طارق محمد اسماعيل
12-05-2014, 10:54 AM
أعطى نظام الإجراءات الجزائية السعودي لهيئة التحقيق والادعاء العام صلاحية رفع الدعوى الجزائية ومباشرتها، فتنص المادة (16) منه على أنه: "تختص هيئة التحقيق والادعاء العام وفقًا لنظامها بإقامة الدعوى الجزائية ومباشرتها أمام المحاكم المختصة".
وسنوضح في هذا المبحث القواعد النظامية التي تسري على تحريك الدعوى الجزائية
تحريك الدعوى الجزائية واستعمالها
أولاً: تحريك الدعوى الجزائية:
يقصد به: "العمل الافتتاحي للدعوى الجزائية أمام جهات التحقيق أو الحكم "اتخاذ أول إجراء من إجراءاتها"، أو "الإجراء الذي ينقل الدعوى من حال السكون الذي كانت عليه عند نشأتها إلى حال الحركة، بأن يدخلها في حوزة السلطات المختصة باتخاذ إجراءاتها التالية"، فيعد تحريكًا للدعوى تكليف المتهم بمعرفة هيئة التحقيق والادعاء العام بالحضور أمام المحكمة، واتخاذ هذه الهيئة قرار بإجراء التحقيق والادعاء العام بالحضور أمام المحكمة، واتخاذ هذه الهيئة قرار بإجراء التحقيق في قضية ما أو قرارها ندب أحد رجال الضبط الجنائي لإجراء عمل من أعمال التحقيق([1]).
ولكن يجب الأخذ في الاعتبار أن إجراءات الاستدلال لا تعتبر إجراءات تتحرك بها الدعوى الجزائية، لأن هذه الإجراءات ليست من إجراءات الدعوى الجزائية، وإنما هي "إجراءات تمهيدية تسبق الدعوى الجزائية"([2]).
وهذا يجب أن نميز بين مصطلحي: "تحريك الدعوى" و"إقامة الدعوى الجزائية": إذ يقصد بإقامة الدعوى: "نقل قرار الاتهام إلى المحكمة المختصة للمطالبة بتوقيع العقوبة على المتهم".
ثانيًا: مباشرة الدعوى الجزائية أو استعمالها:
1- يقصد به: "اتخاذ أي إجراء أو مجموعة من الإجراءات التي يقتضيها سير الدعوى أمام المحكمة نحو الحكم الباب الفاصل في موضوعها، وذلك بدء من الإجراء الأول الذي أقيمت به وانتهاءً بالحكم النهائي فيها".
2- من له صلاحية مباشرة الدعوى الجزائية؟ الذي له صلاحية مباشرة الدعوى الجزائية:
أ- هيئة التحقيق والادعاء العام أصلاً.
ب- ثم يجوز للمجني عليه أو من ينوب عنه أو وارثه أن يرفع الدعوى في القضايا التي يتعلق بها حق خاص: فلا تستأثر هيئة التحقيق والادعاء العام بصلاحية مباشرة الدعوى الجزائية، بل قد يشاركها المجني عليه في هذه الصلاحية وفقًا لنص المادة (17) من هذا النظام، التي تنص على أن: "للمجني عليه أو من ينوب عنه، ولوارثه من بعده، حق رفع الدعوى الجزائية في جميع القضايا التي يتعلق بها حق خاص، ومباشرة هذه الدعوى أمام المحكمة المختصة. وعلى المحكمة في هذه الحالة تبليغ المدعي العام بالحضور".
والمادة (18) التي نص على أنه: "لا يجوز إقامة الدعوى الجزائية أو إجراءات التحقيق في الجرائم الواجب فيها حق خاص للأفراد إلا بناءً على شكوى من المجني عليه أو من ينوب عنه أو وارثه من بعده إلى الجهة المختصة، إلا إذا رأت هيئة التحقيق والادعاء العام مصلحة عامة في رفع الدعوى والتحقيق في هذه الجرائم".
الإدعاء المباشر: ويطلق على هذا الإجراء عادة في الأنظمة المقارنة تسمية "الإدعاء المباشر"، لأن الذي يرفع الدعوى الجزائية هو المجني عليه "مباشرة دون واسطة هيئة التحقيق والادعاء العام أو غيرها. وتخول هذه المادة "للمجني عليه" الحق في رفع هذه الدعوى مستهدفًا من ورائها الحكم له بحقه الخاص بالتعويض عن الضرر المترتب على الجريمة محل الادعاء الجزائي.
الحكمة من الادعاء المباشر: والحقيقة أن تخويل المجني عليه صلاحية الإدعاء المباشر بتحريك الدعوى الجزائية يحقق نظام "الاتهام الفردي" الذي أقامته الشريعة الإسلامية، حيث تركت زمام الإدعاء بالحق الخاص أمام المحكمة الجزائية في يد المجني عليه، ترضية له، وتقديرًا لما يراه، وحماية لحقه في التعويض، وشفاءً لما يكون قد خالط نفسه من آلام سببتها الجريمة، وقطعًا لدابر الثأر مستقبلاً... وما أكثر ما لا يتسع له المقام في سرد مزايا هذا النظام الإسلامي وبيان سموه على غيره من الأنظمة. كما أن في الإدعاء المباشر من جانب المجني عليه فرصة لتحريك الدعوى الجزائية إذا تقاعست هيئة التحقيق والادعاء العام عن تحريكها.
وتحقيقًا للحكمة من ترك زمام الادعاء المباشر في يد المجني عليه، فقد منحه النظام الحق في أن يتنازل عن ادعائه هذا. وهذا اتجاه إسلامي قويم، لأن به تتحقق مصلحتان: مصلحة المجني عليه في التصالح مع المتهم بمقابل أو بالمجان فتهدأ نفسه، ومصلحة الجماعة في أن يحل الوئام محل الانتقام، وتسود السكينة بدلاً من الضغينة بين الجميع.
المقصود بالمجني عليه يمكن تعريف "المجني عليه" بأنه "صاحب الحق أو المصلحة أو المال المعتدى عليه من جانب مرتكب الجريمة". فهو المعتدى عليه بالإيذاء المستوجب للقصاص فيما دون النفس، وهو مالك المال المسروق، وهو المودع للمال الذي اختلسه من ائتمنه عليه.
والغالب أن يكون المجني عليه هو "المتضرر" من الجريمة ضررًا شخصيًا ينشئ له "حقًا خاصًا" في التعويض. ومع هذا، فقد لا يلحق بالمجني عليه ضرر ما من الجريمة، ومن أمثلة ذلك الشروع في السرقة إذا لم يترتب عليه أي ضرر يلحق بالمجني عليه، ومن المعلوم أن الشروع في هذه الجريمة – وغيرها من سائر الجرائم – يعتبر من قبيل الجرائم التعزيرية.
وإزاء التفرقة بين المجني عليه والمتضرر من الجريمة، فقد استعمل النظام المصطلح الأول، ومع هذا فإن الربط بينه وبين شريط "تعلق دعواه بحق خاص" يفيد بحكم اللزوم العقلي أنه قد أصابه ضرر من الجريمة ولد له حقًا خاصًا في المطالبة بالتعويض عنه.
وعلى الرغم من أن المجني عليه المتضرر من الجريمة هو الذي رفع الدعوى الجزائية، استنادًا إلى كون النظام قد خوله صلاحية مباشرتها أمام المحكمة المختصة، إلا أن النظام قد ألزم هذه المحكمة بتبليغ المدعي العام بالحضور. وإذا كانت الأنظمة الإجرائية في الدول الأخرى تضع على عاتق المجني عليه المتضرر عبء هذا الإجراء، فقد أحسن النظام السعودي في التخفيف عن المجني عليه ونقل عبء هذا الإجراء إلى المحكمة ذاتها.
ولما كان حضور ممثل هيئة التحقيق والادعاء العام جلسات للمحاكمة الجزائية شرطًا لانعقادها عند نظر الجرائم الكبيرة، فقد اقتضى الأمر تبليغ هذه الهيئة بادعاء المجني عليه ليتسنى لها الحضور مراعاة لشكل انعقاد الخصومة الجزائية في هذه الفئة من الجرائم الكبيرة. وفي رأينا أن عدم حضورها يترتب عليه بطلان المحاكمة، والبطلان هنا من النظام العام، لا يتوقف الحكم به على مطالبة المتهم.
الشروط الواجب توافرها في الادعاء المباشر:
1- أن يتم رفع الدعوى من المجني عليه المتضرر من الجريمة أو يرفعها من ينوب عنه أو يرفعها وارثه من بعده. وبناءً عليه، فلا يقبل الدعوى من دائنيه، ولا ممن حوَّل له حقه في التعويض، ولا من أقارب من غير ورثته، ولا من شركة التأمين مطالبة بما دفعته للمجني عليه تعويضًا له عن الضرر الذي لحق به من الجريمة.
2- أن يكون المجني عليه قد نشأ له حق من الجريمة مباشرة. ولا يحقق هذا الشرط إلا إذا كان الضرر قد ارتبط بالجريمة رباط السبب المباشر بالمتسبب.
ويستوي أن تكون الجريمة التي ولدت الحق الخاص حدًّا، كمن يجني عليه في حد قذف، أو أن تكون قصاصًا فيما دون النفس، أو أن تكون جريمة تعزيرية مثل جريمة السب.
ومن رأينا أنه إذا كان قد أصدر أمر بالحفظ (وفقًا للمادة (124) من هذا النظام)، فإنه لا يحول دون إقامة المجني عليه دعوى الحق الخاص تغليبًا من النظام لحق المجني عليه على حق هيئة التحقيق والادعاء العام في مجال رفع الدعوى الجزائية. ودليلنا على هذا أن من حق المجني عليه إقامة هذه الدعوى حتى ولو كانت هذه الهيئة قد رفضت ادعاءه أثناء تحقيقها للدعوى (استنادًا إلى المادة (148) من النظام).
ولكن لا يشترط للإدعاء العام المباشر أن يسبقه تحقيق أو حتى جمع استدلالات من جانب رجل الضبط الجنائي، لأن حق المتضرر من الجريمة حق أصيل ينبغي ألا يترك استعماله معلقًا على إرادة الغير. ولهذا، فإن المجني عليه أن يلجأ مباشرة في هذه الحالة إلى الادعاء المباشر إذا كانت أدلة ثبوت الجريمة في حق المتهم متوافرة وكافية لديه ولا تحتاج إلى تحقيق.
ونلاحظ أن المادة (18) تعالج مركزين إجرائيين مختلفين يتعلقان بإقامة الدعوى أو مباشرة التحقيق في الجرائم الواجب فيها حق خاص للأفراد: الأول: يعلق مباشرة هذين الإجراءين (إقامة الدعوى الجزائية أو التحقيق فيها) على شكوى من المجني عليه، والثاني: يخول هيئة التحقيق والادعاء العام صلاحية إقامة الدعوى الجزائية عن هذه الجرائم أو التحقيق فيها دون توقف على شكوى المجني عليه. وعلى ذلك فالمجني عليه ينفرد بمباشرة دعواه بشرط تقدمه بشكواه إذا تحققت مصلحته الخاصة، وتنفرد هيئة التحقيق والادعاء بمركزها الإجرائي الاستقلالي إذا رأت أن في ذلك تحقيق لمصلحة عامة.
وفي القوانين والأنظمة المقارنة يسود اتجاهان في هذا الصدد:
الاتجاه الأول: يلزم لهذه السلطة مجالاً للملاءمة بين توجيه الاتهام (أي إقامة الدعوى)، وبين الحفظ، بحيث يكون لها أن تمتنع عن توجيه الاتهام على الرغم من توافر جميع أركان الجريمة ونشوء المسئولية عنها إذا رأت أن المصلحة العامة تقتضي ذلك.
وأهم ميزة لهذا الاتجاه الإجرائي الثاني أنه يخفف عن القضاء بعض أعبائه، من جهة، وأنه يحقق المصلحة العامة من جهة أخرى.
وفي ضوء هذه المقارنة بين هذين الاتجاهين، يبدو أن النظام السعودي يرجح الاعتداد بالاتجاه الثاني الذي يخول هيئة التحقيق والادعاء العام سلطة تقديرية في مجال الاتهام أو حفظ الدعوى الجزائية فهيئة التحقيق والادعاء العام هي صاحبة الادعاء العام وذلك بتحريك الدعوى الجزائية (إقامتها) ومباشرتها (استعمالها) وحريتها في ذلك يرد عليها نوعان من القيود:
النوع الأول: يشمل الحالات الثلاث السابق الكلام عنها التي يكون فيها لغير الهيئة حق تحريك الدعوى الجزائية، فيحق للمجني عليه أو لورثته المطالبة بالحق الخاص مهما بلغ مقداره أمام المحكمة المنظورة أمامها الدعوى الجزائية في أي حال كانت عليها الدعوى، حتى ولو يقبل طلبه أثناء التحقيق.
والنوع الثاني: يشمل الأحوال التي يعلق فيها تحريك الدعوى أو إجراء أي تحقيق فيها إلا بناء على شكوى المجني عليه أو من ينوب عنه أو وارثه من بعده إذا كانت الجريمة واجب فيها حق خاص للأفراد ما لم تر الهيئة مصلحة عامة تقتضي ذلك.
وهيئة التحقيق والادعاء تقوم على إقامة الدعوى الجزائية ومباشرتها نيابة عن ولي الأمر صاحب الولايات في المجتمع الإسلامي بناء على البيعة ومن بينها ولاية الجرائم فبعد أن بينت المادة (44) من النظام الأساسي للحكم رقم أ/90 في 27/8/1412هـ أن سلطات الدولة هي سلطة القضائية والسلطة التنفيذية والسلطة التنظيمية ومرجعها الملك نصت المادة (54) منه أن "النظام يبين ارتباط هيئة التحقيق والادعاء العام وتنظيمها واختصاصها".
وتستمد الهيئة سلطتها في الادعاء أمام الجهات القضائية وفقًا للائحة التنظيمية من النظام مباشرة إذ تنص نظام هيئة التحقيق والادعاء العام م/56 في 24/10/1409هـ في مادته الثالثة على أن "الهيئة تختص وفقًا للأنظمة ما تحدده اللائحة التنظيمية..."، والهيئة مفوضة من ولي الأمر نيابة عن المجتمع في إقامة الدعوى الجزائية ومباشرتها ولا تملك النزول عن الدعوى أو عن جزء من إجراءاتها فذلك من حق السلطة التنظيمية وحدها عن طريق النظام ويترتب على ذلك:
1- لا يجوز للهيئة أن تنزل عن الدعوى أو تتركها أو توقفها في أي مرحلة من مراحلها إذ ليس لها أن تنزل عن الطعن المرفوع منها وبالتالي يتعين على المحكمة رغم ذلك أن تفصل في الطعن وذلك إلا في الأحوال التي ينص عليها النظام مثال ذلك عفو ولي الأمر فيما يدخله العفو فقد نصت المادة (22) من نظام الإجراءات الجزائية على أن الدعوى الجزائية تنقضي في حالة عفو ولي الأمر فيما يدخله العفو.
2- لا يجوز للهيئة النزول عن حقها في الطعن على الحكم مادام موعد الطعن لم ينقض بعد.
3- يجوز لها أن تعدل عن رأيها الذي تقدمت به إلى المحكمة وبالتالي إذا قدمت قضية باعتبارها جريمة عادية إلى المحكمة المستعجلة وتبينت بعد ذلك أنها جريمة كبيرة من اختصاص المحكمة العامة أو قضاء آخر فلها أن تطلب الحكم بعدم الاختصاص لتقديمها إلى المحكمة المختصة. ولها أيضًا أن تطعن في الحكم الصادر ولو كان موافقًا لطلباتها كما لو تركت الرأي للمحكمة وحُكم بالبراءة.
ثالثًا: طبيعة الإجراءات التي تتخذها هيئة التحقيق والادعاء العام:
من الواضح أن الإجراءات التي تتخذها هيئة التحقيق والادعاء العام تعتبر إجراءات "قضائية"، وليست إجراءات "إدارية".
وإذا كان الأصل أن تتولى هيئة التحقيق والادعاء العام إقامة الدعوى الجزائية ضد المتهم، فقد خوَّل النظام هذه الصلاحية كذلك لكل من: المجني عليه، كما أسلفنا القول، والمحكمة، وذلك في حالات استثنائية وردت على سبيل الحصر، منها ما يتعلق بالجرائم التي تقع أثناء انعقاد الجلسة، وتسمى عادة بجرائم الجلسات، منها الترخيص للمحكمة بأن تضيف إلى قرار الاتهام وقائع جديدة لا تحتاج إلى تحقيق من جانبها.
لهذا، فإننا نرى أنه من المناسب التمييز بين اختصاص هيئة التحقيق والادعاء العام وبين اختصاص قاضي الحكم (المحكمة) في هذا المجال وذلك على النحو التالي:
1- أنه لا يجوز للمحكمة – كقاعدة عامة – تحريك الدعوى الجزائية إلا في حالات محددة بنصوص صريحة، مثل حقها في تحريك هذه الدعوى بالنسبة لجرائم الجلسات، كما أسلفنا القول.
2- أنه لا يجوز للمحكمة أن تتدخل في أعمال هيئة التحقيق والادعاء العام فتطلب منها تنفيذ عمل من الأعمال، كتحريك الدعوى ضد متهم لم تحركها قبله لأسباب ارتأتها الهيئة، أو اتخاذ إجراءات معينة أو الامتناع عنها.
3- أن عضو هيئة التحقيق والادعاء العام الذي تولى التحقيق في قضية ما. أو يتخذ فيها أي إجراء من الإجراءات لا يجوز له أن يجلس للقضاء فيها. وإلا كان حكمة باطلاً.
4- أن المحكمة غير مقيدة بطلبات ممثل هيئة التحقيق والادعاء العام أمامها، سواء كانت شفوية أو مكتوبة، ولا تتقيد كذلك بكيفية وصف التهمة الذي قدمته الهيئة إلى المحكمة.
5- لا يجوز للمحكمة أن توجه إلى هيئة التحقيق والادعاء لومًا أو نقدًا. وتطبيقًا لهذا ليس للمحكمة أن تنعي في حكمها على هذه الهيئة أنها "أسرفت في الاتهام"، أو أنها أيضًا "أسرفت في حشد التهم وكيلها للمتهمين جزافًا"، فإن قضت بهذا وجب حذف هاتين العبارتين (وهذا ما يسير عليه القضاء في بعض الدول).
6- لرئيس هيئة التحقيق والادعاء العام الإشراف على أعضاء الهيئة. وله في هذا المصدر أن يصدر إليهم تعليماته. غير أن مخالفتها وإن عرضت عضو الهيئة للمساءلة الإدارية، إلا أنه لا يترتب عليها بالضرورة بطلان الإجراءات وما يترتب عليه من آثار.
أما بالنسبة لإجراء المرافعة، فإنه إذا خالف ممثل الهيئة تعليمات رئيس الهيئة فيما يبديه من طلبات بالجلسة فلا يترتب على ذلك بطلان التمثيل والمرافعة، لأن المحكمة في هذه الحالة يكون لها الرأي الأول والأخير. ومع ذلك يجوز لرئيس الهيئة أن يندب عضوًا آخر للمرافعة إذا كانت الدعوى مازالت منظورة أمام القضاء، كما يجوز له الطعن في الحكم.
7- لا تنعقد الخصومة ولا تتحرك الدعوى الجزائية إلا بالتحقيق الذي تجريه هيئة التحقيق والادعاء العام دون غيرها، بوصفها سلطة التحقيق، سواء بنفسها أو بمن تندبه لهذا الغرض من مأموري الضبط الجنائي، أو برفع الدعوى أمام جهات الحكم، ولا تعتبر الدعوى قد بدأت بأي إجراء آخر تقوم به سلطات الاستدلال ولو في حالة التلبس بالجريمة.
8- لهيئة التحقيق والادعاء العام تحريك الدعوى الجنائية أو الامتناع عن تحريكها طبقًا لما تراه، فهي الأمنية عليها دون غيرها، ولا تتقيد حريتها في هذا النطاق بالمحكمات الإدارية والتأديية، ولا تنازل المجني عليه عن حقوق وصفحه عن الجاني، وهي لا تملك التنازل عن الدعوى في أية مرحلة كانت. وإذا تنازلت عنها أو وعدت بذلك شفاهة أو كتابة. فهذا التنازل عن حقها في الطعن في حكم من الأحكام. ولو وافقت عليه كتابة، مادام أن ميعاد الطعن لا يزال ممتدًا أمامها. ومثل هذا التنازل يعد مخالفًا للنظام العام.
9- يكون تحريك الدعوى نتيجة علم هيئة التحقيق والادعاء العام بالجريمة مباشرة، أو عن طريق الإبلاغ عنها من المجني عليه، أو من رجال الشرطة، أو من أي فرد من الأفراد ولو كان مجهولاً.
رابعًا: جرائم الجلسات: تنص المادة (21) من نظام الإجراءات الجزائية على أن: "للمحكمة إذا وقعت أفعال من شأنها الإخلال بأوامرها أو بالاحترام الواجب لها، أو التأثير في أحد أعضائها أو في أحد أطراف الدعوى أو الشهود، وكان ذلك بشأن دعوى منظورة أمامها، أن تنظر في تلك الأفعال وتحكم فيها بالوجه الشرعي". وتنص المادة (143) على أن: "ضبط الجلسة وإداراتها منوطان برئيسها، وله في سبيل ذلك أن يخرج من قاعة الجلسة من يخل بنظامها، فإن لم يمتثل وكان للمحكمة أن تحكم على الفور بسجنه مدة لا تزيد على أربع وعشرين ساعة، ويكون حكمها نهائيًا، وللمحكمة إلى قبل انتهاء الجلسة أن ترجع عن ذلك الحكم".
فلقد أناطت المادة (21) ضبط الجلسة وإدارتها برئيسها. الذي له – بناءً على ذلك – أن يخرج من قاعة الجلسة من يخل بنظامها، فإن امتثل كان بها، وإذا لم يمتثل لأمر المحكمة بإخراجه من الجلسة كان للمحكمة أن تحكم – على الفور – بحبسه مدة لا تزيد على أربع وعشرين ساعة. ويكون حكمها نهائيًا لا يقبل الاعتراض عليه. ومع هذا، فللمحكمة – إلى ما قبل انتهاء الجلسة – أن ترجع عن حكمها هذا. ويلاحظ أن هذه الإجراءات والجزاءات ينفرد بها رئيس الجلسة دون أخذ رأي أعضائها المحكمة بشأنها، لأنها مسائل في جوهرها إدارية، حتى لو ترتب عليها الحبس أربعًا وعشرين ساعة. ولذا لا يجوز أيضًا إبعاد المتهم عن الجلسة أثناء نظر الدعوى إلا إذا وقع منه تشويش يستدعي ذلك، وفي هذه الحالة تستمر الإجراءات إلى أن يمكن السير فيها بحضوره، وعلى المحكمة أن توقفه على ما تم من إجراءات في غيبته. كما يلاحظ أن العقاب على التشويش الحاصل بمجالس القضاء هو أمر راجع لمجرد الإخلال بالنظام فيها. ولا شأن له مطلقًا بما قد يحتويه التشويش من الجرائم الأخرى مثل السب. بل هذه ينظر فيها بالطرق النظامية المرسومة. فإذا حكمت المحكمة على متهم بسبب تشويشه في الجلسة فإن هذا الحكم لا يمنع من محاكمته محاكمة مستقلة على تضمنه هذا التشويش من السب.
كما تنص المادة (144) على أن: "للمحكمة أن تحاكم من تقع منه في أثناء انعقادها جريمة تعد على هيئتها، أو على أحد أعضائها، أو أحد موظفيها، وتحكم عليه وفقًا للوجه الشرعي بعد سماع أقواله". فتتناول هذه المادة معالجة إحدى جرائم الجلسات، تتمثل في التعدي على هيبة المحكمة ككل، أو على هيبة أحد أعضائها دون غيره، أو على أحد موظفي المحكمة الموجودين بالجلسة، ومنهم كاتب الجلسة (أمين السر) وممثل هيئة التحقيق والادعاء العام. إذ أن هذا التطاول على المحكمة الذي يشكل تعديًا على هيبتها يعتبر جريمة تعزيرية. لهذا فإن للمحكمة أن تحاكم من تقع منه هذه الجريمة، وتحكم عليه فورًا وفقًا للوجه الشرعي، بعد أن تسمع أقواله دفاعًا عن نفسه. ولما كانت هذه الجريمة من جرائم الجلسة، وتقع أثناء انعقادها، وأمام الحاضرين الذين يحقق حضورهم شرط "علنية" المحاكمة، فينبغي، لكي يطبق نص هذه المادة، أن يصدر الحكم فورًا بذات الجلسة قبل أن ينفض الحاضرون، حتى تسترد هيئة المحكمة هيبتها أمامهم. ويرجع هذا إلى نص المادة (146) من هذا النظام.
أما إذا لم تحاكم المحكمة من ارتكب الجريمة التعزيرية المذكورة في ذات الجلسة، فالمتهم يحاكم عما ارتكبه وفقًا للإجراءات العادية، لانتفاء الحكمة من التعجيل بمحاكمته أمام الحاضرين.
ويلاحظ أن محاكمة المحكمة للمعتدي على هيبتها مسألة جوازية، يجوز للمحكمة أن تتغاضى عنها، إذا رأت أن اعتذار المتهم – مثلاً – ينطوي على استردادها هيبتها.
وتنص المادة (145) على أنه: "إذا وقعت في الجلسة جريمة غير مشمولة بحكم المادتين الثالثة والأربعين بعد المائة والرابعة والأربعين بعد المائة، فللمحكمة – إذا لم تر إحالة القضية إلى هيئة التحقيق والادعاء العام – أن تحكم على من ارتكبها وفقًا للوجه الشرعي بعد سماع أقواله، إلا إذا كان النظر في الجريمة من اختصاص محكمة أخرى فتحال القضية إلى تلك المحكمة "كما تنص المادة (146) على أن: "الجرائم التي تقع في الجلسة ولم تنتظرها المحكمة في الحال، يكون نظرها وفقًا للقواعد العامة".
وعلى ذلك فإنه إذا وقعت أثناء انعقاد الجلسة كان للمحكمة:
1- إما إحالة القضية إلى هيئة التحقيق والادعاء لتباشر الإجراءات الملائمة وفقًا للنظام.
2- وإما أن تحكم المحكمة على المتهم وفقًا للوجه الشرعي بعد سماع أقواله، إذا كان النظر في الجريمة من اختصاص هذه المحكمة أو محكمة أخرى مثلها. فإذا كانت القضية من اختصاص محكمة أخرى، أحالت القضية إلى تلك المحكمة.
تعالج هذه المادة أفعالاً فيها إخلال بأوامر المحكمة، واحترامها، فضلاً عن التأثير في أحد أعضائها: وتطلق على هذا النوع من الأفعال – وهي تشكل جرائم تعزيرية – تسمية "جرائم الجلسات"، لأنها ترتكب أثناء، وبشأن، دعوى منظورة أمام المحكمة، على حد تعبير هذه المادة. لهذا فإنه يشترط أن تقع الأفعال أثناء انعقاد الجلسة.
ولكن يشترط أن تؤدي هذه الأفعال إما إلى الإخلال بأوامر المحكمة أو بالاحترام الواجب لها أو إلى التأثير في أحد أعضاء المحكمة أو أحد أطراف الدعوى أو الشهود. ومن أمثلة ذلك تأثير المتهم في أحد الشهود لكي يُدلي بشهادة كاذبة لصالحه. فإذا وقع فعل من هذه الأفعال أثناء انعقاد الجلسة، كان للمحكمة أن تنظره، وتحكم فيه بالوجه الشرعي. والحقيقة أن المحكمة تجمع في قضائها بالنسبة لهذه الأفعال بين صفتي الاتهام والحكم، والجمع بينهما في هذا المجال اضطراري، حفاظًا على كرامة المحكمة، وهيبتها، واحترامها. ولهذا يتعين أن يصدر الحكم فورًا بالجلسة أمام الحاضرين الذين شاهدوا الإهانة الصادرة من مرتكب الفعل للمحكمة أو التأثير على أحد أعضائها أو أحد أطراف الدعوى أو الشهود، فيكون رد الفعل – هو الحكم على مرتكب أي من هذه الأفعال وفقًا للوجه الشرعي – فوريًا ومناسبًا لما حدث مع ملاحظة أن المحكمة – بصفة عامة – تجمع بين سلطتي الاتهام والحكم في جرائم الجلسات.
والحكمة من هذا أن الجريمة تقع في حضرة الجمهور بالجلسة، لهذا يقتضي الأمر إصدار الحكم أثناء حضورهم استردادًا لاعتبار المحكمة وحفاظًا على كرامتها.
5- لا وجوب لسماع أقوال النيابة العامة فيما جرى من المحاكمات على ما يقع بالجلسات المدنية من التشويش وجنح الاعتداء على هيئة المحكمة أو على أحد أعضائها، أما ما يجري في تلك المحاكمات أمام المحاكم الجنائية فسماع أقوال النيابة فيها واجب.
ويتضح من هذه النصوص أن رئيس الجلسة يختص بضبطها وإدارتها فإذا حدث إخلال بنظامها فله سلطة القضاء عليه والحكم على من يدخل بالجلسة، ويتمثل هذا الإخلال في أحد ثلاثة فروض:
الفرض الأول: أن يثير الضوضاء ولا يمتثل لما يجب أن يسود الجلسة من هدوء فيحق لرئيس الجلسة أن يخرجه من قاعة الجلسة، فإن لم يمتثل كان للمحكمة أن تحكم على الفور بسجنه مدة لا تزيد على (24) ساعة، ويكون حكمها نهائيًا ولها قبل انتهاء الجلسة أن ترجع عن ذلك الحكم.
الفرض الثاني: إذا وقعت جريمة: أثناء انعقاد الجلسة ارتكبها الأشخاص الحاضرين وتمثلت في تعد على هيئتها أو على أحد أعضائها أو أحد موظفيها، فللمحكمة أن تحكم عليه وفقًا للوجه الشرعي بعد سماع أقواله.
الفرض الثالث: إذا وقعت جريمة أخرى: فللمحكمة السلطة المطلقة في أن تتخذ أحد أمور ثلاثة:
1- أن تحيل القضية إلى هيئة التحقيق والادعاء العام لتتولى التحقيق فيها واتخاذ ما تراه بشأنها نظامًا.
2- أن تحكم على من ارتكبها وفقًا للوجه الشرعي بعد سماع أقواله، إذا كانت تدخل في اختصاصها.
3- أن تحيل القضية إلى محكمة أخرى: متى كانت هذه المحكمة الأخرى هي المختصة بنظرها، ويتم نظرها وفقًا للقواعد العامة.
خامسًا: تصدي المحكمة لنظر وقائع معينة:
تنص المادة (6) من نظام الإجراءات الجزائية على أن: "تتولى المحاكم محاكمة المتهمين فيما يسند إليهم من تهم وفقًا للوجه الشرعي وطبقًا للإجراءات المنصوص عليها في هذا النظام. وللمحكمة أن تنظر في وقائع غير مدعى بها من المدعي العام مما لا يحتاج إلى تحقيق". وتنص المادة (20) على أنه: "إذا تبين للمحكمة في دعوى مقامه أمامها أن هناك متهمين غير من أقيمت الدعوى عليهم، أو وقائع أخرى مرتبطة بالتهمة المعروضة، فعليها أن تحيط من رفع الدعوى علمًا بذلك، لاستكمال ما يلزم لنظرها والحكم فيها بالوجه الشرعي، ويسري هذا الإجراء على محكمة التمييز إذا ظهر لها ذلك".
ويتضح من هذين النصين أن النظام لم يتقيد بمبدأ شخصية الدعوى (أي الأشخاص الذين أقيمت الدعوى عليهم) وعينيتها (أي بالوقائع التي أقيمت بها الدعوى عليهم)، وذلك على النحو التالي:
- أجاز النظام للمحكمة في المادة السادسة منه أن تنظر في وقائع غير مدعى بها من المدعي العام مما لا يحتاج إلى تحقيق. أما المادة العشرون، فقد ألزمت المحكمة – إذا تبين لها أن هناك متهمين غير من أقيمت عليهم الدعوى، أو وقائع أخرى مرتبطة بالتهمة المعروضة – بأن تحيط من رفعت عليه الدعوى علمًا بذلك لاستكمال ما يلزم لنظرها، والحكم فيها بالوجه الشرعي.
أما عن منح هذه الصلاحية لمحكمة التمييز، فإن مؤدى هذا أن المتهم ستفوته – إذا ما صدر الحكم ضده – درجة من درجتي القاضي. لهذا، ينبغي البحث عن وسيلة تمكنه من إعادة الدعوى إلى المحكمة التي أصدرت الحكم محل الاعتراض لتفصل فيها، حتى لا تفوته إحدى هاتين الدرجتين.منقووووول
وسنوضح في هذا المبحث القواعد النظامية التي تسري على تحريك الدعوى الجزائية
تحريك الدعوى الجزائية واستعمالها
أولاً: تحريك الدعوى الجزائية:
يقصد به: "العمل الافتتاحي للدعوى الجزائية أمام جهات التحقيق أو الحكم "اتخاذ أول إجراء من إجراءاتها"، أو "الإجراء الذي ينقل الدعوى من حال السكون الذي كانت عليه عند نشأتها إلى حال الحركة، بأن يدخلها في حوزة السلطات المختصة باتخاذ إجراءاتها التالية"، فيعد تحريكًا للدعوى تكليف المتهم بمعرفة هيئة التحقيق والادعاء العام بالحضور أمام المحكمة، واتخاذ هذه الهيئة قرار بإجراء التحقيق والادعاء العام بالحضور أمام المحكمة، واتخاذ هذه الهيئة قرار بإجراء التحقيق في قضية ما أو قرارها ندب أحد رجال الضبط الجنائي لإجراء عمل من أعمال التحقيق([1]).
ولكن يجب الأخذ في الاعتبار أن إجراءات الاستدلال لا تعتبر إجراءات تتحرك بها الدعوى الجزائية، لأن هذه الإجراءات ليست من إجراءات الدعوى الجزائية، وإنما هي "إجراءات تمهيدية تسبق الدعوى الجزائية"([2]).
وهذا يجب أن نميز بين مصطلحي: "تحريك الدعوى" و"إقامة الدعوى الجزائية": إذ يقصد بإقامة الدعوى: "نقل قرار الاتهام إلى المحكمة المختصة للمطالبة بتوقيع العقوبة على المتهم".
ثانيًا: مباشرة الدعوى الجزائية أو استعمالها:
1- يقصد به: "اتخاذ أي إجراء أو مجموعة من الإجراءات التي يقتضيها سير الدعوى أمام المحكمة نحو الحكم الباب الفاصل في موضوعها، وذلك بدء من الإجراء الأول الذي أقيمت به وانتهاءً بالحكم النهائي فيها".
2- من له صلاحية مباشرة الدعوى الجزائية؟ الذي له صلاحية مباشرة الدعوى الجزائية:
أ- هيئة التحقيق والادعاء العام أصلاً.
ب- ثم يجوز للمجني عليه أو من ينوب عنه أو وارثه أن يرفع الدعوى في القضايا التي يتعلق بها حق خاص: فلا تستأثر هيئة التحقيق والادعاء العام بصلاحية مباشرة الدعوى الجزائية، بل قد يشاركها المجني عليه في هذه الصلاحية وفقًا لنص المادة (17) من هذا النظام، التي تنص على أن: "للمجني عليه أو من ينوب عنه، ولوارثه من بعده، حق رفع الدعوى الجزائية في جميع القضايا التي يتعلق بها حق خاص، ومباشرة هذه الدعوى أمام المحكمة المختصة. وعلى المحكمة في هذه الحالة تبليغ المدعي العام بالحضور".
والمادة (18) التي نص على أنه: "لا يجوز إقامة الدعوى الجزائية أو إجراءات التحقيق في الجرائم الواجب فيها حق خاص للأفراد إلا بناءً على شكوى من المجني عليه أو من ينوب عنه أو وارثه من بعده إلى الجهة المختصة، إلا إذا رأت هيئة التحقيق والادعاء العام مصلحة عامة في رفع الدعوى والتحقيق في هذه الجرائم".
الإدعاء المباشر: ويطلق على هذا الإجراء عادة في الأنظمة المقارنة تسمية "الإدعاء المباشر"، لأن الذي يرفع الدعوى الجزائية هو المجني عليه "مباشرة دون واسطة هيئة التحقيق والادعاء العام أو غيرها. وتخول هذه المادة "للمجني عليه" الحق في رفع هذه الدعوى مستهدفًا من ورائها الحكم له بحقه الخاص بالتعويض عن الضرر المترتب على الجريمة محل الادعاء الجزائي.
الحكمة من الادعاء المباشر: والحقيقة أن تخويل المجني عليه صلاحية الإدعاء المباشر بتحريك الدعوى الجزائية يحقق نظام "الاتهام الفردي" الذي أقامته الشريعة الإسلامية، حيث تركت زمام الإدعاء بالحق الخاص أمام المحكمة الجزائية في يد المجني عليه، ترضية له، وتقديرًا لما يراه، وحماية لحقه في التعويض، وشفاءً لما يكون قد خالط نفسه من آلام سببتها الجريمة، وقطعًا لدابر الثأر مستقبلاً... وما أكثر ما لا يتسع له المقام في سرد مزايا هذا النظام الإسلامي وبيان سموه على غيره من الأنظمة. كما أن في الإدعاء المباشر من جانب المجني عليه فرصة لتحريك الدعوى الجزائية إذا تقاعست هيئة التحقيق والادعاء العام عن تحريكها.
وتحقيقًا للحكمة من ترك زمام الادعاء المباشر في يد المجني عليه، فقد منحه النظام الحق في أن يتنازل عن ادعائه هذا. وهذا اتجاه إسلامي قويم، لأن به تتحقق مصلحتان: مصلحة المجني عليه في التصالح مع المتهم بمقابل أو بالمجان فتهدأ نفسه، ومصلحة الجماعة في أن يحل الوئام محل الانتقام، وتسود السكينة بدلاً من الضغينة بين الجميع.
المقصود بالمجني عليه يمكن تعريف "المجني عليه" بأنه "صاحب الحق أو المصلحة أو المال المعتدى عليه من جانب مرتكب الجريمة". فهو المعتدى عليه بالإيذاء المستوجب للقصاص فيما دون النفس، وهو مالك المال المسروق، وهو المودع للمال الذي اختلسه من ائتمنه عليه.
والغالب أن يكون المجني عليه هو "المتضرر" من الجريمة ضررًا شخصيًا ينشئ له "حقًا خاصًا" في التعويض. ومع هذا، فقد لا يلحق بالمجني عليه ضرر ما من الجريمة، ومن أمثلة ذلك الشروع في السرقة إذا لم يترتب عليه أي ضرر يلحق بالمجني عليه، ومن المعلوم أن الشروع في هذه الجريمة – وغيرها من سائر الجرائم – يعتبر من قبيل الجرائم التعزيرية.
وإزاء التفرقة بين المجني عليه والمتضرر من الجريمة، فقد استعمل النظام المصطلح الأول، ومع هذا فإن الربط بينه وبين شريط "تعلق دعواه بحق خاص" يفيد بحكم اللزوم العقلي أنه قد أصابه ضرر من الجريمة ولد له حقًا خاصًا في المطالبة بالتعويض عنه.
وعلى الرغم من أن المجني عليه المتضرر من الجريمة هو الذي رفع الدعوى الجزائية، استنادًا إلى كون النظام قد خوله صلاحية مباشرتها أمام المحكمة المختصة، إلا أن النظام قد ألزم هذه المحكمة بتبليغ المدعي العام بالحضور. وإذا كانت الأنظمة الإجرائية في الدول الأخرى تضع على عاتق المجني عليه المتضرر عبء هذا الإجراء، فقد أحسن النظام السعودي في التخفيف عن المجني عليه ونقل عبء هذا الإجراء إلى المحكمة ذاتها.
ولما كان حضور ممثل هيئة التحقيق والادعاء العام جلسات للمحاكمة الجزائية شرطًا لانعقادها عند نظر الجرائم الكبيرة، فقد اقتضى الأمر تبليغ هذه الهيئة بادعاء المجني عليه ليتسنى لها الحضور مراعاة لشكل انعقاد الخصومة الجزائية في هذه الفئة من الجرائم الكبيرة. وفي رأينا أن عدم حضورها يترتب عليه بطلان المحاكمة، والبطلان هنا من النظام العام، لا يتوقف الحكم به على مطالبة المتهم.
الشروط الواجب توافرها في الادعاء المباشر:
1- أن يتم رفع الدعوى من المجني عليه المتضرر من الجريمة أو يرفعها من ينوب عنه أو يرفعها وارثه من بعده. وبناءً عليه، فلا يقبل الدعوى من دائنيه، ولا ممن حوَّل له حقه في التعويض، ولا من أقارب من غير ورثته، ولا من شركة التأمين مطالبة بما دفعته للمجني عليه تعويضًا له عن الضرر الذي لحق به من الجريمة.
2- أن يكون المجني عليه قد نشأ له حق من الجريمة مباشرة. ولا يحقق هذا الشرط إلا إذا كان الضرر قد ارتبط بالجريمة رباط السبب المباشر بالمتسبب.
ويستوي أن تكون الجريمة التي ولدت الحق الخاص حدًّا، كمن يجني عليه في حد قذف، أو أن تكون قصاصًا فيما دون النفس، أو أن تكون جريمة تعزيرية مثل جريمة السب.
ومن رأينا أنه إذا كان قد أصدر أمر بالحفظ (وفقًا للمادة (124) من هذا النظام)، فإنه لا يحول دون إقامة المجني عليه دعوى الحق الخاص تغليبًا من النظام لحق المجني عليه على حق هيئة التحقيق والادعاء العام في مجال رفع الدعوى الجزائية. ودليلنا على هذا أن من حق المجني عليه إقامة هذه الدعوى حتى ولو كانت هذه الهيئة قد رفضت ادعاءه أثناء تحقيقها للدعوى (استنادًا إلى المادة (148) من النظام).
ولكن لا يشترط للإدعاء العام المباشر أن يسبقه تحقيق أو حتى جمع استدلالات من جانب رجل الضبط الجنائي، لأن حق المتضرر من الجريمة حق أصيل ينبغي ألا يترك استعماله معلقًا على إرادة الغير. ولهذا، فإن المجني عليه أن يلجأ مباشرة في هذه الحالة إلى الادعاء المباشر إذا كانت أدلة ثبوت الجريمة في حق المتهم متوافرة وكافية لديه ولا تحتاج إلى تحقيق.
ونلاحظ أن المادة (18) تعالج مركزين إجرائيين مختلفين يتعلقان بإقامة الدعوى أو مباشرة التحقيق في الجرائم الواجب فيها حق خاص للأفراد: الأول: يعلق مباشرة هذين الإجراءين (إقامة الدعوى الجزائية أو التحقيق فيها) على شكوى من المجني عليه، والثاني: يخول هيئة التحقيق والادعاء العام صلاحية إقامة الدعوى الجزائية عن هذه الجرائم أو التحقيق فيها دون توقف على شكوى المجني عليه. وعلى ذلك فالمجني عليه ينفرد بمباشرة دعواه بشرط تقدمه بشكواه إذا تحققت مصلحته الخاصة، وتنفرد هيئة التحقيق والادعاء بمركزها الإجرائي الاستقلالي إذا رأت أن في ذلك تحقيق لمصلحة عامة.
وفي القوانين والأنظمة المقارنة يسود اتجاهان في هذا الصدد:
الاتجاه الأول: يلزم لهذه السلطة مجالاً للملاءمة بين توجيه الاتهام (أي إقامة الدعوى)، وبين الحفظ، بحيث يكون لها أن تمتنع عن توجيه الاتهام على الرغم من توافر جميع أركان الجريمة ونشوء المسئولية عنها إذا رأت أن المصلحة العامة تقتضي ذلك.
وأهم ميزة لهذا الاتجاه الإجرائي الثاني أنه يخفف عن القضاء بعض أعبائه، من جهة، وأنه يحقق المصلحة العامة من جهة أخرى.
وفي ضوء هذه المقارنة بين هذين الاتجاهين، يبدو أن النظام السعودي يرجح الاعتداد بالاتجاه الثاني الذي يخول هيئة التحقيق والادعاء العام سلطة تقديرية في مجال الاتهام أو حفظ الدعوى الجزائية فهيئة التحقيق والادعاء العام هي صاحبة الادعاء العام وذلك بتحريك الدعوى الجزائية (إقامتها) ومباشرتها (استعمالها) وحريتها في ذلك يرد عليها نوعان من القيود:
النوع الأول: يشمل الحالات الثلاث السابق الكلام عنها التي يكون فيها لغير الهيئة حق تحريك الدعوى الجزائية، فيحق للمجني عليه أو لورثته المطالبة بالحق الخاص مهما بلغ مقداره أمام المحكمة المنظورة أمامها الدعوى الجزائية في أي حال كانت عليها الدعوى، حتى ولو يقبل طلبه أثناء التحقيق.
والنوع الثاني: يشمل الأحوال التي يعلق فيها تحريك الدعوى أو إجراء أي تحقيق فيها إلا بناء على شكوى المجني عليه أو من ينوب عنه أو وارثه من بعده إذا كانت الجريمة واجب فيها حق خاص للأفراد ما لم تر الهيئة مصلحة عامة تقتضي ذلك.
وهيئة التحقيق والادعاء تقوم على إقامة الدعوى الجزائية ومباشرتها نيابة عن ولي الأمر صاحب الولايات في المجتمع الإسلامي بناء على البيعة ومن بينها ولاية الجرائم فبعد أن بينت المادة (44) من النظام الأساسي للحكم رقم أ/90 في 27/8/1412هـ أن سلطات الدولة هي سلطة القضائية والسلطة التنفيذية والسلطة التنظيمية ومرجعها الملك نصت المادة (54) منه أن "النظام يبين ارتباط هيئة التحقيق والادعاء العام وتنظيمها واختصاصها".
وتستمد الهيئة سلطتها في الادعاء أمام الجهات القضائية وفقًا للائحة التنظيمية من النظام مباشرة إذ تنص نظام هيئة التحقيق والادعاء العام م/56 في 24/10/1409هـ في مادته الثالثة على أن "الهيئة تختص وفقًا للأنظمة ما تحدده اللائحة التنظيمية..."، والهيئة مفوضة من ولي الأمر نيابة عن المجتمع في إقامة الدعوى الجزائية ومباشرتها ولا تملك النزول عن الدعوى أو عن جزء من إجراءاتها فذلك من حق السلطة التنظيمية وحدها عن طريق النظام ويترتب على ذلك:
1- لا يجوز للهيئة أن تنزل عن الدعوى أو تتركها أو توقفها في أي مرحلة من مراحلها إذ ليس لها أن تنزل عن الطعن المرفوع منها وبالتالي يتعين على المحكمة رغم ذلك أن تفصل في الطعن وذلك إلا في الأحوال التي ينص عليها النظام مثال ذلك عفو ولي الأمر فيما يدخله العفو فقد نصت المادة (22) من نظام الإجراءات الجزائية على أن الدعوى الجزائية تنقضي في حالة عفو ولي الأمر فيما يدخله العفو.
2- لا يجوز للهيئة النزول عن حقها في الطعن على الحكم مادام موعد الطعن لم ينقض بعد.
3- يجوز لها أن تعدل عن رأيها الذي تقدمت به إلى المحكمة وبالتالي إذا قدمت قضية باعتبارها جريمة عادية إلى المحكمة المستعجلة وتبينت بعد ذلك أنها جريمة كبيرة من اختصاص المحكمة العامة أو قضاء آخر فلها أن تطلب الحكم بعدم الاختصاص لتقديمها إلى المحكمة المختصة. ولها أيضًا أن تطعن في الحكم الصادر ولو كان موافقًا لطلباتها كما لو تركت الرأي للمحكمة وحُكم بالبراءة.
ثالثًا: طبيعة الإجراءات التي تتخذها هيئة التحقيق والادعاء العام:
من الواضح أن الإجراءات التي تتخذها هيئة التحقيق والادعاء العام تعتبر إجراءات "قضائية"، وليست إجراءات "إدارية".
وإذا كان الأصل أن تتولى هيئة التحقيق والادعاء العام إقامة الدعوى الجزائية ضد المتهم، فقد خوَّل النظام هذه الصلاحية كذلك لكل من: المجني عليه، كما أسلفنا القول، والمحكمة، وذلك في حالات استثنائية وردت على سبيل الحصر، منها ما يتعلق بالجرائم التي تقع أثناء انعقاد الجلسة، وتسمى عادة بجرائم الجلسات، منها الترخيص للمحكمة بأن تضيف إلى قرار الاتهام وقائع جديدة لا تحتاج إلى تحقيق من جانبها.
لهذا، فإننا نرى أنه من المناسب التمييز بين اختصاص هيئة التحقيق والادعاء العام وبين اختصاص قاضي الحكم (المحكمة) في هذا المجال وذلك على النحو التالي:
1- أنه لا يجوز للمحكمة – كقاعدة عامة – تحريك الدعوى الجزائية إلا في حالات محددة بنصوص صريحة، مثل حقها في تحريك هذه الدعوى بالنسبة لجرائم الجلسات، كما أسلفنا القول.
2- أنه لا يجوز للمحكمة أن تتدخل في أعمال هيئة التحقيق والادعاء العام فتطلب منها تنفيذ عمل من الأعمال، كتحريك الدعوى ضد متهم لم تحركها قبله لأسباب ارتأتها الهيئة، أو اتخاذ إجراءات معينة أو الامتناع عنها.
3- أن عضو هيئة التحقيق والادعاء العام الذي تولى التحقيق في قضية ما. أو يتخذ فيها أي إجراء من الإجراءات لا يجوز له أن يجلس للقضاء فيها. وإلا كان حكمة باطلاً.
4- أن المحكمة غير مقيدة بطلبات ممثل هيئة التحقيق والادعاء العام أمامها، سواء كانت شفوية أو مكتوبة، ولا تتقيد كذلك بكيفية وصف التهمة الذي قدمته الهيئة إلى المحكمة.
5- لا يجوز للمحكمة أن توجه إلى هيئة التحقيق والادعاء لومًا أو نقدًا. وتطبيقًا لهذا ليس للمحكمة أن تنعي في حكمها على هذه الهيئة أنها "أسرفت في الاتهام"، أو أنها أيضًا "أسرفت في حشد التهم وكيلها للمتهمين جزافًا"، فإن قضت بهذا وجب حذف هاتين العبارتين (وهذا ما يسير عليه القضاء في بعض الدول).
6- لرئيس هيئة التحقيق والادعاء العام الإشراف على أعضاء الهيئة. وله في هذا المصدر أن يصدر إليهم تعليماته. غير أن مخالفتها وإن عرضت عضو الهيئة للمساءلة الإدارية، إلا أنه لا يترتب عليها بالضرورة بطلان الإجراءات وما يترتب عليه من آثار.
أما بالنسبة لإجراء المرافعة، فإنه إذا خالف ممثل الهيئة تعليمات رئيس الهيئة فيما يبديه من طلبات بالجلسة فلا يترتب على ذلك بطلان التمثيل والمرافعة، لأن المحكمة في هذه الحالة يكون لها الرأي الأول والأخير. ومع ذلك يجوز لرئيس الهيئة أن يندب عضوًا آخر للمرافعة إذا كانت الدعوى مازالت منظورة أمام القضاء، كما يجوز له الطعن في الحكم.
7- لا تنعقد الخصومة ولا تتحرك الدعوى الجزائية إلا بالتحقيق الذي تجريه هيئة التحقيق والادعاء العام دون غيرها، بوصفها سلطة التحقيق، سواء بنفسها أو بمن تندبه لهذا الغرض من مأموري الضبط الجنائي، أو برفع الدعوى أمام جهات الحكم، ولا تعتبر الدعوى قد بدأت بأي إجراء آخر تقوم به سلطات الاستدلال ولو في حالة التلبس بالجريمة.
8- لهيئة التحقيق والادعاء العام تحريك الدعوى الجنائية أو الامتناع عن تحريكها طبقًا لما تراه، فهي الأمنية عليها دون غيرها، ولا تتقيد حريتها في هذا النطاق بالمحكمات الإدارية والتأديية، ولا تنازل المجني عليه عن حقوق وصفحه عن الجاني، وهي لا تملك التنازل عن الدعوى في أية مرحلة كانت. وإذا تنازلت عنها أو وعدت بذلك شفاهة أو كتابة. فهذا التنازل عن حقها في الطعن في حكم من الأحكام. ولو وافقت عليه كتابة، مادام أن ميعاد الطعن لا يزال ممتدًا أمامها. ومثل هذا التنازل يعد مخالفًا للنظام العام.
9- يكون تحريك الدعوى نتيجة علم هيئة التحقيق والادعاء العام بالجريمة مباشرة، أو عن طريق الإبلاغ عنها من المجني عليه، أو من رجال الشرطة، أو من أي فرد من الأفراد ولو كان مجهولاً.
رابعًا: جرائم الجلسات: تنص المادة (21) من نظام الإجراءات الجزائية على أن: "للمحكمة إذا وقعت أفعال من شأنها الإخلال بأوامرها أو بالاحترام الواجب لها، أو التأثير في أحد أعضائها أو في أحد أطراف الدعوى أو الشهود، وكان ذلك بشأن دعوى منظورة أمامها، أن تنظر في تلك الأفعال وتحكم فيها بالوجه الشرعي". وتنص المادة (143) على أن: "ضبط الجلسة وإداراتها منوطان برئيسها، وله في سبيل ذلك أن يخرج من قاعة الجلسة من يخل بنظامها، فإن لم يمتثل وكان للمحكمة أن تحكم على الفور بسجنه مدة لا تزيد على أربع وعشرين ساعة، ويكون حكمها نهائيًا، وللمحكمة إلى قبل انتهاء الجلسة أن ترجع عن ذلك الحكم".
فلقد أناطت المادة (21) ضبط الجلسة وإدارتها برئيسها. الذي له – بناءً على ذلك – أن يخرج من قاعة الجلسة من يخل بنظامها، فإن امتثل كان بها، وإذا لم يمتثل لأمر المحكمة بإخراجه من الجلسة كان للمحكمة أن تحكم – على الفور – بحبسه مدة لا تزيد على أربع وعشرين ساعة. ويكون حكمها نهائيًا لا يقبل الاعتراض عليه. ومع هذا، فللمحكمة – إلى ما قبل انتهاء الجلسة – أن ترجع عن حكمها هذا. ويلاحظ أن هذه الإجراءات والجزاءات ينفرد بها رئيس الجلسة دون أخذ رأي أعضائها المحكمة بشأنها، لأنها مسائل في جوهرها إدارية، حتى لو ترتب عليها الحبس أربعًا وعشرين ساعة. ولذا لا يجوز أيضًا إبعاد المتهم عن الجلسة أثناء نظر الدعوى إلا إذا وقع منه تشويش يستدعي ذلك، وفي هذه الحالة تستمر الإجراءات إلى أن يمكن السير فيها بحضوره، وعلى المحكمة أن توقفه على ما تم من إجراءات في غيبته. كما يلاحظ أن العقاب على التشويش الحاصل بمجالس القضاء هو أمر راجع لمجرد الإخلال بالنظام فيها. ولا شأن له مطلقًا بما قد يحتويه التشويش من الجرائم الأخرى مثل السب. بل هذه ينظر فيها بالطرق النظامية المرسومة. فإذا حكمت المحكمة على متهم بسبب تشويشه في الجلسة فإن هذا الحكم لا يمنع من محاكمته محاكمة مستقلة على تضمنه هذا التشويش من السب.
كما تنص المادة (144) على أن: "للمحكمة أن تحاكم من تقع منه في أثناء انعقادها جريمة تعد على هيئتها، أو على أحد أعضائها، أو أحد موظفيها، وتحكم عليه وفقًا للوجه الشرعي بعد سماع أقواله". فتتناول هذه المادة معالجة إحدى جرائم الجلسات، تتمثل في التعدي على هيبة المحكمة ككل، أو على هيبة أحد أعضائها دون غيره، أو على أحد موظفي المحكمة الموجودين بالجلسة، ومنهم كاتب الجلسة (أمين السر) وممثل هيئة التحقيق والادعاء العام. إذ أن هذا التطاول على المحكمة الذي يشكل تعديًا على هيبتها يعتبر جريمة تعزيرية. لهذا فإن للمحكمة أن تحاكم من تقع منه هذه الجريمة، وتحكم عليه فورًا وفقًا للوجه الشرعي، بعد أن تسمع أقواله دفاعًا عن نفسه. ولما كانت هذه الجريمة من جرائم الجلسة، وتقع أثناء انعقادها، وأمام الحاضرين الذين يحقق حضورهم شرط "علنية" المحاكمة، فينبغي، لكي يطبق نص هذه المادة، أن يصدر الحكم فورًا بذات الجلسة قبل أن ينفض الحاضرون، حتى تسترد هيئة المحكمة هيبتها أمامهم. ويرجع هذا إلى نص المادة (146) من هذا النظام.
أما إذا لم تحاكم المحكمة من ارتكب الجريمة التعزيرية المذكورة في ذات الجلسة، فالمتهم يحاكم عما ارتكبه وفقًا للإجراءات العادية، لانتفاء الحكمة من التعجيل بمحاكمته أمام الحاضرين.
ويلاحظ أن محاكمة المحكمة للمعتدي على هيبتها مسألة جوازية، يجوز للمحكمة أن تتغاضى عنها، إذا رأت أن اعتذار المتهم – مثلاً – ينطوي على استردادها هيبتها.
وتنص المادة (145) على أنه: "إذا وقعت في الجلسة جريمة غير مشمولة بحكم المادتين الثالثة والأربعين بعد المائة والرابعة والأربعين بعد المائة، فللمحكمة – إذا لم تر إحالة القضية إلى هيئة التحقيق والادعاء العام – أن تحكم على من ارتكبها وفقًا للوجه الشرعي بعد سماع أقواله، إلا إذا كان النظر في الجريمة من اختصاص محكمة أخرى فتحال القضية إلى تلك المحكمة "كما تنص المادة (146) على أن: "الجرائم التي تقع في الجلسة ولم تنتظرها المحكمة في الحال، يكون نظرها وفقًا للقواعد العامة".
وعلى ذلك فإنه إذا وقعت أثناء انعقاد الجلسة كان للمحكمة:
1- إما إحالة القضية إلى هيئة التحقيق والادعاء لتباشر الإجراءات الملائمة وفقًا للنظام.
2- وإما أن تحكم المحكمة على المتهم وفقًا للوجه الشرعي بعد سماع أقواله، إذا كان النظر في الجريمة من اختصاص هذه المحكمة أو محكمة أخرى مثلها. فإذا كانت القضية من اختصاص محكمة أخرى، أحالت القضية إلى تلك المحكمة.
تعالج هذه المادة أفعالاً فيها إخلال بأوامر المحكمة، واحترامها، فضلاً عن التأثير في أحد أعضائها: وتطلق على هذا النوع من الأفعال – وهي تشكل جرائم تعزيرية – تسمية "جرائم الجلسات"، لأنها ترتكب أثناء، وبشأن، دعوى منظورة أمام المحكمة، على حد تعبير هذه المادة. لهذا فإنه يشترط أن تقع الأفعال أثناء انعقاد الجلسة.
ولكن يشترط أن تؤدي هذه الأفعال إما إلى الإخلال بأوامر المحكمة أو بالاحترام الواجب لها أو إلى التأثير في أحد أعضاء المحكمة أو أحد أطراف الدعوى أو الشهود. ومن أمثلة ذلك تأثير المتهم في أحد الشهود لكي يُدلي بشهادة كاذبة لصالحه. فإذا وقع فعل من هذه الأفعال أثناء انعقاد الجلسة، كان للمحكمة أن تنظره، وتحكم فيه بالوجه الشرعي. والحقيقة أن المحكمة تجمع في قضائها بالنسبة لهذه الأفعال بين صفتي الاتهام والحكم، والجمع بينهما في هذا المجال اضطراري، حفاظًا على كرامة المحكمة، وهيبتها، واحترامها. ولهذا يتعين أن يصدر الحكم فورًا بالجلسة أمام الحاضرين الذين شاهدوا الإهانة الصادرة من مرتكب الفعل للمحكمة أو التأثير على أحد أعضائها أو أحد أطراف الدعوى أو الشهود، فيكون رد الفعل – هو الحكم على مرتكب أي من هذه الأفعال وفقًا للوجه الشرعي – فوريًا ومناسبًا لما حدث مع ملاحظة أن المحكمة – بصفة عامة – تجمع بين سلطتي الاتهام والحكم في جرائم الجلسات.
والحكمة من هذا أن الجريمة تقع في حضرة الجمهور بالجلسة، لهذا يقتضي الأمر إصدار الحكم أثناء حضورهم استردادًا لاعتبار المحكمة وحفاظًا على كرامتها.
5- لا وجوب لسماع أقوال النيابة العامة فيما جرى من المحاكمات على ما يقع بالجلسات المدنية من التشويش وجنح الاعتداء على هيئة المحكمة أو على أحد أعضائها، أما ما يجري في تلك المحاكمات أمام المحاكم الجنائية فسماع أقوال النيابة فيها واجب.
ويتضح من هذه النصوص أن رئيس الجلسة يختص بضبطها وإدارتها فإذا حدث إخلال بنظامها فله سلطة القضاء عليه والحكم على من يدخل بالجلسة، ويتمثل هذا الإخلال في أحد ثلاثة فروض:
الفرض الأول: أن يثير الضوضاء ولا يمتثل لما يجب أن يسود الجلسة من هدوء فيحق لرئيس الجلسة أن يخرجه من قاعة الجلسة، فإن لم يمتثل كان للمحكمة أن تحكم على الفور بسجنه مدة لا تزيد على (24) ساعة، ويكون حكمها نهائيًا ولها قبل انتهاء الجلسة أن ترجع عن ذلك الحكم.
الفرض الثاني: إذا وقعت جريمة: أثناء انعقاد الجلسة ارتكبها الأشخاص الحاضرين وتمثلت في تعد على هيئتها أو على أحد أعضائها أو أحد موظفيها، فللمحكمة أن تحكم عليه وفقًا للوجه الشرعي بعد سماع أقواله.
الفرض الثالث: إذا وقعت جريمة أخرى: فللمحكمة السلطة المطلقة في أن تتخذ أحد أمور ثلاثة:
1- أن تحيل القضية إلى هيئة التحقيق والادعاء العام لتتولى التحقيق فيها واتخاذ ما تراه بشأنها نظامًا.
2- أن تحكم على من ارتكبها وفقًا للوجه الشرعي بعد سماع أقواله، إذا كانت تدخل في اختصاصها.
3- أن تحيل القضية إلى محكمة أخرى: متى كانت هذه المحكمة الأخرى هي المختصة بنظرها، ويتم نظرها وفقًا للقواعد العامة.
خامسًا: تصدي المحكمة لنظر وقائع معينة:
تنص المادة (6) من نظام الإجراءات الجزائية على أن: "تتولى المحاكم محاكمة المتهمين فيما يسند إليهم من تهم وفقًا للوجه الشرعي وطبقًا للإجراءات المنصوص عليها في هذا النظام. وللمحكمة أن تنظر في وقائع غير مدعى بها من المدعي العام مما لا يحتاج إلى تحقيق". وتنص المادة (20) على أنه: "إذا تبين للمحكمة في دعوى مقامه أمامها أن هناك متهمين غير من أقيمت الدعوى عليهم، أو وقائع أخرى مرتبطة بالتهمة المعروضة، فعليها أن تحيط من رفع الدعوى علمًا بذلك، لاستكمال ما يلزم لنظرها والحكم فيها بالوجه الشرعي، ويسري هذا الإجراء على محكمة التمييز إذا ظهر لها ذلك".
ويتضح من هذين النصين أن النظام لم يتقيد بمبدأ شخصية الدعوى (أي الأشخاص الذين أقيمت الدعوى عليهم) وعينيتها (أي بالوقائع التي أقيمت بها الدعوى عليهم)، وذلك على النحو التالي:
- أجاز النظام للمحكمة في المادة السادسة منه أن تنظر في وقائع غير مدعى بها من المدعي العام مما لا يحتاج إلى تحقيق. أما المادة العشرون، فقد ألزمت المحكمة – إذا تبين لها أن هناك متهمين غير من أقيمت عليهم الدعوى، أو وقائع أخرى مرتبطة بالتهمة المعروضة – بأن تحيط من رفعت عليه الدعوى علمًا بذلك لاستكمال ما يلزم لنظرها، والحكم فيها بالوجه الشرعي.
أما عن منح هذه الصلاحية لمحكمة التمييز، فإن مؤدى هذا أن المتهم ستفوته – إذا ما صدر الحكم ضده – درجة من درجتي القاضي. لهذا، ينبغي البحث عن وسيلة تمكنه من إعادة الدعوى إلى المحكمة التي أصدرت الحكم محل الاعتراض لتفصل فيها، حتى لا تفوته إحدى هاتين الدرجتين.منقووووول