الزغيبي
05-02-2010, 04:57 PM
مسائل قضائية
(20 )
طرق إثبات قيادة السيارة تحت تأثير مسكر أو مخدر ونحوه
الحمد لله رب العالمين ,والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ,أما بعد :
تمهيد :
فتختلف طرق إثبات بعض الحدود عن بعض ، فبينما يشترط لإثبات حدّ الزنا عن طريق الشهادة أربعة شهود عدول ، فإنه يشترط لإثبات حدّ السرقة عن طريق الشهادة شهادة عدلين . فإذا كان التفاوت موجوداً بين الحدود ، فإن التفاوت في طرق الإثبات موجود بين الحدود ، والتعزيرات ؛ فضلاً عن وجود اختلافات أخرى بينهما منها درء الأولى بالشبهة دون الثانية .
وقيادة السيارة تحت تأثير مسكر أو مخدر ونحوه يجب فيها التعزير ، ولإثباتها طرق يمكن حصرها ـ حسبما يظهر لي ـ فيما يلي :
الطريقة الأولى :
الإقرار ، فتثبت قيادة السيارة تحت تأثير مسكر أو مخدر ونحوه بالإقرار (39) .
وهنا يرد اعتراض وهو :
يتوقف ثبوت الإدانة بحيازة المتهم للمخدر أو المؤثر العقلي ونحوهما على ثبوت إيجابية عينة المادة التي تم تحريزها لإحدى المواد المخدرة أو المؤثرات العقلية أو السلائف الكيميائية المدرجة في نظام مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية ، ولا يكفي إقرار المتهم بكنه المادة المضبوطة عن إجراء التحليل في المختبر المعتمد لإثبات الإدانة وفقاً لما هو مقرر (40) ، فكيف تثبت قيادة المتهم للسيارة تحت تأثير مسكر أو مخدر بناء على إقراره دون إجراء التحليل الكيميائي ؟
ويجاب عن ذلك بأن من أقر بشرب مسكر أو استعمال حشيش مخدر أليس يحكم عليه بحدّ المسكر بموجب إقراره كما تقدم ؟ (41) ، فمن باب أولى إثبات قيادة السيارة تحت تأثير مسكر أو مخدر التي يجب فيها التعزير لا الحدّ بإقراره ، وكنه المادة عرف بوجود أثره .
وعند إطلاعي على بعض الأحكام أجد أن المتهم قد أقر فيها بشرب المسكر وقيادة السيارة ، وتم إثبات قيادته للسيارة تحت تأثير المسكر ، وهذا محل نظر ، فليس كل من شرب مسكراً وقاد سيارة يكون قادها تحت تأثير المسكر ، وذلك أن شرب المسكر يثبت بشـرب القليـل منـه (42) ؛ بينما لا يلزم أن يكون من شرب قليلاً من المسكر وقاد سيارة أن يكون تحت تأثير المسكر ، والمخدر ونحوه مثل ذلك . والفرق بين هذه المسألة والمسألة قبلها أن الأولى أقر فيها بأنه قاد سيارة تحت تأثير المسكر بخلاف الثانية .
الطريقة الثانية :
الشهادة ، فتثبت قيادة السيارة تحت تأثير مسكر أو مخدر ونحوه بشهادة عدلين ، ويلحظ هنا ما أشير إليه آنفاً من أن الشهادة على شرب المسكر وقيادة السيارة ، أو الشهادة بالشرب والإقرار بقيادة السيارة لا تكفي لإثبات القيادة تحت تأثير المسكر ؛ حتى يشهد بذلك . والسؤال هنا هل يكفي شاهد واحد ؟
عند النظر إلى أن عقوبة من قاد سيارة تحت تأثير مسكر أو مخدر التعزير ، وأن ذلك يثبت بالقرينة كما سيأتي ، فالقول بثبوته بشهادة الواحد غير بعيد .
الطريقة الثالثة :
أن يكون المتهم تحت تأثير مسكر أومخدر ونحوه ، فإذا أحضر المتهم إلى مجلس القضاء ، وكان تحت تأثير مسكر أو مخدر ونحوه وثبت أنه كان يقود سيارة قبيل إحضاره فإنه يثبت قيادته للسيارة تحت تأثير مسكر أو مخدر ونحوه .
الطريقة الرابعة :
انبعاث رائحة المسكر من فم قائد السيارة أو قيئه له .
لا يكفي انبعاث رائحة المسكر من فم قائد السيارة ، أو قيئه له لإثبات قيادته للسيارة تحت تأثير مسكر ؛ بل لابد من ثبوت أنه كان تحت تأثير مسكر عند قيادته للسيارة .
الطريقة الخامسة :
الوسائل الحديثة :
تستخدم بعض الوسائل الحديثة لإثبات قيادة السيارة تحت تأثير مسكر ونحوه ، فيستخدم التحليل الكيميائي لعينة من دم المتهم أو بوله لمعرفة نسبة تركيز الكحول أو المخدر أو المؤثر العقلي في العينة ، كما يستخدم البالون والشريط اللاصق وغيرهما في إثبات الكحول ، وتعتمد كثير من الدول على ذلك ، والسؤال هنا هل تثبت قيادة السيارة تحت تأثير مسكر أو مخدر ونحوه بهذه الوسائل الحديثة ؟
بعرض هذا السؤال على بعض أصحاب الفضيلة القضاة وجدت اختلافاً بينهم ، فيرى بعضهم الإثبات بها(43) ، ويرى بعضهم عدم الإثبات (44) ، ويرى آخرون توجه التهمة بها (45) .
والذي يظهر لي أن قيادة السيارة تحت تأثير مسكر أو مخدر ونحوه تثبت بهذه الوسائل الحديثة ؛ لأنها قرائن قوية على شرب المسكر أو استعمال المخدر أو المؤثر العقلي يجب فيها التعزير ، وهو الواجب في قيادة السيارة تحت تأثير المسكر أو المخدر ونحوه ، وطرق الإثبات لا تنحصر في أنواع محددة كما قرر ذلك ابن القيم ـ رحمه الله ـ وغيره ، قال ابن القيم : (( الشارع لم يلغ القرائن والأمارات ودلالات الأحوال بل من استقرأ الشرع في مصادره وموارده وجدها شاهداً لها بالإعتبار مرتباً عليها الأحكام))(46) .
فإن قيل أن هذه الوسائل الحديثة لا يثبت فيها حدّ المسكر كما تقدم(47) ، فكيف يثبت فيها قيادة السيارة تحت تأثير المسكر ؟
أجيب عن ذلك بأن الواجب في الأول الحد ؛ بينما يجب في قيادة السيارة تحت تأثير المسكر التعزير ، والتعزير يجب بالقرينة المجردة بخلاف الحدّ ، ويدرأ الحدّ بالشبهة بخلاف التعزير ، وطرق الإثبات تختلف ؛ لذا نجد أن المسروق يثبت بشاهد ويمين ، ويعزر على السرقة بالشاهد الواحد ؛ بينما لا يثبت بهما حدّ السرقة .
وهنا ثلاث وقفات :
الوقفة الأولى :
جاء في نظام المرور القديم عبارة : (( سوق المركبة بحالة سكر )) (48) ؛ بينما جاء في نظام المرور الجديد عبارة : (( قيادة المركبة تحت تأثير مسكر )) (49) ، فما هو الفرق بين العبارتين ؟
بسؤال سعادة مدير الإدارة العامة للمرور عن ذلك أجاب(50) بأنه لا يوجد فرق بين العبارتين ، وعند التأمل أجد أن بينهما فرقاً فالسكر تغطية العقل ، والسكران هو الذي يخلط كلامه ، ولا يعرف رداءه من رداء غيره أو نعله من نعل غيره كما ذكر الموفق ابن قدامة(51) . أما من اتصف تصرفه بعدم الاتزان نتيجة لشربه المسكر فهذا يقع عليه وصف تحت تأثير المسكر .
وضابط تحت تأثير المسكر كما ذكر سعادة مدير الإدارة العامة للمرور(52) ثبوت إيجابية التحليل للمسكر ، وضابط إيجابية عينة الدم للكحول هو وجود نسبة ثلاثين مليجرام مـن الكحـول في كل ديسيلتر مـن الـدم كما ذكـر سـعادة مسـاعد المدير العـام للطب العلاجي بإدارة المختبرات وبنوك الدم (53)، وتفرق بعض أنظمة المرور بين مصطلحي (سكر بين) و(سكر غير بين) ، أو (سكر شديد) و(سكر غير شديد) ، فإذا تقرر ذلك فإن بين العبارتين عموم وخصوص ، وأن عبارة تحت تأثير مسكر أعم من عبارة في حالة سكر .
ويلحظ أحياناً وصف عينة الدم بأنها سلبية لمادة الكحول رغم ثبوت شرب المتهم للمسكر ، ويرجع ذلك لعوامل منها :
1ـ قلة كمية المسكر التي تم شربها .
2 ـ امتلاء المعدة بالطعام .
3 ـ إدمان المتهم للمسكر .
4 ـ طول المدة الزمنية بين تناول المسكر ، وسحب عينة الدم من المتهم(54) .
الوقفة الثانية :
نصت المادة الثامنة والثلاثون من النظام الأساسي للحكم على أنه : (( لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على نص شرعي أو نظامي )) (55) .
وأكدت المادة الثالثة من نظام الإجراءات الجزائية ذلك ، فنصت على أنه : (( لا يجوز توقيع عقوبة جزائية على أي شخص إلا على أمر محظور ، ومعاقب عليه شرعاً أو نظاماً ، وبعد ثبوت إدانته )) .
وقد جرى العمل قبل صدور نظام المرور الجديد على أن تحيل إدارة مكافحة المخدرات إلى المحاكم بعض قائدي السيارات لا ثبات قيادتهم للسيارة تحت تأثير المخدر أو الحبوب المحظورة(56) ، وبالرجوع إلى نظام المرور القديم أجد النص على المسكر دون ذكر للمخدرات أو المؤثرات العقلية (57) ، فما هو المستند النظامي في إحالة المذكورين إلى المحكمة وطلب إثبات إدانتهم بذلك تمهيداً لعقابهم عليه ؟
بتوجيه هذا السؤال لسعادة مدير الإدارة العامة للمرور أجاب بما نصه : (( الجهة التي تتولى القضايا من الناحية الجنائية هي الإدارة العامة لمكافحة المخدرات أما المستند النظامي في إيقاع العقوبة المرورية في النظام السابق فإن النصوص النظامية لم تنص على شيء من ذلك )) (58) .
فإن قيل إن التعزير يشرع في كل معصية لاحدّ فيها ولا كفارة ، وقيادة السيارة تحت تأثير مخدر أو مؤثر عقلي يعدّ معصية يستحق فاعلها التأديب .
أجيب عن ذلك بأن السؤال ليس في مشروعية التأديب عليها ، وإنما في إدخال قيادة السيارة تحت تأثير مخدر أو مؤثر عقلي تحت مادة رغم عدم النص فيها على ذلك ، والعقوبة على قيادة السيارة تحت تأثير مخدر أو مؤثر عقلي بعقوبة محددة نظاماً استناداً إلى هذه المادة .
الوقفة الثالثة :
نص جدول المخالفات رقم واحد الملحق بنظام المرور الجديد في فقرته الثامنة على أن من المخالفات : (( قيادة المركبة تحت تأثير مسكر أو مخدر أو عقاقير طبية محذر عن القيادة تحت تأثيرها )) .
ونصت المادة الأولى من نظام المخدرات (59) على أنه يقصد بالمواد المخدرة : (( كل مادة طبيعية أو مركبة أو مصنعة من المواد المدرجة في الجدول ذي الرقم (1) المرافق لهذا النظام )) ، ويقصد بالمؤثرات العقلية (( كل مادة طبيعية أو مركبة أو مصنعة من المؤثرات العقلية المدرجة في الجدول ذي الرقم (2) المرافق بهذا النظام )) ، وبالرجوع إلى الجدولين المشار إليهما (60) أجد في الجدول الأول القنب الذي يستخرج منه الحشيش ، وأجد في الجدول الثاني مادة الإمفيتامين ، ويقصد بالعقاقير الطبية : المستحضرات الطبية (61) .
وعند النظر في الفقرة الثامنة من جدول المخالفات رقم واحد أجد أنه نص على المسكر والمخدر والعقاقير الطبية المحذر من القيادة تحت تأثيرها ، ولم تذكر المؤثرات العقلية، فإن قيل إنها داخلة في المخدر أجيب بأن نظام مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية فرق بينهما ، وإن قيل إنها داخلة في العقاقير الطبية أجيب بأنه ليس كل مؤثر عقلي يعتبر عقاراً طبياً .
وعند النظر في عمل المحاكم أجد أنه يطلب منها إثبات قيادة السيارة تحت تأثير الحبوب المحظورة والتي تعدّ من المؤثرات العقلية (62) ، فما هو المستند النظامي في ذلك ؛ لا سيما وأن المقرر في النظام الأساسي للحكم أنه لا عقوبة إلا بنص ؟
ويتوقف في الغالب ثبوت قيادة السيارة تحت تأثير مخدر ونحوه على التحليل الكيميائي الشرعي ، أما النسب المعتبرة لأهم أنواع المخدرات ، والمؤثرات العقلية حتى توصف العينة الحيوية (دم ، بول ) بأنها ايجابية (63) ، فكما يلي :
الحشيش 25 ng / ml
الإمفيتامينات 300 ng / ml
الكوكايين 300 ng / ml
وكتبه :
إبراهيم بن صالح الزغيبي
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
(39) انظر : القرار الصادر من محكمة الزلفي برقم 83/2 ، في 22/10/1428هـ ، المصدق من محكمة التمييز بالرياض بقرارها رقم 1239/ج5/1 ، وتأريخ 29/11/1428هـ ؛ القرار الصادر من محكمة الزلفي برقم 25/2/ ، في 3/4/1429هـ ، المصدق من محكمة التمييز بالرياض بقرارها رقم 624/ج2/أ ، والتأريخ 19/6/1429هـ .
(40) انظر : بحثي المعنون ب (( درجات الإدانة في قضايا المخدرات ، وغيرها من قضايا الحدود والتعزيرات )) مجلة العدل ، العدد الثامن والثلاثون ، ربيع الآخر1429هـ ، ص243ـ244 .
(41) انظر: المسألة (19) من سلسلة مسائل قضائية ، الطريقة الأولى . وانظر : بحثي درجات الإدانة في قضايا المخدرات ، ص248ـ249 .
(42) انظر : كشاف القناع ، للبهوتي ، ج6 ، ص117 .
(43) انظر : القرار الصادر من محكمة الزلفي برقم71/2 ، في 8/9/1429هـ .
(44) انظر : القرار الصادر من محكمة الزلفي برقم 61/5/ق ، في 1/9/1427هـ ، المنقوض من محكمة التمييز بالرياض بقرارها رقم290/ج3/ب ، وتأريخ 11/4/1428هـ .
(45) انظر : القرار الصادر من محكمة الزلفي برقم 35/2 ، في 24/4/1429هـ ، المصدق من محكمة التمييز بالرياض بقرارها رقم 598/ج3/أ ، وتأريخ 23/5/1429هـ .
(46) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ، لأبي عبدالله محمد بن قيم الجوزية ، قدم له : د. محمد الزحيلي ، حققه: بشير محمد عون ، مكتبة المؤيد ، الطائف ، ط1 ،1410هـ ، ص12 .
(47) انظر : المسألة (19) من سلسلة مسائل قضائية ، الطريقة الرابعة .
(48) الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/49 ، والتأريخ6/11/1391هـ ، جدول مخالفات الفئة الأولى الملحقة بالنظام ، ف6 .
(49) الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/85 ، والتأريخ26/10/1428هـ ، جدول المخالفات رقم (1) الملحق بالنظام ، ف8 .
(50) بكتابه رقم 7/698 ، في 3/1/1430هـ ، الجوابي لكتابي رقم5466/1 ، وتأريخ30/8/1429هـ .
(51) انظر : المغني ، ج7 ، ص290 .
(52) بكتابه رقم 7/698 ، في 3/1/1430هـ .
(53) بكتابة رقم 93186/5/44/ع ، في17/8/1429هـ ، الجوابي لكتابي رقم4414/1 ، وتأريخ10/7/1429هـ .
(54) كتاب مدير المركز الإقليمي لمراقبة السموم بالقصيم رقم1379/م/65/45 ، في 25/8/1429هـ ، الجوابي لكتابي رقم4415/1 ، وتأريخ 10/7/1429هـ .
(55) الصادر بالأمر الملكي الكريم ذي الرقم أ/90 ، والتأريخ 27/8/1412هـ .
(56) الصادر بالمرسوم الملكي الكريم رقم م/39 ، والتأريخ 28/7/1422هـ ، وانظر : القرار الصادر من محكمة الزلفي برقم 81/5/ق ، في 5/12/1427هـ ، المصدق من محكمة التمييز بالرياض بقرارها رقم 27/ج5/أ ، وتأريخ 4/1/1428هـ .
(57) انظر : جدول مخالفات الفئة الأولى الملحقة بالنظام .
(58) بكتابه رقم 7/699 ، في 3/1/1430هـ ، الجوابي لكتابي رقم 5614/1 ، وتأريخ 6/9/1429هـ .
(59) الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/39 ، والتأريخ 8/7/1426هـ .
(60) المبلغين بتعميم (و) ذي الرقم 13/5/2746 ، في 23/9/1426هـ .
(61) انظر : نظام مكافحة المخدرات ، م26 .
(62) انظر : القرار الصادر من محكمة الزلفي برقم 26/2 ، في 13/4/1429هـ ، المصدق من محكمة التمييز بالرياض بقرارها رقم624/ج1/أ ، وتأريخ 20/5/1429هـ .
(63) انظر : كتاب مساعد المدير العام للطب العلاجي بإدارة المختبرات وبنوك الدم رقم1691/2/44/ع ، في 6/9/1429هـ ، الجوابي لكتابي رقم 5615/1 ، وتأريخ 6/9/1429هـ .
(20 )
طرق إثبات قيادة السيارة تحت تأثير مسكر أو مخدر ونحوه
الحمد لله رب العالمين ,والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ,أما بعد :
تمهيد :
فتختلف طرق إثبات بعض الحدود عن بعض ، فبينما يشترط لإثبات حدّ الزنا عن طريق الشهادة أربعة شهود عدول ، فإنه يشترط لإثبات حدّ السرقة عن طريق الشهادة شهادة عدلين . فإذا كان التفاوت موجوداً بين الحدود ، فإن التفاوت في طرق الإثبات موجود بين الحدود ، والتعزيرات ؛ فضلاً عن وجود اختلافات أخرى بينهما منها درء الأولى بالشبهة دون الثانية .
وقيادة السيارة تحت تأثير مسكر أو مخدر ونحوه يجب فيها التعزير ، ولإثباتها طرق يمكن حصرها ـ حسبما يظهر لي ـ فيما يلي :
الطريقة الأولى :
الإقرار ، فتثبت قيادة السيارة تحت تأثير مسكر أو مخدر ونحوه بالإقرار (39) .
وهنا يرد اعتراض وهو :
يتوقف ثبوت الإدانة بحيازة المتهم للمخدر أو المؤثر العقلي ونحوهما على ثبوت إيجابية عينة المادة التي تم تحريزها لإحدى المواد المخدرة أو المؤثرات العقلية أو السلائف الكيميائية المدرجة في نظام مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية ، ولا يكفي إقرار المتهم بكنه المادة المضبوطة عن إجراء التحليل في المختبر المعتمد لإثبات الإدانة وفقاً لما هو مقرر (40) ، فكيف تثبت قيادة المتهم للسيارة تحت تأثير مسكر أو مخدر بناء على إقراره دون إجراء التحليل الكيميائي ؟
ويجاب عن ذلك بأن من أقر بشرب مسكر أو استعمال حشيش مخدر أليس يحكم عليه بحدّ المسكر بموجب إقراره كما تقدم ؟ (41) ، فمن باب أولى إثبات قيادة السيارة تحت تأثير مسكر أو مخدر التي يجب فيها التعزير لا الحدّ بإقراره ، وكنه المادة عرف بوجود أثره .
وعند إطلاعي على بعض الأحكام أجد أن المتهم قد أقر فيها بشرب المسكر وقيادة السيارة ، وتم إثبات قيادته للسيارة تحت تأثير المسكر ، وهذا محل نظر ، فليس كل من شرب مسكراً وقاد سيارة يكون قادها تحت تأثير المسكر ، وذلك أن شرب المسكر يثبت بشـرب القليـل منـه (42) ؛ بينما لا يلزم أن يكون من شرب قليلاً من المسكر وقاد سيارة أن يكون تحت تأثير المسكر ، والمخدر ونحوه مثل ذلك . والفرق بين هذه المسألة والمسألة قبلها أن الأولى أقر فيها بأنه قاد سيارة تحت تأثير المسكر بخلاف الثانية .
الطريقة الثانية :
الشهادة ، فتثبت قيادة السيارة تحت تأثير مسكر أو مخدر ونحوه بشهادة عدلين ، ويلحظ هنا ما أشير إليه آنفاً من أن الشهادة على شرب المسكر وقيادة السيارة ، أو الشهادة بالشرب والإقرار بقيادة السيارة لا تكفي لإثبات القيادة تحت تأثير المسكر ؛ حتى يشهد بذلك . والسؤال هنا هل يكفي شاهد واحد ؟
عند النظر إلى أن عقوبة من قاد سيارة تحت تأثير مسكر أو مخدر التعزير ، وأن ذلك يثبت بالقرينة كما سيأتي ، فالقول بثبوته بشهادة الواحد غير بعيد .
الطريقة الثالثة :
أن يكون المتهم تحت تأثير مسكر أومخدر ونحوه ، فإذا أحضر المتهم إلى مجلس القضاء ، وكان تحت تأثير مسكر أو مخدر ونحوه وثبت أنه كان يقود سيارة قبيل إحضاره فإنه يثبت قيادته للسيارة تحت تأثير مسكر أو مخدر ونحوه .
الطريقة الرابعة :
انبعاث رائحة المسكر من فم قائد السيارة أو قيئه له .
لا يكفي انبعاث رائحة المسكر من فم قائد السيارة ، أو قيئه له لإثبات قيادته للسيارة تحت تأثير مسكر ؛ بل لابد من ثبوت أنه كان تحت تأثير مسكر عند قيادته للسيارة .
الطريقة الخامسة :
الوسائل الحديثة :
تستخدم بعض الوسائل الحديثة لإثبات قيادة السيارة تحت تأثير مسكر ونحوه ، فيستخدم التحليل الكيميائي لعينة من دم المتهم أو بوله لمعرفة نسبة تركيز الكحول أو المخدر أو المؤثر العقلي في العينة ، كما يستخدم البالون والشريط اللاصق وغيرهما في إثبات الكحول ، وتعتمد كثير من الدول على ذلك ، والسؤال هنا هل تثبت قيادة السيارة تحت تأثير مسكر أو مخدر ونحوه بهذه الوسائل الحديثة ؟
بعرض هذا السؤال على بعض أصحاب الفضيلة القضاة وجدت اختلافاً بينهم ، فيرى بعضهم الإثبات بها(43) ، ويرى بعضهم عدم الإثبات (44) ، ويرى آخرون توجه التهمة بها (45) .
والذي يظهر لي أن قيادة السيارة تحت تأثير مسكر أو مخدر ونحوه تثبت بهذه الوسائل الحديثة ؛ لأنها قرائن قوية على شرب المسكر أو استعمال المخدر أو المؤثر العقلي يجب فيها التعزير ، وهو الواجب في قيادة السيارة تحت تأثير المسكر أو المخدر ونحوه ، وطرق الإثبات لا تنحصر في أنواع محددة كما قرر ذلك ابن القيم ـ رحمه الله ـ وغيره ، قال ابن القيم : (( الشارع لم يلغ القرائن والأمارات ودلالات الأحوال بل من استقرأ الشرع في مصادره وموارده وجدها شاهداً لها بالإعتبار مرتباً عليها الأحكام))(46) .
فإن قيل أن هذه الوسائل الحديثة لا يثبت فيها حدّ المسكر كما تقدم(47) ، فكيف يثبت فيها قيادة السيارة تحت تأثير المسكر ؟
أجيب عن ذلك بأن الواجب في الأول الحد ؛ بينما يجب في قيادة السيارة تحت تأثير المسكر التعزير ، والتعزير يجب بالقرينة المجردة بخلاف الحدّ ، ويدرأ الحدّ بالشبهة بخلاف التعزير ، وطرق الإثبات تختلف ؛ لذا نجد أن المسروق يثبت بشاهد ويمين ، ويعزر على السرقة بالشاهد الواحد ؛ بينما لا يثبت بهما حدّ السرقة .
وهنا ثلاث وقفات :
الوقفة الأولى :
جاء في نظام المرور القديم عبارة : (( سوق المركبة بحالة سكر )) (48) ؛ بينما جاء في نظام المرور الجديد عبارة : (( قيادة المركبة تحت تأثير مسكر )) (49) ، فما هو الفرق بين العبارتين ؟
بسؤال سعادة مدير الإدارة العامة للمرور عن ذلك أجاب(50) بأنه لا يوجد فرق بين العبارتين ، وعند التأمل أجد أن بينهما فرقاً فالسكر تغطية العقل ، والسكران هو الذي يخلط كلامه ، ولا يعرف رداءه من رداء غيره أو نعله من نعل غيره كما ذكر الموفق ابن قدامة(51) . أما من اتصف تصرفه بعدم الاتزان نتيجة لشربه المسكر فهذا يقع عليه وصف تحت تأثير المسكر .
وضابط تحت تأثير المسكر كما ذكر سعادة مدير الإدارة العامة للمرور(52) ثبوت إيجابية التحليل للمسكر ، وضابط إيجابية عينة الدم للكحول هو وجود نسبة ثلاثين مليجرام مـن الكحـول في كل ديسيلتر مـن الـدم كما ذكـر سـعادة مسـاعد المدير العـام للطب العلاجي بإدارة المختبرات وبنوك الدم (53)، وتفرق بعض أنظمة المرور بين مصطلحي (سكر بين) و(سكر غير بين) ، أو (سكر شديد) و(سكر غير شديد) ، فإذا تقرر ذلك فإن بين العبارتين عموم وخصوص ، وأن عبارة تحت تأثير مسكر أعم من عبارة في حالة سكر .
ويلحظ أحياناً وصف عينة الدم بأنها سلبية لمادة الكحول رغم ثبوت شرب المتهم للمسكر ، ويرجع ذلك لعوامل منها :
1ـ قلة كمية المسكر التي تم شربها .
2 ـ امتلاء المعدة بالطعام .
3 ـ إدمان المتهم للمسكر .
4 ـ طول المدة الزمنية بين تناول المسكر ، وسحب عينة الدم من المتهم(54) .
الوقفة الثانية :
نصت المادة الثامنة والثلاثون من النظام الأساسي للحكم على أنه : (( لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على نص شرعي أو نظامي )) (55) .
وأكدت المادة الثالثة من نظام الإجراءات الجزائية ذلك ، فنصت على أنه : (( لا يجوز توقيع عقوبة جزائية على أي شخص إلا على أمر محظور ، ومعاقب عليه شرعاً أو نظاماً ، وبعد ثبوت إدانته )) .
وقد جرى العمل قبل صدور نظام المرور الجديد على أن تحيل إدارة مكافحة المخدرات إلى المحاكم بعض قائدي السيارات لا ثبات قيادتهم للسيارة تحت تأثير المخدر أو الحبوب المحظورة(56) ، وبالرجوع إلى نظام المرور القديم أجد النص على المسكر دون ذكر للمخدرات أو المؤثرات العقلية (57) ، فما هو المستند النظامي في إحالة المذكورين إلى المحكمة وطلب إثبات إدانتهم بذلك تمهيداً لعقابهم عليه ؟
بتوجيه هذا السؤال لسعادة مدير الإدارة العامة للمرور أجاب بما نصه : (( الجهة التي تتولى القضايا من الناحية الجنائية هي الإدارة العامة لمكافحة المخدرات أما المستند النظامي في إيقاع العقوبة المرورية في النظام السابق فإن النصوص النظامية لم تنص على شيء من ذلك )) (58) .
فإن قيل إن التعزير يشرع في كل معصية لاحدّ فيها ولا كفارة ، وقيادة السيارة تحت تأثير مخدر أو مؤثر عقلي يعدّ معصية يستحق فاعلها التأديب .
أجيب عن ذلك بأن السؤال ليس في مشروعية التأديب عليها ، وإنما في إدخال قيادة السيارة تحت تأثير مخدر أو مؤثر عقلي تحت مادة رغم عدم النص فيها على ذلك ، والعقوبة على قيادة السيارة تحت تأثير مخدر أو مؤثر عقلي بعقوبة محددة نظاماً استناداً إلى هذه المادة .
الوقفة الثالثة :
نص جدول المخالفات رقم واحد الملحق بنظام المرور الجديد في فقرته الثامنة على أن من المخالفات : (( قيادة المركبة تحت تأثير مسكر أو مخدر أو عقاقير طبية محذر عن القيادة تحت تأثيرها )) .
ونصت المادة الأولى من نظام المخدرات (59) على أنه يقصد بالمواد المخدرة : (( كل مادة طبيعية أو مركبة أو مصنعة من المواد المدرجة في الجدول ذي الرقم (1) المرافق لهذا النظام )) ، ويقصد بالمؤثرات العقلية (( كل مادة طبيعية أو مركبة أو مصنعة من المؤثرات العقلية المدرجة في الجدول ذي الرقم (2) المرافق بهذا النظام )) ، وبالرجوع إلى الجدولين المشار إليهما (60) أجد في الجدول الأول القنب الذي يستخرج منه الحشيش ، وأجد في الجدول الثاني مادة الإمفيتامين ، ويقصد بالعقاقير الطبية : المستحضرات الطبية (61) .
وعند النظر في الفقرة الثامنة من جدول المخالفات رقم واحد أجد أنه نص على المسكر والمخدر والعقاقير الطبية المحذر من القيادة تحت تأثيرها ، ولم تذكر المؤثرات العقلية، فإن قيل إنها داخلة في المخدر أجيب بأن نظام مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية فرق بينهما ، وإن قيل إنها داخلة في العقاقير الطبية أجيب بأنه ليس كل مؤثر عقلي يعتبر عقاراً طبياً .
وعند النظر في عمل المحاكم أجد أنه يطلب منها إثبات قيادة السيارة تحت تأثير الحبوب المحظورة والتي تعدّ من المؤثرات العقلية (62) ، فما هو المستند النظامي في ذلك ؛ لا سيما وأن المقرر في النظام الأساسي للحكم أنه لا عقوبة إلا بنص ؟
ويتوقف في الغالب ثبوت قيادة السيارة تحت تأثير مخدر ونحوه على التحليل الكيميائي الشرعي ، أما النسب المعتبرة لأهم أنواع المخدرات ، والمؤثرات العقلية حتى توصف العينة الحيوية (دم ، بول ) بأنها ايجابية (63) ، فكما يلي :
الحشيش 25 ng / ml
الإمفيتامينات 300 ng / ml
الكوكايين 300 ng / ml
وكتبه :
إبراهيم بن صالح الزغيبي
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
(39) انظر : القرار الصادر من محكمة الزلفي برقم 83/2 ، في 22/10/1428هـ ، المصدق من محكمة التمييز بالرياض بقرارها رقم 1239/ج5/1 ، وتأريخ 29/11/1428هـ ؛ القرار الصادر من محكمة الزلفي برقم 25/2/ ، في 3/4/1429هـ ، المصدق من محكمة التمييز بالرياض بقرارها رقم 624/ج2/أ ، والتأريخ 19/6/1429هـ .
(40) انظر : بحثي المعنون ب (( درجات الإدانة في قضايا المخدرات ، وغيرها من قضايا الحدود والتعزيرات )) مجلة العدل ، العدد الثامن والثلاثون ، ربيع الآخر1429هـ ، ص243ـ244 .
(41) انظر: المسألة (19) من سلسلة مسائل قضائية ، الطريقة الأولى . وانظر : بحثي درجات الإدانة في قضايا المخدرات ، ص248ـ249 .
(42) انظر : كشاف القناع ، للبهوتي ، ج6 ، ص117 .
(43) انظر : القرار الصادر من محكمة الزلفي برقم71/2 ، في 8/9/1429هـ .
(44) انظر : القرار الصادر من محكمة الزلفي برقم 61/5/ق ، في 1/9/1427هـ ، المنقوض من محكمة التمييز بالرياض بقرارها رقم290/ج3/ب ، وتأريخ 11/4/1428هـ .
(45) انظر : القرار الصادر من محكمة الزلفي برقم 35/2 ، في 24/4/1429هـ ، المصدق من محكمة التمييز بالرياض بقرارها رقم 598/ج3/أ ، وتأريخ 23/5/1429هـ .
(46) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية ، لأبي عبدالله محمد بن قيم الجوزية ، قدم له : د. محمد الزحيلي ، حققه: بشير محمد عون ، مكتبة المؤيد ، الطائف ، ط1 ،1410هـ ، ص12 .
(47) انظر : المسألة (19) من سلسلة مسائل قضائية ، الطريقة الرابعة .
(48) الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/49 ، والتأريخ6/11/1391هـ ، جدول مخالفات الفئة الأولى الملحقة بالنظام ، ف6 .
(49) الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/85 ، والتأريخ26/10/1428هـ ، جدول المخالفات رقم (1) الملحق بالنظام ، ف8 .
(50) بكتابه رقم 7/698 ، في 3/1/1430هـ ، الجوابي لكتابي رقم5466/1 ، وتأريخ30/8/1429هـ .
(51) انظر : المغني ، ج7 ، ص290 .
(52) بكتابه رقم 7/698 ، في 3/1/1430هـ .
(53) بكتابة رقم 93186/5/44/ع ، في17/8/1429هـ ، الجوابي لكتابي رقم4414/1 ، وتأريخ10/7/1429هـ .
(54) كتاب مدير المركز الإقليمي لمراقبة السموم بالقصيم رقم1379/م/65/45 ، في 25/8/1429هـ ، الجوابي لكتابي رقم4415/1 ، وتأريخ 10/7/1429هـ .
(55) الصادر بالأمر الملكي الكريم ذي الرقم أ/90 ، والتأريخ 27/8/1412هـ .
(56) الصادر بالمرسوم الملكي الكريم رقم م/39 ، والتأريخ 28/7/1422هـ ، وانظر : القرار الصادر من محكمة الزلفي برقم 81/5/ق ، في 5/12/1427هـ ، المصدق من محكمة التمييز بالرياض بقرارها رقم 27/ج5/أ ، وتأريخ 4/1/1428هـ .
(57) انظر : جدول مخالفات الفئة الأولى الملحقة بالنظام .
(58) بكتابه رقم 7/699 ، في 3/1/1430هـ ، الجوابي لكتابي رقم 5614/1 ، وتأريخ 6/9/1429هـ .
(59) الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/39 ، والتأريخ 8/7/1426هـ .
(60) المبلغين بتعميم (و) ذي الرقم 13/5/2746 ، في 23/9/1426هـ .
(61) انظر : نظام مكافحة المخدرات ، م26 .
(62) انظر : القرار الصادر من محكمة الزلفي برقم 26/2 ، في 13/4/1429هـ ، المصدق من محكمة التمييز بالرياض بقرارها رقم624/ج1/أ ، وتأريخ 20/5/1429هـ .
(63) انظر : كتاب مساعد المدير العام للطب العلاجي بإدارة المختبرات وبنوك الدم رقم1691/2/44/ع ، في 6/9/1429هـ ، الجوابي لكتابي رقم 5615/1 ، وتأريخ 6/9/1429هـ .