ناصر بن زيد بن داود
22-09-2008, 08:24 PM
لم أنظر طيلة سنوات عملي في القضاء أياً من قضايا كفاءة النسب في النكاح غير قضية واحدة، تقدم بها رجل يشكو ابناً له تزوج امرأة لا تكافئه نسباً، ويطلب الحكم بتطليقها منه، وكان الابن قد أصدق تلك المرأة خمسة وعشرين ألف ريال.
= رفض الابن مطلب أبيه متشبثاً بإتمام النكاح، ولم يكن قد دخل بالمرأة بعد، وبالاستفهام من المرأة وولي أمرها، ذكرا أنَّهما لا زالا يتلقيان تهديدات من مجهولين عبر الهاتف، وذكر الولي أنَّ أحدهم هدده بصدمه بالسيارة، وقال له: إنَّ قبيلتي مستعدة بتأمين ديتك بواقع ريالٍ واحدٍ من كل فردٍ من أفراد القبيلة. هكذا قال!.
= هذه كانت ملابسات القضية، وعندما سألتُ المرأة إن كانت راغبة في إتمام الزواج؟. فقالت: نعم!، أريد ذلك؛ غير أني خائفة على نفسي وأبي. فسألتها إن كانت تستطيع رد نصف المهر الذي قبضته وتحتفظ لها بباقيه؟. فقالت: لا أستطيع رَدَّ أيِّ شيءٍ من الصداق؛ لأنَّي صرفته بأكمله في التجهيز. فسألت الأب إن كان يحتمل نصف المهر لولده؟. فقال: بل أحتمله كله.
= من المعلوم فقهاً في مسائل الكفاءة: أنه نكاح النسيبة من غير النسيب يفسخ بطلبها أو أيٍ من أوليائها؛ كما في المذهبين الحنفي والحنبلي والراجح من مذهب الإمام الشافعي رضي الله عن الجميع، غير أني فسخت نكاح المرأة غير النسيبة من الزوج النسيب على غير المعتاد، لأسبابٍ ثلاثة هي: دفع الضرر عن المرأة وعن والدها، وتحقيقاً لإرضاء والد الزوج الخاطب؛ كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه في قضية مشابهة ( الوالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَأَضِعْ ذَلِكَ أَوِ احْفَظْهُ )، ولانتفاء الضرر على الزوجة من آثار الفسخ قبل الدخول؛ فهي لن تعيد نصف المهر للزوج بعد أن تحمله عنها أبوه.
= اكتسب الحكم القطعية من الهيئة المختصة في محكمة التمييز، وكان أحد قضاتها - رحمة الله عليه - حاله أشبه بحال الزوجة، فلم يجد حرجاً في تصديق الحكم غفر الله له؛ لما جاء في مبررات الحكم.
= أما بالنسبة لدعاوى الأولياء بطلب فسخ نكاح مَوْلِيَّاتِهِم لعدم الكفاءة بينهم وبين أزواجهن: فلي في حكم هذه المسألة رأيٌ؛ هو عندي صوابٌ يحتمل الخطأ، كما أنَّ غيره عندي خطأٌ يحتمل الصواب.
وخلاصته: أنَّنا بتأمل قول الله جَلَّ وَعَلاَ في محكم تنزيله ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ). نخرج من هذه الآية بحكمين يعنياننا في موضوعنا هذا:-
الأول/ أنَّ الناسَ كلهم من أبوين اثنين؛ هما: آدم عليه الصلاة السلام وزوجه حواء عليها السلام.
الثاني/ أنَّ الناسَ كلهم - وبدون استثناء - قبائلُ تفرعت من شعوب؛ فإذا قلنا أنَّ الشعوب هي: الأعراق؛ كالعرب والفرس والروم والهند والصين والزنج ونحوهم، فإنَّ القبائل هي: فروع تلك الأجناس؛ كقريش وبني تميم في العرب ، والأوزبك والقرقيز في الترك، والتوستي والهوتو في الزنج، ونحو ذلك.
ومن الشائع أنَّ العرب منذ القدم: إما عاربةٌ قحطانيون، أو مستعربةٌ عدنانيون. وكلاهما شَعبان تفرع منهما العديد من القبائل.
والعرب المستعربة: إما قديمةُ العروبة؛ كقبائل مضر وربيعة، أو حديثةُ العروبة؛ كقبائل بلاد الفتح الإسلامي في شمال وشرق أفريقيا من غير أبناء الفاتحين، أو متجددةُ العروبة؛ وهم كل متكلمٍ بالعربية منتسبٍ لبلاد العرب في جميع الأزمنة؛ ولو كانت أصوله القريبة غير عربية.
= أما قاطنوا الجزيرة العربية في الجاهلية: فكلهم قبائلُ تفرعت من شَعبي قحطان وعدنان، ولا يُساكنهم في جزيرة العرب من غيرهم إلا مواليهم؛ وهم: من جرى عليهم الرِّقُّ من عبيدهم وإمائهم؛ ممن باعهم النخاسة ( باعة العبيد ) فكانوا خدماً لمن اشتراهم.
= ومن هنا نشأ التقسيم الأول للقاطنين في الجزيرة - قبل الإسلام - إلى قبائل وموالي، مع أنَّ هؤلاء الموالي في الأصل لا يخرجون عن كونهم أفراداً من قبائل تفرعت من شَعبهم الأعلى؛ فُرساً كانوا، أو رُوماً، أو زِنجاً، ونحوهم.
= وأسباب الرق التي ترمي بهؤلاء في جحيم الاستعباد للبشر لا تعدو عن إما: الأسر والبيع في حال الحرب، أو السرقة من قبل النخاسين بالحيلة أو بالقوة في حال السلم.
= ثم بعد تحرير كثيرٍ من الموالي؛ بالعتق من أسيادهم مجاناً، أو: بالاتفاق معهم على شراء رقابهم منهم عن طريق المكاتبة؛ وهي: عوضٌ يدفعه العبد أو الأمة من كسبه يفتدي به نفسه؛ كما قال تعالى ( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ )، أو: بأيٍ من سُبُلِ التحرير التي أنعم الله بها على عباده المسلمين؛ مثل كفارات: الأيمان، والجماع في نهار رمضان، وقتل الخطأ وشبه العمد، والظهار، ونحوها، فتكونت لأجل ذلك طبقةٌ ثالثةٌ في الجزيرة العربية هم الموالي المحررين من رقهم، ، وزاد من تنامي الطبقية في جزيرة العرب طروءُ طبقةٍ رابعة تكونت من عدة عوامل منها:-
1/ فرار العربي من قبيلته بسبب دينٍ أثقله أو دمٍ سَفَكَه؛ خوفاً من غُرمائه، واختياره الإقامةَ بعيداً عنهم؛ مُتَّخِذَاً لقباً غير لقبه الأصلي؛ إمعاناً في التخفي.
2/ ارتكاب العربي ذنباً يخشى فضيحته، فيهيم على وجهه حتى يُلقِيَ رحله في دارٍ لا يُعرَفُ بها، فيقطنها.
3/ هجرة العربي طلباً للرزق إلى ديارٍ بعيدة لا يعرفه فيها أحد؛ حتى إذا خطب من أهلها المكافئين له لم يزوجوه؛ لجهلهم بأصله، فيضطر للمصاهرة في غير قبائل تلك البلاد.
4/ اضطرار العربي للزواج من موالي بلده؛ إما: لمرضٍ أَلَمَّ به، أو: لعاهةٍ حسيةٍ أو معنويةٍ أحاطت به، أو: لفقره وعوزه وعجزه عن مهر أكفائه من النساء؛ فيهجره قومه لأجل ذلك.
5/ امتهان العربي لأيِّ حرفةٍ يراها قومه معابةً له وعاراً، فيمتنع قومه من تزويجه أو التزوج منه، فيضطر للمصاهرة في غيرهم.
6/ غلبة البخل على الرجل حتى يمنعه من أن يدفع مهر من تُكافئه نسباً، فينتقل لأجل ذلك إلى الزواج بغيرهن؛ فيتبرأ منه أهله ومن يكافئهم؛ كحال صاحب القضية التي ذكرتها أعلاه.
كل هذا زاد من تنامي الطبقات غير القبلية في مجتمع الجزيرة، حتى صاروا أغلبية في بعض المناطق.
= ولا يمكن لأحدٍ إنكارُ وجود الطبقية حتى بين أفراد الطبقة الواحدة؛ خصوصاً: بين الأغنياء والفقراء منهم، أو: مع تفاوت مستوى التعليم، أو: المنصب، أو: لون البشرة، ونحو ذلك، بل اتسع الخرق حتى صار في كل الطبقات مستوياتٌ أضحت طبقاتٍ في بعض المجتمعات، فنشأ في بعض البلدان ثلاثُ طبقاتٍ وأربعُ، بل وصلت حقيقتها في بعض الأقطار إلى ست طبقات لا يشعر بها الجميع لخفائها ومحدوديتها.
= وإذا عدنا لما سبق وقررناه من أنَّ جميع الناس نتجوا من أبوين اثنين هما آدم وحواء عليهما السلام، وأنَّ جميعهم - لولا مُسَبِّبَاتِ الطبقية - قد تفرعوا من قبائل انبثقت من شعوب؛ وأنَّ الغاية من ذلك التنوع في شعوبهم وقبائلهم هو ما جاء في قول الله جل ثناؤه ( لِتَعَارَفُوا )، وأنَّ الكرامة عند الله ليست لشَعبٍ على شَعب ولا لقبيلةٍ على أخرى؛ بدليل قوله سبحانه ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )، وأنَّ تقرير هذه الأحكام ليست نتاجاً من عقول البشر، بل ممن ختم الآية بقوله جل جلاله ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ).
= إنَّنا حين نستشعر ذلك كله - مُتجردين عن كل عصبيةٍ جاهلية - لَنَجزِمُ أنَّ المسلمين أكفاءٌ تتكافأ أنسابهم كما تتكافأ دماؤهم، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عِيبَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ، النَّاسُ رَجُلانِ : مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ ؛ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ ) ، وإلى هذا الخُلُقِ آبَ عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه حيث قال: مَا بَقِيَ فِيَّ شيءٌ مِن أَخلاقِ الجَاهِلِيَّةِ، أَلا إِنِّي لا أُبَالِي أَيَّ المسلمين نَكَحتُ وَأَيَّهُم أَنكَحتُ.
= ومن اللائقِ أن نوضح أمرين هما:
1/ أنه كما يجوز لكلٍ مِنَّا أن يفخرَ بمآثره أو بأصوله، فإنه لا يجوز لأحدنا أن يُفَاخِرَ غيره منتقصاً إياه، ولا أن يطعنَ بعضنا في نسب بعض.
2/ كما أنَّه: لا يَلزَمُ أياً مِنَّا أن يُزَوِّج مَولِيَّتَهُ لأيِّ خاطبٍ، فإنه: لا يلزم أيضاً أن يُجبِرَ أَحَدُنَا غَيرَهُ على تزويجه؛ لأنَّ مبنى عقود النكاح على التراضي في الظاهر والباطن، ولذلك اعتبر في الفقه الإسلامي الفسخُ للعيوب الخفية، وَلِفَقدِ أيٍ من الزوجين ما اشترطه في الآخر أو عليه؛ لأنَّ ذلك مُخِلٌ بالغاية المشروعة من النكاح ( العشرة بالمعروف )؛ إذ من الشروط التي يشترطها الناس بكارة المرأة، فإذا ظهر للزوج أنَّ مخطوبته ثيباً: جاز له الفسخ ، وكذا: المرأة إذا اشترطت أن لا يتزوج عليها زوجها، أو لا ينقلها من بلدها، أو لا يمنعها من عملها: فإنَّ لها الفسخ؛ إذا خالف شرطها.
= والناس - اليوم - منهم: من يَعرِفُ إلى أيِّ القبائل ينتسب؛ حَضَرِيَّاً كان أو بدوياً، ومنهم: من لا يعرف قبيلته؛ ولا يضره ذلك. فإذا كان الرجل نسيباً، واشترط لتزويج مَولِيَّتَهُ كونَ الخاطب مثله: ساغ اشتراطه ، وله طلب الفسخ؛ إن تبين خلاف ما اشترطه، ولا يعني ذلك انتقاصَ الخاطبِ في دينه ولا في عرضه، بل إنَّ الرجلَ الحَقَّ إذا عَلِمَ أنَّه غيرُ مرغوبٍ فيه - من مخطوبته أو من أهلها - لأيَّ عارضٍ: فإنَّه يأنفُ وينأى بنفسه عمن يتكبرُ عليه أو يَستَنكِفُ منه؛ كما فعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مع المرأة التي استعاذت منه ، فطلقها وكساها وألحقها بأهلها.
غير أنَّه لا ينبغي أن يُفتحَ البابُ على مصراعيه في موضوع الفسخ؛ حتى لا يُساءَ استخدامه، فيستغل ذلك ضعاف النفوس ومرضى القلوب في أكل أموال الناس بالباطل أو في الطعن بالأنساب ودعوى الجاهلية.
= فمن زَوَّجَ موليته على رجلٍ لا يُكافئها؛ وهو يعلم ، ورضيت به الزوجة: فلا وجه لفسخها منه.
= ومن فَرَّطَ في السؤال عن الخاطب حتى زَوَّجَهُ، ثم تبين له أمره بعد أن دخل بزوجته، ورضيت به: فلا فسخ حينئذٍ؛ وبخاصةٍ: إن كان بينهما ولد؛ لأنَّ ضرر الفسخ يتعدى إلى الولد؛ والضرر لا يُزال بالضرر.
= وليعلم كُلُّ ذي علاقة:
1/ أنَّ زواجَ العربي بمن لا تُكافئه نسباً لا يُؤثر في نسبه؛ لأنَّ الولد ينسب إليه لا إلى أمه؛ ولذلك تَسَرَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بجاريته ماريةَ القبطيةِ وأولدها إبراهيم، فما ضر الوالد ولا الولد نسب أم الولد رضي الله عنها. ولولا شرفُ هذا المثل لذكرت معه عشرات الأمثلة المشابهة، إذ في سادات قريش من أمهاتهم إماءٌ حبشيات أو سنديات أو روميات أو زنجيات، وما نقص ذلك من نسبهم.
2/ أنَّ تزويج الرجلِ مَولِيَّتَهُ ممن لا يُكافئها نسباً، مع توافر باقي ما يطلبه الولي في زوج موليته: لا يُؤَثِّرُ في نسبها سلباً؛ فولد البنت لا يُنسب لها ولا لأبيها، وإنما يُنسب لأبيه؛ ولذلك أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة من الأنصار أن يُزَوِّجُوا أبا هندٍ رضي الله عنه؛ وكان حجاماً من مواليهم، كما أمر عبدَ الله بن جحشٍ القرشي أن يُزَوِّجَ زيدَ بنَ حارثة من أخته زينب، وكما زَوَّجَ أسامةَ بنَ زيدٍ من فاطمةَ بنتِ قيسٍ القرشية، وكما زَوَّجَ أبو حذيفة سالماً من هندٍ بنت الوليد بن عتبة القرشية وهو مولى امرأةٍ من الأنصار، وكما تزوج بلالُ بنُ رباح الحبشي من أخت عبد الرحمن بن عوف، ومن بنت أبي البكير من بني زهرة، ومن هند الخولانية التي مات عنها. رضي الله عن الجميع.
3/ أنَّ من تَزَوَّجَ بامرأةٍ نسيبةٍ - وهو من الموالي - لم يزد ذلك في نسبه، ولم يخفض.
= والمحصلة: أنَّ كلنا لآدم، وآدم من تراب، ولا فضل إلا بالتقوى، وأنَّ من أبطأ به عمله لم يُسرع به نسبه، ومن أسرع به عمله لم يُبطئ به نسبه.
= ويكفينا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ بِالأَحْسَابِ ؛ وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ .. ..) الحديث. لندرك أنَّ كلَّ ما كان من أمر الجاهلية خالصاً فهو مطروحٌ منبوذٌ عند الله ورسوله، وأنَّ النسيج الاجتماعي لأيِّ بلدٍ لا يقوى مع التفكك المبني على مخالفة النواميس الإلهية؛ فكم من نسيبٍ قد تبوأ مقعده من النار، في وقتٍ شهد الوحي لغيره بأنه من أهل الفردوس الأعلى من الجنة؛ وكفى بالفوز بها فخراً لا يُساميه فخر ولا يُجاريه مفاخر. والله الموفق
الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود
http://www.cojss.com/article.php?a=49
= رفض الابن مطلب أبيه متشبثاً بإتمام النكاح، ولم يكن قد دخل بالمرأة بعد، وبالاستفهام من المرأة وولي أمرها، ذكرا أنَّهما لا زالا يتلقيان تهديدات من مجهولين عبر الهاتف، وذكر الولي أنَّ أحدهم هدده بصدمه بالسيارة، وقال له: إنَّ قبيلتي مستعدة بتأمين ديتك بواقع ريالٍ واحدٍ من كل فردٍ من أفراد القبيلة. هكذا قال!.
= هذه كانت ملابسات القضية، وعندما سألتُ المرأة إن كانت راغبة في إتمام الزواج؟. فقالت: نعم!، أريد ذلك؛ غير أني خائفة على نفسي وأبي. فسألتها إن كانت تستطيع رد نصف المهر الذي قبضته وتحتفظ لها بباقيه؟. فقالت: لا أستطيع رَدَّ أيِّ شيءٍ من الصداق؛ لأنَّي صرفته بأكمله في التجهيز. فسألت الأب إن كان يحتمل نصف المهر لولده؟. فقال: بل أحتمله كله.
= من المعلوم فقهاً في مسائل الكفاءة: أنه نكاح النسيبة من غير النسيب يفسخ بطلبها أو أيٍ من أوليائها؛ كما في المذهبين الحنفي والحنبلي والراجح من مذهب الإمام الشافعي رضي الله عن الجميع، غير أني فسخت نكاح المرأة غير النسيبة من الزوج النسيب على غير المعتاد، لأسبابٍ ثلاثة هي: دفع الضرر عن المرأة وعن والدها، وتحقيقاً لإرضاء والد الزوج الخاطب؛ كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه في قضية مشابهة ( الوالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ فَأَضِعْ ذَلِكَ أَوِ احْفَظْهُ )، ولانتفاء الضرر على الزوجة من آثار الفسخ قبل الدخول؛ فهي لن تعيد نصف المهر للزوج بعد أن تحمله عنها أبوه.
= اكتسب الحكم القطعية من الهيئة المختصة في محكمة التمييز، وكان أحد قضاتها - رحمة الله عليه - حاله أشبه بحال الزوجة، فلم يجد حرجاً في تصديق الحكم غفر الله له؛ لما جاء في مبررات الحكم.
= أما بالنسبة لدعاوى الأولياء بطلب فسخ نكاح مَوْلِيَّاتِهِم لعدم الكفاءة بينهم وبين أزواجهن: فلي في حكم هذه المسألة رأيٌ؛ هو عندي صوابٌ يحتمل الخطأ، كما أنَّ غيره عندي خطأٌ يحتمل الصواب.
وخلاصته: أنَّنا بتأمل قول الله جَلَّ وَعَلاَ في محكم تنزيله ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ). نخرج من هذه الآية بحكمين يعنياننا في موضوعنا هذا:-
الأول/ أنَّ الناسَ كلهم من أبوين اثنين؛ هما: آدم عليه الصلاة السلام وزوجه حواء عليها السلام.
الثاني/ أنَّ الناسَ كلهم - وبدون استثناء - قبائلُ تفرعت من شعوب؛ فإذا قلنا أنَّ الشعوب هي: الأعراق؛ كالعرب والفرس والروم والهند والصين والزنج ونحوهم، فإنَّ القبائل هي: فروع تلك الأجناس؛ كقريش وبني تميم في العرب ، والأوزبك والقرقيز في الترك، والتوستي والهوتو في الزنج، ونحو ذلك.
ومن الشائع أنَّ العرب منذ القدم: إما عاربةٌ قحطانيون، أو مستعربةٌ عدنانيون. وكلاهما شَعبان تفرع منهما العديد من القبائل.
والعرب المستعربة: إما قديمةُ العروبة؛ كقبائل مضر وربيعة، أو حديثةُ العروبة؛ كقبائل بلاد الفتح الإسلامي في شمال وشرق أفريقيا من غير أبناء الفاتحين، أو متجددةُ العروبة؛ وهم كل متكلمٍ بالعربية منتسبٍ لبلاد العرب في جميع الأزمنة؛ ولو كانت أصوله القريبة غير عربية.
= أما قاطنوا الجزيرة العربية في الجاهلية: فكلهم قبائلُ تفرعت من شَعبي قحطان وعدنان، ولا يُساكنهم في جزيرة العرب من غيرهم إلا مواليهم؛ وهم: من جرى عليهم الرِّقُّ من عبيدهم وإمائهم؛ ممن باعهم النخاسة ( باعة العبيد ) فكانوا خدماً لمن اشتراهم.
= ومن هنا نشأ التقسيم الأول للقاطنين في الجزيرة - قبل الإسلام - إلى قبائل وموالي، مع أنَّ هؤلاء الموالي في الأصل لا يخرجون عن كونهم أفراداً من قبائل تفرعت من شَعبهم الأعلى؛ فُرساً كانوا، أو رُوماً، أو زِنجاً، ونحوهم.
= وأسباب الرق التي ترمي بهؤلاء في جحيم الاستعباد للبشر لا تعدو عن إما: الأسر والبيع في حال الحرب، أو السرقة من قبل النخاسين بالحيلة أو بالقوة في حال السلم.
= ثم بعد تحرير كثيرٍ من الموالي؛ بالعتق من أسيادهم مجاناً، أو: بالاتفاق معهم على شراء رقابهم منهم عن طريق المكاتبة؛ وهي: عوضٌ يدفعه العبد أو الأمة من كسبه يفتدي به نفسه؛ كما قال تعالى ( وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ )، أو: بأيٍ من سُبُلِ التحرير التي أنعم الله بها على عباده المسلمين؛ مثل كفارات: الأيمان، والجماع في نهار رمضان، وقتل الخطأ وشبه العمد، والظهار، ونحوها، فتكونت لأجل ذلك طبقةٌ ثالثةٌ في الجزيرة العربية هم الموالي المحررين من رقهم، ، وزاد من تنامي الطبقية في جزيرة العرب طروءُ طبقةٍ رابعة تكونت من عدة عوامل منها:-
1/ فرار العربي من قبيلته بسبب دينٍ أثقله أو دمٍ سَفَكَه؛ خوفاً من غُرمائه، واختياره الإقامةَ بعيداً عنهم؛ مُتَّخِذَاً لقباً غير لقبه الأصلي؛ إمعاناً في التخفي.
2/ ارتكاب العربي ذنباً يخشى فضيحته، فيهيم على وجهه حتى يُلقِيَ رحله في دارٍ لا يُعرَفُ بها، فيقطنها.
3/ هجرة العربي طلباً للرزق إلى ديارٍ بعيدة لا يعرفه فيها أحد؛ حتى إذا خطب من أهلها المكافئين له لم يزوجوه؛ لجهلهم بأصله، فيضطر للمصاهرة في غير قبائل تلك البلاد.
4/ اضطرار العربي للزواج من موالي بلده؛ إما: لمرضٍ أَلَمَّ به، أو: لعاهةٍ حسيةٍ أو معنويةٍ أحاطت به، أو: لفقره وعوزه وعجزه عن مهر أكفائه من النساء؛ فيهجره قومه لأجل ذلك.
5/ امتهان العربي لأيِّ حرفةٍ يراها قومه معابةً له وعاراً، فيمتنع قومه من تزويجه أو التزوج منه، فيضطر للمصاهرة في غيرهم.
6/ غلبة البخل على الرجل حتى يمنعه من أن يدفع مهر من تُكافئه نسباً، فينتقل لأجل ذلك إلى الزواج بغيرهن؛ فيتبرأ منه أهله ومن يكافئهم؛ كحال صاحب القضية التي ذكرتها أعلاه.
كل هذا زاد من تنامي الطبقات غير القبلية في مجتمع الجزيرة، حتى صاروا أغلبية في بعض المناطق.
= ولا يمكن لأحدٍ إنكارُ وجود الطبقية حتى بين أفراد الطبقة الواحدة؛ خصوصاً: بين الأغنياء والفقراء منهم، أو: مع تفاوت مستوى التعليم، أو: المنصب، أو: لون البشرة، ونحو ذلك، بل اتسع الخرق حتى صار في كل الطبقات مستوياتٌ أضحت طبقاتٍ في بعض المجتمعات، فنشأ في بعض البلدان ثلاثُ طبقاتٍ وأربعُ، بل وصلت حقيقتها في بعض الأقطار إلى ست طبقات لا يشعر بها الجميع لخفائها ومحدوديتها.
= وإذا عدنا لما سبق وقررناه من أنَّ جميع الناس نتجوا من أبوين اثنين هما آدم وحواء عليهما السلام، وأنَّ جميعهم - لولا مُسَبِّبَاتِ الطبقية - قد تفرعوا من قبائل انبثقت من شعوب؛ وأنَّ الغاية من ذلك التنوع في شعوبهم وقبائلهم هو ما جاء في قول الله جل ثناؤه ( لِتَعَارَفُوا )، وأنَّ الكرامة عند الله ليست لشَعبٍ على شَعب ولا لقبيلةٍ على أخرى؛ بدليل قوله سبحانه ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )، وأنَّ تقرير هذه الأحكام ليست نتاجاً من عقول البشر، بل ممن ختم الآية بقوله جل جلاله ( إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ).
= إنَّنا حين نستشعر ذلك كله - مُتجردين عن كل عصبيةٍ جاهلية - لَنَجزِمُ أنَّ المسلمين أكفاءٌ تتكافأ أنسابهم كما تتكافأ دماؤهم، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( إنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عِيبَةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ، النَّاسُ رَجُلانِ : مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ ؛ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ ) ، وإلى هذا الخُلُقِ آبَ عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه حيث قال: مَا بَقِيَ فِيَّ شيءٌ مِن أَخلاقِ الجَاهِلِيَّةِ، أَلا إِنِّي لا أُبَالِي أَيَّ المسلمين نَكَحتُ وَأَيَّهُم أَنكَحتُ.
= ومن اللائقِ أن نوضح أمرين هما:
1/ أنه كما يجوز لكلٍ مِنَّا أن يفخرَ بمآثره أو بأصوله، فإنه لا يجوز لأحدنا أن يُفَاخِرَ غيره منتقصاً إياه، ولا أن يطعنَ بعضنا في نسب بعض.
2/ كما أنَّه: لا يَلزَمُ أياً مِنَّا أن يُزَوِّج مَولِيَّتَهُ لأيِّ خاطبٍ، فإنه: لا يلزم أيضاً أن يُجبِرَ أَحَدُنَا غَيرَهُ على تزويجه؛ لأنَّ مبنى عقود النكاح على التراضي في الظاهر والباطن، ولذلك اعتبر في الفقه الإسلامي الفسخُ للعيوب الخفية، وَلِفَقدِ أيٍ من الزوجين ما اشترطه في الآخر أو عليه؛ لأنَّ ذلك مُخِلٌ بالغاية المشروعة من النكاح ( العشرة بالمعروف )؛ إذ من الشروط التي يشترطها الناس بكارة المرأة، فإذا ظهر للزوج أنَّ مخطوبته ثيباً: جاز له الفسخ ، وكذا: المرأة إذا اشترطت أن لا يتزوج عليها زوجها، أو لا ينقلها من بلدها، أو لا يمنعها من عملها: فإنَّ لها الفسخ؛ إذا خالف شرطها.
= والناس - اليوم - منهم: من يَعرِفُ إلى أيِّ القبائل ينتسب؛ حَضَرِيَّاً كان أو بدوياً، ومنهم: من لا يعرف قبيلته؛ ولا يضره ذلك. فإذا كان الرجل نسيباً، واشترط لتزويج مَولِيَّتَهُ كونَ الخاطب مثله: ساغ اشتراطه ، وله طلب الفسخ؛ إن تبين خلاف ما اشترطه، ولا يعني ذلك انتقاصَ الخاطبِ في دينه ولا في عرضه، بل إنَّ الرجلَ الحَقَّ إذا عَلِمَ أنَّه غيرُ مرغوبٍ فيه - من مخطوبته أو من أهلها - لأيَّ عارضٍ: فإنَّه يأنفُ وينأى بنفسه عمن يتكبرُ عليه أو يَستَنكِفُ منه؛ كما فعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مع المرأة التي استعاذت منه ، فطلقها وكساها وألحقها بأهلها.
غير أنَّه لا ينبغي أن يُفتحَ البابُ على مصراعيه في موضوع الفسخ؛ حتى لا يُساءَ استخدامه، فيستغل ذلك ضعاف النفوس ومرضى القلوب في أكل أموال الناس بالباطل أو في الطعن بالأنساب ودعوى الجاهلية.
= فمن زَوَّجَ موليته على رجلٍ لا يُكافئها؛ وهو يعلم ، ورضيت به الزوجة: فلا وجه لفسخها منه.
= ومن فَرَّطَ في السؤال عن الخاطب حتى زَوَّجَهُ، ثم تبين له أمره بعد أن دخل بزوجته، ورضيت به: فلا فسخ حينئذٍ؛ وبخاصةٍ: إن كان بينهما ولد؛ لأنَّ ضرر الفسخ يتعدى إلى الولد؛ والضرر لا يُزال بالضرر.
= وليعلم كُلُّ ذي علاقة:
1/ أنَّ زواجَ العربي بمن لا تُكافئه نسباً لا يُؤثر في نسبه؛ لأنَّ الولد ينسب إليه لا إلى أمه؛ ولذلك تَسَرَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بجاريته ماريةَ القبطيةِ وأولدها إبراهيم، فما ضر الوالد ولا الولد نسب أم الولد رضي الله عنها. ولولا شرفُ هذا المثل لذكرت معه عشرات الأمثلة المشابهة، إذ في سادات قريش من أمهاتهم إماءٌ حبشيات أو سنديات أو روميات أو زنجيات، وما نقص ذلك من نسبهم.
2/ أنَّ تزويج الرجلِ مَولِيَّتَهُ ممن لا يُكافئها نسباً، مع توافر باقي ما يطلبه الولي في زوج موليته: لا يُؤَثِّرُ في نسبها سلباً؛ فولد البنت لا يُنسب لها ولا لأبيها، وإنما يُنسب لأبيه؛ ولذلك أمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة من الأنصار أن يُزَوِّجُوا أبا هندٍ رضي الله عنه؛ وكان حجاماً من مواليهم، كما أمر عبدَ الله بن جحشٍ القرشي أن يُزَوِّجَ زيدَ بنَ حارثة من أخته زينب، وكما زَوَّجَ أسامةَ بنَ زيدٍ من فاطمةَ بنتِ قيسٍ القرشية، وكما زَوَّجَ أبو حذيفة سالماً من هندٍ بنت الوليد بن عتبة القرشية وهو مولى امرأةٍ من الأنصار، وكما تزوج بلالُ بنُ رباح الحبشي من أخت عبد الرحمن بن عوف، ومن بنت أبي البكير من بني زهرة، ومن هند الخولانية التي مات عنها. رضي الله عن الجميع.
3/ أنَّ من تَزَوَّجَ بامرأةٍ نسيبةٍ - وهو من الموالي - لم يزد ذلك في نسبه، ولم يخفض.
= والمحصلة: أنَّ كلنا لآدم، وآدم من تراب، ولا فضل إلا بالتقوى، وأنَّ من أبطأ به عمله لم يُسرع به نسبه، ومن أسرع به عمله لم يُبطئ به نسبه.
= ويكفينا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ بِالأَحْسَابِ ؛ وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ .. ..) الحديث. لندرك أنَّ كلَّ ما كان من أمر الجاهلية خالصاً فهو مطروحٌ منبوذٌ عند الله ورسوله، وأنَّ النسيج الاجتماعي لأيِّ بلدٍ لا يقوى مع التفكك المبني على مخالفة النواميس الإلهية؛ فكم من نسيبٍ قد تبوأ مقعده من النار، في وقتٍ شهد الوحي لغيره بأنه من أهل الفردوس الأعلى من الجنة؛ وكفى بالفوز بها فخراً لا يُساميه فخر ولا يُجاريه مفاخر. والله الموفق
الفقير إلى عفو الودود ناصر بن زيد بن داود
http://www.cojss.com/article.php?a=49