المستشار الخاص
21-06-2011, 11:45 PM
الفتوى في الشأن الاجتماعي السعودي
عندما نتحدث عن الفتوى في الشأن الاجتماعي السعودي فمن المعلوم بداهة أننا نتحدث عن فتاوىً ارتبطت بنوازل اجتماعية تطلبت الفتوى فيها إعمال القواعد الشرعية ومقاصد الشريعة للحكم فيها، ولا نتحدث عن قضايا اجتماعية جاء النص بالقطع فيها، كمشروعية الجمع بين أربع زوجات ونحو ذلك.
وبعيداً عن التطويل في المقدمات التي تشرح طبيعة المجتمعات البشرية فإنني أدخل مباشرة في موضوع المقال الذي سيكون مقدمة لمقال آخر يتصل بموضوع "قيادة المرأة للسيارة"، وسأقدم بين يدي بعض الوقائع التاريخية والأمثلة المعاصرة التي سأنشط بها ذاكرتي وذاكرة القارئ الكريم تمهيداً موجزاً حول تأثير البيئة في الفتوى في الشأن الاجتماعي.
تأثير البيئة في الفتوى الاجتماعية:
تتأثر النفس البشرية بطبيعتها بما حولها في مجتمعها القريب ومجتمعها الذي تعيش فيه تعليماً ومشاركة في فعالياته ونشاطاته المختلفة، ومعلوم أن تشاكل البشر والنفوس مبني على التأثر المتبادل بين بعضها البعض، وهذا التأثر يظهر في كلام الناس وتصرفاتهم على نحوٍ تلقائي يصدق عليه أنه نتاج "لاوعيهم". وتتفاوت كل نفس في مقدار استقلاليتها عن التأثر بما يحيط بها والمحافظة على شخصيتها بتأثير عقلها "الواعي". ولذا لا تستغرب أن مفتياً مغربياً لا يهتم كثيراً ببعض المسائل الاجتماعية كـ "الدراسة المختلطة" أو "اللحية" مثلاً، مع كون تلك المسألة مما يكثر بحثها والتشنيع على مقترفها في دول الجزيرة العربية.
ولا أطيل كثيراً في هذا الأمر فهو معلوم لمن يتابع ويقرأ فتاوى المغاربة والمشارقة منذ قرون حتى يومنا هذا.
والآن آتي لبعض الأمثلة التاريخية من واقعنا المعاصر كما أشرت لذلك في مقدمة المقال..
المثال الأول : دخول أطباق الاستقبال الفضائي للسعودية
عندما بدأ البث الفضائي في العالم وبدأ دخوله للسعودية بشكل أكبر في منتصف التسعينيات حرم مشاهير المفتين في السعودية هذه الأطباق باعتبار ما تنشره، إلا أن الواقع العملي كان ينشر هذه الأطباق ويعزز وجودها في السعودية حتى وصل الحال إلى ما وصل إليه الآن..
ما الذي تغير في الفتوى الآن جراء هذا الواقع الاجتماعي الموجود؟
أصبح يفتي المفتي (وهذا حال أكثر المفتين الآن) بأن حرمة هذه الأطباق يرتبط بما سيستخدمه مقتنيها بها وأنه لا حكم لذات الأطباق وإنما الحكم لما تستخدم فيه.
المثال الثاني : دخول الانترنت للسعودية
دخل الانترنت للسعودية في أواخر تسعينيات القرن الماضي ولم يكن هناك وقت طويل لمداولة حكم هذا الدخيل، ولم يتوجه البعض لكبار المفتين لاستصدار فتاوىً بشأنه في وقت مبكر كما يحصل في بعض الأحيان، كما أن استخدام الإسلاميين له منذ البداية بشكل فاعل باعتباره أتاح لهم مساحة لا بأس بها للتعبير عن آرائهم التي لم يكن لهم أن ينشروها في الإعلام المحلي، كما استغلوه في جانب الدعوة إلى الله، فأنتج ذلك خلو الساحة من صراع يذكر حول حكم الانترنت، رغم ما يمكن أن يستخدم فيه هذا الدخيل الاستثنائي في عالم التواصل، بل تعامل الناس مع الانترنت بشكل تلقائي دون أي تهويل أو تجريم أو تفسيق أو تخوين.
وجميعنا نجزم اليوم أنه لو اتصل مستفتٍ بمفت وسأله عن حكم "الانترنت" فإن الجواب سيكون أن الأصل في الانترنت الجواز ويبقى أن الحكم يختلف بحال كل مستخدم فيما يستخدمه فيه.
المثال الثالث : الهاتف الجوال بالكاميرا
دخل الهاتف الجوال ذو الكاميرا للسعودية في عام 2004م وحرمه حينها قلة من المفتين، إلا أن الواقع العملي بالسماح باستيراد وبيع ذلك النوع من الهاتف الجوال لم يجعل لتلك الفتاوى مساحة كبيرة من الفاعلية والانتشار، ولذا لم يعد هناك من يحرم مثل هذا الجهاز وإنما ترتبط الفتوى بشكل استخدامه.
من خلال السرد التاريخي لهذه الأمثلة وتعاطي الفتوى مع هذه النوازل الاجتماعية فإننا نصل لحقيقة أن أي طارئ اجتماعي سينظر له المجتمع بعين الريبة والتوجس، وهذا أمر طبيعي في مجتمع محافظ يؤسس تعامله مع مستجدات الحياة على فكرة الحفاظ على المألوف والاستنكاف عن خوض الجديد حتى يترسخ شيوعه وانتشاره فيقدم المجتمع على التعاطي معه بأريحية وتلقائية. وهذا مجرد تفسيرٍ للفتوى المحافظة التي ترضخ لضغط اللاوعي الذاتي والمجتمعي وليس تبريراً لها. ولعل من الأمثلة الواضحة لذلك أن الشيخ الألباني - رحمه الله - وهو سلفي متشدد في مواقفه مع مخالفيه كان يستهزئ بفتوى علماء السعودية بتحريم قيادة المرأة للسيارة، وتفسير ذلك أن بيئة المجتمع هي التي دعت الشيخ الألباني – رغم سلفيته الراسخة – بالقول بجواز قيادة المرأة للسيارة واستغرابه الشديد لتحريم علماء السعودية لها (كما هو مسجل صوتياً).
أخيراً .. ماذا نظن أنه سيكون لو أرجأنا الحكم بالتحريم أو بالتحليل حتى يتعاطى المجتمع مع هذا المستجد ثم تقرير الحكم الشرعي (المصلحي) بناءً على أثره المشاهد؟
وإلى المقال القادم حول "قيادة المرأة للسيارة" وسيحتوي تطبيقاً للحكم الشرعي على الواقع الاجتماعي للمرأة في مجتمعنا.
والله الموفق،،،،
*عبدالآله الظاهري
عندما نتحدث عن الفتوى في الشأن الاجتماعي السعودي فمن المعلوم بداهة أننا نتحدث عن فتاوىً ارتبطت بنوازل اجتماعية تطلبت الفتوى فيها إعمال القواعد الشرعية ومقاصد الشريعة للحكم فيها، ولا نتحدث عن قضايا اجتماعية جاء النص بالقطع فيها، كمشروعية الجمع بين أربع زوجات ونحو ذلك.
وبعيداً عن التطويل في المقدمات التي تشرح طبيعة المجتمعات البشرية فإنني أدخل مباشرة في موضوع المقال الذي سيكون مقدمة لمقال آخر يتصل بموضوع "قيادة المرأة للسيارة"، وسأقدم بين يدي بعض الوقائع التاريخية والأمثلة المعاصرة التي سأنشط بها ذاكرتي وذاكرة القارئ الكريم تمهيداً موجزاً حول تأثير البيئة في الفتوى في الشأن الاجتماعي.
تأثير البيئة في الفتوى الاجتماعية:
تتأثر النفس البشرية بطبيعتها بما حولها في مجتمعها القريب ومجتمعها الذي تعيش فيه تعليماً ومشاركة في فعالياته ونشاطاته المختلفة، ومعلوم أن تشاكل البشر والنفوس مبني على التأثر المتبادل بين بعضها البعض، وهذا التأثر يظهر في كلام الناس وتصرفاتهم على نحوٍ تلقائي يصدق عليه أنه نتاج "لاوعيهم". وتتفاوت كل نفس في مقدار استقلاليتها عن التأثر بما يحيط بها والمحافظة على شخصيتها بتأثير عقلها "الواعي". ولذا لا تستغرب أن مفتياً مغربياً لا يهتم كثيراً ببعض المسائل الاجتماعية كـ "الدراسة المختلطة" أو "اللحية" مثلاً، مع كون تلك المسألة مما يكثر بحثها والتشنيع على مقترفها في دول الجزيرة العربية.
ولا أطيل كثيراً في هذا الأمر فهو معلوم لمن يتابع ويقرأ فتاوى المغاربة والمشارقة منذ قرون حتى يومنا هذا.
والآن آتي لبعض الأمثلة التاريخية من واقعنا المعاصر كما أشرت لذلك في مقدمة المقال..
المثال الأول : دخول أطباق الاستقبال الفضائي للسعودية
عندما بدأ البث الفضائي في العالم وبدأ دخوله للسعودية بشكل أكبر في منتصف التسعينيات حرم مشاهير المفتين في السعودية هذه الأطباق باعتبار ما تنشره، إلا أن الواقع العملي كان ينشر هذه الأطباق ويعزز وجودها في السعودية حتى وصل الحال إلى ما وصل إليه الآن..
ما الذي تغير في الفتوى الآن جراء هذا الواقع الاجتماعي الموجود؟
أصبح يفتي المفتي (وهذا حال أكثر المفتين الآن) بأن حرمة هذه الأطباق يرتبط بما سيستخدمه مقتنيها بها وأنه لا حكم لذات الأطباق وإنما الحكم لما تستخدم فيه.
المثال الثاني : دخول الانترنت للسعودية
دخل الانترنت للسعودية في أواخر تسعينيات القرن الماضي ولم يكن هناك وقت طويل لمداولة حكم هذا الدخيل، ولم يتوجه البعض لكبار المفتين لاستصدار فتاوىً بشأنه في وقت مبكر كما يحصل في بعض الأحيان، كما أن استخدام الإسلاميين له منذ البداية بشكل فاعل باعتباره أتاح لهم مساحة لا بأس بها للتعبير عن آرائهم التي لم يكن لهم أن ينشروها في الإعلام المحلي، كما استغلوه في جانب الدعوة إلى الله، فأنتج ذلك خلو الساحة من صراع يذكر حول حكم الانترنت، رغم ما يمكن أن يستخدم فيه هذا الدخيل الاستثنائي في عالم التواصل، بل تعامل الناس مع الانترنت بشكل تلقائي دون أي تهويل أو تجريم أو تفسيق أو تخوين.
وجميعنا نجزم اليوم أنه لو اتصل مستفتٍ بمفت وسأله عن حكم "الانترنت" فإن الجواب سيكون أن الأصل في الانترنت الجواز ويبقى أن الحكم يختلف بحال كل مستخدم فيما يستخدمه فيه.
المثال الثالث : الهاتف الجوال بالكاميرا
دخل الهاتف الجوال ذو الكاميرا للسعودية في عام 2004م وحرمه حينها قلة من المفتين، إلا أن الواقع العملي بالسماح باستيراد وبيع ذلك النوع من الهاتف الجوال لم يجعل لتلك الفتاوى مساحة كبيرة من الفاعلية والانتشار، ولذا لم يعد هناك من يحرم مثل هذا الجهاز وإنما ترتبط الفتوى بشكل استخدامه.
من خلال السرد التاريخي لهذه الأمثلة وتعاطي الفتوى مع هذه النوازل الاجتماعية فإننا نصل لحقيقة أن أي طارئ اجتماعي سينظر له المجتمع بعين الريبة والتوجس، وهذا أمر طبيعي في مجتمع محافظ يؤسس تعامله مع مستجدات الحياة على فكرة الحفاظ على المألوف والاستنكاف عن خوض الجديد حتى يترسخ شيوعه وانتشاره فيقدم المجتمع على التعاطي معه بأريحية وتلقائية. وهذا مجرد تفسيرٍ للفتوى المحافظة التي ترضخ لضغط اللاوعي الذاتي والمجتمعي وليس تبريراً لها. ولعل من الأمثلة الواضحة لذلك أن الشيخ الألباني - رحمه الله - وهو سلفي متشدد في مواقفه مع مخالفيه كان يستهزئ بفتوى علماء السعودية بتحريم قيادة المرأة للسيارة، وتفسير ذلك أن بيئة المجتمع هي التي دعت الشيخ الألباني – رغم سلفيته الراسخة – بالقول بجواز قيادة المرأة للسيارة واستغرابه الشديد لتحريم علماء السعودية لها (كما هو مسجل صوتياً).
أخيراً .. ماذا نظن أنه سيكون لو أرجأنا الحكم بالتحريم أو بالتحليل حتى يتعاطى المجتمع مع هذا المستجد ثم تقرير الحكم الشرعي (المصلحي) بناءً على أثره المشاهد؟
وإلى المقال القادم حول "قيادة المرأة للسيارة" وسيحتوي تطبيقاً للحكم الشرعي على الواقع الاجتماعي للمرأة في مجتمعنا.
والله الموفق،،،،
*عبدالآله الظاهري