المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : متى تلبس الهيئة عباءة شرطي أمن المال العام..؟



جميل السجايا
12-06-2011, 11:14 AM
مقال بجريدة الاقتصادية .
http://www.aleqt.com/2011/06/02/article_544702.html
متى تلبس الهيئة عباءة شرطي أمن المال العام..؟



د.يوسف بن أحمد القاسم -الاستاذ المشارك بالمعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية -
كل لص يتسلق البيت أو ينفذ من البوابة الخلفية، فيهتك حرمة البيت، ويصل للمال المحرز، فيخطفه ويهرب به، فإنه يستحق قطع اليد، وهذا ليس كما يظنه البعض مبالغة في العقوبة، ولكنها عقوبة منسجمة مع حجم الجريمة؛ لأن السارق بسرقته بيتاً، قد روع حياً بأكمله..! ولو كان ما سرقه لا يساوي إلا ربع دينار؛ فهو قد أدخل الهلع في النفوس، وروع ما في البيوت من الأطفال والنساء والذرية، وبسببه تكلف أهالي الحي، واشتروا المفاتيح والأقفال والكاميرات الأمنية ليحصنوا بيوتهم، ويحموا أبناءهم وأعراضهم وأموالهم، وهذا من الأسرار التي فَرّق لأجلها الشارع بين الغاصب والسارق؛ فالغاصب لم يجب عليه إلا التعزير- ولم يجب عليه قطع اليد- لأن الغاصب قد روّع فرداً، وذاك السارق قد روّعاً حياً أو بلداً برمته.

ولئن كان السطو على المال الخاص يشكل خطراً على أمن الناس، فإن السطو على المال العام لا يقل خطراً عنه، ولهذا يشرع تعزيره بما يردعه، ومن ذلك كف يده عن العمل، وأخذ الثروة غير المشروعة، وفضحه على الملأ إن استدعى الأمر، وغير ذلك من أساليب العقاب الرادعة؛ ليكون عبرة لغيره، ويشرع للعارفين به أن يفشوا سره؛ لئلا يتضخم الفساد، ويترهل في البلاد، وتصبح الأمانة هي الاستثناء، ولهذا جاء في حديث- فيه ضعف- عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - كان يقول:(من كتم غالاً، فإنه مثله) أي: مثله في الإثم. والغال هو الذي أخذ حصة من الغنيمة بلا علم الحاكم، والغال خائن لوطنه في لغة العرب، وفي لغة الشرع، كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم.

والمتضمخ من مال الدولة لا يستهدف مال الفرد، وإنما يستهدف مال كل فرد من أفراد الوطن، فيهتك حرمة مال الدولة بأكمله، مستغلاً سلطته وكرسي وظيفته في الوصول إلى مآربه وأطماعه، وكثيراً ما يصل صاحب السلطة إلى مال الدولة عبر وسائل في ظاهرها نظامية، لكنها في الواقع إما بتحايل- كما أشرت إليه في مقالي السابق- وإما بتوظيف النظام بما لا يخدم المصلحة العامة، كقصر المسؤول الانتداب عليه أو على بطانته، بحيث لا يقر له قرار، في انتدابات متواصلة، وتذاكر تنهال قيمها على حساباته الجارية أو الآجلة، فيقصر الانتداب على نفسه، ويتجاهل جل العاملين معه، وربما كانوا مثله في نفس الدرجة من الاختصاص، وربما كانوا أكثر خبرة، وقد يكونون أبرز منه في مجال التخصص، لكنه اختار أن ينفرد بأموال الدولة لنفسه أو لخاصته الذين معه، وكثير من الأعمال تكون السلطة في تحديدها وتحديد مهامها وتحديد وجهتها سلطة تقديرية للمسؤول، فيستغل هذه السلطة بصورة سلبية، فتتعدد أسفاره وتنشأ لجان لا أهمية لها، أو لها أهمية لكن أهميتها في اختيار رجالاتها، فينتهك ذلك كله لمصالح خاصة، وتهدر الأموال للمسؤول وحاشيته، وتتنامى الثروة بشكل غير مشروع. ويزيد العبث بأموال الدولة خبثا حين يحصل المسؤول على تذاكر السفر وعلى أموال الانتداب دون أن يسافر إلى مجال عمله، ويا ويله من علام الغيوب..!

ويتصاغر هذا السطو أمام من يسطو على المال العام عبر بوابة مبيعات ومشتريات الدولة، أو عبر بعض أموال ترسية المشروعات المتوسطة والكبرى، والتي ينهش فيها اللص الواحد ما ينهشه لصوص الانتدابات وأوامر الإركاب بمرات، وهنا يلتمس اللص المراوغ لنفسه رخصة، وهي رخصة تفتقر إلى رخصة..

إن اتساع دائرة السطو على المال العام - لا سمح الله - يكثف من وجود عصابات: ''شد لي واقطع لك''، أو عصابات: ''صوت لي وأصوت لك''، أو عصابات ''غمض لي وأغمض لك'' وهذه العصابات متى ظهرت على السطح، فإنها تمهد لوجود بيئة طاردة للأمناء، وجاذبة للعملاء والدخلاء، ويعظم الخطب حين يكون من هؤلاء من يرخي لحيته ويشمر ثوبه، ثم يطيل يده ويرخي جيبه، وما أعظم جريمة أكل مال الدولة عند الله تعالى..! فإن هذه الأموال المنهوبة لو صرفت في مجالها لانتفع بها العباد والبلاد والشجر والدواب، ولكن أكلة المال الحرام خطفوها، وفوتوا على الدولة رافدا من روافد التنمية، أو عاملاً من عوامل البناء، أو لقمة يسد بها رمق فقير، أو مصروف علاج يسد به حاجة مريض.

ولا ريب أن السطو على المال العام ينافي أمورا، من أبرزها، أنه: ينافي الشرع، وينافي النظام، وينافي الذوق والأخلاق، وينافي الوطنية.

فكل من يتشدق بالدين، أو بالنظام، أو بالأخلاق، أو بالوطنية، وهو ينهب المال العام فلا تصدقوه، فإنه كذاب، لأنه بسطوه.. خالف الدين، وخرق النظام، وطعن الأخلاق، واغتال الوطنية.

وأعتقد أن الجهات الأمنية بجهاتها الرقابية قد حققت على مدى وجودها القانوني عدداً من النجاحات في تطويق بعض هذه العصابات، وإسقاطها من كراسيها، وهذا لا يتحقق إلا باحتساب الموظفين جميعا؛ كي تحفظ أموال الدولة، لا أن تكون سيلاً يتدفق على أرصدة هؤلاء الجشعين، وما كوارث جدة وما تعلق بها من فساد، وما أعلن عنه من تحقيقات، وما احتف بها من محاكمات، إلا نموذجا بسيطا على هذا.

إن هيئة مكافحة الفساد وغيرها من الجهات الرقابية ما وضعت إلا لتلاحق أولئك الذين تجرأوا على المال العام أكثر من جرأتهم على مالهم الخاص. وعلى هيئة مكافحة الفساد أن تخلع عباءة البيروقراطية، وتلبس عباءة شرطي أمن المال العام، حتى تكافح الفساد في كل دائرة، وتلاحقه في كل زنقة..

إننا لا نريد لهؤلاء أن يشعروا بالأمان على تصرفاتهم، إذ إن أي شعور بالأمان يعني الانغماس في حمأة المال الحرام، وتمدد الفساد رأسياً وأفقيا في جسد الدولة - لا سمح الله - والله تعالى من وراء القصد.