ناصر بن زيد بن داود
08-02-2009, 10:19 PM
قال تعالى { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ } .
عندما تهطل الأمطار الموسمية على شبه الجزيرة تنزلق ناحية الشرق في أخاديد قريبة من سطح الأرض لتصب في الخليج العربي ؛ عدا الأمطار التي تهطل مما يلي البحر الأحمر فتتجه غرباً .
وخلال تدفق هذه المياه نحو الخليج والبحر تصادف تجاويف أرضية ، فتنطلق عبرها مكونة ما يسمى بـ ( العيون ) في محافظات : الأفلاج ثم الخرج فالأحساء ، وهناك قامت واحات غناء منذ القدم وحتى زماننا هذا .
وكانت الحاجة لمياه العيون داخل هذه الواحات تشتد في فصل الصيف الذي يمتد لقرابة الستة أشهر لسقي أشجار النخيل والحمضيات ، أما في فصل الشتاء فتضعف الحاجة إلى المياه ، لتجد سبيلها مندفعة عبر قنوات الري نحو رمال الساحل الشرقي .
غير أن نفراً من الناس يجدون الفرصة مناسبة للاستفادة من وصول مياه العيون إلى أراضٍ لم تكن تصل إليها في فصل الصيف ؛ فيشرعون في حيازة أجزاء من الأراضي البور وإعدادها لزراعة القمح ، فإذا وصلت بواكير المياه الفائضة المسماة بـ ( الطوايح ) عدلوها لسقي تلك الحيازات التي تؤتي نتاجها قبيل أن تنقطع المياه عن أولئك الزراع ، عندما تعود حاجة أهل النخيل للسقي في أوائل الربيع .
أما في مناطق وسط الجزيرة فيزرع أهلها بعض الأراضي البور عند توافر مياه الأمطار ، ويسمى هذا العمل بـ ( البعل ) ، وهو في عرفهم لا يفيد التملك بل يفيد الاختصاص ؛ بحيث لا يمكن لزارعٍ جديدٍ أن يسبق الزارع الأول على البقعة التي زرعها في العام السابق ؛ إلا أن يرغب عن زراعتها فينتقل الاختصاص إلى الزارع الجديد .
وعندما باشرت العمل قاضياً في محكمة الجفر بالأحساء يوم السبت الموافق 9/ 5/ 1401هـ وجدت - فيما بقي فيها من أعمالٍ القاضي السلف - معاملة طلب حجة استحكام على أرض ( مزرع بر ) في قرية الجشة شرقي محافظة الأحساء ، يذكر صاحبها أن والده أحياها قبل عام 1345هـ ، حتى غاضت بعض العيون وندر تدفق المياه إلى أرض المزرع كما جرت العادة في فصل الشتاء ، فعاد المزرع أرضاً بيضاء خالية من الزرع الذي بدت آثاره للعيان على هيئة مساقي ومصارف .
ومع ذلك : فقد بقي المزرع في يد من استحوذ عليه مدة حياته ثم في يد ورثته ، بلا منازعة من أحد من أهل القرية .
وأحضر لدي - من البينات على صدق دعواه - أوراقاً رسمية قديمة مؤرخة في عام 1345هـ جاء فيها : أن والده يدفع زكاة مزروعاته في ذلك المزرع لإمارة الأحساء ، كما أحضر صك المجاور الغربي الصادر عام 1375هـ ، وفيه التحديد بذكر المزرع ومالكه ، وحضر للشهادة مع المنهي ثلاثة رجال شهدوا بتحديد المزرع وإحيائه من قبل مورث المنهين منذ خمس وأربعين عاماً .
وتطبيقاً للتعليمات طلبت تقريراً من هيئة النظر ، فأفادت بأن تصرف مورث المنهين يعد إحياءً في عرف أهل الأحساء ، فخرجت لمعاينة الموقع بصحبة الشهود ، فرأيت أن الأرض محاطة بأملاك قائمة من الجهات الشرقية والغربية والجنوبية ، أما الجهة الشمالية فيحدها مجرى نهر جاف ، فسألت الشهود عن حدود الأرض الأربعة ، فأشاروا إليها .
وكان شمالي الأرض مما يلي النهر مرتفع عن باقي الأرض ، فأعدت سؤال الشهود : هل رأيتم الأرض كلها محياة ؟. فقالوا : نعم!. فقلت لهم : سوف أحلفكم على ذلك ؛ لأن فيضان الماء لا يصل إليها ، وبعد تردد قالوا : رأينا الإحياء فيما انخفض من الأرض وهو الجزء الجنوبي ، أما ثلث الأرض الشمالي فهو مرتفع عن مستوى النهر فلم نره مزروعاً ؛ إلا أنه داخل في حيازة مورث المنهين ، فاستربت من الشهادة حينئذٍ ، وتوجه لي تحليف الشهود الثلاثة على الشهادة الأخيرة ، فحلفوا طبق ما طلبته منهم ، وحكمت بثبوت الملكية على الصفة المشهود بها .
عادت المعاملة من محكمة التمييز في المرة الأولى بثلاث ملحوظات شكلية ، وملحوظة رابعة نصها : " ذكر فضيلته بأنه قد جرى تحليف الشهود ، ولم يذكر مستنده في إحلافهم ، وما الحكم إذا نكلوا عن اليمين ".
كانت الملحوظة غريبة في جزئها الأخير ، ولذلك فقد أغفلتها ولم أجب عليها ، فعادت المعاملة وفيها : أن المسؤول عنه في الجزء الأول من الملحوظة معروفٌ لدى أعضاء الدائرة ، الذين استغربوا عدم الجواب عن الجزء الأخير بقولهم ( لا سيما وهي المهمة ) ، وأكدوا على لزوم ذلك .
فأعدت المعاملة شرحاً على خطاب التمييز بطلب الإفادة : هل المقام مقام استفتاء؟ ، أو مقام اختبار فقهي؟ ، أو أن المقام مقام تدقيق حكم منتهٍ بعث لتصديقه إن كان موافقاً أو نقضه إن كان مخالفاً ؟ ، فعادت المعاملة مقررة : أن ما أجبت به غير وجيه وغير مطابق ، وأن عليَّ الجواب أو إلغاء الحكم !!!.
عند ذلك كتبت لفضيلة رئيس محكمة التمييز خطاباً ذكرت فيه : أن الاستيضاح من القاضي لا يكون إلا عن نقاط تتعلق بالحكم كما في المادة (11) من لائحة تمييز الأحكام ، والسؤال المطلوب جوابه لا يتعلق بالحكم ، ولا تأثير له على الحكم سواء أجيب عنه أو لم يجب ؛ لحصول ما افترض عدم حصوله ، والافتراضات لا مكان لها في الأحكام .
ما كان من رئيس محكمة التمييز - رحمة الله عليه - إلا أن ضم قاضيين آخرين إلى أعضاء الدائرة الثلاثة السابقين ؛ ليكونوا خمسة ، فوردت المعاملة مصدقة بالإجماع بالقرار رقم 799/1 وتأريخ 30/ 6/ 1403هـ .
لعل القارئ الكريم يتساءل عن جواب الشق الأول من الملحوظة - حول مستندي في تحليف الشهود - ، وللبيان فقد كان جوابي بما نصه :
" إنه لا يخفى على أحدٍ من أهل العلم الحكم في هذه المسألة ، وإنارة لهذا الموضوع : فقد نقل ابن القيم رحمه الله في كتابه الطرق الحكمية عن ابن حزم أنه حكى القول بتحليف الشهود عن ابن وضاح ، وأنه قال : أرى لفساد الناس أن يحلف الحاكم الشهود . وهذا ليس ببعيد ، ثم نقل عن شيخ الإسلام : أن كل من قبلت شهادته للضرورة استحلف . ثم قال : وإذا كان للحاكم أن يفرق الشهود إذا ارتاب بهم فأولى أن يحلفهم إذا ارتاب بهم ." انتهى
ثم عقبت بذكر سبب الارتياب في الشهادة كما أوضحت بعاليه .
انتهى المقصود من القصة ، وللدخول في سبب إيرادها أقول :
إن فساد الناس في عصر ابن وضاح المالكي الأندلسي قبل أكثر من ألفٍ ومائتي عام ليس بأكبر من فسادهم في عصرنا هذا ، ولذلك فإن التشريعات القضائية في الدول العربية والإسلامية والأجنبية - على حدٍ سواء - قد أخذت بمبدأ تحليف الشاهد قبل أدائه الشهادة ؛ على الصورة التي قررها علماء المسلمين قبل اثني عشر قرناً من الزمان .
والتشريع القضائي اللازم تقريره في بلادنا اليوم : هو إلزام الشاهد باليمين على قول الحق والصدق في شهادته لا يخشى في ذلك لومة لائم ، ولا يكفي هذا فقط ، بل ينبغي فرض عقوبات على من كذب في شهادته لمصلحته أو لمصلحة أيٍ من الخصوم ، وإعلانها للناس حتى تكون رادعاً ومانعاً من شهادة الزور وقول الزور . والله أعلم
http://www.cojss.com/article.php?a=224
عندما تهطل الأمطار الموسمية على شبه الجزيرة تنزلق ناحية الشرق في أخاديد قريبة من سطح الأرض لتصب في الخليج العربي ؛ عدا الأمطار التي تهطل مما يلي البحر الأحمر فتتجه غرباً .
وخلال تدفق هذه المياه نحو الخليج والبحر تصادف تجاويف أرضية ، فتنطلق عبرها مكونة ما يسمى بـ ( العيون ) في محافظات : الأفلاج ثم الخرج فالأحساء ، وهناك قامت واحات غناء منذ القدم وحتى زماننا هذا .
وكانت الحاجة لمياه العيون داخل هذه الواحات تشتد في فصل الصيف الذي يمتد لقرابة الستة أشهر لسقي أشجار النخيل والحمضيات ، أما في فصل الشتاء فتضعف الحاجة إلى المياه ، لتجد سبيلها مندفعة عبر قنوات الري نحو رمال الساحل الشرقي .
غير أن نفراً من الناس يجدون الفرصة مناسبة للاستفادة من وصول مياه العيون إلى أراضٍ لم تكن تصل إليها في فصل الصيف ؛ فيشرعون في حيازة أجزاء من الأراضي البور وإعدادها لزراعة القمح ، فإذا وصلت بواكير المياه الفائضة المسماة بـ ( الطوايح ) عدلوها لسقي تلك الحيازات التي تؤتي نتاجها قبيل أن تنقطع المياه عن أولئك الزراع ، عندما تعود حاجة أهل النخيل للسقي في أوائل الربيع .
أما في مناطق وسط الجزيرة فيزرع أهلها بعض الأراضي البور عند توافر مياه الأمطار ، ويسمى هذا العمل بـ ( البعل ) ، وهو في عرفهم لا يفيد التملك بل يفيد الاختصاص ؛ بحيث لا يمكن لزارعٍ جديدٍ أن يسبق الزارع الأول على البقعة التي زرعها في العام السابق ؛ إلا أن يرغب عن زراعتها فينتقل الاختصاص إلى الزارع الجديد .
وعندما باشرت العمل قاضياً في محكمة الجفر بالأحساء يوم السبت الموافق 9/ 5/ 1401هـ وجدت - فيما بقي فيها من أعمالٍ القاضي السلف - معاملة طلب حجة استحكام على أرض ( مزرع بر ) في قرية الجشة شرقي محافظة الأحساء ، يذكر صاحبها أن والده أحياها قبل عام 1345هـ ، حتى غاضت بعض العيون وندر تدفق المياه إلى أرض المزرع كما جرت العادة في فصل الشتاء ، فعاد المزرع أرضاً بيضاء خالية من الزرع الذي بدت آثاره للعيان على هيئة مساقي ومصارف .
ومع ذلك : فقد بقي المزرع في يد من استحوذ عليه مدة حياته ثم في يد ورثته ، بلا منازعة من أحد من أهل القرية .
وأحضر لدي - من البينات على صدق دعواه - أوراقاً رسمية قديمة مؤرخة في عام 1345هـ جاء فيها : أن والده يدفع زكاة مزروعاته في ذلك المزرع لإمارة الأحساء ، كما أحضر صك المجاور الغربي الصادر عام 1375هـ ، وفيه التحديد بذكر المزرع ومالكه ، وحضر للشهادة مع المنهي ثلاثة رجال شهدوا بتحديد المزرع وإحيائه من قبل مورث المنهين منذ خمس وأربعين عاماً .
وتطبيقاً للتعليمات طلبت تقريراً من هيئة النظر ، فأفادت بأن تصرف مورث المنهين يعد إحياءً في عرف أهل الأحساء ، فخرجت لمعاينة الموقع بصحبة الشهود ، فرأيت أن الأرض محاطة بأملاك قائمة من الجهات الشرقية والغربية والجنوبية ، أما الجهة الشمالية فيحدها مجرى نهر جاف ، فسألت الشهود عن حدود الأرض الأربعة ، فأشاروا إليها .
وكان شمالي الأرض مما يلي النهر مرتفع عن باقي الأرض ، فأعدت سؤال الشهود : هل رأيتم الأرض كلها محياة ؟. فقالوا : نعم!. فقلت لهم : سوف أحلفكم على ذلك ؛ لأن فيضان الماء لا يصل إليها ، وبعد تردد قالوا : رأينا الإحياء فيما انخفض من الأرض وهو الجزء الجنوبي ، أما ثلث الأرض الشمالي فهو مرتفع عن مستوى النهر فلم نره مزروعاً ؛ إلا أنه داخل في حيازة مورث المنهين ، فاستربت من الشهادة حينئذٍ ، وتوجه لي تحليف الشهود الثلاثة على الشهادة الأخيرة ، فحلفوا طبق ما طلبته منهم ، وحكمت بثبوت الملكية على الصفة المشهود بها .
عادت المعاملة من محكمة التمييز في المرة الأولى بثلاث ملحوظات شكلية ، وملحوظة رابعة نصها : " ذكر فضيلته بأنه قد جرى تحليف الشهود ، ولم يذكر مستنده في إحلافهم ، وما الحكم إذا نكلوا عن اليمين ".
كانت الملحوظة غريبة في جزئها الأخير ، ولذلك فقد أغفلتها ولم أجب عليها ، فعادت المعاملة وفيها : أن المسؤول عنه في الجزء الأول من الملحوظة معروفٌ لدى أعضاء الدائرة ، الذين استغربوا عدم الجواب عن الجزء الأخير بقولهم ( لا سيما وهي المهمة ) ، وأكدوا على لزوم ذلك .
فأعدت المعاملة شرحاً على خطاب التمييز بطلب الإفادة : هل المقام مقام استفتاء؟ ، أو مقام اختبار فقهي؟ ، أو أن المقام مقام تدقيق حكم منتهٍ بعث لتصديقه إن كان موافقاً أو نقضه إن كان مخالفاً ؟ ، فعادت المعاملة مقررة : أن ما أجبت به غير وجيه وغير مطابق ، وأن عليَّ الجواب أو إلغاء الحكم !!!.
عند ذلك كتبت لفضيلة رئيس محكمة التمييز خطاباً ذكرت فيه : أن الاستيضاح من القاضي لا يكون إلا عن نقاط تتعلق بالحكم كما في المادة (11) من لائحة تمييز الأحكام ، والسؤال المطلوب جوابه لا يتعلق بالحكم ، ولا تأثير له على الحكم سواء أجيب عنه أو لم يجب ؛ لحصول ما افترض عدم حصوله ، والافتراضات لا مكان لها في الأحكام .
ما كان من رئيس محكمة التمييز - رحمة الله عليه - إلا أن ضم قاضيين آخرين إلى أعضاء الدائرة الثلاثة السابقين ؛ ليكونوا خمسة ، فوردت المعاملة مصدقة بالإجماع بالقرار رقم 799/1 وتأريخ 30/ 6/ 1403هـ .
لعل القارئ الكريم يتساءل عن جواب الشق الأول من الملحوظة - حول مستندي في تحليف الشهود - ، وللبيان فقد كان جوابي بما نصه :
" إنه لا يخفى على أحدٍ من أهل العلم الحكم في هذه المسألة ، وإنارة لهذا الموضوع : فقد نقل ابن القيم رحمه الله في كتابه الطرق الحكمية عن ابن حزم أنه حكى القول بتحليف الشهود عن ابن وضاح ، وأنه قال : أرى لفساد الناس أن يحلف الحاكم الشهود . وهذا ليس ببعيد ، ثم نقل عن شيخ الإسلام : أن كل من قبلت شهادته للضرورة استحلف . ثم قال : وإذا كان للحاكم أن يفرق الشهود إذا ارتاب بهم فأولى أن يحلفهم إذا ارتاب بهم ." انتهى
ثم عقبت بذكر سبب الارتياب في الشهادة كما أوضحت بعاليه .
انتهى المقصود من القصة ، وللدخول في سبب إيرادها أقول :
إن فساد الناس في عصر ابن وضاح المالكي الأندلسي قبل أكثر من ألفٍ ومائتي عام ليس بأكبر من فسادهم في عصرنا هذا ، ولذلك فإن التشريعات القضائية في الدول العربية والإسلامية والأجنبية - على حدٍ سواء - قد أخذت بمبدأ تحليف الشاهد قبل أدائه الشهادة ؛ على الصورة التي قررها علماء المسلمين قبل اثني عشر قرناً من الزمان .
والتشريع القضائي اللازم تقريره في بلادنا اليوم : هو إلزام الشاهد باليمين على قول الحق والصدق في شهادته لا يخشى في ذلك لومة لائم ، ولا يكفي هذا فقط ، بل ينبغي فرض عقوبات على من كذب في شهادته لمصلحته أو لمصلحة أيٍ من الخصوم ، وإعلانها للناس حتى تكون رادعاً ومانعاً من شهادة الزور وقول الزور . والله أعلم
http://www.cojss.com/article.php?a=224