوية جانبهما ، فكان من اللازم الحكم للمدعين بما لهم من حقٍ ، وكذا ضمان حق المشتري تجاه البائع ، فجاء الحكم على النحو التالي :
أ/ أفهمت الطرفين بثبوت كون الأرض ملكاً لمورثهم جميعاً (الجد) ، وأنها ملك لورثته من بعده .
ب/ أفهمت المدعي أن لا حق لموكليه البالغين وقت حصول البيع عام 1399هـ في الشفعة على المشتري ؛ لفوات الفورية في إعلانها .
ج/ أفهمت المشتري : أنَّ عليه رفع يده عن 60% من الأرض ، وتخليتها للمدعين ، وكذا تسليمهم قدر تلك النسبة من التعويض الذي قبضه من أملاك الدولة .
د/ أفهمت المشتري : أنَّ له الحقَّ في الإبقاء على نصيب البائع عليه كاملاً ( ما آل إليه بالإرث من أبيه ، وما آل إليه بالشراء من بقية ورثة والده ) وقدره 40% من الأرض ، وإن لم يرغب في ذلك فعليه رفع يده عن باقي الأرض ، وتخليتها للبائع عليه ، وتسليمه باقي التعويض ، وله تَسَلُّمُ عوض شرائه كاملاً من البائع عليه .
هـ/ أفهمت البائع : بأنَّ المشتري منه بالخيار في الإبقاء والرد على النحو السالف .
و/ أفهمت البائع : أنَّ عليه تسليم المدعين بقدر نصيبهم من التعويض الذي قبضه من أملاك الدولة قبل البيع .
هكذا حكمت ، وقنع به الجميع سوى المشتري ، وكان لمحكمة التمييز استدراكٌ غريب ؛ مفاده : أنَّ الحكم لا زال معلقاً ، وأنَّ على القاضي البتَّ في القضية بما يحسم النزاع وينهي الخلاف !!!.
فأجبتهم : بأنَّ الحكم ليس معلقاً ، بل جاء شاملاً جميع ما للخصوم وما عليهم . أما الحكم بالخيار للمشتري فليس تعليقاً ، بل هو حكمٌ بإلزامه بأيِّ الأمرين أراد . وأما عدم تخصيص أحد الخيارين للمشتري لإلزامه به : فلأنه لم يرض بالحكم أصلاً ، فكيف يُلزم بالاختيار قبل اكتساب الحكم القطعية !!!، ثم ذكرت لهم : أنَّ الحكم بالخيار قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث المصراة ، فصدق الحكم بالقرار ذي الرقم 890/ 1 وتأريخ 20/ 7/ 1403هـ .
والتشريع القضائي المطلوب هو التالي :-
1/ لزوم الإسراع في اعتماد الإدارة العامة لشؤون القاصرين ؛ لتدارك ما لهم من حقوق ، قبل ضياعها .
2/ فرض الغرامات على المماطلين في سداد ما عليهم من حقوق ، وكذا فرض العقوبات المقننة على المراوغين في حقوق الناس .
3/ وجاهة تمكين الخصم من مناقشة خصمه ومحاورته تحت إشراف القاضي ؛ فقد يخرج من أيٍ منهما ما ينير الطريق نحو إحقاق الحق .
4/ سن القوانين وإشهارها بين الناس في أمر تزوير الشهادة أو كتمانها أمر لازم ؛ للحد من الجرأة على شهادة الزور ، والتخاذل عن أدائها ، فتضيع حقوق الناس .
5/ حفظ حق القاضي عند الاستفسار منه عن شيء من أحكامه ؛ بما لا يخرج عن أدب أهل العلم ، فلربما انقلب الأمر ، فصار الطالب مطلوباً . والله أعلم
http://www.cojss.com/article.php?a=266