طارق محمد اسماعيل
27-03-2017, 10:28 AM
عقود الإذعان من العقود المستحدثة التي جاءت وليدة التطور الصناعي، والاقتصادي، الذي نشأت عنه الشركات الكبرى، وتراجعتْ بموجبه الصناعات الْحِرْفِيَّة. علاوة على تبدُّل العلاقات الاجتماعية، الذي اقتضى المزيد من السلع والخدمات المُحْتَكَرَة للحكومة، أو للشركات الكبرى، مما انعكس على إرادة المتعاقدين، فحدَّ من إرادة الشخص في إبرام العقود، وقيَّد حريته في مناقشة الشروط الواردة في العقد، التي يمليها الطرف المُحْتَكِر للسلعة أو الخدمة. فنتج عن ذلك عقود الإذعان
العقود بصفة عامة تشترك في بعض القواعد التي تميزها عن غيرها من التصرفات التي يجريها الشخص مع غيره، مثل قاعدة الإباحة الأصلية التي تعني: "أنَّ الأصل في الأشياء الإباحة"( )، ومنها العقود. فإنَّ الأصل فيها الإباحة إلاَّ عقداً منع الشارع التعاقد عليه. وقاعدة الرضائية، إذ: "الأصل في العقد رضى المتعاقدين، ونتيجته ما التزماه بالتعاقد"( ). وقاعدة حرية التعاقد التي تعبِّر عن مبدأ سلطان الإرادة العقدية، الذي يعني مدى مقدرة المتعاقدين على إجراء العقود، وتحديد الشروط، وترتيب الآثار على العقد( )، وغيرها من القواعد التي تنتظم العقود جميعاً.
وتمتاز كل مجموعة من العقود ـ من وراء هذه القواعد العامة ـ بقواعد خاصة تميزها عن غيرها من المجموعات العقدية. فلعقود المعاوضات المالية ـ كالبيع والإيجار ـ قواعد تميزها عن غيرها، مثل قاعدة: "التعادل في التبادل"( )، وقاعدة: "الغرم بالغنم"( ) التي تعني أنَّ من يَنَل نفع شيء يجب عليه تحمُّل ضرره( )، وغيرها.
وعلى المنوال ذاته جرت عقود الإذعان إذ أنها تمتاز بمميزات تميزها عن غيرها من العقود، وأهم هذه المميزات هي:
[1] ميزة التكوين:
ونعني بذلك كيفية عرض الإيجاب وارتباط القبول بالإيجاب. فالإيجاب في عقود الإذعان معروض على كافة الأشخاص، وبصورة مستمرة، وبشروط معتبرة، سواء أصدرت بصورة صريحة، أم ضمنية. ويكون الإيجاب ملزماً للموجب. ويجب أنْ يُمكِّن الموجب الجميع من الاطّلاع على شروط العقد( ).
أمَّا القبول فهو عبارة عن رضوخ وإذعان لما ورد في الإيجاب من شروط، دون أنْ يكون للقابل حق أو حرية في مناقشتها، أو الاعتراض عليها. فإنْ رغب في العقد قبلها، وربط قبوله بالإيجاب فيتكون العقد. وإنْ لم يرغب في العقد تركها ومضى لحاله( ).
[2] طبيعة عقد الإذعان( ):
عقود الإذعان تتعلّق بسلع وخدمات ضرورية ومهمة للمستهلكين، ولا غنى لهم عنها، مثل: خدمات المياه والكهرباء، وعقود العمل، والنقل وغيرها. هذه العقود يجد المستهلك نفسه مضطراً لعقدها مهما كانت الشروط الواردة فيها مجحفة في حقه.
إنَّ من طبيعة السلع والخدمات التي ترد عليها عقود الإذعان، أنها سلع وخدمات مُحْتَكَرة ـ غالباً ـ للجهات التي تتولى عرض الإيجاب، أو تقدم تلك السلع والخدمات للجمهور. واحتكارها إمّا أنْ يكون احتكاراً فعلياً، أو احتكاراً قانونياً. ولهذا تنعدم المنافسة بشأن هذه السلع والخدمات غالباً.
أمَّا طبيعة الشروط الواردة في عقود الإذعان، فإنها شروط يضعها المُذْعَن له، خدمةً لمصلحته الخاصة غالباً.
[3] الآثار المترتبة على عقود الإذعان:
اعتبر قانون المعاملات المدنية السُّـوداني لسنة 1984م عقود الإذعان عقوداً حقيقية( ). فإذا انعقد العقد صحيحاً لزم المتعاقدين التقيُّد بما ورد فيه من شروط، والالتزام بتنفيذ ما ينتج عنه من آثار. ولهذا جاءت المادة (45) من قانون المعاملات المدنية السُّـوداني لسنة 1984م توضِّح ذلك حيث نصت على أنه: "يعتبر التسليم بشروط يضعها الموجب في عقد الإذعان قبولاً، مع مراعاة أي قيود مقررة لعقود الإذعان في القانون".
وقد وضع قانون المعاملات المدنية السُّـوداني لسنة 1984م، قيوداً على عقود الإذعان في المادتين (102)، (118)، اللتين سأتطرّق إليهما عند الحديث عن معالجة القانون لعقود الإذعان ـ بإذن الله ـ.
المبحث الثاني: تكييف عقود الإذعان في القانون الوضعي
بدأتُ بالقانون الوضعي، لأنّ عقود الإذعان لم تعرف بهذا الاسم في الشريعة الإسلامية وإنما هي عقود مستحدثة. فهل عقود الإذعان عقود حقيقية ملزمة لأطرافها بكل ما جاء فيها ؟ وهل لا يجوز مخالفة ما ورد فيها من شروط على الرغم من أنَّ القبول فيها تَمَّ عن طريق الإذعان؟ أم أنها عقود غير حقيقية ولها طبيعة خاصة تقتضي إخضاعها لقواعد عقدية غير قواعد العقود المعروفة؟
انقسمت آراء فقهاء القانون الوضعي في تحديد طبيعة عقود الإذعان إلى عدة مذاهب، أشهرها مذهبان:
• يرى أحدهما أنها عقود حقيقية، وملزمة لأطرافها بكل ما جاء فيها، وأنها لا تخالف القواعد العامة للعقد.
• بينما يذهب المذهب الآخر إلى أنها مراكز قانونية منظمة.
وفيما يلي أوضِّح رؤية كل مذهب:
المذهب الأول: عقود الإذعان عقود حقيقية:
يرى أصحاب هذا المذهب أنَّ عقود الإذعان عقود حقيقية، لأنها تتكون بترابط إرادة أطرافها، وتخضع للقواعد التي تخضع لها كل العقود.
وحجة هؤلاء أنَّ أكثر العقود يتحقق فيها اضطرار أحد أطرافها، أو كلهم للتعاقد. فعدم التساوي، أو التعادل بين أطراف العقد لا يمكن توقيه.
ويذهب هؤلاء ـ أيضاً ـ إلى القول بأنَّ الضرر الواقع على طرف من أطراف العقد في عقود الإذعان أقلَّ بكثير من الضرر الواقع عليه في العقود الأخرى.
واحتجوا بأنَّ الضرر في عقود الإذعان يعم جميع من يبرم عقداً مع المُذْعَن له، فالكل فيه سواء، فالإيجاب في عقود الإذعان معروض على الكافة.
وهذا نظر ـ في رأيي ـ غير سليم، لأن "الضرر يزال شرعاً"( )، إذا كان خاصاً، فإزالته إذا كان عاماً أوْلَى. فمسألة عموم الضرر الذي يلحق بالكافة تُعدُّ من عوامل ضعف هذا الضرب من العقود.
واحتجوا بأنَّ الطرف الذي يملي شروط العقد هو نفسه خاضع للملابسات الاقتصادية المحيطة به، فهي التي تملي عليه تلك الشروط التعاقدية، وليس هو الذي يمليها على الطرف الآخر، فهو مضطر إلى مراعاة ما تقضي به الأحوال الاقتصادية.
وهذه حجة داحضة ـ في نظري ـ لأنَّا بهذا نكون قد أثقلنا على الطرف الضعيف، لأنه خاضع للأحوال الاقتصادية ذاتها، فهو يحمل عبء الشروط التعسفية الواردة في العقد، ويضيف إليه عبء الأحوال الاقتصادية المحيطة به وبالمُذْعَن له.
واحتجوا ـ أيضاً ـ بأنَّ المستهلكين ربما تألبوا ضد المُذْعَن له فحاربوه بمقاطعة سلعه التي يعرضها عليهم، فيقع عليه الضرر جرَّاء صنيعهم هذا.
وخلاصة مذهب هذا الفريق: أنَّ عقود الإذعان عقود حقيقية، لأنها أُبرمت بارتباط إرادات أطرافها، وعزمهم على إمضاء العقد، وأنها تخضع للقواعد العامة للعقود. وهم يرون أنَّ ضعف أحد أطراف العقد لا يقوم مبرراً لتدخل القضاء حمايةً للطرف الضعيف، ما دام الطرف القوي لم يستغله، وأنَّ تدخل القضاء لا يجوز إلاَّ في بعض الحالات منها: حالة استغلال الطرف القوي للطرف الضعيف.
والواقع أنَّ عقود الإذعان تقوم ـ أساساً ـ على استغلال ضعف الضعيف، لأنها عقود لا تنشأ ـ في الغالب ـ إلاَّ في حالات احتكار الطرف القوي للسلعة أو الخدمة، الضرورية المقدَّمة للطرف الضعيف، وهو في حال حاجة ماسَّة إليها، فيضطر إلى إبرام العقد رغماً عنه( ).
المذهب الثاني: عقود الإذعان مراكز قانونية منظمة( ):
يذهب أصحاب هذا المذهب إلى أنَّ عقود الإذعان عقود غير حقيقية، ويرون أنها عبارة عن مراكز قانونية منظمة، وأنها ليست بعقود، لأنَّ العقد لا ينعقد صحيحاً، ولا تترتب عليه آثاره، إلاَّ إذا توافرت في أطرافه حرية الإرادة، والاختيار. وعقود الإذعان لا تتوافر فيها حرية الإرادة، وإنْ توافرت حرية اختيار العقد. فأحد أطراف العقد يمضيه وهو غير مكتمل الرضا، لأنه لا يستطيع الاعتراض على أيّ شرط من الشروط التي يمليها الطرف القوي. فالرابطة القانونية بينهما أملتها إرادة الطرف القوي (المُحْتَكِر) وحده.
وهؤلاء يذهبون إلى أنَّ هذه الإرادة المنفردة التي يملي بها المُحْتَكِر شروطه، تُعدُّ بمثابة قانون ينظِّم هذا الضرب من العقود. وهذا ما أخذت به شركات الاحتكار الناس، شأنه شأن كل قانون يطبَّق على المجتمعات.
ولهذا فإنهم يرون أنَّ تفسير عقد الإذعان، وتحديد ما يولّده من التزامات، يجب أنْ يكون في ظل هذه الاعتبارات. فيفسَّر العقد كما يُفسَّر القانون، ولا يُفسَّر بحسبان أنه وليد إرادة الأفراد، بل يفسَّر بحسبان أنه رابطة قانونية تنظم المصلحة العامة لمجموع الأفراد الذين يخضعون لها. "فيُطبَّق هذا القانون التعاقدي تطبيقاً تراعى فيه مقتضيات العدالة، وحسن النية، ويُنظر فيه إلى ما تستلزمه الروابط الاقتصادية التي وُضع لتنظيمها"( ).
وأصحاب هذا المذهب يرون أنَّ فكرة العقد وحدها غير كافية لتفسير هذه الروابط التي تقوم بين الشركات والأفراد، بل يرون أنَّ تفسيرها يقتضي النظر إلى "حاجة الصناعة، ومصالح العمال، ورب العمل في وقت واحد"( ). وهم يرون أنَّ العامل ينضم إلى نظام لا يد له في وضع شروطه، ولا في تحديد آثاره، ولا يحق له مناقشة تلك الشروط. فهو يقبل قانوناً ما يُعرض عليه، ولا يناقش شروطه. "وهذه ظاهرة قانونية أصبحت معتادة في الوقت الحاضر، وقد حل فيها محل توافق الإرادتين، انضمام الإرادة إلى القانون المعروض"( ).
وهؤلاء عندهم أنَّ عقد الإذعان مركز قانوني منظم، يطبق لصالح العمل أولاً، ثم يراعى ما يستحق الحماية من مصالح طرفي العقد.
هذان هما أشهر مذاهب القانونيين في نظرهم لعقود الإذعان، وفيما يلي أتناول عقود الإذعان في نظر الشريعة الإسلامية.
المبحث الثالث: تكييف عقود الإذعان في الشريعة الإسلامية
الأصل في الشريعة الإسلامية إباحة جنس العقد مطلقاً، إلاَّ عقداً أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء "الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة ـ عليهم رحمة الله ـ( )، وذهبت الظاهرية( ) إلى أنَّ الأصل في العقود المنع والحظر إلاَّ عقداً دلَّ دليل من الكتاب والسُّـنَّة أو الإجماع على إباحته( ).
لم تعرف الشريعة الإسلامية عقود الإذعان باسمها( )، ولكن "العبرة في العقود [في نظر الشريعة الإسلامية] للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني"( ). ولهذا تعترف الشريعة الإسلامية بأيّ عقد يقع بين الناس، إذا كان مشروعاً، وإنْ لم تُسَمِهِ باسمه. والشريعة الإسلامية تضع ضابطاً عاماً للمعاملات، وهو أنَّ كل معاملة جلبتْ نفعاً للمجتمع أباحتها الشريعة الإسلامية، وكل معاملة جلبتْ ضرراً منعتها( ). "والمشروعات [أي ما شرعه الشارع الحكيم] إنما وُضِعَتْ لجلب المصالح ودرء المفاسد"( ).
والأصل في الشريعة الإسلامية أنَّ العقد يتم برضا المتعاقدين، وأنَّ آثاره تترتب بناء على ارتباط إرادتيهما( ). وأنَّ العقود "تنعقد بكل ما دَلَّ على مقصودها من قولٍ أو فعل، فكل ما عدَّه الناس بيعاً أو إجارةً، فهو بيع وإجارة، وإنْ اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال، ... ليس لذلك حَدّ مستقر، لا في شرع ولا في لغة)( ).
كما أنَّ الشريعة الإسلامية أباحتْ بعض المعاملات في حالة الضرورة أو الحاجة الماسة، فقد أباحتْ "زمرة من العقود والتصرفات خلافاً للقياس، ومقتضى القواعد العامة، لحاجة الناس العامة إليها، مثل: عقد السلم مع أنه بيع معدوم مشتمل على غرر( ) منهي عنه، وعقود الإقالة، والحوالة، والرهن، والقرض، والشركة، والصلح، والوكالة، والإجارة، والمساقاة، والمزارعة، والمضاربة، والعارية، والإيداع"( ).
فالشريعة الإسلامية تجيز مثل هذه العقود مراعاةً لبعض القواعد العامة، مثل قاعدة: "مراعاة الحاجة، ورفع المشقة"، وقاعدة: "عموم البلوى"، وقاعدة: "الضرورة"، وغيرها. كما أنها تنظر إلى مقتضى القواعد العامة: مثل أنَّ الإنسان لا ينتفع إلاَّ بما هو ملكه، ولا يستوفي حقه إلاَّ ممن هو في ذمته، ولا يؤاخذ بكلام غيره، ولا يتصرف في أموره إلاَّ بنفسه.
ومع هذا كله نرى الشريعة الإسلامية أجازتْ الانتفاع بملك الغير، بطريق الإجارة، والإعارة، والقرض. وأجازتْ الاستعانة بالغير، وكالةً، وإيداعاً، وشركةً، ومضاربةً، ومساقاةً، ومزارعة. وأجازتْ أنْ يستوفي الشخص حقه من غير المدين، حوالةً، وشرعتْ طرق الاستيثاق للديون بطريق الرهن، والكفالة، وغير ذلك من الطرق التي تخالف مقتضى ظاهر القواعد العامة للعقود( ).
وعقد الإذعان يخالف قاعدة حرية التعاقد( )، ويخالف قاعدة الرضائية( ). فالأصل في الشريعة الإسلامية إجراء العقود، وإبرامها برضا المتعاقدين، وكذلك الأمر في القانون الوضعي. ولا يخرج العقد عن هذه القواعد ومقتضياتها، إلاَّ لمصلحة تقتضيها الضرورة، أو الحاجة الماسة، أو عموم البلوى( ).
وقد كَثُرَ التعامل في عقود الإذعان، وشاركتْ فيها الشركات والحكومات، ونظمها القانون وأفرد لها أحكاماً خاصة بها، مثال ذلك المادة 45 من قانون المعاملات المدنية السُّـوداني لسنة 1984م( ) والتي نصها: "يعتبر التسليم بشروط مقرّرة يضعها الموجب في عقد الإذعان قبولاً، مع مراعاة أي قيود مقرّرة لعقود الإذعان في القانون".
وقد وردتْ المادة (118) من القانون المذكور نفسه، واضعةً بعض القيود على عقود الإذعان، فنصت على أنه: (إذا تَمَّ العقد بطريق الإذعان، وتضمنَّ شروطاً تعسفية، جاز للمحكمة أنْ تعدِّل هذه الشروط، أو أنْ تعفي الطرف المذعن منها، وذلك وفقاً لما تقضي به العدالة. ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك).
وبهذا النص حَدَّ الشارع (المشرِّع) السُّـوداني من الشروط التعسفية التي ترد في عقود الإذعان، وهذا النص يُعدُّ "أداة قوية في يد القاضي يحمي بها الطرف المذعن من جشع التجار، ويكسر بها شوكة شركات الاحتكار، وذلك إمّا عن طريق تعديل الشروط الواردة في العقد، أو عن طريق إعفاء الطرف المُذْعِن من تنفيذ هذه الشروط"( ).
ونظراً لعموم البلوى، بعقود الإذعان، واضطرار طالب السلعة أو الخدمة المُحْتَكَرة إلى إجراء العقد عن طريق الإذعان. وبناءً على ما قَدَّمْتُ من أنظار الفقهاء في إباحة العقود أو منعها، فإنه يمكن تخريج مذاهب الفقهاء الإسلاميين بالنسبة لإباحة عقود الإذعان أو منعها، على النحو التالي:
[أ] مذهب جمهور الفقهاء( ):
وهذا المذهب يُخَرَّجُ على قواعد جمهور الفقهاء، وفحواه أنه يجوز التعاقد عن طريق الإذعان، وذلك مراعاةً للمصلحة التي تقتضيها الضرورة، والحاجة الماسة، ومراعاةً لعموم البلوى بعقود الإذعان في هذا العصر الذي تعقَّدت فيه صور المعاملات، بل أساليب الحياة عامة.
ولا بُدَّ لمن يقول بهذا المذهب من مراعاة القواعد الفقهية، والضوابط التي قرَّرها القانون للحد من الشروط التعسفية التي ترد في العقد، وذلك بهدف إزالة الغبن الذي يقع على الطرف المُذْعِن، وإعادة التوازن إلى العقد، وهذا المذهب مبنيٌّ على قاعدة: "أنَّ الأصل في العقود الإباحة، إلاَّ ما دَلَّ الشارع على تحريمه"( ).
[ب] مذهب الظاهرية:
وهذا المذهب يمكن تخريجه على ما قرَّره الإمام ابن حزم الظاهري( ) بقولـه في إباحة العقود وحظرها: "إنَّ كل عقد، أو شرط، أو عهد، أو نذر التزمه المرء، فإنه ساقطٌ مردود، ولا يلزمه منه شيء أصلاً، إلاَّ أنْ يأتي نص، أو إجماع على أنَّ ذلك الشيء الذي التزمه بعينه واسمه، لازم له. فإنْ جاء نص، أو إجماع بذلك لزمه، وإلاَّ فلا. والأصل براءة الذمم من لزوم جميع الأشياء إلاَّ ما ألزمنا إيَّاه نص أو إجماع، فإنْ حكم حاكم بخلاف ما قلنا فسخ حكمه، ورُدَّ بأمر النبي الذي يقول: (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)( ).
وهذا المذهب فحواه أنَّ الأصل في العقود والشروط الحظر والمنع إلى أنْ يقوم دليل الإباحة. وعلى هذا فإنَّ عقد الإذعان يُعَدُّ عند الظاهرية عقداً ممنوعاً، ويبطل إجراؤه، ولا تترتب على انعقاده أي آثار عقدية، فهو باطل، إذ لم يرد به نص من قرآن أو سنة أو إجماع، لا باسمه، ولا بعينه، ولا بوصفه.
والراجح ـ عندي ـ هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، وذلك لأنَّ نصوص الكتاب والسُّنَّة محدودة ومتناهية، وأقضية الناس غير محدودة ولا متناهية، ولأن كثيراً من الأقضية قد حدثتْ بعد عصر النبي ، ولم يرد بها نص من قرآن ولا سنة، ولا إجماع، فإذا لم يجتهد فقهاء عصر الحادثة الجديدة في البحث لها عن حكم شرعي وفق ضوابط الشرع، يقع الناس في حرج ومشقة شديدين، ورفع الحرج ودفع المشقة أمرَ بهما الشارع الحكيم.
كما أنَّ الحكمة من فتح باب الاجتهاد اقتضتها صلاحية الشرع الإسلامي لكل زمان ومكان، وهذا ما قرَّره النبي ، فيما يرويه عنه عمرو بن العاص ، إذ قال عليه الصلاة والسلام: (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ، فاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ،وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) منقول للإفاده العلميه
العقود بصفة عامة تشترك في بعض القواعد التي تميزها عن غيرها من التصرفات التي يجريها الشخص مع غيره، مثل قاعدة الإباحة الأصلية التي تعني: "أنَّ الأصل في الأشياء الإباحة"( )، ومنها العقود. فإنَّ الأصل فيها الإباحة إلاَّ عقداً منع الشارع التعاقد عليه. وقاعدة الرضائية، إذ: "الأصل في العقد رضى المتعاقدين، ونتيجته ما التزماه بالتعاقد"( ). وقاعدة حرية التعاقد التي تعبِّر عن مبدأ سلطان الإرادة العقدية، الذي يعني مدى مقدرة المتعاقدين على إجراء العقود، وتحديد الشروط، وترتيب الآثار على العقد( )، وغيرها من القواعد التي تنتظم العقود جميعاً.
وتمتاز كل مجموعة من العقود ـ من وراء هذه القواعد العامة ـ بقواعد خاصة تميزها عن غيرها من المجموعات العقدية. فلعقود المعاوضات المالية ـ كالبيع والإيجار ـ قواعد تميزها عن غيرها، مثل قاعدة: "التعادل في التبادل"( )، وقاعدة: "الغرم بالغنم"( ) التي تعني أنَّ من يَنَل نفع شيء يجب عليه تحمُّل ضرره( )، وغيرها.
وعلى المنوال ذاته جرت عقود الإذعان إذ أنها تمتاز بمميزات تميزها عن غيرها من العقود، وأهم هذه المميزات هي:
[1] ميزة التكوين:
ونعني بذلك كيفية عرض الإيجاب وارتباط القبول بالإيجاب. فالإيجاب في عقود الإذعان معروض على كافة الأشخاص، وبصورة مستمرة، وبشروط معتبرة، سواء أصدرت بصورة صريحة، أم ضمنية. ويكون الإيجاب ملزماً للموجب. ويجب أنْ يُمكِّن الموجب الجميع من الاطّلاع على شروط العقد( ).
أمَّا القبول فهو عبارة عن رضوخ وإذعان لما ورد في الإيجاب من شروط، دون أنْ يكون للقابل حق أو حرية في مناقشتها، أو الاعتراض عليها. فإنْ رغب في العقد قبلها، وربط قبوله بالإيجاب فيتكون العقد. وإنْ لم يرغب في العقد تركها ومضى لحاله( ).
[2] طبيعة عقد الإذعان( ):
عقود الإذعان تتعلّق بسلع وخدمات ضرورية ومهمة للمستهلكين، ولا غنى لهم عنها، مثل: خدمات المياه والكهرباء، وعقود العمل، والنقل وغيرها. هذه العقود يجد المستهلك نفسه مضطراً لعقدها مهما كانت الشروط الواردة فيها مجحفة في حقه.
إنَّ من طبيعة السلع والخدمات التي ترد عليها عقود الإذعان، أنها سلع وخدمات مُحْتَكَرة ـ غالباً ـ للجهات التي تتولى عرض الإيجاب، أو تقدم تلك السلع والخدمات للجمهور. واحتكارها إمّا أنْ يكون احتكاراً فعلياً، أو احتكاراً قانونياً. ولهذا تنعدم المنافسة بشأن هذه السلع والخدمات غالباً.
أمَّا طبيعة الشروط الواردة في عقود الإذعان، فإنها شروط يضعها المُذْعَن له، خدمةً لمصلحته الخاصة غالباً.
[3] الآثار المترتبة على عقود الإذعان:
اعتبر قانون المعاملات المدنية السُّـوداني لسنة 1984م عقود الإذعان عقوداً حقيقية( ). فإذا انعقد العقد صحيحاً لزم المتعاقدين التقيُّد بما ورد فيه من شروط، والالتزام بتنفيذ ما ينتج عنه من آثار. ولهذا جاءت المادة (45) من قانون المعاملات المدنية السُّـوداني لسنة 1984م توضِّح ذلك حيث نصت على أنه: "يعتبر التسليم بشروط يضعها الموجب في عقد الإذعان قبولاً، مع مراعاة أي قيود مقررة لعقود الإذعان في القانون".
وقد وضع قانون المعاملات المدنية السُّـوداني لسنة 1984م، قيوداً على عقود الإذعان في المادتين (102)، (118)، اللتين سأتطرّق إليهما عند الحديث عن معالجة القانون لعقود الإذعان ـ بإذن الله ـ.
المبحث الثاني: تكييف عقود الإذعان في القانون الوضعي
بدأتُ بالقانون الوضعي، لأنّ عقود الإذعان لم تعرف بهذا الاسم في الشريعة الإسلامية وإنما هي عقود مستحدثة. فهل عقود الإذعان عقود حقيقية ملزمة لأطرافها بكل ما جاء فيها ؟ وهل لا يجوز مخالفة ما ورد فيها من شروط على الرغم من أنَّ القبول فيها تَمَّ عن طريق الإذعان؟ أم أنها عقود غير حقيقية ولها طبيعة خاصة تقتضي إخضاعها لقواعد عقدية غير قواعد العقود المعروفة؟
انقسمت آراء فقهاء القانون الوضعي في تحديد طبيعة عقود الإذعان إلى عدة مذاهب، أشهرها مذهبان:
• يرى أحدهما أنها عقود حقيقية، وملزمة لأطرافها بكل ما جاء فيها، وأنها لا تخالف القواعد العامة للعقد.
• بينما يذهب المذهب الآخر إلى أنها مراكز قانونية منظمة.
وفيما يلي أوضِّح رؤية كل مذهب:
المذهب الأول: عقود الإذعان عقود حقيقية:
يرى أصحاب هذا المذهب أنَّ عقود الإذعان عقود حقيقية، لأنها تتكون بترابط إرادة أطرافها، وتخضع للقواعد التي تخضع لها كل العقود.
وحجة هؤلاء أنَّ أكثر العقود يتحقق فيها اضطرار أحد أطرافها، أو كلهم للتعاقد. فعدم التساوي، أو التعادل بين أطراف العقد لا يمكن توقيه.
ويذهب هؤلاء ـ أيضاً ـ إلى القول بأنَّ الضرر الواقع على طرف من أطراف العقد في عقود الإذعان أقلَّ بكثير من الضرر الواقع عليه في العقود الأخرى.
واحتجوا بأنَّ الضرر في عقود الإذعان يعم جميع من يبرم عقداً مع المُذْعَن له، فالكل فيه سواء، فالإيجاب في عقود الإذعان معروض على الكافة.
وهذا نظر ـ في رأيي ـ غير سليم، لأن "الضرر يزال شرعاً"( )، إذا كان خاصاً، فإزالته إذا كان عاماً أوْلَى. فمسألة عموم الضرر الذي يلحق بالكافة تُعدُّ من عوامل ضعف هذا الضرب من العقود.
واحتجوا بأنَّ الطرف الذي يملي شروط العقد هو نفسه خاضع للملابسات الاقتصادية المحيطة به، فهي التي تملي عليه تلك الشروط التعاقدية، وليس هو الذي يمليها على الطرف الآخر، فهو مضطر إلى مراعاة ما تقضي به الأحوال الاقتصادية.
وهذه حجة داحضة ـ في نظري ـ لأنَّا بهذا نكون قد أثقلنا على الطرف الضعيف، لأنه خاضع للأحوال الاقتصادية ذاتها، فهو يحمل عبء الشروط التعسفية الواردة في العقد، ويضيف إليه عبء الأحوال الاقتصادية المحيطة به وبالمُذْعَن له.
واحتجوا ـ أيضاً ـ بأنَّ المستهلكين ربما تألبوا ضد المُذْعَن له فحاربوه بمقاطعة سلعه التي يعرضها عليهم، فيقع عليه الضرر جرَّاء صنيعهم هذا.
وخلاصة مذهب هذا الفريق: أنَّ عقود الإذعان عقود حقيقية، لأنها أُبرمت بارتباط إرادات أطرافها، وعزمهم على إمضاء العقد، وأنها تخضع للقواعد العامة للعقود. وهم يرون أنَّ ضعف أحد أطراف العقد لا يقوم مبرراً لتدخل القضاء حمايةً للطرف الضعيف، ما دام الطرف القوي لم يستغله، وأنَّ تدخل القضاء لا يجوز إلاَّ في بعض الحالات منها: حالة استغلال الطرف القوي للطرف الضعيف.
والواقع أنَّ عقود الإذعان تقوم ـ أساساً ـ على استغلال ضعف الضعيف، لأنها عقود لا تنشأ ـ في الغالب ـ إلاَّ في حالات احتكار الطرف القوي للسلعة أو الخدمة، الضرورية المقدَّمة للطرف الضعيف، وهو في حال حاجة ماسَّة إليها، فيضطر إلى إبرام العقد رغماً عنه( ).
المذهب الثاني: عقود الإذعان مراكز قانونية منظمة( ):
يذهب أصحاب هذا المذهب إلى أنَّ عقود الإذعان عقود غير حقيقية، ويرون أنها عبارة عن مراكز قانونية منظمة، وأنها ليست بعقود، لأنَّ العقد لا ينعقد صحيحاً، ولا تترتب عليه آثاره، إلاَّ إذا توافرت في أطرافه حرية الإرادة، والاختيار. وعقود الإذعان لا تتوافر فيها حرية الإرادة، وإنْ توافرت حرية اختيار العقد. فأحد أطراف العقد يمضيه وهو غير مكتمل الرضا، لأنه لا يستطيع الاعتراض على أيّ شرط من الشروط التي يمليها الطرف القوي. فالرابطة القانونية بينهما أملتها إرادة الطرف القوي (المُحْتَكِر) وحده.
وهؤلاء يذهبون إلى أنَّ هذه الإرادة المنفردة التي يملي بها المُحْتَكِر شروطه، تُعدُّ بمثابة قانون ينظِّم هذا الضرب من العقود. وهذا ما أخذت به شركات الاحتكار الناس، شأنه شأن كل قانون يطبَّق على المجتمعات.
ولهذا فإنهم يرون أنَّ تفسير عقد الإذعان، وتحديد ما يولّده من التزامات، يجب أنْ يكون في ظل هذه الاعتبارات. فيفسَّر العقد كما يُفسَّر القانون، ولا يُفسَّر بحسبان أنه وليد إرادة الأفراد، بل يفسَّر بحسبان أنه رابطة قانونية تنظم المصلحة العامة لمجموع الأفراد الذين يخضعون لها. "فيُطبَّق هذا القانون التعاقدي تطبيقاً تراعى فيه مقتضيات العدالة، وحسن النية، ويُنظر فيه إلى ما تستلزمه الروابط الاقتصادية التي وُضع لتنظيمها"( ).
وأصحاب هذا المذهب يرون أنَّ فكرة العقد وحدها غير كافية لتفسير هذه الروابط التي تقوم بين الشركات والأفراد، بل يرون أنَّ تفسيرها يقتضي النظر إلى "حاجة الصناعة، ومصالح العمال، ورب العمل في وقت واحد"( ). وهم يرون أنَّ العامل ينضم إلى نظام لا يد له في وضع شروطه، ولا في تحديد آثاره، ولا يحق له مناقشة تلك الشروط. فهو يقبل قانوناً ما يُعرض عليه، ولا يناقش شروطه. "وهذه ظاهرة قانونية أصبحت معتادة في الوقت الحاضر، وقد حل فيها محل توافق الإرادتين، انضمام الإرادة إلى القانون المعروض"( ).
وهؤلاء عندهم أنَّ عقد الإذعان مركز قانوني منظم، يطبق لصالح العمل أولاً، ثم يراعى ما يستحق الحماية من مصالح طرفي العقد.
هذان هما أشهر مذاهب القانونيين في نظرهم لعقود الإذعان، وفيما يلي أتناول عقود الإذعان في نظر الشريعة الإسلامية.
المبحث الثالث: تكييف عقود الإذعان في الشريعة الإسلامية
الأصل في الشريعة الإسلامية إباحة جنس العقد مطلقاً، إلاَّ عقداً أحلَّ حراماً أو حرَّم حلالاً، وهذا هو رأي جمهور الفقهاء "الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة ـ عليهم رحمة الله ـ( )، وذهبت الظاهرية( ) إلى أنَّ الأصل في العقود المنع والحظر إلاَّ عقداً دلَّ دليل من الكتاب والسُّـنَّة أو الإجماع على إباحته( ).
لم تعرف الشريعة الإسلامية عقود الإذعان باسمها( )، ولكن "العبرة في العقود [في نظر الشريعة الإسلامية] للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني"( ). ولهذا تعترف الشريعة الإسلامية بأيّ عقد يقع بين الناس، إذا كان مشروعاً، وإنْ لم تُسَمِهِ باسمه. والشريعة الإسلامية تضع ضابطاً عاماً للمعاملات، وهو أنَّ كل معاملة جلبتْ نفعاً للمجتمع أباحتها الشريعة الإسلامية، وكل معاملة جلبتْ ضرراً منعتها( ). "والمشروعات [أي ما شرعه الشارع الحكيم] إنما وُضِعَتْ لجلب المصالح ودرء المفاسد"( ).
والأصل في الشريعة الإسلامية أنَّ العقد يتم برضا المتعاقدين، وأنَّ آثاره تترتب بناء على ارتباط إرادتيهما( ). وأنَّ العقود "تنعقد بكل ما دَلَّ على مقصودها من قولٍ أو فعل، فكل ما عدَّه الناس بيعاً أو إجارةً، فهو بيع وإجارة، وإنْ اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال، ... ليس لذلك حَدّ مستقر، لا في شرع ولا في لغة)( ).
كما أنَّ الشريعة الإسلامية أباحتْ بعض المعاملات في حالة الضرورة أو الحاجة الماسة، فقد أباحتْ "زمرة من العقود والتصرفات خلافاً للقياس، ومقتضى القواعد العامة، لحاجة الناس العامة إليها، مثل: عقد السلم مع أنه بيع معدوم مشتمل على غرر( ) منهي عنه، وعقود الإقالة، والحوالة، والرهن، والقرض، والشركة، والصلح، والوكالة، والإجارة، والمساقاة، والمزارعة، والمضاربة، والعارية، والإيداع"( ).
فالشريعة الإسلامية تجيز مثل هذه العقود مراعاةً لبعض القواعد العامة، مثل قاعدة: "مراعاة الحاجة، ورفع المشقة"، وقاعدة: "عموم البلوى"، وقاعدة: "الضرورة"، وغيرها. كما أنها تنظر إلى مقتضى القواعد العامة: مثل أنَّ الإنسان لا ينتفع إلاَّ بما هو ملكه، ولا يستوفي حقه إلاَّ ممن هو في ذمته، ولا يؤاخذ بكلام غيره، ولا يتصرف في أموره إلاَّ بنفسه.
ومع هذا كله نرى الشريعة الإسلامية أجازتْ الانتفاع بملك الغير، بطريق الإجارة، والإعارة، والقرض. وأجازتْ الاستعانة بالغير، وكالةً، وإيداعاً، وشركةً، ومضاربةً، ومساقاةً، ومزارعة. وأجازتْ أنْ يستوفي الشخص حقه من غير المدين، حوالةً، وشرعتْ طرق الاستيثاق للديون بطريق الرهن، والكفالة، وغير ذلك من الطرق التي تخالف مقتضى ظاهر القواعد العامة للعقود( ).
وعقد الإذعان يخالف قاعدة حرية التعاقد( )، ويخالف قاعدة الرضائية( ). فالأصل في الشريعة الإسلامية إجراء العقود، وإبرامها برضا المتعاقدين، وكذلك الأمر في القانون الوضعي. ولا يخرج العقد عن هذه القواعد ومقتضياتها، إلاَّ لمصلحة تقتضيها الضرورة، أو الحاجة الماسة، أو عموم البلوى( ).
وقد كَثُرَ التعامل في عقود الإذعان، وشاركتْ فيها الشركات والحكومات، ونظمها القانون وأفرد لها أحكاماً خاصة بها، مثال ذلك المادة 45 من قانون المعاملات المدنية السُّـوداني لسنة 1984م( ) والتي نصها: "يعتبر التسليم بشروط مقرّرة يضعها الموجب في عقد الإذعان قبولاً، مع مراعاة أي قيود مقرّرة لعقود الإذعان في القانون".
وقد وردتْ المادة (118) من القانون المذكور نفسه، واضعةً بعض القيود على عقود الإذعان، فنصت على أنه: (إذا تَمَّ العقد بطريق الإذعان، وتضمنَّ شروطاً تعسفية، جاز للمحكمة أنْ تعدِّل هذه الشروط، أو أنْ تعفي الطرف المذعن منها، وذلك وفقاً لما تقضي به العدالة. ويقع باطلاً كل اتفاق على خلاف ذلك).
وبهذا النص حَدَّ الشارع (المشرِّع) السُّـوداني من الشروط التعسفية التي ترد في عقود الإذعان، وهذا النص يُعدُّ "أداة قوية في يد القاضي يحمي بها الطرف المذعن من جشع التجار، ويكسر بها شوكة شركات الاحتكار، وذلك إمّا عن طريق تعديل الشروط الواردة في العقد، أو عن طريق إعفاء الطرف المُذْعِن من تنفيذ هذه الشروط"( ).
ونظراً لعموم البلوى، بعقود الإذعان، واضطرار طالب السلعة أو الخدمة المُحْتَكَرة إلى إجراء العقد عن طريق الإذعان. وبناءً على ما قَدَّمْتُ من أنظار الفقهاء في إباحة العقود أو منعها، فإنه يمكن تخريج مذاهب الفقهاء الإسلاميين بالنسبة لإباحة عقود الإذعان أو منعها، على النحو التالي:
[أ] مذهب جمهور الفقهاء( ):
وهذا المذهب يُخَرَّجُ على قواعد جمهور الفقهاء، وفحواه أنه يجوز التعاقد عن طريق الإذعان، وذلك مراعاةً للمصلحة التي تقتضيها الضرورة، والحاجة الماسة، ومراعاةً لعموم البلوى بعقود الإذعان في هذا العصر الذي تعقَّدت فيه صور المعاملات، بل أساليب الحياة عامة.
ولا بُدَّ لمن يقول بهذا المذهب من مراعاة القواعد الفقهية، والضوابط التي قرَّرها القانون للحد من الشروط التعسفية التي ترد في العقد، وذلك بهدف إزالة الغبن الذي يقع على الطرف المُذْعِن، وإعادة التوازن إلى العقد، وهذا المذهب مبنيٌّ على قاعدة: "أنَّ الأصل في العقود الإباحة، إلاَّ ما دَلَّ الشارع على تحريمه"( ).
[ب] مذهب الظاهرية:
وهذا المذهب يمكن تخريجه على ما قرَّره الإمام ابن حزم الظاهري( ) بقولـه في إباحة العقود وحظرها: "إنَّ كل عقد، أو شرط، أو عهد، أو نذر التزمه المرء، فإنه ساقطٌ مردود، ولا يلزمه منه شيء أصلاً، إلاَّ أنْ يأتي نص، أو إجماع على أنَّ ذلك الشيء الذي التزمه بعينه واسمه، لازم له. فإنْ جاء نص، أو إجماع بذلك لزمه، وإلاَّ فلا. والأصل براءة الذمم من لزوم جميع الأشياء إلاَّ ما ألزمنا إيَّاه نص أو إجماع، فإنْ حكم حاكم بخلاف ما قلنا فسخ حكمه، ورُدَّ بأمر النبي الذي يقول: (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ)( ).
وهذا المذهب فحواه أنَّ الأصل في العقود والشروط الحظر والمنع إلى أنْ يقوم دليل الإباحة. وعلى هذا فإنَّ عقد الإذعان يُعَدُّ عند الظاهرية عقداً ممنوعاً، ويبطل إجراؤه، ولا تترتب على انعقاده أي آثار عقدية، فهو باطل، إذ لم يرد به نص من قرآن أو سنة أو إجماع، لا باسمه، ولا بعينه، ولا بوصفه.
والراجح ـ عندي ـ هو ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، وذلك لأنَّ نصوص الكتاب والسُّنَّة محدودة ومتناهية، وأقضية الناس غير محدودة ولا متناهية، ولأن كثيراً من الأقضية قد حدثتْ بعد عصر النبي ، ولم يرد بها نص من قرآن ولا سنة، ولا إجماع، فإذا لم يجتهد فقهاء عصر الحادثة الجديدة في البحث لها عن حكم شرعي وفق ضوابط الشرع، يقع الناس في حرج ومشقة شديدين، ورفع الحرج ودفع المشقة أمرَ بهما الشارع الحكيم.
كما أنَّ الحكمة من فتح باب الاجتهاد اقتضتها صلاحية الشرع الإسلامي لكل زمان ومكان، وهذا ما قرَّره النبي ، فيما يرويه عنه عمرو بن العاص ، إذ قال عليه الصلاة والسلام: (إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ، فاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ،وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ) منقول للإفاده العلميه