الزغيبي
12-05-2011, 06:29 PM
مسائل قضائية
(4)
هل للمجني عليه أن يرجع على الجاني بما أنفقه من ثمن الدواء ، وأجرة الطبيب ونحوه ، إضافة إلى الأرش ؛ - إذا لم يتوفر الدواء والطبيب مجاناً – أم لا ؟
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال :
القول الأول :
ليس للمجني عليه أن يرجع على الجاني بما أنفقه من ثمن الدواء وأجرة الطبيب ونحوه ، وبه قال الإمام مالك(50)، واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم . قال – رحمه الله – : (( وأما .... نفقتـه تلـك المـدة [ أي مـدة العـلاج ] وأجـرة الطبيـب فـلا أعلـم اسـتحقاقه الرجـوع به على من دعمه)) (51) . وقال في فتوى أخرى : ((أنه بتأمل ما ذكر لم يظهر لنا أن الجاني يتحمل ما ينفقه المصاب على نفسه مدة مرضه )) (52) .
القول الثاني :
للمجني عليه أن يرجع على الجاني بما أنفقه من ثمن الدواء ، وأجرة الطبيب ونحوه، وهو قول عند المالكية (53)، رجحه الخرشي منهم(54)، وبه قال البهوتي في حاشية المنتهى والرحيباني من الحنابلة(55)، وإليه ذهب بعض المتأخرين(56) .
القول الثالث :
للمجني عليه أن يرجع على الجاني بما أنفقه من ثمن الدواء ، دون أجرة الطبيب ، وبه قال بعض الشافعية(57) .
الأدله :
يمكن الاستدلال لأصحاب القول الأول بأدلة منها :
1 ـ قياس ما ليس فيه مقدر على ما فيه دية أو مقدر شرعاً ، فكما أنه لا يلزم الجاني فيما فيه دية أو مقدر شرعاً سوى المقدر ، فكذلك لا يلزم إلا الأرش فيما لا مقدر فيه .
وقد حكى الدسوقي وغيره من المالكية الاتفاق على أن ما فيه مقدر لا يلزم الجاني غيره(58) .
2 ـ أنه وقع في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخلفاء الراشدون من بعده عدد غير قليل من الجنايات ، ولم ينقل عنهم سوى الحكم بالدية والمقدر فيما فيه مقدر ، والحكومة فيما لا مقدر فيه، ولم ينقل عنهم الحكم بثمن الدواء وأجرة الطبيب ونحوه، ولو وجد لنقل.
وأستدل أصحاب القول الثاني بأدلة منها :
1 - قاعدة (( الضرر يزال ))(59) ، وهذه القاعدة مفرعة من القاعدة الكلية (( لاضرر ولا ضرار ))(60) ،وأصلها قوله صلى الله عليه وسلم : (( لا ضرر ولا ضرار))(61) .
ووجه الدلالة :
أن الضرر جاء معرفاً ، فيعم كل ضرر ، ومن ذلك أجرة الطبيب ونحوه ، وثمن الدواء .
ويجاب عن ذلك بأن الضرر قد زال بالمقدر فيما فيه مقدر من الجنايات ، وبالأرش فيما لا مقدر فيه .
2ـ أن إيجاب أجرة الطبيب ونحوه ، ، وثمن الدواء من التعزير بالمال ، والتعزير بالمال مشروع(62).
ويجـاب عـن ذلك : بـأن التعـزيـر بالمال مختلف فيـه بين الفقهاء ، فلا يستدل بمختلف فيه على مختلف عليه ، والقائلين بالتعزير بالمال خصوه في حالات دون أخرى(63) ، ومع التسليم بمشروعية التعزير بالمال ، فإنه لا يلزم في كل جناية ؛ فضلاً عن جناية الخطأ ، والتعزير مجاله واسع ، ولا يقتصر على المال فقط ، والمسألة هنا ليست في التعزير وإنما في الضمان وفرق بين المسألتين .
3 - إن مقتضى العدل وإحقاق الحق يقتضي المماثلة بين التعويض والضرر ، ومقتضى المماثلة التعويض عن جميع الضرر(64) ، ومن ذلك ما خسره المجني عليه ثمناً للدواء وأجراً للطبيب ونحوه .
ويجاب عن ذلك أن العدالة قد تحققت بالمقدر شرعاً فيما فيه مقدر ، وبالأرش فيما لا مقدر فيه.
واستدل أصحاب القول الثالث :
بأن أجرة الطبيب ونحوه قد دخلت في الأرش ، بخلاف ثمن الدواء(65).
ولم يظهر لي وجه للتفريق بين أجرة الطبيب ، وثمن الدواء .
الراجح ووجه الترجيح :
من خلال ما سبق يترجح لي القول الأول ، وذلك لما يلي :
1 - للإجابة الواردة على أدلة القول الثاني .
2 - للأدلة المتوافرة على حرمة مال المعصومين ؛ إلا برضى نفس ، أو سبب مشروع.
وكتبه:
إبراهيم بن صالح الزغيبي _____________________________
(50) انظر : التاج والإكليل لمختصر خليل ، لمحمد بن محمد بن عبدالرحمن الحطاب ، دار الفكر، ج6، ص377؛ مواهب الجليل في شرح مختصر خليل ،محمد بن محمد بن عبدالرحمن الحطاب ، دار الفكر ، ج6، ص259.
(51) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم ، ج 11 ، ص 342 ، مسألة رقم 3543.
(52) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم ، ج11، ص 342، مسألة رقم 3542.
(53) انظر : حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ، محمد بن أحمد بن عرفه الدسوقي ، دار إحياء الكتب العربية ، ج3،ص460.
(54) انظر : شرح مختصر خليل ، محمد بن عبدالله الخرشي ، دار الفكر ، ج6، ص150.
(55) قال البهوتي : (( وإن لم تكن الجائفة مندملة ولا الموضحة نبت شعرها فعلى الجاني الحكومة مع أجرة الطبيب وثمن الخيط )) . حاشية المنتهى ، للبهوتي ، ج2 ، ص1298 ، وقال الرحيباني : (( لو فتق جائفة غير مندملة أو موضحة لم ينبت شعرها فعليه حكومة .... وعليه أجرة الطبيب وثمن الخيط )). مطالب أولى النهى ، للرحيباني ، ج6 ، ص133.
(56) انظر : نظرية الضمان أو أحكام المسؤولية المدنية والجنائية في الفقه الإسلامي ، د.وهبة الزحيلي ، دار الفكر المعاصر ، بيروت ، دار الفكر ، دمشق ؛ الفعل الضار والضمان فيه ، مصطفى أحمد الزرقا ، دار العلم ، دمشق ، دارة العلوم ، بيروت ، ط الأولى ،1409هـ .
(57) انظر : المهذب ، لأبي اسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي ، مصر ، ط2، 1379هـ ، ج2 ، ص201.
(58) انظر : حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ، الدسوقي ، ج3 ، ص460؛ حاشية الصاوي على الشرح الصغير ، لأبي العباس أحمد الصاوي ، دار المعارف ، ج4 ، ص381.
(59) انظر : الأشباه والنظائر ، للسيوطي ، ص83.
(60) انظر : المرجع السابق ؛ نظرية الضمان ، د. وهبة الزحيلي ، ص24-25، 204-205.
(61) أخرجه ابن ماجه ، في : باب من بنى في حقه ما يضر بجاره من كتاب الأحكام . سنن ابن ماجه ، ج2 ، ص784. والإمام مالك مرسلاً ، في : باب القضاء في المرفق ، من كتاب الأقضية . الموطأ ، ج2، ص745. والإمام أحمد ، في : المسند ، ج1 ، ص313 ،ج5 ،ص327.
(62) انظر : نظرية الضمان ، د. وهبة الزحيلي ، ص25. وانظر في مشروعية التعزير بالمال : الطرق الحكمية، لابن القيم ،ص224 وما بعدها ؛ الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ، بكر بن عبدالله أبو زيد ، دار العاصمة ، الرياض ، ط الثانية ، ص495 وما بعدها.
(63) انظر : الطرق الحكمية ، لابن القيم ، ص224.
(64) انظر : نظرية الضمان ، د. وهبة الزحيلي ، ص96.
(65) المهذب ، للشيرازي ، ج2 ، ص201.
(4)
هل للمجني عليه أن يرجع على الجاني بما أنفقه من ثمن الدواء ، وأجرة الطبيب ونحوه ، إضافة إلى الأرش ؛ - إذا لم يتوفر الدواء والطبيب مجاناً – أم لا ؟
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
فقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال :
القول الأول :
ليس للمجني عليه أن يرجع على الجاني بما أنفقه من ثمن الدواء وأجرة الطبيب ونحوه ، وبه قال الإمام مالك(50)، واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم . قال – رحمه الله – : (( وأما .... نفقتـه تلـك المـدة [ أي مـدة العـلاج ] وأجـرة الطبيـب فـلا أعلـم اسـتحقاقه الرجـوع به على من دعمه)) (51) . وقال في فتوى أخرى : ((أنه بتأمل ما ذكر لم يظهر لنا أن الجاني يتحمل ما ينفقه المصاب على نفسه مدة مرضه )) (52) .
القول الثاني :
للمجني عليه أن يرجع على الجاني بما أنفقه من ثمن الدواء ، وأجرة الطبيب ونحوه، وهو قول عند المالكية (53)، رجحه الخرشي منهم(54)، وبه قال البهوتي في حاشية المنتهى والرحيباني من الحنابلة(55)، وإليه ذهب بعض المتأخرين(56) .
القول الثالث :
للمجني عليه أن يرجع على الجاني بما أنفقه من ثمن الدواء ، دون أجرة الطبيب ، وبه قال بعض الشافعية(57) .
الأدله :
يمكن الاستدلال لأصحاب القول الأول بأدلة منها :
1 ـ قياس ما ليس فيه مقدر على ما فيه دية أو مقدر شرعاً ، فكما أنه لا يلزم الجاني فيما فيه دية أو مقدر شرعاً سوى المقدر ، فكذلك لا يلزم إلا الأرش فيما لا مقدر فيه .
وقد حكى الدسوقي وغيره من المالكية الاتفاق على أن ما فيه مقدر لا يلزم الجاني غيره(58) .
2 ـ أنه وقع في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخلفاء الراشدون من بعده عدد غير قليل من الجنايات ، ولم ينقل عنهم سوى الحكم بالدية والمقدر فيما فيه مقدر ، والحكومة فيما لا مقدر فيه، ولم ينقل عنهم الحكم بثمن الدواء وأجرة الطبيب ونحوه، ولو وجد لنقل.
وأستدل أصحاب القول الثاني بأدلة منها :
1 - قاعدة (( الضرر يزال ))(59) ، وهذه القاعدة مفرعة من القاعدة الكلية (( لاضرر ولا ضرار ))(60) ،وأصلها قوله صلى الله عليه وسلم : (( لا ضرر ولا ضرار))(61) .
ووجه الدلالة :
أن الضرر جاء معرفاً ، فيعم كل ضرر ، ومن ذلك أجرة الطبيب ونحوه ، وثمن الدواء .
ويجاب عن ذلك بأن الضرر قد زال بالمقدر فيما فيه مقدر من الجنايات ، وبالأرش فيما لا مقدر فيه .
2ـ أن إيجاب أجرة الطبيب ونحوه ، ، وثمن الدواء من التعزير بالمال ، والتعزير بالمال مشروع(62).
ويجـاب عـن ذلك : بـأن التعـزيـر بالمال مختلف فيـه بين الفقهاء ، فلا يستدل بمختلف فيه على مختلف عليه ، والقائلين بالتعزير بالمال خصوه في حالات دون أخرى(63) ، ومع التسليم بمشروعية التعزير بالمال ، فإنه لا يلزم في كل جناية ؛ فضلاً عن جناية الخطأ ، والتعزير مجاله واسع ، ولا يقتصر على المال فقط ، والمسألة هنا ليست في التعزير وإنما في الضمان وفرق بين المسألتين .
3 - إن مقتضى العدل وإحقاق الحق يقتضي المماثلة بين التعويض والضرر ، ومقتضى المماثلة التعويض عن جميع الضرر(64) ، ومن ذلك ما خسره المجني عليه ثمناً للدواء وأجراً للطبيب ونحوه .
ويجاب عن ذلك أن العدالة قد تحققت بالمقدر شرعاً فيما فيه مقدر ، وبالأرش فيما لا مقدر فيه.
واستدل أصحاب القول الثالث :
بأن أجرة الطبيب ونحوه قد دخلت في الأرش ، بخلاف ثمن الدواء(65).
ولم يظهر لي وجه للتفريق بين أجرة الطبيب ، وثمن الدواء .
الراجح ووجه الترجيح :
من خلال ما سبق يترجح لي القول الأول ، وذلك لما يلي :
1 - للإجابة الواردة على أدلة القول الثاني .
2 - للأدلة المتوافرة على حرمة مال المعصومين ؛ إلا برضى نفس ، أو سبب مشروع.
وكتبه:
إبراهيم بن صالح الزغيبي _____________________________
(50) انظر : التاج والإكليل لمختصر خليل ، لمحمد بن محمد بن عبدالرحمن الحطاب ، دار الفكر، ج6، ص377؛ مواهب الجليل في شرح مختصر خليل ،محمد بن محمد بن عبدالرحمن الحطاب ، دار الفكر ، ج6، ص259.
(51) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم ، ج 11 ، ص 342 ، مسألة رقم 3543.
(52) فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم ، ج11، ص 342، مسألة رقم 3542.
(53) انظر : حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ، محمد بن أحمد بن عرفه الدسوقي ، دار إحياء الكتب العربية ، ج3،ص460.
(54) انظر : شرح مختصر خليل ، محمد بن عبدالله الخرشي ، دار الفكر ، ج6، ص150.
(55) قال البهوتي : (( وإن لم تكن الجائفة مندملة ولا الموضحة نبت شعرها فعلى الجاني الحكومة مع أجرة الطبيب وثمن الخيط )) . حاشية المنتهى ، للبهوتي ، ج2 ، ص1298 ، وقال الرحيباني : (( لو فتق جائفة غير مندملة أو موضحة لم ينبت شعرها فعليه حكومة .... وعليه أجرة الطبيب وثمن الخيط )). مطالب أولى النهى ، للرحيباني ، ج6 ، ص133.
(56) انظر : نظرية الضمان أو أحكام المسؤولية المدنية والجنائية في الفقه الإسلامي ، د.وهبة الزحيلي ، دار الفكر المعاصر ، بيروت ، دار الفكر ، دمشق ؛ الفعل الضار والضمان فيه ، مصطفى أحمد الزرقا ، دار العلم ، دمشق ، دارة العلوم ، بيروت ، ط الأولى ،1409هـ .
(57) انظر : المهذب ، لأبي اسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي ، مصر ، ط2، 1379هـ ، ج2 ، ص201.
(58) انظر : حاشية الدسوقي على الشرح الكبير ، الدسوقي ، ج3 ، ص460؛ حاشية الصاوي على الشرح الصغير ، لأبي العباس أحمد الصاوي ، دار المعارف ، ج4 ، ص381.
(59) انظر : الأشباه والنظائر ، للسيوطي ، ص83.
(60) انظر : المرجع السابق ؛ نظرية الضمان ، د. وهبة الزحيلي ، ص24-25، 204-205.
(61) أخرجه ابن ماجه ، في : باب من بنى في حقه ما يضر بجاره من كتاب الأحكام . سنن ابن ماجه ، ج2 ، ص784. والإمام مالك مرسلاً ، في : باب القضاء في المرفق ، من كتاب الأقضية . الموطأ ، ج2، ص745. والإمام أحمد ، في : المسند ، ج1 ، ص313 ،ج5 ،ص327.
(62) انظر : نظرية الضمان ، د. وهبة الزحيلي ، ص25. وانظر في مشروعية التعزير بالمال : الطرق الحكمية، لابن القيم ،ص224 وما بعدها ؛ الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ، بكر بن عبدالله أبو زيد ، دار العاصمة ، الرياض ، ط الثانية ، ص495 وما بعدها.
(63) انظر : الطرق الحكمية ، لابن القيم ، ص224.
(64) انظر : نظرية الضمان ، د. وهبة الزحيلي ، ص96.
(65) المهذب ، للشيرازي ، ج2 ، ص201.