الزغيبي
18-08-2010, 01:37 AM
قضايا وأحكام
( 2 )
حيازة الحشيش المخدر والحبوب المحظورة واستعمالهما
المقدمة :
إن الحمدّ لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألاّ إله إلا الله وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً ـ أما بعد :
فتشكل القضايا الجنائية نسبة غير قليلة من القضايا التي تنظرها المحاكم الشرعية ، وتشكل قضايا المخدرات والمؤثرات العقلية نسبة متزايدة من هذه القضايا . ورغم الجهود الحثيثة التي تبذل لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية ؛ إلا أن قضايا المخدرات والمؤثرات العقلية بازدياد مطرد ، كما تدل على ذلك الإحصاءات (1) ، وهذا يستدعي إعادة النظر في أسـاليب مكافحتهـا ، والعمل على قطع سبل تهريبها وترويجها في هذه البلاد . ورغم العقوبات الحدية والتعزيرية التي تصدرها المحاكم على مستعملي المخدرات والمؤثرات العقلية ، ومتعاطيها ، ومروجيها ، ومهربيها ؛إلا أن العقوبات التي تصدر غير ناجعة يدل على ذلك عودة عدد غير قليل منهم إلى الاستعمال والتعاطي والترويج كما يظهر ذلك من تقارير سوابقهم الجنائية ، وهذا يدل على أن العقوبات وحدها ليست كافية ، وأن الأمر يستدعي تأهيلاً صحياً ونفسياًـ لا تكفي المؤسسات القائمة (2) للقيام به ـ وتأهيلاً اجتماعياً واقتصادياً لهؤلاء ، وإعادة النظر في العفو عن العائدين في قضايا المخدرات ، وأهم من ذلك كله الحرص على التربية الإسلامية الحقة ، التي تنغرس في النفوس ، وتسيطر على المشاعر والسلوك (3) .
وعند نظري في بعض قضايا المخدرات يعرض لي مسائل تحتاج إلى وقفة تأمل ، ومن هذه المسائل : الحيازة ، والسوابق الجنائية ، ودرجات الإدانة ، وادعاء الإكراه على الإقرار ، والرجوع عن الإقرار ، وغيرها . وفيما يلي استعرض قضية من قضايا المخدرات نظرتها في المحكمة العامة بمحافظة الزلفي متحدثاً عن مراحلها ، ومتوقفاً قليلاً عند أهم مسائلها .
المرحلة الأولى : الدعوى والإجابة
أولاً : الدعوى
في مساء يوم ... الموافق ... اشتبه بعض أفراد مكافحة المخدرات بالمدعى عليه عند مشاهدته في أحد الأحياء ... ، وبتفتيشه وجد في جيبه الأيمن علبة دخان عثر بداخلها على قطعة بنية اللون بلغ وزنها 0.8 ثمانية من العشرة من الجرام اشتبه في أنها حشيش مخدر ، وسيجارة ملفوفة لفاً يدوياً بلغ وزنها 1.1 جراماً واحداً وعشر الجرام اشتبه في خلط تبغها بالحشيش المخدر ، وثلاث حبات تحمل العلامة المميزة للكبتاجون المحظور ، فتم القبض عليه (4). وقد أثبت التحليل الكيماوي ايجابية القطعة ومستخلص تبغ السيجارة لمادة الحشيش المخدر ، كما أثبت احتواء الحبوب على مادة الامفيتامين المحظورة . وبالتحقيق مع المدعى عليه توجه الاتهام له بحيازة قطعة الحشيش المخدر ، والسيجارة التي خلط تبغها بالحشيش المخدر ، والحبات الثلاث المحتوية على مادة الامفيتامين المحظورة والمذكورة آنفاً لقصد الاستعمال الشخصي ، كما توجه الاتهام له باستعمال الحشيش المخدر، والحبوب المحظورة ، وعليه سابقتان كلتاهما حيازة واستعمال مخدرات . اطلب إثبات إدانة المدعى عليه شرعاً بما اتهم به ، ومجازاته بما يستحق شرعاً لقاء الحيازة ، والاستعمال ، والسابقتين ، ومنعه من السفر ، وإتلاف ما حرز ممّا ضبط بحوزته وفقا للفقرة الأولى من المادة الواحدة والأربعين ، والفقرة الأولى من المادة السادسة والخمسين ، والفقرتين الأولى والثانية من المادة الثانية والخمسين من نظام مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية (5) ، والحكم عليه بذلك هذه دعواي وأسأل المدعى عليه الجواب .
ـ فسألته هل أوقف المدعى عليه لهذه القضية ؟
ـ فأجاب بقوله : لقد احتجز المدعى عليه للتحقيق معه ، وأطلق سراحه بعد انتهاء التحقيق ، ولم يتم توقيفه ، ولم تصدر مذكرة بتوقيفه (6) .
ثانيا : الإجابة
ما ذكره المدعي العام للمخدرات من القبض علي مساء يوم ... الموافق ... فصحيح ، وما ذكره من أنه وجد عند تفتيشي في جيبي الأيمن علبة دخان عثر بداخلها على قطعة حشيش مخدر بلغ وزنها0.8 ثمانية من العشرة من الجرام ، وسيجارة ملفوفة لفاً يدوياً خلط تبغها بالحشيش المخدر بلغ وزنها 1.1 جراماً واحداً وعشر الجرام ، وثلاث حبات محتوية على مادة الامفيتامين المحظورة فصحيح . ولم أضع علبة الدخان في جيبي ، ولا أعلم كيف وصلت إليه ، ولا أعلم شيئاً عنها ، وقطعة الحشيش والسيجارة والحبوب المذكورة ليست لي ، ولا أعلم لمن تعود ، ولا أعلم عنها شيئاً . وما ذكره المدعي العام بخصوص استعمالي للحشيش المخدر فغير صحيح ، فلم استعمل الحشيش المخدر ، ولم يسبق لي استعماله . وما ذكره بخصوص استعمالي للحبوب المحظورة فصحيح . وما ذكره المدعي العام بخصوص سابقتي فصحيح، وهما كما ذكر ، هذه إجابتي .
ـ فسألته : متى استعملت الحبوب المحظورة ؟
ـ فأجاب بقوله : لقد استعملتها بعد تنفيذ الحكم علي في القضية الأخيرة ، وقد استعملتها عدة مرات .
المرحلة الثانية : البينات
أ ـ سألت المدعي العام الديك بينة على ما ذكرته من أن المدعى عليه حاز قطعة الحشيش ، والسيجارة التي خلط تبغها به والحبوب المحظورة لقصد الاستعمال الشخصي ، وما ذكرته من استعمال المدعى عليه للحشيش المخدر ؟
ـ فأجاب بقوله لدي إقراره المصدق شرعاً ، والمدون على ص6 من محضر التحقيق المرفق بالمعاملة ، واطلب الرجوع إليه .
ـ وبالرجوع إلى المعاملة وجدت الإقرار المصدق شرعاً المشار إليه ، وقد جاء فيه ما نصه : (( وعثر بحوزتي على بكت دخان .... بداخله سيجارة ملفوفة مخلوطة بالحشيش تزن 1.1 جرام واحد وواحد من العشرة من الجرام وقطعة بنية اللون من الحشيش تزن 0.8 ثمانية من العشرة من الجرام وثلاث حبات منبهة ... وجميع ما ضبط بحوزتي عائد لي شخصياً وقصدي من حيازته الاستعمال ... واستعمل الحشيش المخدر ... منذ مدة طويلة )) .
ـ وبعرض الإقرار على المدعى عليه أجاب بقوله : لقد أكرهت على المصادقة على هذا الإقرار .
ـ فسألته من أكرهك ، وكيف كان هذا الإكراه ؟
فأجاب بقوله : أكرهني المحقق ... ، وكان الإكراه بالضرب والإهانة ؛ فضلاً على أنه لا يتوفر لدى جهة التحقيق أكل ولا شرب .
ـ فسألته : ألديك بينة على ما ذكرته من ضرب المحقق ، وإهانته لك ؟
فأجاب بقوله : لا بينة لدي .
ب ـ وبدراسة المعاملة وجدت التقرير الكيماوي الشرعي (7) رقم .... المؤرخ في .... المتضمن ايجابية القطعة البنية اللون ، ومستخلص تبغ السيجارة المذكورتين في الدعوى لمادة الحشيش المخدر ، واحتواء الحبوب المذكورة في الدعوى على مادة الامفيتامين المحظورة ، واستهلاك الجميع في التحليل .
ـ كما وجدت تقرير بحث سوابق المدعى عليه المتضمن وجود سابقتين عليه هما :
1 ـ 7/1422هـ حيازة واستعمال مخدرات سجن شهرين ، وشمله العفو .
2 ـ 6/1426هـ حيازة واستعمال مخدرات 70 جلدة وسجن27يوماً ، وشمله العفو .
المرحلة الثالثة : تسبيب الحكم
تقدم الحكم في هذه القضية تسبيب له اشتمل على ملخص للدعوى ، والطلبات ، والإجابة ، والبينات ، وتقرير الراجح عندي في عدد من المسائل التي يتوقف الحكم عليها ، وفيما يلي عرض لهذه المسائل ، وغيرها :
المسألة الأولى : أثر الإكراه على الإقرار
ذكـر المدعي العام أن المدعى عليه مدان بحيازة قطعة حشيش مخدر ، وسيجارة خلط تبغها به ، وثلاث حبات محظورة لقصد الاستعمال . وذكر المدعى عليه بأن ما ذكر عثر عليه في علبة دخان وجدت في جيبه ، وأنه لم يضع العلبة في جيبه ، ولا يعلم شيئاً عمّا بداخلها . كما ذكر المدعي العام أن المدعى عليه مدان باستعمال الحشيش المخدر ، وأنكر المدعى عليه ذلك .
وجاء إقرار المدعى عليه المصدق شرعاً متفق مع ما جاء في الدعوى ، ودفع المدعى عليه ما جاء في الإقرار بدعوى الإكراه .
والإقرار من أهم وسائل الإثبات ، وهو حجة كاملة لا يحتاج معه إلى بينة أخرى ، وقد دل على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع والقياس (8) .
ويشترط لصحة الإقرار شروط منها : أن يكون المقر مختاراً ، فلا يصح إقرار المكره (9) ، لما رواه ابن ماجه عن أبي ذر الغفاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . (( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )) (10) .
واتفق الفقهاء على أن الإكراه يكون بالضرب أو الخنق ، وما أشبه ذلك (11) .
واختلفوا في الإكراه المعنوي ، وهو ما يكون بالوعيد والتهديد ، فذهب الجمهور ؛ الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، ورواية عند الإمام أحمد إلى اعتباره (12) ، وبه أخذ نظام الإجراءات الجزائية ؛ حيث جاء فيه : (( ويحظر إيذاء المقبوض عليه جسدياً ، أو معنوياً ، كما يحظر تعريضه للتعذيب ، أو المعاملة المهينة للكرامة )) (13) ، (( ويجب معاملته بما يحفظ كرامته ، ولا يجوز إيذاؤه جسدياً أو معنوياً )) (14) .
ويشترط للإكراه المعنوي :
1ـ أن يكون ممّا يتضرر به ضرراً كبيراً كالقتل ، أو الضرب الشديد ، أو القيد ، أو الحبس الطويلين .
2 ـ أن يكون المُكِره قادراً على تحقيق وعيده .
3 ـ أن يكون الوعيد بأمر حال يوشك أن يقع ؛ إن لم يستجب المُكَره .
4 ـ أن يغلب على ظن المُكره ؛ أنه إذا لم يجب إلى ما دعي إليه تحقق ما توعد به (15) .
ومن أدعى الإكراه لم يقبل منه إلا ببينة ، ويعد السجن ، والقيد الطويلين ، ووجود ترسيم على مدعي الإكراه قرائن على صدقه ، والقول قوله بيمينه .
لكن إن كان هناك قرائن تدل على قوة التهمة بحقه ، ووقوع ما اتهم به منه ، فلا ينبغي أن تهمل تلك القرائن ؛ لا سيما إذا تظافرت ، وحينئذ يجوز أن يمس بشيء من العذاب ليقر لقصة كنز ابن أبي الحقيق (16) .
وقد ذكر المدعى عليه أنه لا بينة لديه على الإكراه ، والأصل في الإقرار الصحة وعدم الإكراه (17) .
المسألة الثانية : في الرجوع عن الإقرار
ذكر المدعي العام أن المدعى عليه مدان بحيازة قطعة حشيش مخدر، وسيجارة خلط تبغها به ، وثلاث حبات محتوية على مادة الامفيتامين المحظـورة لقصـد الاسـتعمال . وذكـر المدعى عليه أن ما ذكر عثر عليه في علبة دخان وجدت بجيبه ، وأنه لم يضع العلبة
في جيبه ، ولا يعلم شيئاً عمّا بداخلها . كما ذكر المدعي العام أن المدعى عليه مدان باستعمال الحشيش المخدر ، وأنكر المدعى عليه ذلك .
وجاء إقرار المدعى عليه المصدق شرعاً متفقاً مع ما جاء في دعوى المدعي العام ، ودفع المدعى عليه ما جاء في الإقرار بدعوى الإكراه ، ولم تثبت لدي هذه الدعوى . وما جاء في إجابة المدعى عليه من أنه لا يعلم شيئاً عمّا في داخل علبة الدخان ، وإنكاره لاستعمال الحشيش المخدر يعدّ رجوعاً عمّا جاء في إقراره ، فما أثر هذا الرجوع على الإقرار ؟
الرجوع عن الإقرار لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون في حق من حقوق المخلوقين ؛ سواء كان قصاصاً ، أو حداً ، أو تعزيراً ، أو حقاً مالياً ، فلا يؤثر الرجوع على الإقرار ، ويلزم المقربما جاء في إقراره ؛ لأن حقوق المخلوقين مبنية على المشاحة ، ولتعلق حق المقر له بالمقر به (18) ، ولا عذر لمن أقر ؛ لذا لا تقبل دعوى المقر الخطأ والنسيان في إقراره ؛ ما لم يثبت ذلك ، أو يصدقه الآخر .
الحالة الثانية : أن يكون الرجوع عن الإقرار في حق من حقوق الله ، فلا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال :
الحال الأول : أن يكون الإقرار يجب فيه حد لله ، كإقراره باستعمال الحشيش المخدر ، ونحوه ، فيكون للرجوع عن الإقرار بالحد ، أو عن شرط من شروط إقامته أثر على الحد ، ويدرء الحدّ به ؛ لأن الرجوع شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات (19) ؛ ما لم يكن الحد ثابت أيضا بطريق آخر من طرق الإثبات .
ودرء الحدود بالشبهات إحدى القواعد الفقهية المقررة (20) ، ودليلها قوله صلى الله عليه وسلم : (( أدرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم )) (21)(22) . وقد حكى الإجماع على ذلك ابن قدامه عن ابن المنذر فقال : (( قال ابن المنذر أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تدرء بالشبهات )) (23) .
ومعنى الشبهة ، قال الكاساني الحنفي : (( الشبهة : اسم لما يشبه الثابت وليس بثابت )) (24)
والدرء لغة : الدفع (25) .
ومن الشبه التي تدرء بها الحدود شبهة الملك في سرقة المال المشترك ، وشبهة عدم الثبوت في الرجوع عن الإقرار فيما يوجب حداً (26) .
ودرء الحد لشبهة لا يسقط التعزير ، فيعزر من أقر بحد لله ، ورجع عنه بعقوبة دون الحد (27) .
الحال الثانية : أن يكون الإقرار يجب فيه تعزير لحق الله تعالى كإقراره بحيازة حشيش مخدر لقصد الاستعمال ، فلا يكون للرجوع أثر، ولا يدرء التعزير بالرجوع ، لأن الرجوع عن الإقرار فيما يجب فيه حد يدرء الحد ، ولا يدرء التعزير ، فيعزر بما دون الحد (28) كما سبق (29) ، ولأنه يعزر على التهمة .
الحال الثالثة : أن يكون الإقرار بما يجب فيه كفارة لله جل وعلا كالإقرار بالوطء في نهار رمضان ، فلا يكون للرجوع أثر على وجوب الكفارة (30) .
وعند النظر في إجابة المدعى عليه أجده رجع عن أمرين أقر بهما الأول استعمال الحشيش، وفيه الحد كما أشير إليه ، ورجوعه شبهة يدرء بها الحد عنه ، ويعزر بما دونه .
والأمر الثاني حيازته لقطعة حشيش وسيجارة خلط تبغها به ، وثلاث حبات محظورة ، وهذه يجب فيها التعزير ، فلا يكون لرجوعه أثر في درئه ، ويؤثر في الغالب في مقداره .
المسألة الثالثة : في القصد من الحيازة
وفيها ثلاث نقاط :
الأولى : في معنى الحيازة :
الحيازة لغة : قال ابن فارس : (( الحاء والواو والزاء أصل واحد ، وهو الجمع والتجمع . يقال لكل مجمع وناحية حوز وحوزة .... وكل من ضم شيئاً إلى نفسه ( من مال أو غير ذلك) فقد حازه))(31) . والحوز من الأرض أن يتخذها رجل ويبين حدودها فيستحقها ، فلا يكون لأحد فيها حق معه (32) .
والحيازة اصطلاحاً : جاء في نظام مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية (33) تعريف الحيازة بأنها : (( وضع اليد على المواد المخدرة أو المؤثرات العقلية على سبيل التملك أو الاختصاص )) .
الثانية : في القصد من الحيازة :
تختلف العقوبة على حيازة المخدرات أو المؤثرات العقلية باختلاف القصد من حيازتها ، فقد تكون الحيازة لقصد التعاطي أو الاستعمال الشخصي(34) ، وقد تكون لقصد الاتجار أو الترويج(35) ، وقد تكون لغير قصد الاتجار أو الترويج أو التعاطي أو الاستعمال الشخصي(36).
الثالثة : في كيفية معرفة القصد من الحيازة :
القصد لغة : قال ابن فارس : (( القاف والصاد والدال (أصل من) أصول ثلاثة ؛ يدل أحدها على اتيان شيء وأمِّه .... قصدته قصداً ومقصداً و ... أقصده السهم : إذا أصابه فقتل مكانه و.... لم يحد عنه )) (37) .
والقصد اصطلاحاً : عرف المرداوي القصد بأنه : (( النية ))(38) . وعرفة الحدادي الحنفي بأنه (( الإرادة وهي النية )) (39) .
والنية أمر قلبي لايطلع عليها الآخرون في الغالب ؛ ما لم يظهرها اللسان .
والسؤال هنا : إذا وجدت كمية كبيرة من المخدرات في حوزة شخص وأقر بحيازتها لقصد الاستعمال الشخصي ، وأنكر أن يكون قصده من حيازتها الترويج ، ولم توجد بينة من إقرار أو شهادة على قصد الترويج ، وثبت أن المخدرات قد تم تجزئتها في أكياس صغيرة ، ووجد لديه مشارط عليها أثر المخدر وأكياس صغيره فارغة ، وميزان ، فهل يكفي ذلك لإثبات قصد الترويج ؟
بعرض هذا السؤال على بعض أصحاب الفضيلة القضاة وجدت اختلافاً بينهم في ذلك ، فيرى البعض إثبات الإدانة بالحيازة لقصد الاستعمال الشخصي وقوفاً عند إقراره ؛ لأن الأصل براءة الذمة ، ولأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال . ويرى البعض إثبات الإدانة بالحيازة لقصد الترويج ، وأن كبر كمية المخدرات ، وتوزيعها في أكياس صغيرة ووجود المشارط التي عليها أثر المخدرات ، والأكياس الصغيرة الفارغة، والميزان ، قرائن تدل على قصد الترويج ترتقي مجتمعة إلى أن تكون بينة . ويرى البعض إثبات الإدانة بالحيازة لقصد الاستعمال الشخصي لإقراره ، وتتوجه التهمة إليه بأن قصده من الحيازة الترويج للقرائن آنفة الذكر. ويرى البعض إثبات الحيازة دون إثبات القصد منها.
وعند وقوفي على بعض قرارات محكمة التمييز أجد أن الاختلاف حاصل بينهم (40) .
والذي يظهر لي هو إثبات الإدانة بالترويج وذلك لما يلي :
1 ـ عرف بعض فقهاء المذهب القتل العمد بأنه : (( أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً بما يقتله غالباً )) (41) .
وجعلوا الآلة أو الوسيلة المستعملة في القتل دليلاً على قصد القتل ، فاستعمال السيف ونحوه ممّا يقتل غالباً دليل على قصد القتل ، واستعمال حجر صغير ونحوه ممّا لا يقتل غالباً دليل على انتفاء قصد القتل (42) .
2 ـ أن الظن معمول به في الشريعة الإسلامية ، ومن ذلك إقامة النوم الذي هو مظنة خروج الحدث مقام الحدث (43) .
وقذف الرجل زوجته بالزنا ، لنفي ولدها باللعان إن غلب على ظنه أن الولد ليس منه لشبهه بالزاني ونحوه (44) .
وقد قرر العلماء خلفا عن سلف أن غلبة الظن معتبرة ، ولولا غلبة الظن لما عمل بالقياس وبخبر الواحد وغيرهما (45) .
المسألة الرابعة : في المقصود بالمخدرات والمؤثرات العقلية
نصت المادة الأولى من نظام المخدرات والمؤثرات العقلية على أنه يقصد بالمواد المخدرة : (( كل مادة طبيعية أو مركبة أو مصنعة من المواد المخدرة المدرجة في الجدول رقم (1) المرافق لهذا النظام )) .
وعرفها بعضهم بأنها (( مواد نباتية أو كيماوية لها تأثيرها العقلي والبدني على من يتعاطاها فتصيب جسمه بالفتور والخمول وتشل نشاطة وتغطي عقله )) (46) .
وفي المصطلح القانوني البحت يقصد بها : (( العقاقير التي تضمنها مؤتمر
The single convention عام 1961م وهي الأفيون والمورفين وبعض مشتقات المورفين وبدائل هذه المواد ، وأوراق الكوكا والكوكائين ، ومستحضرات القنب ))(47) ، وترك الحق لكل دولة أن تضيف إليها ما تعده عقاقير مخدره(48) .
ونصت المادة الأولى من نظام المخدرات والمؤثرات العقلية على أنه يقصد بالمؤثرات العقلية : (( كل مادة طبيعية أو مركبة أو مصنعة من المؤثرات العقلية المدرجة في الجدول رقم (2) المرافق لهذا النظام )) .
وبالرجوع إلى الجدولين المشار إليهما (49) أجد في الجدول رقم واحد القنب وراتنج القنب وخلاصات وأصباغ القنب ، ويستخرج الحشيش من نبات القنب ، وخاصة القنب الهندي ، وذلك من أوارقه وأجزائه المزهرة (50) ، ويطلق عليه في الولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا الجنوبية ماريجوانا(51) .
وأجد في الجدول رقم اثنين مادة الامفيتامين .
وتعدَ الامفيتامينات مادة منشطة للجهاز العصبي المركزي ، وتنبه قشرة الدماغ .
ويؤدي الإدمان عليها إلى أعراض منها :
1 ـ فقدان الاتزان والحكم الصحيح على الأمور .
2 ـ الشك في الناس .
3 ـ الاصابة بالهلوسات السمعية .
4 ـ السلوك الهستيري(52) .
ويلحظ أنه ورد في الدعوى وصف الحبات الثلاث بأنها تحمل العلامة المميزة للكبتاجون المحظور ، والكبتاجون هو الاسم التجاري الخاص بشركة همبوج لمادة طبية اسمها هيدروكلوريد امفليتيلين مشتقة من الامفيتامين(53) ، والعلامة المميزة لها هي قوسان متقابلان أحدهما أعلى من الآخر بمقدار النصف .
1/3
وكتبه :
إبراهيم بن صالح الزغيبي
( 2 )
حيازة الحشيش المخدر والحبوب المحظورة واستعمالهما
المقدمة :
إن الحمدّ لله نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد ألاّ إله إلا الله وحده لاشريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ـ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً ـ أما بعد :
فتشكل القضايا الجنائية نسبة غير قليلة من القضايا التي تنظرها المحاكم الشرعية ، وتشكل قضايا المخدرات والمؤثرات العقلية نسبة متزايدة من هذه القضايا . ورغم الجهود الحثيثة التي تبذل لمكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية ؛ إلا أن قضايا المخدرات والمؤثرات العقلية بازدياد مطرد ، كما تدل على ذلك الإحصاءات (1) ، وهذا يستدعي إعادة النظر في أسـاليب مكافحتهـا ، والعمل على قطع سبل تهريبها وترويجها في هذه البلاد . ورغم العقوبات الحدية والتعزيرية التي تصدرها المحاكم على مستعملي المخدرات والمؤثرات العقلية ، ومتعاطيها ، ومروجيها ، ومهربيها ؛إلا أن العقوبات التي تصدر غير ناجعة يدل على ذلك عودة عدد غير قليل منهم إلى الاستعمال والتعاطي والترويج كما يظهر ذلك من تقارير سوابقهم الجنائية ، وهذا يدل على أن العقوبات وحدها ليست كافية ، وأن الأمر يستدعي تأهيلاً صحياً ونفسياًـ لا تكفي المؤسسات القائمة (2) للقيام به ـ وتأهيلاً اجتماعياً واقتصادياً لهؤلاء ، وإعادة النظر في العفو عن العائدين في قضايا المخدرات ، وأهم من ذلك كله الحرص على التربية الإسلامية الحقة ، التي تنغرس في النفوس ، وتسيطر على المشاعر والسلوك (3) .
وعند نظري في بعض قضايا المخدرات يعرض لي مسائل تحتاج إلى وقفة تأمل ، ومن هذه المسائل : الحيازة ، والسوابق الجنائية ، ودرجات الإدانة ، وادعاء الإكراه على الإقرار ، والرجوع عن الإقرار ، وغيرها . وفيما يلي استعرض قضية من قضايا المخدرات نظرتها في المحكمة العامة بمحافظة الزلفي متحدثاً عن مراحلها ، ومتوقفاً قليلاً عند أهم مسائلها .
المرحلة الأولى : الدعوى والإجابة
أولاً : الدعوى
في مساء يوم ... الموافق ... اشتبه بعض أفراد مكافحة المخدرات بالمدعى عليه عند مشاهدته في أحد الأحياء ... ، وبتفتيشه وجد في جيبه الأيمن علبة دخان عثر بداخلها على قطعة بنية اللون بلغ وزنها 0.8 ثمانية من العشرة من الجرام اشتبه في أنها حشيش مخدر ، وسيجارة ملفوفة لفاً يدوياً بلغ وزنها 1.1 جراماً واحداً وعشر الجرام اشتبه في خلط تبغها بالحشيش المخدر ، وثلاث حبات تحمل العلامة المميزة للكبتاجون المحظور ، فتم القبض عليه (4). وقد أثبت التحليل الكيماوي ايجابية القطعة ومستخلص تبغ السيجارة لمادة الحشيش المخدر ، كما أثبت احتواء الحبوب على مادة الامفيتامين المحظورة . وبالتحقيق مع المدعى عليه توجه الاتهام له بحيازة قطعة الحشيش المخدر ، والسيجارة التي خلط تبغها بالحشيش المخدر ، والحبات الثلاث المحتوية على مادة الامفيتامين المحظورة والمذكورة آنفاً لقصد الاستعمال الشخصي ، كما توجه الاتهام له باستعمال الحشيش المخدر، والحبوب المحظورة ، وعليه سابقتان كلتاهما حيازة واستعمال مخدرات . اطلب إثبات إدانة المدعى عليه شرعاً بما اتهم به ، ومجازاته بما يستحق شرعاً لقاء الحيازة ، والاستعمال ، والسابقتين ، ومنعه من السفر ، وإتلاف ما حرز ممّا ضبط بحوزته وفقا للفقرة الأولى من المادة الواحدة والأربعين ، والفقرة الأولى من المادة السادسة والخمسين ، والفقرتين الأولى والثانية من المادة الثانية والخمسين من نظام مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية (5) ، والحكم عليه بذلك هذه دعواي وأسأل المدعى عليه الجواب .
ـ فسألته هل أوقف المدعى عليه لهذه القضية ؟
ـ فأجاب بقوله : لقد احتجز المدعى عليه للتحقيق معه ، وأطلق سراحه بعد انتهاء التحقيق ، ولم يتم توقيفه ، ولم تصدر مذكرة بتوقيفه (6) .
ثانيا : الإجابة
ما ذكره المدعي العام للمخدرات من القبض علي مساء يوم ... الموافق ... فصحيح ، وما ذكره من أنه وجد عند تفتيشي في جيبي الأيمن علبة دخان عثر بداخلها على قطعة حشيش مخدر بلغ وزنها0.8 ثمانية من العشرة من الجرام ، وسيجارة ملفوفة لفاً يدوياً خلط تبغها بالحشيش المخدر بلغ وزنها 1.1 جراماً واحداً وعشر الجرام ، وثلاث حبات محتوية على مادة الامفيتامين المحظورة فصحيح . ولم أضع علبة الدخان في جيبي ، ولا أعلم كيف وصلت إليه ، ولا أعلم شيئاً عنها ، وقطعة الحشيش والسيجارة والحبوب المذكورة ليست لي ، ولا أعلم لمن تعود ، ولا أعلم عنها شيئاً . وما ذكره المدعي العام بخصوص استعمالي للحشيش المخدر فغير صحيح ، فلم استعمل الحشيش المخدر ، ولم يسبق لي استعماله . وما ذكره بخصوص استعمالي للحبوب المحظورة فصحيح . وما ذكره المدعي العام بخصوص سابقتي فصحيح، وهما كما ذكر ، هذه إجابتي .
ـ فسألته : متى استعملت الحبوب المحظورة ؟
ـ فأجاب بقوله : لقد استعملتها بعد تنفيذ الحكم علي في القضية الأخيرة ، وقد استعملتها عدة مرات .
المرحلة الثانية : البينات
أ ـ سألت المدعي العام الديك بينة على ما ذكرته من أن المدعى عليه حاز قطعة الحشيش ، والسيجارة التي خلط تبغها به والحبوب المحظورة لقصد الاستعمال الشخصي ، وما ذكرته من استعمال المدعى عليه للحشيش المخدر ؟
ـ فأجاب بقوله لدي إقراره المصدق شرعاً ، والمدون على ص6 من محضر التحقيق المرفق بالمعاملة ، واطلب الرجوع إليه .
ـ وبالرجوع إلى المعاملة وجدت الإقرار المصدق شرعاً المشار إليه ، وقد جاء فيه ما نصه : (( وعثر بحوزتي على بكت دخان .... بداخله سيجارة ملفوفة مخلوطة بالحشيش تزن 1.1 جرام واحد وواحد من العشرة من الجرام وقطعة بنية اللون من الحشيش تزن 0.8 ثمانية من العشرة من الجرام وثلاث حبات منبهة ... وجميع ما ضبط بحوزتي عائد لي شخصياً وقصدي من حيازته الاستعمال ... واستعمل الحشيش المخدر ... منذ مدة طويلة )) .
ـ وبعرض الإقرار على المدعى عليه أجاب بقوله : لقد أكرهت على المصادقة على هذا الإقرار .
ـ فسألته من أكرهك ، وكيف كان هذا الإكراه ؟
فأجاب بقوله : أكرهني المحقق ... ، وكان الإكراه بالضرب والإهانة ؛ فضلاً على أنه لا يتوفر لدى جهة التحقيق أكل ولا شرب .
ـ فسألته : ألديك بينة على ما ذكرته من ضرب المحقق ، وإهانته لك ؟
فأجاب بقوله : لا بينة لدي .
ب ـ وبدراسة المعاملة وجدت التقرير الكيماوي الشرعي (7) رقم .... المؤرخ في .... المتضمن ايجابية القطعة البنية اللون ، ومستخلص تبغ السيجارة المذكورتين في الدعوى لمادة الحشيش المخدر ، واحتواء الحبوب المذكورة في الدعوى على مادة الامفيتامين المحظورة ، واستهلاك الجميع في التحليل .
ـ كما وجدت تقرير بحث سوابق المدعى عليه المتضمن وجود سابقتين عليه هما :
1 ـ 7/1422هـ حيازة واستعمال مخدرات سجن شهرين ، وشمله العفو .
2 ـ 6/1426هـ حيازة واستعمال مخدرات 70 جلدة وسجن27يوماً ، وشمله العفو .
المرحلة الثالثة : تسبيب الحكم
تقدم الحكم في هذه القضية تسبيب له اشتمل على ملخص للدعوى ، والطلبات ، والإجابة ، والبينات ، وتقرير الراجح عندي في عدد من المسائل التي يتوقف الحكم عليها ، وفيما يلي عرض لهذه المسائل ، وغيرها :
المسألة الأولى : أثر الإكراه على الإقرار
ذكـر المدعي العام أن المدعى عليه مدان بحيازة قطعة حشيش مخدر ، وسيجارة خلط تبغها به ، وثلاث حبات محظورة لقصد الاستعمال . وذكر المدعى عليه بأن ما ذكر عثر عليه في علبة دخان وجدت في جيبه ، وأنه لم يضع العلبة في جيبه ، ولا يعلم شيئاً عمّا بداخلها . كما ذكر المدعي العام أن المدعى عليه مدان باستعمال الحشيش المخدر ، وأنكر المدعى عليه ذلك .
وجاء إقرار المدعى عليه المصدق شرعاً متفق مع ما جاء في الدعوى ، ودفع المدعى عليه ما جاء في الإقرار بدعوى الإكراه .
والإقرار من أهم وسائل الإثبات ، وهو حجة كاملة لا يحتاج معه إلى بينة أخرى ، وقد دل على مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع والقياس (8) .
ويشترط لصحة الإقرار شروط منها : أن يكون المقر مختاراً ، فلا يصح إقرار المكره (9) ، لما رواه ابن ماجه عن أبي ذر الغفاري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . (( إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )) (10) .
واتفق الفقهاء على أن الإكراه يكون بالضرب أو الخنق ، وما أشبه ذلك (11) .
واختلفوا في الإكراه المعنوي ، وهو ما يكون بالوعيد والتهديد ، فذهب الجمهور ؛ الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، ورواية عند الإمام أحمد إلى اعتباره (12) ، وبه أخذ نظام الإجراءات الجزائية ؛ حيث جاء فيه : (( ويحظر إيذاء المقبوض عليه جسدياً ، أو معنوياً ، كما يحظر تعريضه للتعذيب ، أو المعاملة المهينة للكرامة )) (13) ، (( ويجب معاملته بما يحفظ كرامته ، ولا يجوز إيذاؤه جسدياً أو معنوياً )) (14) .
ويشترط للإكراه المعنوي :
1ـ أن يكون ممّا يتضرر به ضرراً كبيراً كالقتل ، أو الضرب الشديد ، أو القيد ، أو الحبس الطويلين .
2 ـ أن يكون المُكِره قادراً على تحقيق وعيده .
3 ـ أن يكون الوعيد بأمر حال يوشك أن يقع ؛ إن لم يستجب المُكَره .
4 ـ أن يغلب على ظن المُكره ؛ أنه إذا لم يجب إلى ما دعي إليه تحقق ما توعد به (15) .
ومن أدعى الإكراه لم يقبل منه إلا ببينة ، ويعد السجن ، والقيد الطويلين ، ووجود ترسيم على مدعي الإكراه قرائن على صدقه ، والقول قوله بيمينه .
لكن إن كان هناك قرائن تدل على قوة التهمة بحقه ، ووقوع ما اتهم به منه ، فلا ينبغي أن تهمل تلك القرائن ؛ لا سيما إذا تظافرت ، وحينئذ يجوز أن يمس بشيء من العذاب ليقر لقصة كنز ابن أبي الحقيق (16) .
وقد ذكر المدعى عليه أنه لا بينة لديه على الإكراه ، والأصل في الإقرار الصحة وعدم الإكراه (17) .
المسألة الثانية : في الرجوع عن الإقرار
ذكر المدعي العام أن المدعى عليه مدان بحيازة قطعة حشيش مخدر، وسيجارة خلط تبغها به ، وثلاث حبات محتوية على مادة الامفيتامين المحظـورة لقصـد الاسـتعمال . وذكـر المدعى عليه أن ما ذكر عثر عليه في علبة دخان وجدت بجيبه ، وأنه لم يضع العلبة
في جيبه ، ولا يعلم شيئاً عمّا بداخلها . كما ذكر المدعي العام أن المدعى عليه مدان باستعمال الحشيش المخدر ، وأنكر المدعى عليه ذلك .
وجاء إقرار المدعى عليه المصدق شرعاً متفقاً مع ما جاء في دعوى المدعي العام ، ودفع المدعى عليه ما جاء في الإقرار بدعوى الإكراه ، ولم تثبت لدي هذه الدعوى . وما جاء في إجابة المدعى عليه من أنه لا يعلم شيئاً عمّا في داخل علبة الدخان ، وإنكاره لاستعمال الحشيش المخدر يعدّ رجوعاً عمّا جاء في إقراره ، فما أثر هذا الرجوع على الإقرار ؟
الرجوع عن الإقرار لا يخلو من حالتين :
الحالة الأولى : أن يكون في حق من حقوق المخلوقين ؛ سواء كان قصاصاً ، أو حداً ، أو تعزيراً ، أو حقاً مالياً ، فلا يؤثر الرجوع على الإقرار ، ويلزم المقربما جاء في إقراره ؛ لأن حقوق المخلوقين مبنية على المشاحة ، ولتعلق حق المقر له بالمقر به (18) ، ولا عذر لمن أقر ؛ لذا لا تقبل دعوى المقر الخطأ والنسيان في إقراره ؛ ما لم يثبت ذلك ، أو يصدقه الآخر .
الحالة الثانية : أن يكون الرجوع عن الإقرار في حق من حقوق الله ، فلا يخلو الأمر من ثلاثة أحوال :
الحال الأول : أن يكون الإقرار يجب فيه حد لله ، كإقراره باستعمال الحشيش المخدر ، ونحوه ، فيكون للرجوع عن الإقرار بالحد ، أو عن شرط من شروط إقامته أثر على الحد ، ويدرء الحدّ به ؛ لأن الرجوع شبهة ، والحدود تدرأ بالشبهات (19) ؛ ما لم يكن الحد ثابت أيضا بطريق آخر من طرق الإثبات .
ودرء الحدود بالشبهات إحدى القواعد الفقهية المقررة (20) ، ودليلها قوله صلى الله عليه وسلم : (( أدرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم )) (21)(22) . وقد حكى الإجماع على ذلك ابن قدامه عن ابن المنذر فقال : (( قال ابن المنذر أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن الحدود تدرء بالشبهات )) (23) .
ومعنى الشبهة ، قال الكاساني الحنفي : (( الشبهة : اسم لما يشبه الثابت وليس بثابت )) (24)
والدرء لغة : الدفع (25) .
ومن الشبه التي تدرء بها الحدود شبهة الملك في سرقة المال المشترك ، وشبهة عدم الثبوت في الرجوع عن الإقرار فيما يوجب حداً (26) .
ودرء الحد لشبهة لا يسقط التعزير ، فيعزر من أقر بحد لله ، ورجع عنه بعقوبة دون الحد (27) .
الحال الثانية : أن يكون الإقرار يجب فيه تعزير لحق الله تعالى كإقراره بحيازة حشيش مخدر لقصد الاستعمال ، فلا يكون للرجوع أثر، ولا يدرء التعزير بالرجوع ، لأن الرجوع عن الإقرار فيما يجب فيه حد يدرء الحد ، ولا يدرء التعزير ، فيعزر بما دون الحد (28) كما سبق (29) ، ولأنه يعزر على التهمة .
الحال الثالثة : أن يكون الإقرار بما يجب فيه كفارة لله جل وعلا كالإقرار بالوطء في نهار رمضان ، فلا يكون للرجوع أثر على وجوب الكفارة (30) .
وعند النظر في إجابة المدعى عليه أجده رجع عن أمرين أقر بهما الأول استعمال الحشيش، وفيه الحد كما أشير إليه ، ورجوعه شبهة يدرء بها الحد عنه ، ويعزر بما دونه .
والأمر الثاني حيازته لقطعة حشيش وسيجارة خلط تبغها به ، وثلاث حبات محظورة ، وهذه يجب فيها التعزير ، فلا يكون لرجوعه أثر في درئه ، ويؤثر في الغالب في مقداره .
المسألة الثالثة : في القصد من الحيازة
وفيها ثلاث نقاط :
الأولى : في معنى الحيازة :
الحيازة لغة : قال ابن فارس : (( الحاء والواو والزاء أصل واحد ، وهو الجمع والتجمع . يقال لكل مجمع وناحية حوز وحوزة .... وكل من ضم شيئاً إلى نفسه ( من مال أو غير ذلك) فقد حازه))(31) . والحوز من الأرض أن يتخذها رجل ويبين حدودها فيستحقها ، فلا يكون لأحد فيها حق معه (32) .
والحيازة اصطلاحاً : جاء في نظام مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية (33) تعريف الحيازة بأنها : (( وضع اليد على المواد المخدرة أو المؤثرات العقلية على سبيل التملك أو الاختصاص )) .
الثانية : في القصد من الحيازة :
تختلف العقوبة على حيازة المخدرات أو المؤثرات العقلية باختلاف القصد من حيازتها ، فقد تكون الحيازة لقصد التعاطي أو الاستعمال الشخصي(34) ، وقد تكون لقصد الاتجار أو الترويج(35) ، وقد تكون لغير قصد الاتجار أو الترويج أو التعاطي أو الاستعمال الشخصي(36).
الثالثة : في كيفية معرفة القصد من الحيازة :
القصد لغة : قال ابن فارس : (( القاف والصاد والدال (أصل من) أصول ثلاثة ؛ يدل أحدها على اتيان شيء وأمِّه .... قصدته قصداً ومقصداً و ... أقصده السهم : إذا أصابه فقتل مكانه و.... لم يحد عنه )) (37) .
والقصد اصطلاحاً : عرف المرداوي القصد بأنه : (( النية ))(38) . وعرفة الحدادي الحنفي بأنه (( الإرادة وهي النية )) (39) .
والنية أمر قلبي لايطلع عليها الآخرون في الغالب ؛ ما لم يظهرها اللسان .
والسؤال هنا : إذا وجدت كمية كبيرة من المخدرات في حوزة شخص وأقر بحيازتها لقصد الاستعمال الشخصي ، وأنكر أن يكون قصده من حيازتها الترويج ، ولم توجد بينة من إقرار أو شهادة على قصد الترويج ، وثبت أن المخدرات قد تم تجزئتها في أكياس صغيرة ، ووجد لديه مشارط عليها أثر المخدر وأكياس صغيره فارغة ، وميزان ، فهل يكفي ذلك لإثبات قصد الترويج ؟
بعرض هذا السؤال على بعض أصحاب الفضيلة القضاة وجدت اختلافاً بينهم في ذلك ، فيرى البعض إثبات الإدانة بالحيازة لقصد الاستعمال الشخصي وقوفاً عند إقراره ؛ لأن الأصل براءة الذمة ، ولأن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال . ويرى البعض إثبات الإدانة بالحيازة لقصد الترويج ، وأن كبر كمية المخدرات ، وتوزيعها في أكياس صغيرة ووجود المشارط التي عليها أثر المخدرات ، والأكياس الصغيرة الفارغة، والميزان ، قرائن تدل على قصد الترويج ترتقي مجتمعة إلى أن تكون بينة . ويرى البعض إثبات الإدانة بالحيازة لقصد الاستعمال الشخصي لإقراره ، وتتوجه التهمة إليه بأن قصده من الحيازة الترويج للقرائن آنفة الذكر. ويرى البعض إثبات الحيازة دون إثبات القصد منها.
وعند وقوفي على بعض قرارات محكمة التمييز أجد أن الاختلاف حاصل بينهم (40) .
والذي يظهر لي هو إثبات الإدانة بالترويج وذلك لما يلي :
1 ـ عرف بعض فقهاء المذهب القتل العمد بأنه : (( أن يقصد من يعلمه آدمياً معصوماً بما يقتله غالباً )) (41) .
وجعلوا الآلة أو الوسيلة المستعملة في القتل دليلاً على قصد القتل ، فاستعمال السيف ونحوه ممّا يقتل غالباً دليل على قصد القتل ، واستعمال حجر صغير ونحوه ممّا لا يقتل غالباً دليل على انتفاء قصد القتل (42) .
2 ـ أن الظن معمول به في الشريعة الإسلامية ، ومن ذلك إقامة النوم الذي هو مظنة خروج الحدث مقام الحدث (43) .
وقذف الرجل زوجته بالزنا ، لنفي ولدها باللعان إن غلب على ظنه أن الولد ليس منه لشبهه بالزاني ونحوه (44) .
وقد قرر العلماء خلفا عن سلف أن غلبة الظن معتبرة ، ولولا غلبة الظن لما عمل بالقياس وبخبر الواحد وغيرهما (45) .
المسألة الرابعة : في المقصود بالمخدرات والمؤثرات العقلية
نصت المادة الأولى من نظام المخدرات والمؤثرات العقلية على أنه يقصد بالمواد المخدرة : (( كل مادة طبيعية أو مركبة أو مصنعة من المواد المخدرة المدرجة في الجدول رقم (1) المرافق لهذا النظام )) .
وعرفها بعضهم بأنها (( مواد نباتية أو كيماوية لها تأثيرها العقلي والبدني على من يتعاطاها فتصيب جسمه بالفتور والخمول وتشل نشاطة وتغطي عقله )) (46) .
وفي المصطلح القانوني البحت يقصد بها : (( العقاقير التي تضمنها مؤتمر
The single convention عام 1961م وهي الأفيون والمورفين وبعض مشتقات المورفين وبدائل هذه المواد ، وأوراق الكوكا والكوكائين ، ومستحضرات القنب ))(47) ، وترك الحق لكل دولة أن تضيف إليها ما تعده عقاقير مخدره(48) .
ونصت المادة الأولى من نظام المخدرات والمؤثرات العقلية على أنه يقصد بالمؤثرات العقلية : (( كل مادة طبيعية أو مركبة أو مصنعة من المؤثرات العقلية المدرجة في الجدول رقم (2) المرافق لهذا النظام )) .
وبالرجوع إلى الجدولين المشار إليهما (49) أجد في الجدول رقم واحد القنب وراتنج القنب وخلاصات وأصباغ القنب ، ويستخرج الحشيش من نبات القنب ، وخاصة القنب الهندي ، وذلك من أوارقه وأجزائه المزهرة (50) ، ويطلق عليه في الولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا الجنوبية ماريجوانا(51) .
وأجد في الجدول رقم اثنين مادة الامفيتامين .
وتعدَ الامفيتامينات مادة منشطة للجهاز العصبي المركزي ، وتنبه قشرة الدماغ .
ويؤدي الإدمان عليها إلى أعراض منها :
1 ـ فقدان الاتزان والحكم الصحيح على الأمور .
2 ـ الشك في الناس .
3 ـ الاصابة بالهلوسات السمعية .
4 ـ السلوك الهستيري(52) .
ويلحظ أنه ورد في الدعوى وصف الحبات الثلاث بأنها تحمل العلامة المميزة للكبتاجون المحظور ، والكبتاجون هو الاسم التجاري الخاص بشركة همبوج لمادة طبية اسمها هيدروكلوريد امفليتيلين مشتقة من الامفيتامين(53) ، والعلامة المميزة لها هي قوسان متقابلان أحدهما أعلى من الآخر بمقدار النصف .
1/3
وكتبه :
إبراهيم بن صالح الزغيبي