عرفات تركى
17-04-2014, 11:29 AM
أنـواع التعـزيـر
ليس للتعزير حدٌ معينٌ ، لكن إذا كانت المعصية لها حد مقدر من جنسها ، فلا يبلغ التعزير ذلك الحد المقدر ، كالشتم بدون قذف لا يبلغ فيه حد القذف .
وقد يصل التعزير إلى القتل إذا اقتضته المصلحة ، ولم تندفع المفسدة إلا به ، كفعل خطير يمس أمن الدولة وكيانها واستقرارها ، وكقتل الجاسوس ، والداعي إلى الفتنة وتفرقة جماعة المسلمين ، والداعي إلى البدعة ونحوهم .
ونوع التعزير وتقديره غير مقدر ، ويرجع في اختيار نوع التعزير إلى اجتهاد الحاكم أو القاضي بحسب الحاجة ، وما تقتضيه مصلحة الجماعة ، وسلامة النظام العام ، وما من شأنه أن يحقق حكمة مشروعية التعزير ، ولتفاوت الجرائم ، واختلاف الزمان والمكان أيضاً كان لأولى الأمر تحديد نوع عقوبة التعزير ، فللقاضي أو الحاكم أن ينزل بعقوبة التعزير إلى حدها الأدنى ، أو يرتفع بها إلى الحد الأعلى .
تصنيف العقوبات التعزيرية
يمكن تصنيف العقوبات التعزيرية - بشكل مجمل - إلى ما يلي :
ما يتعلق بالأبدان كالقتل والجلد .
ما يتعلق بالأموال كالإتلاف والتغريم « الغرامة : ما يُلزم المرء بأدائه تأديباً أو تعويضاً » .
ما هو مركب منهما كجلد السارق من غير حرز « الحرز : المكان المعد لحفظ المال ونحوه » مع إضعاف التغريم عليه .
ما يتعلق بتقييد الإرادة كالحبس والنفي « النفي : الإخراج من بلد الإقامة إلى بلد آخر » .
ما يتعلق بالمعنويات كالتوبيخ والزجر ، وكذا التعزير بالتشهير « التشهير : إشاعة السوء عن إنسان ما بين الناس » ، أو العزل عن المنصب .
عقوبة القتل تعزيراً
الأصل في الشريعة أن التعزير للتأديب ، وأنه يجوز من التعزير ما أمنت عاقبته غالباً ، فينبغي أن لا تكون عقوبة التعزير مهلكة ، ومن ثم فلا يجوز في التعزير قتل ولا قطع ، لكن الفقهاء أجازوا استثناء من هذه القاعدة العامة أن يعاقب بالقتل تعزيراً إذا اقتضت المصلحة العامة وحماية الجماعة تقرير عقوبة القتل ، أو كان فساد المجرم لا يزول إلا بقتله ، كقتل الجاسوس ، وقتل الداعية إلى البدعة ، ومعتاد الجرائم الخطيرة .
ولأن القتل تعزيراً جاء استثناء من القاعدة العامة التي تدل على أنه يجوز من التعزير ما أمنت عاقبته غالباً ، فلا يجوز في التعزير قتل ولا قطع ، لذلك فإنه لا يتوسع في القتل تعزيراً ، ولا يترك أمره كلياً للقاضي ككل العقوبات التعزيرية ، بل يجب أن يعين ولي الأمر الجرائم التي يجوز فيها الحكم بالقتل ، وقد اجتهد الفقهاء وقاموا بتعيين الجرائم التي يحكم بها بالقتل - تعزيراً - وتحديدها ، فلم يبيحوا القتل إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك ، كأن يكون المجرم قد تكررت جرائمه ، ويئس من إصلاحه ، أو كان استئصال المجرم ضرورياً لدفع فساده وإجرامه ، وحماية الجماعة ومصالحها منه .
دليل مشروعية القتل تعزيرا
مصدر عقوبة القتل تعزيراً السنة النبوية الشريفة « السنة القولية » :
يروي عن رسول الله أنه قال : من خرج على أمتي وهم جميع على رجل يريد أن يشق عصاكم ، ويفرق جماعتكم فاقتلوه [ تهذيب الكمال / يوسف ابن الذكي ] .
عقوبة القتل في الشريعة الإسلامية
جعلت الشريعة الإسلامية القتل عقوبة في أربع جرائم من جرائم الحدود هي : الزنا ، والحرابة ، والردة ، والبغي ، وجعلت عقوبة القتل في جريمة واحدة من القصاص هي القتل العمد ، ولم تجعل الشريعة الإسلامية عقوبة القتل تعزيراً إلا في جرائم تعزيرية محدودة العدد ، فإذا قدرنا أن لجرائم التعزيرية التي يمكن العقاب عليها بالقتل تصل إلى خمس جرائم - كقياس على جرائم الحدود والقصاص معاً - كانت كل الجرائم المعاقب عليها بالقتل في الشريعة الإسلامية لا تزيد على عشر جرائم - عند من يجيز القتل تعزيراً - ، وكان عدد الجرائم التي يعاقب عليها بالقتل لا يزيد على خمس جرائم - جرائم الحدود والقصاص فقط - عند من لا يجيز القتل تعزيراً .
لا بد من الإشارة إلى أن الشريعة الإسلامية لم تسرف في فرض عقوبة القتل ، كما أنها لم تفرضها دون مقتضى وحاجة ، وهذه ميزة انفردت بها الشريعة الإسلامية من يوم نزولها ، وتفوقت بها على سائر القوانين الوضعية .
عقوبة القتل في القوانين الوضعية
كانت القوانين الوضعية إلى أواخر القرن الثامن عشر تسرف في عقوبة القتل إلى حد بعيد ، فقد كان القانون الانجليزي مثلاً يعاقب على مائتي جريمة بالإعدام ، والقانون الفرنسي يعاقب على مائة وخمس عشرة جريمة بالإعدام أيضاً .
وقد حاولت بعض البلاد الأوربية في العهد الأخير أن تلغي عقوبة القتل ، ولكن حركة الإلغاء هذه وقفت تحت تأثير النظرية الإيطالية التي ترى في عقوبة القتل وسيلة حسنة لاستئصال من لا يرجى صلاحهم من المجرمين ، وقد ألغت بعض الدول الأوربية كإيطاليا وروسيا والنمسا عقوبة القتل فعلاً ، ثم عادت فقررت القتل عقوبة في قوانينها .
وعقوبة القتل مقررة في كل الدول الكبرى كإنجلترا ، وألمانيا ، وأمريكا ، وفرنسا ، ويبرر شراح القوانين الوضعية عقوبة القتل أنها وسيلة صالحة لمقاومة الإجرام ولاستئصال المجرمين الخطرين على مستوى الجماعة ، وهي نفس المبررات التي قال بها فقهاء الأمة الإسلامية في القتل تعزيراً .
عقوبة الجلد
تعتبر عقوبة الجلد من العقوبات الأساسية في الشريعة الإسلامية ، فهي عقوبة من العقوبات المقررة للحدود ، وهي من العقوبات المقررة في جرائم التعزير الخطيرة ، فالجلد يصلح لأن يكون عقوبة لأي جريمة من جرائم التعزير ، سواء أكان الجلد عقوبة على الجرائم التي شرعت في جنسها الحدود ، كأن يعاقب بالجلد تعزيراً على السرقات التي لا حد فيها ، وعلى الزنا الذي لا حد فيه ، وهكذا ، أم يعاقب بالجلد تعزيراً على الجرائم التي ليس في جنسها ما يوجب الحد .
مميزات عقوبة الجلد
يعتبر الجلد من أكثر العقوبات ردعاً للمجرمين الخطرين الذين اعتادوا على الإجرام وطبعوا عليه ، كما أن الجلد عقوبة ذات حدين فيمكن أن يجازى بها كل مجرم بالقدر الذي يلائم جريمته ، ويلائم شخصيته في آن واحد .
كما تمتاز عقوبة الجلد بأن تنفيذها لا يثقل كاهل الدولة وميزانيتها ، ولا يعطل الجاني المحكوم عليه عن العمل والإنتاج ، كما أن أهل الجاني المحكوم عليه ومن يعولهم لا يعرضوا للضياع ، أو الحرمان ، أو الفقر والحاجة كما هو الحال في الحبس مثلاً ؛ لأن عقوبة الجلد تنفذ في الحال ، والمجرم يذهب بعد تنفيذ العقوبة إلى حال سبيله مباشرة ، فلا يتعطل عمله ، ولا يشقى ويتعسُ بعقابه أهله .
ومن أهم ميزات عقوبة الجلد - إضافة إلى ما ذُكر - أنها تحمي الجاني المحكوم عليه من شر السجن - الحبس - ، وآثاره السلبية التي تظهر على المسجونين من فساد أخلاقهم ، واعتيادهم التعطل والنفور من العمل ، وضعف صحتهم ، وتحطم نفسياتهم وغير ذلك من السلبيات التي يجرها السجن على المسجونين في أكثر الحالات .
الحد الأدنى للجلد
يرى بعض الفقهاء أن يكون أقل الجلد ثلاث جلدات ؛ لأن هذا القدر أقل ما يزجر ويؤدب به ، لكن البعض الآخر لا يرى جعل حد أدنى للجلد ؛ لأن أثر الزجر والتأديب يختلف باختلاف الناس ، واختلاف طبائعهم ، وأمكنتهم ، وأزمانهم .
الحد الأعلى للجلد
اختلف الفقهاء في الحد الأعلى للجلد على آراء منها :
من الفقهاء من يرى أن تعيين الحد الأعلى للجلد متروك لولي الأمر ؛ لأن التعزير يكون بحسب المصلحة ، وعلى قدر الجريمة ، فيجتهد فيه ولي الأمر ، وعلى هذا يجوز - عند أصحاب هذا الرأي - أن يضرب الجاني - المجرم - أكثر من مائة جلدة ، ولو أن أشد الجلد في جرائم الحدود لا يزيد على مائة جلدة .
ومن الفقهاء من يرى أن الحد الأعلى للجلد في التعزير تسعة وثلاثون سوطاً - جلدة - واحتجوا بقول رسول الله : من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين [ رواه البيهقي ] ، أصحاب هذا الرأي يرون أن لفظ الحدود ورد في الحديث الشريف منكراً ، فقالوا : إن المقصود به حد ما ، والأربعون حد كامل للرقيق ، فإذا نقصت سوطاً أصبح الحد الأعلى للتعزير تسعة وثلاثين .
وآخرون يرون أن الحد الأعلى للجلد خمسة وسبعون سوطاً ، واحتج أيضاً بقوله : من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين [ رواه البيهقي ] ، إلا أنهم صرفوا لفظ الحد إلى حد الأحرار وأقله ثمانون جلدة ، وكان القياس أن يجعل الحد الأعلى تسعة وستين سوطاً ، لكنهم اقتفوا - اتبعوا وساروا - أثر « الأثر : ما جاء في خبر من قبلنا » علي بن أبي طالب حيث جعل الحد الأعلى للتعزير خمسة وسبعين سوطاً ينقص خمسة أسواط عن أدنى حدود الأحرار - ثمانين جلدة - .
وذهب بعض الفقهاء إلى أن يزيد الحد الأعلى للجلد عن خمسة وسبعين جلدة ، ولا يصل إلى مائة جلدة ، بشرط أن تقاس كل جريمة بما يليق بها مما فيه حد ، فينقص تعزير مقدمة الزنا عن حده - حد الزنا - وإن زاد عن حد القذف - وحد القذف ثمانين جلدة - ، وينقص تعزير السب عن حد القذف ، أي : أنه لا يبلغ بالتعزير في معصية - من جنسها حد - قدر الحد فيها ، فلا يبلغ التعزير على التقبيل حد الزنا ، ولا بالتعزير على الشتم دون القذف حد القذف وهكذا .
وقال بعض الفقهاء : أن الجلد لا يصح أن يبلغ في كل جناية حداً مشروعاً في جنسها ، ولكنه يصح أن يزيد على الحد في جناية من غير جنس الجناية المشروع فيها الحد ، فمثلاً حد الزاني غير المحصن الجلد مائة جلدة ، وحد الزاني المحصن الرجم ، فلا يصح أن يعاقب على خلوة بأجنبية ، أو تقبيل أو غير ذلك من مقدمات الزنا بالجلد مائة جلدة إذا كان الفاعل غير محصن حتى لا يبلغ العقاب حداً في غير حد ، ولكن يجوز إذا كان الفاعل محصناً أن يجلد مائة جلدة فأكثر ؛ لأن حد الزاني المحصن هو الرجم ، والجلد أياً كان عدد الجلدات لا يبلغ حد الرجم .
وقال آخرون : أنه لا يصح أن يزاد في التعزير على عشرة أسواط بأي حال ، وحجة القائلين بهذا الرأي ما رواه أبو بردة قال : سمعت رسول الله يقول : لا تجلدوا فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله [ رواه البخاري ] .
عقوبة الحبس
الحبس في الشريعة الإسلامية على نوعين :
حبس محدد المدة .
حبس غير محدد المدة .
الحبس المحدد المدة
تعاقب الشريعة الإسلامية بالحبس المحدد المدة على جرائم التعزير العادية ، وتعاقب به المجرمين العاديين ، غير أن الفقهاء يفضلون عقوبة الجلد على غيرها من العقوبات خاصة إذا كانت الجرائم خطيرة ، كالجرائم التي تهدد أمن الدولة واستقرارها ، أو كان المجرم - الجاني - خطير ومعتاد الإجرام ، أو ممن لا يردعه إلا الجلد .
مدة الحبس المحدد المدة
أقل مدة هذا النوع من الحبس يوم واحد ، أما حده الأعلى فمختلف فيه ، فالبعض يرى أن لا يزيد عن ستة أشهر ، وبعض يرى أن يترك تقدير حده الأعلى لولي الأمر ، وبعض آخر يرى أن لا يصل الحبس إلى سنة كاملة ؛ لأنهم يقيسونه على التغريب في حد الزنا ، والتغريب لا يزيد على عام فوجب أن يقل الحبس عن عام ، حتى لا يعاقب بحد في غير حد .
ويجوز أن يجمع بين الحبس والضرب ، إذا وجد أن إحدى العقوبتين لا تكفي وحدها ، ويشترط - بعض الفقهاء - عند الجمع بين الحبس والضرب أن لا يُوقع على الجاني من إحدى العقوبتين إلا ما يعتبر مكملاً لما نقص من العقوبة الثانية ، فإذا ضرب الجاني نصف الجلدات المقررة للتعزير حبس نصف المدة المقررة للحبس وهكذا ، ولا يشترط فقهاء وآخرون هذا الشرط ، فيجوز عندهم أن يضرب الجاني كل الجلدات المقررة للتعزير ، ثم يحبس بعد ذلك المدة الكافية لتأديبه وزجر غيره .
أوجه الاختلاف في الحبس المحدد المدة بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية
يختلف موقف الشريعة الإسلامية من عقوبة الحبس اختلافاً بيناً عن موقف القوانين الوضعية ، ويتضح ذلك جلياً فيما يلي :
عقوبة الحبس في القوانين الوضعية هي العقوبة الأولى والأساسية التي يعاقب بها في كل الجرائم تقريباً ، سواء كانت الجرائم خطيرة أو بسيطة ، أما الشريعة الإسلامية فعقوبة الحبس نوع من أنواع العقوبات التعزيرية ، وهي ليست إلاّ عقوبة ثانوية لا يعاقب بها إلاّ على الجرائم البسيطة ، كما أنها عقوبة اختيارية للقاضي أن يعاقب بها أو يتركها ، ولا يعاقب بها إلاّ إذا كانت رادعة للجاني ، زاجرة لغيره .
عدد المحبوسين في البلاد التي تطبق الشريعة الإسلامية قليل إذا ما قورن بعدد المحبوسين في البلاد التي يطبق بها القوانين الوضعية ، وبالتالي يتم التقليل - في البلاد الإسلامية - من الآثار السلبية التي قد تنتج من الحبس ، من حاجة وفقر أهل المحبوس ومن يعيلهم ، ومن اعتياد المحبوس على الراحة وعدم العمل ونحو ذلك .
تتعرض القوانين الوضعية بشكل كبير لمشاكل الحبس والمحبوسين ، - باعتبار أن الحبس عقوبة أساسية في كل الجرائم تقريباً - ، ومن ذلك ازدياد عدد المحكوم عليهم بالحبس ، وامتلاء المحابس - السجون - بهم حتى ضاقت على سعتها ، فثقل كاهل الدولة ، وأصبحت السجون مكاناً للتآمر ومدرسة للإجرام بالرغم من أنها أنشئت للوقاية من الإجرام ؛ لأن اجتماع المسجونين يسمح لهم بالتعارف والتآمر على ارتكاب الجرائم ، وتبادل المعلومات ، أما عقوبة الحبس في الشريعة الإسلامية فإنها لا تؤدي إلى مثل هذه المشاكل والنتائج السابقة ؛ لأنها لا توقع عقوبة الحبس إلاّ في بعض الجرائم البسيطة ، وعلى المجرمين غير الخطرين ، الذين يرتدعون بالحبس ، ولمدة قصيرة ، وبشرط أن يرى القاضي أن الحبس يردع الجاني ويزجر غيره ، ومن ثم يكون عدد المسجونين قليلاً ، ومدة بقائهم في السجن قصيرة ، وأخلاقهم غير فاسدة ، فليس فيهم من مرّن على الإجرام أو اعتاده ، وهكذا تنتفي أسباب عيوب عقوبة الحبس القائمة في القوانين الوضعية بتطبيق نصوص الشريعة الإسلامية .
الحبس غير محدد المدة
الحبس غير محدد المدة يعاقب به المجرمون الخطرون ، ومعتادو الإجرام ، ومن اعتاد ارتكاب الجرائم الخطرة وتكرر ارتكابه لها ، ومن لا تردعهم العقوبات العادية ، فيظل المجرم محبوساً حتى تظهر توبته ، وينصلح حاله ، فيطلق سراحه ، وإلا بقي محبوساً مكفوفاً شره عن الجماعة ومصالحهم حتى يموت .
مدة الحبس لا تحدد مقدماً ؛ لأنه حبس لا مدة له ، بل هو حبس حتى الموت ينتهي بموت المحكوم عليه ، أو تبتوبته قبل ذلك وانصلاح حاله .
يعتبر الحبس غير محدد المدة تطبيقاً لنظرية العقوبة غير المحددة في عصرنا الحاضر ، والتي تعد من العناصر الجوهرية في تدابير الأمن ، ومن أحدث العقوبات التي يعالج بها الإجرام على أساس من علم النفس والاجتماع ، ومن العقوبات المؤدية لوظيفتي الاستئصال والإصلاح .
دليل مشروعية عقوبة الحبس
مصدر مشروعية عقوبة الحبس هي السنة النبوية العملية ، فقد روي أن النبي حبس رجلاً في تهمة [ رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين ] .
وعمر بن الخطاب اشترى داراً بمكة بأربعمائة درهم فجعلها حبساً .
عقوبة التغريب
التغريب : هو النفي والإبعاد قصراً - جبراً - عن وطن ومكان الإقامة .
التغريب نوع من أنواع التعزير ، يلجأ لها - عادة - إذا تعدت أفعال المجرم إلى اجتذاب غيره إليها ، أو استضراره بها « أي إلحاق الضرر من فعله بالغير » .
مدة التغريب
من الفقهاء من يرى أن لا تصل مدة التغريب - الإبعاد - إلى سنة كاملة ؛ لأن التغريب شرع في الزنا حداً - حد الزاني غير المحصن الجلد مائة جلدة والتغريب عام - ، ومدته عام ، فيجب أن لا تصل مدة التغريب في التعزير عاماً ؛ تحقيقاً لقول رسول الله : من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين [ رواه البيهقي ] .
ومن الفقهاء من يرى أنه يصح أن تزيد مدة التغريب عن سنة دون تحديد المدة ، باعتبار أن التغريب عقوبة غير محددة ، فيترك لولي الأمر أن يأذن للمغرب في العودة إذا صلح حاله ، وظهرت توبته .
أحكام المغرب « الجاني »
المحكوم عليه بعقوبة التغريب لا يحبس في مكان معين ، ولكن يصح - عند البعض - أن يوضع تحت المراقبة ، وأن تقيد حريته ببعض القيود .
ليس للجاني المحكوم عليه بالتغريب أن يعود للمكان الذي غرب عنه قبل انتهاء مدة التغريب - عند من يحددون له مدة - ، أو قبل توبته والإذن له بالعودة - عند من لا يحددون للتغريب مدة - .
دليل مشروعية عقوبة التغريب
دليل مشروعية التغريب السنة النبوية الفعلية ، فقد عاقب رسول الله بالتغريب ، فأمر رسول الله برجل من المخنثين فأخرج عن المدينة ، كما أن الصحابة فعلوا مثل ذلك ، فعمر بن الخطاب عاقب ضبيعاً بالضرب ونفاه إلى البصرة أو الكوفة ، كما نفى عمر بن الخطاب نصر بن الحجاج من المدينة ، كما أجمع فقهاء الأمة الإسلامية وعلماؤها على أن التغريب نوع من العقوبة التعزيرية .
من فوائد عقوبة التغريب
لعقوبة التغريب فوائد ومحاسن منها :
ردع الجاني وتأديبه وإصلاحه وزجر غيره وتخويفه .
إبعاد الجاني المحكوم عليه بالتغريب عن مكان اقترافه للجريمة - المعصية - يمهد له نسيان الجريمة بأسرع ما يمكن ، أما في بقائه في المكان ذاته فمن شأنه أن يُحيي ذكرى الجريمة التي ارتكبها الجاني ويحول دون نسيانها بسهولة .
في عقوبة التغريب تجنيب الجاني من مضايقات كثيرة لا بد أن يلقاها إذا لم يبتعد ، وقد تصل هذه المضايقات إلى درجة قطع الرزق ، إضافة إلى التحقير والمهانة .
في التغريب - الإبعاد - يهيًّأ للجاني أن يحيا من جديد حياة كريمة ، وأن يتعهد نفسه فيربيها على شرع الله تعالى .
حماية المجتمع ، والمحافظة على أمنه ومصالحه ، عند تغريب الجاني والتخلص من ضرره وخطره .
عقوبة الصلب
الصلب : هو تعليق الجاني المحكوم عليه بالصلب على جذع أو نحوه .
الصلب حداً ، عقوبة يُعاقب بها في جريمة الحرابة ، فيرى بعض الفقهاء صلب المحكوم عليه حداً - الجاني في جريمة الحرابة - بعد قتله ، ومنهم من يرى صلبه حياً ثم قتله وهو مصلوب ، أما الصلب تعزيراً فلا يصحبه القتل طبعاً ولا يسبقه ، وإنما يصلب المحكوم عليه تعزيراً حياً ، ولا يمنع عنه طعامه ولا شرابه ، ولا يمنع من الوضوء للصلاة ، ولكنه يصلي إيماء « إيماء : الصلاة بالإشارة بأحد الجوارح كاليد أو الحاجب أو غيرهما » .
عقوبة الصلب هي عقوبة بدنية يقصد منها التأديب والإصلاح والتشهير معاً ، وهي أشبه ما تكون بعقوبة التلاميذ حين يؤمرون بالوقوف وأيديهم مرفوعة إلى أعلى زمناً ما أمام بقية التلاميذ ، أو حين يؤمرون بأن يجلسوا على ركبهم زمناً طويلاً أو قصيراً .
الصلب تعزيراً عقوبة غير لازمة ، فالأمر في جعلها عقوبة مشروعة أو تركها متروك للقاضي أو ولي الأمر ، فإن وجد أنها وسيلة تؤدي إلى إصلاح الجاني وتأديبه وحماية الجماعة من شره أقرت واعتبرت عقوبة مشروعة لبعض الجرائم أو كلها - بحسب ما يراه القاضي مناسباً - ، وإن وجد أنها لا تصلح ولا من شأنها إصلاح ولا تأديب ولا حماية أهملت وتركت ولم تشرع عقوبة .
من شأن عقوبة الصلب - تعزيراً - ردع الجاني وتأديبه وإصلاحه باشتهار أمره ، وردع غيره من الإتيان بمثل فعله .
مدة الصلب تعزيرا
يشترط الفقهاء في عقوبة الصلب - تعزيراً - أن لا تزيد مدة صلب المحكوم عليه على ثلاثة أيام .
عقوبة الوعظ وما دونها
يعتبر الوعظ عقوبة تعزيرية في الشريعة الإسلامية ، فيجوز للقاضي أن يكتفي في عقاب الجاني بوعظه - نصحه وإرشاده - إذا رأى أن في الوعظ ما يكفي لإصلاحه وردعه .
وفي الشريعة الإسلامية من العقوبات التعزيرية ما هو دون الوعظ ، فإعلان الجاني بجريمة تعد عقوبة تعزيرية ، وفي إحضاره إلى مجلس القضاء عقوبة تعزيرية ، كما أن النظر قد يأتي أحياناً عقوبة تعزيرية ، وكذلك التهديد والتخويف .
وعقوبة الوعظ وما دونها لا توقع إلا على من غلب على الظن أنها تصلحه وتزجره وتؤثر فيه .
دليل مشروعية عقوبة الوعظ وما دونها
نص القرآن الكريم صراحةً على عقوبة الوعظ في
[ سورة النساء آية 34 ]
وقد ورد أن عمر بن الخطاب استخدم النظر عقوبة تعزيرية مع عدد من الصحابة ، وكانت هذه النظرة زاجرة ورادعة لهم .
عقوبة الهجر
من العقوبات التعزيرية في الشريعة الإسلامية الهجر ، والهجر ضد الوصل ، وهو الترك والإعراض ، يقال : هجرت الشيء هجراً إذا تركته وأغفلته ، والهجر قد يكون هجر كلام ، أو هجراً في التعامل ، أو هجر معاشرة - « هجر المعاشرة : ترك الزوج جماع زوجته ومعاشرتها » - كما قد يقع بين الزوجين .
دليل مشروعية عقوبة الهجر
دل على مشروعية عقوبة الهجر القرآن الكريم والسنة النبوية العملية .
فقد ورد في القرآن الكريم الهجر تعزيراً للزوجة الناشز « الناشز : التي خرجت عن طاعة زوجها ، ولا تؤدي كل واجباتها الزوجية » في
[ سورة النساء آية 34 ]
وعاقب رسول الله بالهجر ، فأمر بهجر الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك وهم : كعب بن مالك ، مرارة بن ربيعة ، وهلال بن أمية ، فهجرهم المسلمون خمسين يوماً لا يكلمهم أحد حتى نزل
[ سورة التوبة آية 118 ]
كما هجر رسول الله زوجاته شهراً كاملاً .
ومن فعل الصحابة فعل عمر بن الخطاب الذي عاقب ضبيعاً بالهجر مع التغريب ، فكان لا يكلمه أحد حتى تاب ، فكتب عامل البلد التي غُرّب إليها إلى عمر كتاباً يخبره بتوبته ، فأذن عمر للناس في كلامه .
مدة الهجر
الهجر كعقوبة تعزيرية تفرض على المهجور من قبل القاضي أو ولي الأمر ، تنتهي عقوبة الهجر بتوبة المهجور توبة صادقة ، وصلاح حاله ، وتأدبه .
عقوبة التوبيخ
من العقوبات التعزيرية في الشريعة الإسلامية عقوبة التوبيخ ، فإذا رأى القاضي أن التوبيخ يكفي لإصلاح الجاني وتأدبه اكتفى بتوبيخه ، والتوبيخ هو اللوم والتأنيب والمعاتبة .
دليل مشروعية عقوبة التوبيخ
عزر رسول الله بالتوبيخ ، ومن ذلك ما رواه أبو ذر قال : ساببت رجلاً فعيرته بأمه ، فقال لي النبي : يا أبا ذر أعيرته بأمه ، إنك امرؤ فيك جاهلية [ رواه البخاري ] .
عقوبة التوبيخ في القوانين الوضعية
عرفت القوانين الوضعية عقوبة التوبيخ في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، بينما الشريعة الإسلامية عرفت هذه العقوبة - وغيرها من العقوبات - وأقرتها منذ أربعة عشر قرناً وأكثر .
أخذت القوانين الوضعية بالتوبيخ القضائي كعقوبة للجرائم البسيطة ، وعقوبة للمجرمين المبتدئين غير المتمرسين على الإجرام والجرائم .
عقوبة التهديد
التهديد عقوبة تعزيرية في الشريعة الإسلامية بشرطين هما :
أن لا يكون التهديد تهديداً كاذباً .
أن يرى القاضي أن عقوبة التهديد ناجعة تكفي لإصلاح الجاني وتأديبه وردعه .
من أمثلة التهديد
من التهديد أن ينذر القاضي الجاني بأنه إذا عاد لفعله ومعصيته فسيعاقبه بالجلد أو الحبس ، أو سيعاقبه بأقصى العقوبة .
ومن التهديد أيضاً أن يحكم القاضي بالعقوبة ، ويوقف تنفيذها إلى مدة معينة .
دليل مشروعية عقوبة التهديد
قال رسول الله : لا ترفع عصاك عن أهلك وأخفهم في الله [ رواه الإمام أحمد ] .
وجه الدلالة : النبي يسن عقوبة التهديد بالعقاب ، فهذا المستفاد من عدم رفع العصا - الضرب - والتخويف فقط .
عقوبة التهديد في القوانين الوضعية
عرفت القوانين الوضعية عقوبة التهديد ، وطبق التهديد القضائي على من كان التهديد كافياً لزجرهم وإصلاحهم ، وقد طبقت القوانين الوضعية عقوبة التهديد بطرق مختلفة ، فالبعض يرى أن يحكم القاضي بالعقوبة مع إيقاف تنفيذها لمدة معينة ، فإن عاد الجاني لفعله أمكن تنفيذ العقوبة الموقوفة ، والبعض يرى أن لا يصدر القاضي حكماً ، بل يوقف إصدار الحكم إلى أمر معين ، وبعضها يرى الاكتفاء بإنذار الجاني أن لا يعود لجريمته .
عقوبة التشهير
من العقوبات التعزيرية في الشريعة الإسلامية عقوبة التشهير ، ويقصد بالتشهير : الإعلان والمجاهرة عن جريمة المحكوم عليه - الجاني - بين الناس كافة ، ويكون التشهير عادة في الجرائم التي يعتمد فيها المجرم على ثقة الناس ، كشهادة الزور ، والتزوير ، والغش .
التشهير قديماً وحديثاً
كان التشهير يحدث قديماً بالمناداة على المجرم بذنبه في الأسواق والمحلات العامة ، والطرقات ، حيث لم تكن هناك وسيلة أخرى ، أما في عصرنا الحاضر فالتشهير ممكن بطرق كثيرة منها : الإعلان عن جريمة الجاني في التلفاز والإذاعة ، ونشر الحكم في الصحف الرسمية ، ولصقه في المحلات العامة .
وأخذت بعض القوانين الوضعية بعقوبة التشهير في بعض الجرائم كالغش ، والبيع بأكثر من السعر الجبري .
مشروعية عقوبة التشهير
أصل مشروعية عقوبة التشهير الإجماع ، فقد أجمعت الأمة الإسلامية على أن التشهير عقوبة من العقوبات التعزيرية ، والإجماع مصدر من مصادر الشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم والسنة النبوية .
عقوبات أخرى
ليست العقوبات السابقة الذكر هي كل العقوبات التعزيرية في الشريعة الإسلامية ؛ لأن التعزير ليس معيناً محدداً كما في الحدود والقصاص ، وإنما ترك أمره لأولي الأمر والقضاة ، يختارون منها ما يرونه صالحاً للقضاء على الجريمة والإجرام ومحاربتها ، وتأديب المجرمين - الجناة - وإصلاحهم ، وردع غيرهم ، والمحافظة على أمن الجماعة ومصالحها ، ويتركون ما يرونه غير صالح لتحقيق الغاية والحكمة من الأسس العامة التي تقوم عليها نظرية العقوبات .
والعقوبات التعزيرية السالفة الذكر هي أهم العقوبات التعزيرية العامة التي يمكن أن تطبق في كل جريمة تقريباً ، وهناك عقوبات أخرى ليست عامة من أهمها :
العزل من الوظيفة : وتطبق هذه العقوبة على الذين يتولون الوظائف العامة سواء اكان اداء الوظيفة بمقابل أم مجاناً .
الحرمان : يعنى حرمان- منع - الجاني من بعض الحقوق المقررة له شرعاً - بأحكام الشريعة الإسلامية - ، أو قانوناً - أحكام وقواعد القوانين الوضعية - ، كالحرمان من تولي الوظائف الهامة ، أو الحرمان من أداء الشهادة ، أو الحرمان من السفر إلى خارج البلد المقيم بها ، وكإسقاط النفقة عن الزوجة لنشوزها .... وهكذا .
المصادرة : وتعني أخذ المال ونحوه جبراً بغير عوض ، فللقاضي مصادرة أدوات الجريمة ، ومصادرة ما حرُم حيازته وهكذا .
الإزالة : وتعني التنحية والإذهاب والإتلاف ، ويدخل تحت عقوبة الإزالة : إزالة أثر الجريمة أو العمل المحرم ، كهدم البناء المقام في الشارع العام ، وإتلاف أواني الخمر ، وإتلاف اللبن المغشوش ونحو ذلك .
عقوبة الغرامة
عاقبت الشريعة الإسلامية على بعض الجرائم التعزيرية - التي لا حد فيها ولا قصاص - بعقوبة الغرامة .
الغرامة لغة : أُلزِم بالأداء .
واصطلاحاً : ما يلزم أداؤه من المال ونحوه ، أو ما يتحمله الغريم في ماله تعويضاً عن ضرر بغير جناية ولا خيانة .
دليل مشروعية عقوبة الغرامة
من الجرائم التي عاقبت الشريعة الإسلامية عليها بعقوبة الغرامة هي سرقة الثمر المعلق بغرامة تساوي ثمن ما سرق مرتين فوق العقوبة التي تلائم السرقة .
فعن عمرو بن العاص عن رسول الله أنه سئل عن الثمر المعلق فقال : من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة [ رواه أبو داود ] . بفيه : بفمه . الخبنة : معطف الإزار ، وطرف الثوب ، أي لا يأخذ من الثمر شيئاً في جيبه .
موقف الفقهاء من الغرامة
على الرغم من اعتبار الغرامة عقوبة تعزيرية ، غير أن الفقهاء بالرغم من هذا اختلفوا فيما إذا كان من الجائز جعل الغرامة عقوبة عامة ، يمكن الحكم بها في كل جريمة على رأيين هما :
من الفقهاء من يرى أن عقوبة الغرامة المالية لا تصلح عقوبة عامة ، فهي وسيلة غير صالحة للمحاربة والقضاء على جميع أنواع الإجرام ، ولتأديب وإصلاح جميع الجناة والمجرمين ، كما يخشى أن يكون في إباحة الغرامة المالية ما يغري الحكام الظلمة بمصادرة أموال الناس بالباطل ، كما رأوا أن جعل الغرامة عقوبة أساسية يؤدي إلى تمييز الأغنياء على الفقراء ؛ لأن الغني يستطيع أن يدفع دائماً ، أما الفقير فلا يستطيع ذلك ، ومن ثم فلا يمكن أن يعاقب الغني بالغرامة وهي أخف بكثير من بعض العقوبات الأخرى .
البعض الآخر من الفقهاء يرون أن الغرامة المالية تصح أن تكون عقوبة تعزيرية عامة ، غير أنهم تشددوا في إجازة الغرامة عقوبة عامة فاشترطوا أن تكون الغرامة عقوبة تهديدية بحيث يحصر المال ، ويحبس هذا المال عن المحكوم عليه بالغرامة حتى ينصلح حاله ، فإن صلح حاله رد إليه ماله ، وإن لم ينصلح حاله أُنفق المال على جهة من جهات البر والإحسان ، كما جعلوا الغرامة عقوبة عامة في الجرائم البسيطة ، وتركوا تحديد الحد الأدنى والأعلى للغرامة لأولي الأمر والقاضي .
الغرامة بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية
في العصر الحاضر :
في عصرنا الحاضر حيث نُظمت شؤون الدولة ، ووضعت الرقابة على أموالها ، وقدرت الهيئة التشريعية في الدولة الحد الأدنى والحد الأعلى للغرامة ، وتُرك توقيع العقوبات للمحاكم ، فلم يعد بعد ذلك كله محل للخوف من مصادرة أموال الناس بالباطل ، كما أن الجرائم البسيطة هي التي يُعاقب عليها بعقوبات مالية بسيطة كالمخالفات المرورية مثلاً ، بحيث يستطيع أكثر الناس دفع الغرامة .
غير أن بعض القوانين الوضعية تجعل الغرامة عقوبة أساسية في معظم الجرائم ، وتتخذ وسيلتين لتنفيذ عقوبة الغرامة المالية : الأولى : هي التنفيذ الجبري - الإلزامي - على أموال المحكوم عليه ، فإن لم يكن له مال فالثانية وهي : الإكراه البدني ، ويكون بتشغيل المحكوم عليه في عمل حكومي إذا وجد هذا العمل ، أو بحبس المحكوم عليه مدة معينة ، ومعنى هذا أن عقوبة الغرامة تنتهي بالحبس إذا كان المحكوم عليه فقيراً ، على الرغم من أن القوانين الوضعية تعتبر عقوبة الحبس أشد من عقوبة الغرامة .
شراح القوانين الوضعية يعترفون بما لعقوبة الغرامة من عيوب كثيرة يحاولون إصلاحها ، ويرون في عقوبة الغرامة بالرغم من عيوبها وسيلة من الوسائل الحسنة للتخفيف أو الحد من مساوئ عقوبة الحبس ، فهم يقبلون عقوبة الغرامة لا لمزاياها ولكن لأن مساوئها أقل من مساوئ عقوبة الحبس ، فهم لا يحرصون على الأصلح ، وإنما يحرصون على اختيار أخف الضررين .
في الشريعة الإسلامية :
ليس في الشريعة الإسلامية ما يدعو للحرص على عقوبة الغرامة وتعميمها في كل الجرائم التعزيرية أو معظمها ، فالغرامة عقوبة ثانوية تفرض في الجرائم البسيطة ، وعلى المجرمين - الجناة - الذين من شأن هذه العقوبة أن تصلحهم وتأدبهم .
كما أن الشريعة الإسلامية لا تبيح حبس المحكوم عليه بمبلغ من المال إلاّ إذا كان المطالب بالمال قادراً عليه ، وممتنعاً عن دفعه ، كما هو الحال في دين النفقة ، أما إذا كان المطالب بالمال عاجزاً عنه فلا يجوز حبسه مقابل المبلغ المحكوم به ؛ لأن الحبس لم يشرع - في هذه الحالة - إلا لحمل المدين على الدفع فإذا كان عاجزاً عن الدفع امتنع الحبس لانعدام سببه ، وليس في الشريعة الإسلامية ما يمنع من تشغيل المحكوم عليه في عمل حكومي لاستيفاء الغرامة المحكوم بها من أجره ، ففي تنفيذ العمل على المحكوم عليه تنفيذ على ماله ما دام لا مورد له إلا عمله ، ولا يكاد التنفيذ جبراً بالعمل يختلف شيئاً عن التنفيذ جبراً على المال ، أما حبس المحكوم عليه مقابل الغرامة في حالة العجز عن الدفع فمعناه أن المحكوم عليه يُحبس لفقره لا للحكم عليه بالحبس ، فعنئذٍ تكون عقوبة الحبس محل عقوبة الغرامة عقوبة خاصة بالفقراء ، ومن شروط العقوبة الأساسية أن تكون عامة ، وإلا كانت غير مشروعة .
العقوبة الأساسية في الشريعة الإسلامية لمعظم الجرائم هي الجلد ، فتنعدم بذلك مساوئ عقوبة الحبس ، تلك المساوئ التي أوجدت عقوبة الغرامة للتخفيف من حدتها في معظم القوانين الوضعية .
الأصل في الشريعة الإسلامية أن لجرائم التعزير مجموعة من العقوبات ، التي تختلف في بساطتها وشدتها ، وللقاضي أن يعاقب الجاني بالعقوبة أو العقوبات التي يراها ملائمة للجريمة وللجاني وللجماعة ، فإذا حرص بعض الفقهاء على أن يجعلوا من الغرامة عقوبة عامة ، فإنهم يقصدون من ذلك أن يُدخلوا الغرامة في مجموعة عقوبات التعزير ، فيكون للقاضي أن يُعاقب بها كلما رآها ملائمة للجريمة والمجرم ، فإذا لم تكن ملائمة فالقاضي غير ملزم بالحكم بها في أي حال .
مصدر العقوبات التعزيرية
مصدر العقوبات التعزيرية القرآن الكريم ، والسنة النبوية القولية والفعلية ، وإجماع الأمة ، وعلى هذا فإن العقوبات التعزيرية عقوبات شرعية مقررة بطريقة شرعية لا شك فيها .
وفي الوقت الذي حددت فيه النصوص ، وفعل الرسول ، وإجماع الأمة أنواع العقوبات التعزيرية انعقد الإجماع على أن يترك للقاضي اختيار العقوبة الملائمة وتقديرها ، كما ترك للقاضي أن يمضي العقوبة ، أو يوقف تنفيذها
منقول لامانة النشر
ليس للتعزير حدٌ معينٌ ، لكن إذا كانت المعصية لها حد مقدر من جنسها ، فلا يبلغ التعزير ذلك الحد المقدر ، كالشتم بدون قذف لا يبلغ فيه حد القذف .
وقد يصل التعزير إلى القتل إذا اقتضته المصلحة ، ولم تندفع المفسدة إلا به ، كفعل خطير يمس أمن الدولة وكيانها واستقرارها ، وكقتل الجاسوس ، والداعي إلى الفتنة وتفرقة جماعة المسلمين ، والداعي إلى البدعة ونحوهم .
ونوع التعزير وتقديره غير مقدر ، ويرجع في اختيار نوع التعزير إلى اجتهاد الحاكم أو القاضي بحسب الحاجة ، وما تقتضيه مصلحة الجماعة ، وسلامة النظام العام ، وما من شأنه أن يحقق حكمة مشروعية التعزير ، ولتفاوت الجرائم ، واختلاف الزمان والمكان أيضاً كان لأولى الأمر تحديد نوع عقوبة التعزير ، فللقاضي أو الحاكم أن ينزل بعقوبة التعزير إلى حدها الأدنى ، أو يرتفع بها إلى الحد الأعلى .
تصنيف العقوبات التعزيرية
يمكن تصنيف العقوبات التعزيرية - بشكل مجمل - إلى ما يلي :
ما يتعلق بالأبدان كالقتل والجلد .
ما يتعلق بالأموال كالإتلاف والتغريم « الغرامة : ما يُلزم المرء بأدائه تأديباً أو تعويضاً » .
ما هو مركب منهما كجلد السارق من غير حرز « الحرز : المكان المعد لحفظ المال ونحوه » مع إضعاف التغريم عليه .
ما يتعلق بتقييد الإرادة كالحبس والنفي « النفي : الإخراج من بلد الإقامة إلى بلد آخر » .
ما يتعلق بالمعنويات كالتوبيخ والزجر ، وكذا التعزير بالتشهير « التشهير : إشاعة السوء عن إنسان ما بين الناس » ، أو العزل عن المنصب .
عقوبة القتل تعزيراً
الأصل في الشريعة أن التعزير للتأديب ، وأنه يجوز من التعزير ما أمنت عاقبته غالباً ، فينبغي أن لا تكون عقوبة التعزير مهلكة ، ومن ثم فلا يجوز في التعزير قتل ولا قطع ، لكن الفقهاء أجازوا استثناء من هذه القاعدة العامة أن يعاقب بالقتل تعزيراً إذا اقتضت المصلحة العامة وحماية الجماعة تقرير عقوبة القتل ، أو كان فساد المجرم لا يزول إلا بقتله ، كقتل الجاسوس ، وقتل الداعية إلى البدعة ، ومعتاد الجرائم الخطيرة .
ولأن القتل تعزيراً جاء استثناء من القاعدة العامة التي تدل على أنه يجوز من التعزير ما أمنت عاقبته غالباً ، فلا يجوز في التعزير قتل ولا قطع ، لذلك فإنه لا يتوسع في القتل تعزيراً ، ولا يترك أمره كلياً للقاضي ككل العقوبات التعزيرية ، بل يجب أن يعين ولي الأمر الجرائم التي يجوز فيها الحكم بالقتل ، وقد اجتهد الفقهاء وقاموا بتعيين الجرائم التي يحكم بها بالقتل - تعزيراً - وتحديدها ، فلم يبيحوا القتل إلا إذا اقتضت الضرورة ذلك ، كأن يكون المجرم قد تكررت جرائمه ، ويئس من إصلاحه ، أو كان استئصال المجرم ضرورياً لدفع فساده وإجرامه ، وحماية الجماعة ومصالحها منه .
دليل مشروعية القتل تعزيرا
مصدر عقوبة القتل تعزيراً السنة النبوية الشريفة « السنة القولية » :
يروي عن رسول الله أنه قال : من خرج على أمتي وهم جميع على رجل يريد أن يشق عصاكم ، ويفرق جماعتكم فاقتلوه [ تهذيب الكمال / يوسف ابن الذكي ] .
عقوبة القتل في الشريعة الإسلامية
جعلت الشريعة الإسلامية القتل عقوبة في أربع جرائم من جرائم الحدود هي : الزنا ، والحرابة ، والردة ، والبغي ، وجعلت عقوبة القتل في جريمة واحدة من القصاص هي القتل العمد ، ولم تجعل الشريعة الإسلامية عقوبة القتل تعزيراً إلا في جرائم تعزيرية محدودة العدد ، فإذا قدرنا أن لجرائم التعزيرية التي يمكن العقاب عليها بالقتل تصل إلى خمس جرائم - كقياس على جرائم الحدود والقصاص معاً - كانت كل الجرائم المعاقب عليها بالقتل في الشريعة الإسلامية لا تزيد على عشر جرائم - عند من يجيز القتل تعزيراً - ، وكان عدد الجرائم التي يعاقب عليها بالقتل لا يزيد على خمس جرائم - جرائم الحدود والقصاص فقط - عند من لا يجيز القتل تعزيراً .
لا بد من الإشارة إلى أن الشريعة الإسلامية لم تسرف في فرض عقوبة القتل ، كما أنها لم تفرضها دون مقتضى وحاجة ، وهذه ميزة انفردت بها الشريعة الإسلامية من يوم نزولها ، وتفوقت بها على سائر القوانين الوضعية .
عقوبة القتل في القوانين الوضعية
كانت القوانين الوضعية إلى أواخر القرن الثامن عشر تسرف في عقوبة القتل إلى حد بعيد ، فقد كان القانون الانجليزي مثلاً يعاقب على مائتي جريمة بالإعدام ، والقانون الفرنسي يعاقب على مائة وخمس عشرة جريمة بالإعدام أيضاً .
وقد حاولت بعض البلاد الأوربية في العهد الأخير أن تلغي عقوبة القتل ، ولكن حركة الإلغاء هذه وقفت تحت تأثير النظرية الإيطالية التي ترى في عقوبة القتل وسيلة حسنة لاستئصال من لا يرجى صلاحهم من المجرمين ، وقد ألغت بعض الدول الأوربية كإيطاليا وروسيا والنمسا عقوبة القتل فعلاً ، ثم عادت فقررت القتل عقوبة في قوانينها .
وعقوبة القتل مقررة في كل الدول الكبرى كإنجلترا ، وألمانيا ، وأمريكا ، وفرنسا ، ويبرر شراح القوانين الوضعية عقوبة القتل أنها وسيلة صالحة لمقاومة الإجرام ولاستئصال المجرمين الخطرين على مستوى الجماعة ، وهي نفس المبررات التي قال بها فقهاء الأمة الإسلامية في القتل تعزيراً .
عقوبة الجلد
تعتبر عقوبة الجلد من العقوبات الأساسية في الشريعة الإسلامية ، فهي عقوبة من العقوبات المقررة للحدود ، وهي من العقوبات المقررة في جرائم التعزير الخطيرة ، فالجلد يصلح لأن يكون عقوبة لأي جريمة من جرائم التعزير ، سواء أكان الجلد عقوبة على الجرائم التي شرعت في جنسها الحدود ، كأن يعاقب بالجلد تعزيراً على السرقات التي لا حد فيها ، وعلى الزنا الذي لا حد فيه ، وهكذا ، أم يعاقب بالجلد تعزيراً على الجرائم التي ليس في جنسها ما يوجب الحد .
مميزات عقوبة الجلد
يعتبر الجلد من أكثر العقوبات ردعاً للمجرمين الخطرين الذين اعتادوا على الإجرام وطبعوا عليه ، كما أن الجلد عقوبة ذات حدين فيمكن أن يجازى بها كل مجرم بالقدر الذي يلائم جريمته ، ويلائم شخصيته في آن واحد .
كما تمتاز عقوبة الجلد بأن تنفيذها لا يثقل كاهل الدولة وميزانيتها ، ولا يعطل الجاني المحكوم عليه عن العمل والإنتاج ، كما أن أهل الجاني المحكوم عليه ومن يعولهم لا يعرضوا للضياع ، أو الحرمان ، أو الفقر والحاجة كما هو الحال في الحبس مثلاً ؛ لأن عقوبة الجلد تنفذ في الحال ، والمجرم يذهب بعد تنفيذ العقوبة إلى حال سبيله مباشرة ، فلا يتعطل عمله ، ولا يشقى ويتعسُ بعقابه أهله .
ومن أهم ميزات عقوبة الجلد - إضافة إلى ما ذُكر - أنها تحمي الجاني المحكوم عليه من شر السجن - الحبس - ، وآثاره السلبية التي تظهر على المسجونين من فساد أخلاقهم ، واعتيادهم التعطل والنفور من العمل ، وضعف صحتهم ، وتحطم نفسياتهم وغير ذلك من السلبيات التي يجرها السجن على المسجونين في أكثر الحالات .
الحد الأدنى للجلد
يرى بعض الفقهاء أن يكون أقل الجلد ثلاث جلدات ؛ لأن هذا القدر أقل ما يزجر ويؤدب به ، لكن البعض الآخر لا يرى جعل حد أدنى للجلد ؛ لأن أثر الزجر والتأديب يختلف باختلاف الناس ، واختلاف طبائعهم ، وأمكنتهم ، وأزمانهم .
الحد الأعلى للجلد
اختلف الفقهاء في الحد الأعلى للجلد على آراء منها :
من الفقهاء من يرى أن تعيين الحد الأعلى للجلد متروك لولي الأمر ؛ لأن التعزير يكون بحسب المصلحة ، وعلى قدر الجريمة ، فيجتهد فيه ولي الأمر ، وعلى هذا يجوز - عند أصحاب هذا الرأي - أن يضرب الجاني - المجرم - أكثر من مائة جلدة ، ولو أن أشد الجلد في جرائم الحدود لا يزيد على مائة جلدة .
ومن الفقهاء من يرى أن الحد الأعلى للجلد في التعزير تسعة وثلاثون سوطاً - جلدة - واحتجوا بقول رسول الله : من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين [ رواه البيهقي ] ، أصحاب هذا الرأي يرون أن لفظ الحدود ورد في الحديث الشريف منكراً ، فقالوا : إن المقصود به حد ما ، والأربعون حد كامل للرقيق ، فإذا نقصت سوطاً أصبح الحد الأعلى للتعزير تسعة وثلاثين .
وآخرون يرون أن الحد الأعلى للجلد خمسة وسبعون سوطاً ، واحتج أيضاً بقوله : من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين [ رواه البيهقي ] ، إلا أنهم صرفوا لفظ الحد إلى حد الأحرار وأقله ثمانون جلدة ، وكان القياس أن يجعل الحد الأعلى تسعة وستين سوطاً ، لكنهم اقتفوا - اتبعوا وساروا - أثر « الأثر : ما جاء في خبر من قبلنا » علي بن أبي طالب حيث جعل الحد الأعلى للتعزير خمسة وسبعين سوطاً ينقص خمسة أسواط عن أدنى حدود الأحرار - ثمانين جلدة - .
وذهب بعض الفقهاء إلى أن يزيد الحد الأعلى للجلد عن خمسة وسبعين جلدة ، ولا يصل إلى مائة جلدة ، بشرط أن تقاس كل جريمة بما يليق بها مما فيه حد ، فينقص تعزير مقدمة الزنا عن حده - حد الزنا - وإن زاد عن حد القذف - وحد القذف ثمانين جلدة - ، وينقص تعزير السب عن حد القذف ، أي : أنه لا يبلغ بالتعزير في معصية - من جنسها حد - قدر الحد فيها ، فلا يبلغ التعزير على التقبيل حد الزنا ، ولا بالتعزير على الشتم دون القذف حد القذف وهكذا .
وقال بعض الفقهاء : أن الجلد لا يصح أن يبلغ في كل جناية حداً مشروعاً في جنسها ، ولكنه يصح أن يزيد على الحد في جناية من غير جنس الجناية المشروع فيها الحد ، فمثلاً حد الزاني غير المحصن الجلد مائة جلدة ، وحد الزاني المحصن الرجم ، فلا يصح أن يعاقب على خلوة بأجنبية ، أو تقبيل أو غير ذلك من مقدمات الزنا بالجلد مائة جلدة إذا كان الفاعل غير محصن حتى لا يبلغ العقاب حداً في غير حد ، ولكن يجوز إذا كان الفاعل محصناً أن يجلد مائة جلدة فأكثر ؛ لأن حد الزاني المحصن هو الرجم ، والجلد أياً كان عدد الجلدات لا يبلغ حد الرجم .
وقال آخرون : أنه لا يصح أن يزاد في التعزير على عشرة أسواط بأي حال ، وحجة القائلين بهذا الرأي ما رواه أبو بردة قال : سمعت رسول الله يقول : لا تجلدوا فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله [ رواه البخاري ] .
عقوبة الحبس
الحبس في الشريعة الإسلامية على نوعين :
حبس محدد المدة .
حبس غير محدد المدة .
الحبس المحدد المدة
تعاقب الشريعة الإسلامية بالحبس المحدد المدة على جرائم التعزير العادية ، وتعاقب به المجرمين العاديين ، غير أن الفقهاء يفضلون عقوبة الجلد على غيرها من العقوبات خاصة إذا كانت الجرائم خطيرة ، كالجرائم التي تهدد أمن الدولة واستقرارها ، أو كان المجرم - الجاني - خطير ومعتاد الإجرام ، أو ممن لا يردعه إلا الجلد .
مدة الحبس المحدد المدة
أقل مدة هذا النوع من الحبس يوم واحد ، أما حده الأعلى فمختلف فيه ، فالبعض يرى أن لا يزيد عن ستة أشهر ، وبعض يرى أن يترك تقدير حده الأعلى لولي الأمر ، وبعض آخر يرى أن لا يصل الحبس إلى سنة كاملة ؛ لأنهم يقيسونه على التغريب في حد الزنا ، والتغريب لا يزيد على عام فوجب أن يقل الحبس عن عام ، حتى لا يعاقب بحد في غير حد .
ويجوز أن يجمع بين الحبس والضرب ، إذا وجد أن إحدى العقوبتين لا تكفي وحدها ، ويشترط - بعض الفقهاء - عند الجمع بين الحبس والضرب أن لا يُوقع على الجاني من إحدى العقوبتين إلا ما يعتبر مكملاً لما نقص من العقوبة الثانية ، فإذا ضرب الجاني نصف الجلدات المقررة للتعزير حبس نصف المدة المقررة للحبس وهكذا ، ولا يشترط فقهاء وآخرون هذا الشرط ، فيجوز عندهم أن يضرب الجاني كل الجلدات المقررة للتعزير ، ثم يحبس بعد ذلك المدة الكافية لتأديبه وزجر غيره .
أوجه الاختلاف في الحبس المحدد المدة بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية
يختلف موقف الشريعة الإسلامية من عقوبة الحبس اختلافاً بيناً عن موقف القوانين الوضعية ، ويتضح ذلك جلياً فيما يلي :
عقوبة الحبس في القوانين الوضعية هي العقوبة الأولى والأساسية التي يعاقب بها في كل الجرائم تقريباً ، سواء كانت الجرائم خطيرة أو بسيطة ، أما الشريعة الإسلامية فعقوبة الحبس نوع من أنواع العقوبات التعزيرية ، وهي ليست إلاّ عقوبة ثانوية لا يعاقب بها إلاّ على الجرائم البسيطة ، كما أنها عقوبة اختيارية للقاضي أن يعاقب بها أو يتركها ، ولا يعاقب بها إلاّ إذا كانت رادعة للجاني ، زاجرة لغيره .
عدد المحبوسين في البلاد التي تطبق الشريعة الإسلامية قليل إذا ما قورن بعدد المحبوسين في البلاد التي يطبق بها القوانين الوضعية ، وبالتالي يتم التقليل - في البلاد الإسلامية - من الآثار السلبية التي قد تنتج من الحبس ، من حاجة وفقر أهل المحبوس ومن يعيلهم ، ومن اعتياد المحبوس على الراحة وعدم العمل ونحو ذلك .
تتعرض القوانين الوضعية بشكل كبير لمشاكل الحبس والمحبوسين ، - باعتبار أن الحبس عقوبة أساسية في كل الجرائم تقريباً - ، ومن ذلك ازدياد عدد المحكوم عليهم بالحبس ، وامتلاء المحابس - السجون - بهم حتى ضاقت على سعتها ، فثقل كاهل الدولة ، وأصبحت السجون مكاناً للتآمر ومدرسة للإجرام بالرغم من أنها أنشئت للوقاية من الإجرام ؛ لأن اجتماع المسجونين يسمح لهم بالتعارف والتآمر على ارتكاب الجرائم ، وتبادل المعلومات ، أما عقوبة الحبس في الشريعة الإسلامية فإنها لا تؤدي إلى مثل هذه المشاكل والنتائج السابقة ؛ لأنها لا توقع عقوبة الحبس إلاّ في بعض الجرائم البسيطة ، وعلى المجرمين غير الخطرين ، الذين يرتدعون بالحبس ، ولمدة قصيرة ، وبشرط أن يرى القاضي أن الحبس يردع الجاني ويزجر غيره ، ومن ثم يكون عدد المسجونين قليلاً ، ومدة بقائهم في السجن قصيرة ، وأخلاقهم غير فاسدة ، فليس فيهم من مرّن على الإجرام أو اعتاده ، وهكذا تنتفي أسباب عيوب عقوبة الحبس القائمة في القوانين الوضعية بتطبيق نصوص الشريعة الإسلامية .
الحبس غير محدد المدة
الحبس غير محدد المدة يعاقب به المجرمون الخطرون ، ومعتادو الإجرام ، ومن اعتاد ارتكاب الجرائم الخطرة وتكرر ارتكابه لها ، ومن لا تردعهم العقوبات العادية ، فيظل المجرم محبوساً حتى تظهر توبته ، وينصلح حاله ، فيطلق سراحه ، وإلا بقي محبوساً مكفوفاً شره عن الجماعة ومصالحهم حتى يموت .
مدة الحبس لا تحدد مقدماً ؛ لأنه حبس لا مدة له ، بل هو حبس حتى الموت ينتهي بموت المحكوم عليه ، أو تبتوبته قبل ذلك وانصلاح حاله .
يعتبر الحبس غير محدد المدة تطبيقاً لنظرية العقوبة غير المحددة في عصرنا الحاضر ، والتي تعد من العناصر الجوهرية في تدابير الأمن ، ومن أحدث العقوبات التي يعالج بها الإجرام على أساس من علم النفس والاجتماع ، ومن العقوبات المؤدية لوظيفتي الاستئصال والإصلاح .
دليل مشروعية عقوبة الحبس
مصدر مشروعية عقوبة الحبس هي السنة النبوية العملية ، فقد روي أن النبي حبس رجلاً في تهمة [ رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين ] .
وعمر بن الخطاب اشترى داراً بمكة بأربعمائة درهم فجعلها حبساً .
عقوبة التغريب
التغريب : هو النفي والإبعاد قصراً - جبراً - عن وطن ومكان الإقامة .
التغريب نوع من أنواع التعزير ، يلجأ لها - عادة - إذا تعدت أفعال المجرم إلى اجتذاب غيره إليها ، أو استضراره بها « أي إلحاق الضرر من فعله بالغير » .
مدة التغريب
من الفقهاء من يرى أن لا تصل مدة التغريب - الإبعاد - إلى سنة كاملة ؛ لأن التغريب شرع في الزنا حداً - حد الزاني غير المحصن الجلد مائة جلدة والتغريب عام - ، ومدته عام ، فيجب أن لا تصل مدة التغريب في التعزير عاماً ؛ تحقيقاً لقول رسول الله : من بلغ حداً في غير حد فهو من المعتدين [ رواه البيهقي ] .
ومن الفقهاء من يرى أنه يصح أن تزيد مدة التغريب عن سنة دون تحديد المدة ، باعتبار أن التغريب عقوبة غير محددة ، فيترك لولي الأمر أن يأذن للمغرب في العودة إذا صلح حاله ، وظهرت توبته .
أحكام المغرب « الجاني »
المحكوم عليه بعقوبة التغريب لا يحبس في مكان معين ، ولكن يصح - عند البعض - أن يوضع تحت المراقبة ، وأن تقيد حريته ببعض القيود .
ليس للجاني المحكوم عليه بالتغريب أن يعود للمكان الذي غرب عنه قبل انتهاء مدة التغريب - عند من يحددون له مدة - ، أو قبل توبته والإذن له بالعودة - عند من لا يحددون للتغريب مدة - .
دليل مشروعية عقوبة التغريب
دليل مشروعية التغريب السنة النبوية الفعلية ، فقد عاقب رسول الله بالتغريب ، فأمر رسول الله برجل من المخنثين فأخرج عن المدينة ، كما أن الصحابة فعلوا مثل ذلك ، فعمر بن الخطاب عاقب ضبيعاً بالضرب ونفاه إلى البصرة أو الكوفة ، كما نفى عمر بن الخطاب نصر بن الحجاج من المدينة ، كما أجمع فقهاء الأمة الإسلامية وعلماؤها على أن التغريب نوع من العقوبة التعزيرية .
من فوائد عقوبة التغريب
لعقوبة التغريب فوائد ومحاسن منها :
ردع الجاني وتأديبه وإصلاحه وزجر غيره وتخويفه .
إبعاد الجاني المحكوم عليه بالتغريب عن مكان اقترافه للجريمة - المعصية - يمهد له نسيان الجريمة بأسرع ما يمكن ، أما في بقائه في المكان ذاته فمن شأنه أن يُحيي ذكرى الجريمة التي ارتكبها الجاني ويحول دون نسيانها بسهولة .
في عقوبة التغريب تجنيب الجاني من مضايقات كثيرة لا بد أن يلقاها إذا لم يبتعد ، وقد تصل هذه المضايقات إلى درجة قطع الرزق ، إضافة إلى التحقير والمهانة .
في التغريب - الإبعاد - يهيًّأ للجاني أن يحيا من جديد حياة كريمة ، وأن يتعهد نفسه فيربيها على شرع الله تعالى .
حماية المجتمع ، والمحافظة على أمنه ومصالحه ، عند تغريب الجاني والتخلص من ضرره وخطره .
عقوبة الصلب
الصلب : هو تعليق الجاني المحكوم عليه بالصلب على جذع أو نحوه .
الصلب حداً ، عقوبة يُعاقب بها في جريمة الحرابة ، فيرى بعض الفقهاء صلب المحكوم عليه حداً - الجاني في جريمة الحرابة - بعد قتله ، ومنهم من يرى صلبه حياً ثم قتله وهو مصلوب ، أما الصلب تعزيراً فلا يصحبه القتل طبعاً ولا يسبقه ، وإنما يصلب المحكوم عليه تعزيراً حياً ، ولا يمنع عنه طعامه ولا شرابه ، ولا يمنع من الوضوء للصلاة ، ولكنه يصلي إيماء « إيماء : الصلاة بالإشارة بأحد الجوارح كاليد أو الحاجب أو غيرهما » .
عقوبة الصلب هي عقوبة بدنية يقصد منها التأديب والإصلاح والتشهير معاً ، وهي أشبه ما تكون بعقوبة التلاميذ حين يؤمرون بالوقوف وأيديهم مرفوعة إلى أعلى زمناً ما أمام بقية التلاميذ ، أو حين يؤمرون بأن يجلسوا على ركبهم زمناً طويلاً أو قصيراً .
الصلب تعزيراً عقوبة غير لازمة ، فالأمر في جعلها عقوبة مشروعة أو تركها متروك للقاضي أو ولي الأمر ، فإن وجد أنها وسيلة تؤدي إلى إصلاح الجاني وتأديبه وحماية الجماعة من شره أقرت واعتبرت عقوبة مشروعة لبعض الجرائم أو كلها - بحسب ما يراه القاضي مناسباً - ، وإن وجد أنها لا تصلح ولا من شأنها إصلاح ولا تأديب ولا حماية أهملت وتركت ولم تشرع عقوبة .
من شأن عقوبة الصلب - تعزيراً - ردع الجاني وتأديبه وإصلاحه باشتهار أمره ، وردع غيره من الإتيان بمثل فعله .
مدة الصلب تعزيرا
يشترط الفقهاء في عقوبة الصلب - تعزيراً - أن لا تزيد مدة صلب المحكوم عليه على ثلاثة أيام .
عقوبة الوعظ وما دونها
يعتبر الوعظ عقوبة تعزيرية في الشريعة الإسلامية ، فيجوز للقاضي أن يكتفي في عقاب الجاني بوعظه - نصحه وإرشاده - إذا رأى أن في الوعظ ما يكفي لإصلاحه وردعه .
وفي الشريعة الإسلامية من العقوبات التعزيرية ما هو دون الوعظ ، فإعلان الجاني بجريمة تعد عقوبة تعزيرية ، وفي إحضاره إلى مجلس القضاء عقوبة تعزيرية ، كما أن النظر قد يأتي أحياناً عقوبة تعزيرية ، وكذلك التهديد والتخويف .
وعقوبة الوعظ وما دونها لا توقع إلا على من غلب على الظن أنها تصلحه وتزجره وتؤثر فيه .
دليل مشروعية عقوبة الوعظ وما دونها
نص القرآن الكريم صراحةً على عقوبة الوعظ في
[ سورة النساء آية 34 ]
وقد ورد أن عمر بن الخطاب استخدم النظر عقوبة تعزيرية مع عدد من الصحابة ، وكانت هذه النظرة زاجرة ورادعة لهم .
عقوبة الهجر
من العقوبات التعزيرية في الشريعة الإسلامية الهجر ، والهجر ضد الوصل ، وهو الترك والإعراض ، يقال : هجرت الشيء هجراً إذا تركته وأغفلته ، والهجر قد يكون هجر كلام ، أو هجراً في التعامل ، أو هجر معاشرة - « هجر المعاشرة : ترك الزوج جماع زوجته ومعاشرتها » - كما قد يقع بين الزوجين .
دليل مشروعية عقوبة الهجر
دل على مشروعية عقوبة الهجر القرآن الكريم والسنة النبوية العملية .
فقد ورد في القرآن الكريم الهجر تعزيراً للزوجة الناشز « الناشز : التي خرجت عن طاعة زوجها ، ولا تؤدي كل واجباتها الزوجية » في
[ سورة النساء آية 34 ]
وعاقب رسول الله بالهجر ، فأمر بهجر الثلاثة الذين خلفوا عن غزوة تبوك وهم : كعب بن مالك ، مرارة بن ربيعة ، وهلال بن أمية ، فهجرهم المسلمون خمسين يوماً لا يكلمهم أحد حتى نزل
[ سورة التوبة آية 118 ]
كما هجر رسول الله زوجاته شهراً كاملاً .
ومن فعل الصحابة فعل عمر بن الخطاب الذي عاقب ضبيعاً بالهجر مع التغريب ، فكان لا يكلمه أحد حتى تاب ، فكتب عامل البلد التي غُرّب إليها إلى عمر كتاباً يخبره بتوبته ، فأذن عمر للناس في كلامه .
مدة الهجر
الهجر كعقوبة تعزيرية تفرض على المهجور من قبل القاضي أو ولي الأمر ، تنتهي عقوبة الهجر بتوبة المهجور توبة صادقة ، وصلاح حاله ، وتأدبه .
عقوبة التوبيخ
من العقوبات التعزيرية في الشريعة الإسلامية عقوبة التوبيخ ، فإذا رأى القاضي أن التوبيخ يكفي لإصلاح الجاني وتأدبه اكتفى بتوبيخه ، والتوبيخ هو اللوم والتأنيب والمعاتبة .
دليل مشروعية عقوبة التوبيخ
عزر رسول الله بالتوبيخ ، ومن ذلك ما رواه أبو ذر قال : ساببت رجلاً فعيرته بأمه ، فقال لي النبي : يا أبا ذر أعيرته بأمه ، إنك امرؤ فيك جاهلية [ رواه البخاري ] .
عقوبة التوبيخ في القوانين الوضعية
عرفت القوانين الوضعية عقوبة التوبيخ في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، بينما الشريعة الإسلامية عرفت هذه العقوبة - وغيرها من العقوبات - وأقرتها منذ أربعة عشر قرناً وأكثر .
أخذت القوانين الوضعية بالتوبيخ القضائي كعقوبة للجرائم البسيطة ، وعقوبة للمجرمين المبتدئين غير المتمرسين على الإجرام والجرائم .
عقوبة التهديد
التهديد عقوبة تعزيرية في الشريعة الإسلامية بشرطين هما :
أن لا يكون التهديد تهديداً كاذباً .
أن يرى القاضي أن عقوبة التهديد ناجعة تكفي لإصلاح الجاني وتأديبه وردعه .
من أمثلة التهديد
من التهديد أن ينذر القاضي الجاني بأنه إذا عاد لفعله ومعصيته فسيعاقبه بالجلد أو الحبس ، أو سيعاقبه بأقصى العقوبة .
ومن التهديد أيضاً أن يحكم القاضي بالعقوبة ، ويوقف تنفيذها إلى مدة معينة .
دليل مشروعية عقوبة التهديد
قال رسول الله : لا ترفع عصاك عن أهلك وأخفهم في الله [ رواه الإمام أحمد ] .
وجه الدلالة : النبي يسن عقوبة التهديد بالعقاب ، فهذا المستفاد من عدم رفع العصا - الضرب - والتخويف فقط .
عقوبة التهديد في القوانين الوضعية
عرفت القوانين الوضعية عقوبة التهديد ، وطبق التهديد القضائي على من كان التهديد كافياً لزجرهم وإصلاحهم ، وقد طبقت القوانين الوضعية عقوبة التهديد بطرق مختلفة ، فالبعض يرى أن يحكم القاضي بالعقوبة مع إيقاف تنفيذها لمدة معينة ، فإن عاد الجاني لفعله أمكن تنفيذ العقوبة الموقوفة ، والبعض يرى أن لا يصدر القاضي حكماً ، بل يوقف إصدار الحكم إلى أمر معين ، وبعضها يرى الاكتفاء بإنذار الجاني أن لا يعود لجريمته .
عقوبة التشهير
من العقوبات التعزيرية في الشريعة الإسلامية عقوبة التشهير ، ويقصد بالتشهير : الإعلان والمجاهرة عن جريمة المحكوم عليه - الجاني - بين الناس كافة ، ويكون التشهير عادة في الجرائم التي يعتمد فيها المجرم على ثقة الناس ، كشهادة الزور ، والتزوير ، والغش .
التشهير قديماً وحديثاً
كان التشهير يحدث قديماً بالمناداة على المجرم بذنبه في الأسواق والمحلات العامة ، والطرقات ، حيث لم تكن هناك وسيلة أخرى ، أما في عصرنا الحاضر فالتشهير ممكن بطرق كثيرة منها : الإعلان عن جريمة الجاني في التلفاز والإذاعة ، ونشر الحكم في الصحف الرسمية ، ولصقه في المحلات العامة .
وأخذت بعض القوانين الوضعية بعقوبة التشهير في بعض الجرائم كالغش ، والبيع بأكثر من السعر الجبري .
مشروعية عقوبة التشهير
أصل مشروعية عقوبة التشهير الإجماع ، فقد أجمعت الأمة الإسلامية على أن التشهير عقوبة من العقوبات التعزيرية ، والإجماع مصدر من مصادر الشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم والسنة النبوية .
عقوبات أخرى
ليست العقوبات السابقة الذكر هي كل العقوبات التعزيرية في الشريعة الإسلامية ؛ لأن التعزير ليس معيناً محدداً كما في الحدود والقصاص ، وإنما ترك أمره لأولي الأمر والقضاة ، يختارون منها ما يرونه صالحاً للقضاء على الجريمة والإجرام ومحاربتها ، وتأديب المجرمين - الجناة - وإصلاحهم ، وردع غيرهم ، والمحافظة على أمن الجماعة ومصالحها ، ويتركون ما يرونه غير صالح لتحقيق الغاية والحكمة من الأسس العامة التي تقوم عليها نظرية العقوبات .
والعقوبات التعزيرية السالفة الذكر هي أهم العقوبات التعزيرية العامة التي يمكن أن تطبق في كل جريمة تقريباً ، وهناك عقوبات أخرى ليست عامة من أهمها :
العزل من الوظيفة : وتطبق هذه العقوبة على الذين يتولون الوظائف العامة سواء اكان اداء الوظيفة بمقابل أم مجاناً .
الحرمان : يعنى حرمان- منع - الجاني من بعض الحقوق المقررة له شرعاً - بأحكام الشريعة الإسلامية - ، أو قانوناً - أحكام وقواعد القوانين الوضعية - ، كالحرمان من تولي الوظائف الهامة ، أو الحرمان من أداء الشهادة ، أو الحرمان من السفر إلى خارج البلد المقيم بها ، وكإسقاط النفقة عن الزوجة لنشوزها .... وهكذا .
المصادرة : وتعني أخذ المال ونحوه جبراً بغير عوض ، فللقاضي مصادرة أدوات الجريمة ، ومصادرة ما حرُم حيازته وهكذا .
الإزالة : وتعني التنحية والإذهاب والإتلاف ، ويدخل تحت عقوبة الإزالة : إزالة أثر الجريمة أو العمل المحرم ، كهدم البناء المقام في الشارع العام ، وإتلاف أواني الخمر ، وإتلاف اللبن المغشوش ونحو ذلك .
عقوبة الغرامة
عاقبت الشريعة الإسلامية على بعض الجرائم التعزيرية - التي لا حد فيها ولا قصاص - بعقوبة الغرامة .
الغرامة لغة : أُلزِم بالأداء .
واصطلاحاً : ما يلزم أداؤه من المال ونحوه ، أو ما يتحمله الغريم في ماله تعويضاً عن ضرر بغير جناية ولا خيانة .
دليل مشروعية عقوبة الغرامة
من الجرائم التي عاقبت الشريعة الإسلامية عليها بعقوبة الغرامة هي سرقة الثمر المعلق بغرامة تساوي ثمن ما سرق مرتين فوق العقوبة التي تلائم السرقة .
فعن عمرو بن العاص عن رسول الله أنه سئل عن الثمر المعلق فقال : من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه ، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه والعقوبة [ رواه أبو داود ] . بفيه : بفمه . الخبنة : معطف الإزار ، وطرف الثوب ، أي لا يأخذ من الثمر شيئاً في جيبه .
موقف الفقهاء من الغرامة
على الرغم من اعتبار الغرامة عقوبة تعزيرية ، غير أن الفقهاء بالرغم من هذا اختلفوا فيما إذا كان من الجائز جعل الغرامة عقوبة عامة ، يمكن الحكم بها في كل جريمة على رأيين هما :
من الفقهاء من يرى أن عقوبة الغرامة المالية لا تصلح عقوبة عامة ، فهي وسيلة غير صالحة للمحاربة والقضاء على جميع أنواع الإجرام ، ولتأديب وإصلاح جميع الجناة والمجرمين ، كما يخشى أن يكون في إباحة الغرامة المالية ما يغري الحكام الظلمة بمصادرة أموال الناس بالباطل ، كما رأوا أن جعل الغرامة عقوبة أساسية يؤدي إلى تمييز الأغنياء على الفقراء ؛ لأن الغني يستطيع أن يدفع دائماً ، أما الفقير فلا يستطيع ذلك ، ومن ثم فلا يمكن أن يعاقب الغني بالغرامة وهي أخف بكثير من بعض العقوبات الأخرى .
البعض الآخر من الفقهاء يرون أن الغرامة المالية تصح أن تكون عقوبة تعزيرية عامة ، غير أنهم تشددوا في إجازة الغرامة عقوبة عامة فاشترطوا أن تكون الغرامة عقوبة تهديدية بحيث يحصر المال ، ويحبس هذا المال عن المحكوم عليه بالغرامة حتى ينصلح حاله ، فإن صلح حاله رد إليه ماله ، وإن لم ينصلح حاله أُنفق المال على جهة من جهات البر والإحسان ، كما جعلوا الغرامة عقوبة عامة في الجرائم البسيطة ، وتركوا تحديد الحد الأدنى والأعلى للغرامة لأولي الأمر والقاضي .
الغرامة بين الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية
في العصر الحاضر :
في عصرنا الحاضر حيث نُظمت شؤون الدولة ، ووضعت الرقابة على أموالها ، وقدرت الهيئة التشريعية في الدولة الحد الأدنى والحد الأعلى للغرامة ، وتُرك توقيع العقوبات للمحاكم ، فلم يعد بعد ذلك كله محل للخوف من مصادرة أموال الناس بالباطل ، كما أن الجرائم البسيطة هي التي يُعاقب عليها بعقوبات مالية بسيطة كالمخالفات المرورية مثلاً ، بحيث يستطيع أكثر الناس دفع الغرامة .
غير أن بعض القوانين الوضعية تجعل الغرامة عقوبة أساسية في معظم الجرائم ، وتتخذ وسيلتين لتنفيذ عقوبة الغرامة المالية : الأولى : هي التنفيذ الجبري - الإلزامي - على أموال المحكوم عليه ، فإن لم يكن له مال فالثانية وهي : الإكراه البدني ، ويكون بتشغيل المحكوم عليه في عمل حكومي إذا وجد هذا العمل ، أو بحبس المحكوم عليه مدة معينة ، ومعنى هذا أن عقوبة الغرامة تنتهي بالحبس إذا كان المحكوم عليه فقيراً ، على الرغم من أن القوانين الوضعية تعتبر عقوبة الحبس أشد من عقوبة الغرامة .
شراح القوانين الوضعية يعترفون بما لعقوبة الغرامة من عيوب كثيرة يحاولون إصلاحها ، ويرون في عقوبة الغرامة بالرغم من عيوبها وسيلة من الوسائل الحسنة للتخفيف أو الحد من مساوئ عقوبة الحبس ، فهم يقبلون عقوبة الغرامة لا لمزاياها ولكن لأن مساوئها أقل من مساوئ عقوبة الحبس ، فهم لا يحرصون على الأصلح ، وإنما يحرصون على اختيار أخف الضررين .
في الشريعة الإسلامية :
ليس في الشريعة الإسلامية ما يدعو للحرص على عقوبة الغرامة وتعميمها في كل الجرائم التعزيرية أو معظمها ، فالغرامة عقوبة ثانوية تفرض في الجرائم البسيطة ، وعلى المجرمين - الجناة - الذين من شأن هذه العقوبة أن تصلحهم وتأدبهم .
كما أن الشريعة الإسلامية لا تبيح حبس المحكوم عليه بمبلغ من المال إلاّ إذا كان المطالب بالمال قادراً عليه ، وممتنعاً عن دفعه ، كما هو الحال في دين النفقة ، أما إذا كان المطالب بالمال عاجزاً عنه فلا يجوز حبسه مقابل المبلغ المحكوم به ؛ لأن الحبس لم يشرع - في هذه الحالة - إلا لحمل المدين على الدفع فإذا كان عاجزاً عن الدفع امتنع الحبس لانعدام سببه ، وليس في الشريعة الإسلامية ما يمنع من تشغيل المحكوم عليه في عمل حكومي لاستيفاء الغرامة المحكوم بها من أجره ، ففي تنفيذ العمل على المحكوم عليه تنفيذ على ماله ما دام لا مورد له إلا عمله ، ولا يكاد التنفيذ جبراً بالعمل يختلف شيئاً عن التنفيذ جبراً على المال ، أما حبس المحكوم عليه مقابل الغرامة في حالة العجز عن الدفع فمعناه أن المحكوم عليه يُحبس لفقره لا للحكم عليه بالحبس ، فعنئذٍ تكون عقوبة الحبس محل عقوبة الغرامة عقوبة خاصة بالفقراء ، ومن شروط العقوبة الأساسية أن تكون عامة ، وإلا كانت غير مشروعة .
العقوبة الأساسية في الشريعة الإسلامية لمعظم الجرائم هي الجلد ، فتنعدم بذلك مساوئ عقوبة الحبس ، تلك المساوئ التي أوجدت عقوبة الغرامة للتخفيف من حدتها في معظم القوانين الوضعية .
الأصل في الشريعة الإسلامية أن لجرائم التعزير مجموعة من العقوبات ، التي تختلف في بساطتها وشدتها ، وللقاضي أن يعاقب الجاني بالعقوبة أو العقوبات التي يراها ملائمة للجريمة وللجاني وللجماعة ، فإذا حرص بعض الفقهاء على أن يجعلوا من الغرامة عقوبة عامة ، فإنهم يقصدون من ذلك أن يُدخلوا الغرامة في مجموعة عقوبات التعزير ، فيكون للقاضي أن يُعاقب بها كلما رآها ملائمة للجريمة والمجرم ، فإذا لم تكن ملائمة فالقاضي غير ملزم بالحكم بها في أي حال .
مصدر العقوبات التعزيرية
مصدر العقوبات التعزيرية القرآن الكريم ، والسنة النبوية القولية والفعلية ، وإجماع الأمة ، وعلى هذا فإن العقوبات التعزيرية عقوبات شرعية مقررة بطريقة شرعية لا شك فيها .
وفي الوقت الذي حددت فيه النصوص ، وفعل الرسول ، وإجماع الأمة أنواع العقوبات التعزيرية انعقد الإجماع على أن يترك للقاضي اختيار العقوبة الملائمة وتقديرها ، كما ترك للقاضي أن يمضي العقوبة ، أو يوقف تنفيذها
منقول لامانة النشر