الزغيبي
09-07-2011, 05:25 PM
مــن أعـــلام القـضـــــــاء
(1)
فضيلة الشيخ
إبراهيم بن عبدالعزيز الخضيري
رئيس محاكم منطقة القصيم سابقاً #
إعداد
إبراهيم بن صالح الزغيبي
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
نسبه ومولده :
فهو صاحب الفضيلة شيخي / إبراهيم بن عبدالعزيز بن عبدالله بن سليمان بن حمد بن محمد بن سليمان بن حمد بن سليمان بن مانع الخُضَيري ، بضم الخاء ، وفتح الضاد ، من آل أبو حسين من بني العنبر من بني عمرو من تميم . استوطن بعض أجداده حوطة سدير منذ أمد بعيد ، والخضيري لقب لجده مانع نسبة إلى أرض زراعية تقع شمال جنوبية سدير(1) تسمى بالخضيري .
رحل جده الخامس سليمان إلى الشقة (2) بمنطقة القصيم عام ألف ومائة وخمسين من الهجرة إثر نزاع ، واستوطن جده عبدالله البكيرية إحدى مدن القصيم ، وفي عام 1336هـ كان مولد الشيخ / إبراهيم في مدينة البكيرية . وجده لأمه سليمان بن محمد الهويرني من الوهبة من بني تميم .
عمل أبوه بالغوص ، ثم عمل بالتجارة فالزراعة ، وعمل الشيخ مع أبيه بالتجارة والزراعة ، وكان أبوه يدفع به ، وببعض إخوته لحضور حلق العلم ؛ إلا أن عمل الشيخ مع أبيه كان يستغرق جزءاً غير يسير من وقته .
طلبه العلم :
أخذ العلم عن جماعة من المشايخ ؛ الذين لمسو فيه قوة الحفظ ، وسرعة الفهم ، والنباهة ، والحرص على الطلب ، والأدب مع الشيخ ؛ كما يدل على ذلك ترشيحاتهم له ، ومن أبرز مشايخه فضيلة الشيخ / محمد بن مقبل آل مقبل ـ رحمه الله ـ قاضي البكيرية في وقته ؛ حيث قرأ عليه في صحيح الإمام مسلم وغيره ، وفضيلة الشيخ / عبدالعزيز بن عبدالله السبيل ـ رحمه الله ـ ؛ الذي خلف الشيخ ابن مقبل في قضاء البكيرية ؛ وأكمل عليه قراءة صحيح مسلم ، وسمع منه شرح الزاد ، والآجرومية في النحو ، والفرائض ، وغيرها ، وفضيلة الشيخ / محمد بن صالح الخزيم ـ رحمه الله ـ الذي أتم على يديه حفظ القرآن وتجويده ، وفضيلة الشيخ/ محمد بن عثمان الشاوي ـ رحمه الله ـ الذي قرأ عليه بلوغ المرام وغيره ، وفضيلة الشيخ/ سليمان بن صالح الخزيم ـ رحمه الله ـ الذي قرأ عليه بلوغ المرام ، وعمدة الأحكام ، وغيرهم .
وقد حفظ الشيخ عدداً غير قليل من المتون في مختلف الفنون ؛ منها ثلاثة الأصول ، والقواعد الأربع ، ونواقض الإسلام ، وكتاب التوحيد ، وعمدة الأحكام ، وبلوغ المرام ، والأربعون النووية ، وزاد المستقنع ، ونظم المفردات ، والرحبية ، وملحة الإعراب ، والآجرومية ، وغيرها .
وكان من زملائه في الطلب أخـوه فضيلة الشـيخ / عبـدالله بن عبدالعزيز الخضيري (3) ـ رحمه الله ـ ، وفضيلة الشيخ / عبدالرحمن بن محمد المقوشي ـ رحمه الله ـ (4)، وغيرهما .
وعندما بلغ الشـيخ / إبراهيم ثلاث عشـرة سـنة طلب منه إمام مسـجد العُبيـد بالبكيريـة الشيخ / عبدالله بن محمد السبيل (5) أن يصلي عنه بالناس ـ بعد أن كبر سنه ـ فصلّى بهم . وعندما أتم الشيخ أربع عشرة سنة لقيه شيخه ابن مقبل في أحد الطرقات قبيل رمضان وقال له :
يا إبراهيم ستصلي بالناس التراويح في الجامع الكبير بالبكيرية ، وقد حدثني الشيخ / إبراهيم عـن ذلك فقـال : وكانـت القـراءة في التراويح عن ظهر قلب من أول القرآن ، ولم أكن أحفـظ إلا نصف القـرآن الأخير ، وعنـدما صليـت بالناس الفجـر في مسـجد العبيد في آخـر يوم من شعبان صعدت إلى سطح المسجد ، ولم أنزل منه إلا عندما زالت الشمس ، وقد حفظت الجزء الأول من القرآن عن ظهر قلب ، وقرأت به في صلاة التراويح في جامع البكيرية ، وهكذا فعلت في العشر الأولى من رمضان ، ثم وعكت فقرأت من المصحف حتى وصلت إلى ما كنت أحفظه ، فعدت إلى القراءة عن ظهر قلب ، وبعد نهاية رمضان أتممت حفظ القرآن ومراجعته في بضعة أشهر .
وعندما بلغ الشيخ / إبراهيم خمس عشرة سنة لقيه شيخه ابن مقبل ، وقال له : ستخطب يوم الجمعة في الجامع الكبير ، وكان ذلك بعد أن اعتذر الشيخ / محمد بن صالح الخزيم عن الخطابة ، فخطب فيه ، وكان الشيخ / إبراهيم أصغر خطيب يعلو منبر الجامع منذ إنشائه وحتى الآن ، واستمر على ذلك سنوات ، كما كان الشيخ أصغر من أَمّ الناس بجامع البكيرية في صلاة التراويح ، واستمر على ذلك حتى عين في سلك القضاء .
وقد احتسبت خطابة الشيخ في جامع البكيرية من ضمن خدماته الوظيفية ؛ إلا أنه لم يحتسب له ذلك إلا اعتباراً من تاريخ 1/1/1358هـ (6) .
توليته القضاء :
في أوائل عام 1371هـ طلب سماحة الشيخ/ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ـ رحمه الله ـ من قاضي بريدة سماحة الشيخ / عبدالله بن محمد بن حميد ـ رحمه الله ـ أن يبحث عن بعض طلبة العلم ممّن يصلحون لتولي القضاء ، فقـام الشـيخ ابن حميـد بسـؤال المشـايخ فـي مدن القصيم المختلفة ، وكان ممّن سأله الشيخ / عبدالعزيز بن عبدالله السبيل قاضي البكيرية ، فذكر له الشيخ / إبراهيم ، وأثنى عليه ، وصادف أن جلس الشيخ / إبراهيـم وكيلاً فـي إحـدى القضايا بيـن يـديّ سـماحة الشـيخ / ابن حميـد فأعجب به ، وكتب عنه لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم ، وعلى اثر ذلك صدر من الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ أمر يقضي بتعيين الشيخ إبراهيم قاضياً في ضرية (7)(8) ، وكان ذلك بتأريخ 1/11/1371هـ ، فاعتذر الشيخ إبراهيم عن ذلك لحاجة أبيه إليه ، فأخبره سماحة الشيخ ابن حميد أن عذره غير مقبول ، وأن عليه الطاعة ، فأطاع ، وباشر عمله قاضياً في محكمة ضرية .
وقد عين الشيخ إبراهيم في ضرية على المرتبة الرابعة براتب قدره أربعمائة ريالـ400ـ ، واستمر في العمل فيها مدة أربع سنوات وبضعة أشهر .
وفي منتصف عام 1376هـ قام الشيخ / إبراهيم يرافقه أمير ضرية بزيارة للملك فيصل ـ رحمه الله ـ عندما كان ولياً للعهد ، وكان قد خرج للنزهة في وقت ربيع وأمطار بالقرب من ضرية ، فلما سلم الشيخ على الأمير نعى إليه الأمير فضيلة الشيخ / عبدالرحمن بن ناصر السعدي ، وأخبره أنه توفي صباح ذلك اليوم (9) ، فاسترجع الشيخ ، وعزى الأمير بوفاة الشيخ ابن سعدي ، وحزن لذلك .
وبتاريخ 1/6/1376هـ صدر قرار من رئيس القضاة في نجد والمنطقة الشرقية وخط الأنابيب سماحة الشيخ / محمد بن إبراهيم يقضي بنقل الشيخ / إبراهيم إلى قضاء السليل على المرتبة الرابعة براتب قدره ألف وثلاثمائة وخمسة وسبعون ريالاً1375(10) وعلى إثر صدور قرار نقل الشيخ إلى السليل انطلق أعيان ضرية وتوابعها يتقدمهم أمير ضرية / محمد بن راشد الغريب ، وأمير مسكه وأمير الصمعورية إلى سماحة الشيخ / محمد بن إبراهيم يطالبون بشيخهم ، ويذكرون جهوده في إنهاء القضايا ، وسرعة الفصل في الخصومات ، وجهوده في الدعوة والتعليم ، فردهم سماحة الشيخ / محمد بن إبراهيم وقال لهم : إننا نريده لأكبر من ذلك .
وفي النصف الثاني من عام 1376هـ باشر فضيلة الشيخ إبراهيم عمله في قضاء السليل ، وأبدى براعة فائقة في القضاء ، وتميزاً في القضايا العقارية نتج عن ذلك انتدابه للفصل في عـدد من القضايا الشـائكة ؛ منها نظر النزاع الحاصل على ماء المستجد والفصل فيه ، وقد توجه إلى هذه المهمة بتأريخ 28/1/1382هـ ، كما فصل في عدد من القضايا في نمره التي انتدب إليها مدة شهر(11) .
كما انتدب إلى محكمة الوادي ، وعند انتهاء انتدابه تقدم حمود بن حقطان بن وثيله ومناحي بن هجرس الخريم ومترك بن الخضاري ورفقاؤهم بكتاب إلى سماحة رئيس القضاة الشيخ محمد بن إبراهيم (12) جاء فيه : (( إن مدة انتداب الشيخ إبراهيم الخضيري قد انتهت ، وأن الدموع هلت على هذا الرجل المخلص العامل الذي عُرف فيه كل عزم ونشاط ، وقوة في العمل ، وأنه يمكنه التمشي وفقاً لظروف أهل الوادي بعدالته وإنسانيته ، فلذا نرجو نقله إلى الوادي رسمياً )) .
ثم توالت الكتابات والبرقيات من أهالي الوادي يطالبون بنقل فضيلة الشيخ إبراهيم إليهم .
ولما علم أهالي السليل بمطالبات أهالي الوادي بدأت الكتابات والبرقيات تنهال على رئاسة القضاة تطالب ببقاء الشيخ لديهم ، ومنها برقية عبدالله بن خفران وجماعته لسماحة رئيس القضاة (13) المتضمنة أن الشيخ رجل منصف يسعى بين الأهالي بالصلح ، وإذهاب الشحناء والبغضاء ، ويسترحمون سماحة رئيس القضاة عدم قبول طلب من يطلب قاضيهم ؛ وبرقية أمير السليل محمد بن دليم المرفوعة لسماحة رئيس القضاة (14) والتي جاء فيها :
(( إن هذا الرجل (يعني الشيخ إبراهيم ) بصير عاقل عرف دعاويهم جميعها ، وطلب مني جميع أعيان السليل الرفع بمطلوبهم إعادته )) .
وقد رأى سماحة رئيس القضاة ـ رحمه الله ـ نقل فضيلة الشيخ إبراهيم إلى الوادي لوجود قضايا شائكة تحتاج إلى قاضي مثله ، فصدر قرار سماحته برقياً برقم 260/2/ ب ، في 25/2/1385هـ إلى فضيلة الشيخ إبراهيم المتضمن نقله إلى قضاء الوادي ، ثم أكد عليه ذلك ببرقيته الصادرة برقم 357/2/ ب ، في 14/3/1385هـ .
فأجاب الشيخ إبراهيم سماحة رئيس القضاة برقياً بتاريخ 17/3/1385هـ بما نصه : (( سمعاً وطاعة لأمر سماحتكم قد اعتمدنا ذلك )) (15) .
وكان الشيخ يرغب النقل إلى إحدى محاكم منطقة القصيم ، أو إلى الشمال كرفحا ولينه ، أو إلى المنطقة المحايدة (16) .
من قصص الشيخ في السليل :
وقبل أن نغادر مع الشيخ إلى الوادي نقف على بعض قصصه في السُّليِّـل ، وهي قصص فيها عبر ، وأقتصر على اثنتين منها ؛ الأولى :
حدثني بها الشيخ فقال : في عام 1378هـ أو قريباً منه استأذنت سماحة رئيس القضاة الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ للقدوم عليه ، فأذن لي . وقبيل المغرب توجهت بسيارتي من نوع فورد ونيت حمراء إلى الرياض يرافقني محضر الخصوم في المحكمة سعيد بن إبراهيم الصائغ ، وكانت السماء ملبدة بالغيوم ، فلما قطعت جزءً من الطريق ـ وكان الطريق ترابياً ـ عرض لي غزال فلحقت به ، ففاتني ، وعندما أردت العودة إلى الطريق أضعته ، ووقعت في شبكة طرق مقانيص تؤدي إلى الربع الخالي سرت فيها ، فلما مضى نصف الليل أو قريباً منه توقفت ، وتعذر علي الاستدلال بالنجوم بسبب الغيم ، وعند طلوع الفجر أدينا الصلاة ، ووضعت خطاً باتجاه القبلة ، فلما أسفر الصبح ، وكان الغيم قد انجلى بعضه تبين لي أننا صلينا جهة الشرق ، فأعدنا الصلاة ، ثم أخبرت صاحبي بأمر قد أهمني من الليل فقلت له يا سعيد لقد أوشك البنزين على النفاد ، فماذا ترى ؟ فقال لي : الرأي ما تراه . فعمدت إلى الكثبان المرتفعة أصعدها فإذا علوتها نظرت بالمنظار المُقرب لعلي أرى أحداً أو أعثر على أثر، فلا أرى شيئاً ، فعلت ذلك بضع عشرة مرة ، وفي المرة الأخيرة صعدت كثيباً ونظرت وقلت لصاحبي أبشر، فقال لي : بشرت بالجنة ، فأخبرته أنني أرى أثر أغنام ، ومسارح الغنم لا تكون بعيدة عن مرابضهـا ، فانطلقت إلى الأثر أقصّه حتى وقفنا على عدد من بيوت الشعر ، فقلت لصاحبي لا تتكلم ، ثم وقفت عند أكبرها وكان فيه خمسة رجال ، فسلمت وأنا في السيارة عليهم ، فردوه بمثله ، فسألتهم هل رأوا هذا الصباح ونيتاً أحمراً ؟ فقالوا : لا ، وظنوا أنني أسأل عن رفقة لي ، وأننا خرجنا للصيد ، ثم عرضوا علينا شرب القهوة فأجبناهم ، وتعرفت عليهم فتبين لي أنهم من جماعة.... ، وكنت قد حكمت بآبار لأهل الأفلاج اختصموا بها معهم ، ولم يكن من بينهم أحد ممن شارك في الخصومة ، فأخذت أتكلم عن الصيد ، فغلب على ظنهم أنني خرجت مع رفقتي للصيد ، ثم مددت رأسي لأنظر خارج البيت فتيقنوا أنني انتظر رفقتي ، وكنت قد رأيت أمام البيت سيارة بدأ لي أنها لم تتحرك منذ زمن، وبقربها برميل ممّا يوضع فيه البنزين ، فسألت عن السيارة فقالوا : متعطلة ، وسألني بعضهم هل تعرف إصلاحها ؟ فقمت إليها ، وتبين لي أنها بحاجة إلى بطارية ، واتكأت بيدي أثناء حديثي على البرميل ، ودفعت به قليلاً فتبين لي أن فيه النصف ، فطلبت من محدثي أن يبيعني تنكة منه ، فرفض فأضعفت له القيمة ، فباعني إياها ، فكانت عند صبها في سيارتي كالعسل على كبدي ، فطلبت منه أن يبيعني تنكة أخرى فرفض ، فأضعفت له القيمة ضعفين فرفض ، فقلت له لو حضر أحد من محبّي وأخبرته بما أعطيتني لأعطاك بدل التنكة اثنتين ، فطمع أن يعود إليه ضعف التنكتين دون مقابل ، بعد أن أخذ أكثر من ضعف ثمنهما ، فباعني تنكة أخرى ، وبقي علي معضلة الطريق الذي أضعت ، فطلب مني أحدهم أن يركب معنا لأوصله إلى بيوت بعض جماعته فسألته أهي على الطريق إلى الطريق العام ، فقال : نعم ، فركب معنا وبعد عشرين كيلاً تقريباً طلب النزول ، فنزل في مكان خال ، فسألته عن الطريق فقال : أمامك قريب فسرت أربعين كيلاً حتى وصلت إليـه ، فســرت معـه ، وبعـد زمن يسير قابلنـا أناس مـن أهالي السـليل ففرحوا برؤيتي ، وسألوني هل لي من حاجة ؟ فقلت : بنزين فملؤوا لي خزان الوقود ، ثم سرت فرأيت سدرة كبيرة ، فوقفت بالقرب منها ، وقلت لمرافقي جهز الغداء ، وأنا سأنام عند تلك الشجرة ، ولا توقظني حتى استيقظ ، وكان قد أجهدني التعب والسهر .
أما القصة الأخرى فقد حدثني بها خالد ابن الشيخ فقال : في ليلة شاتية تحلقت وبعض أسرتنا حول سمر أوقد ، وفجأة قصَّ أبي علينا قصة عجباً لم يقصها عليّ من قبل .
قال : عندما كنت بالسليل كان معي أبي فمرض ، فسافرت به إلى جدة لمراجعة طبيب ذكر لي هناك ، وفي اليوم التالي لوصولنا وصلتني برقية من السليل يخبرني مرسلها بوفاة أحد أبنائي فترقرق الدمع من عينيّ ، وكتمت حزني عن أبي ولم أخبره ، وفي اليوم الثاني وصلتني برقية أخرى يخبرني مرسلها بوفاة ابني الثاني ففاض الدمع من عينيّ وعظم حزني ، وفي اليوم الثالث وصلتني برقية ثالثة فوجل قلبي منها ، فلما قرأتها وجدت مرسلها يخبرني بوفاة ابني الثالث ، وكانت أعمار أبنائي بين ثلاث وخمس سنين ، وكانوا قد تعلقوا بيّ وتعلقت بهم ، ولهم في القلب منزلة ، فسال الدمع من عينيّ ، وقصدت البحر حتى لا يقرأ أبي ملامح الحزن على وجهي ، ووقفت على ساحله ليختلط ماء دمعي بمائه ، وكنت أجد رغبة قوية في القيء فأقيء دماً . قال محدثي : وقد شعرت بقشعريرة تسري ببدني وأبدان من حولي ، وترقرق الدمع من ماق البعض منا وسال من آخرين ، فرفعت رأسي لأسأل أبي عن أسماء إخوتي، فوجدت دمعه يجري على خدَّيه، فألجمني رهبة الموقف عن السؤال.
لقد كتم الشيخ حزنه على أبنائه في قلبه ، ولم ينسهم رغم مرور ما يقارب خمسين عاماً على ذلك .
1/3
وكتبه :
إبراهيم بن صالح الزغيبي
(1)
فضيلة الشيخ
إبراهيم بن عبدالعزيز الخضيري
رئيس محاكم منطقة القصيم سابقاً #
إعداد
إبراهيم بن صالح الزغيبي
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد :
نسبه ومولده :
فهو صاحب الفضيلة شيخي / إبراهيم بن عبدالعزيز بن عبدالله بن سليمان بن حمد بن محمد بن سليمان بن حمد بن سليمان بن مانع الخُضَيري ، بضم الخاء ، وفتح الضاد ، من آل أبو حسين من بني العنبر من بني عمرو من تميم . استوطن بعض أجداده حوطة سدير منذ أمد بعيد ، والخضيري لقب لجده مانع نسبة إلى أرض زراعية تقع شمال جنوبية سدير(1) تسمى بالخضيري .
رحل جده الخامس سليمان إلى الشقة (2) بمنطقة القصيم عام ألف ومائة وخمسين من الهجرة إثر نزاع ، واستوطن جده عبدالله البكيرية إحدى مدن القصيم ، وفي عام 1336هـ كان مولد الشيخ / إبراهيم في مدينة البكيرية . وجده لأمه سليمان بن محمد الهويرني من الوهبة من بني تميم .
عمل أبوه بالغوص ، ثم عمل بالتجارة فالزراعة ، وعمل الشيخ مع أبيه بالتجارة والزراعة ، وكان أبوه يدفع به ، وببعض إخوته لحضور حلق العلم ؛ إلا أن عمل الشيخ مع أبيه كان يستغرق جزءاً غير يسير من وقته .
طلبه العلم :
أخذ العلم عن جماعة من المشايخ ؛ الذين لمسو فيه قوة الحفظ ، وسرعة الفهم ، والنباهة ، والحرص على الطلب ، والأدب مع الشيخ ؛ كما يدل على ذلك ترشيحاتهم له ، ومن أبرز مشايخه فضيلة الشيخ / محمد بن مقبل آل مقبل ـ رحمه الله ـ قاضي البكيرية في وقته ؛ حيث قرأ عليه في صحيح الإمام مسلم وغيره ، وفضيلة الشيخ / عبدالعزيز بن عبدالله السبيل ـ رحمه الله ـ ؛ الذي خلف الشيخ ابن مقبل في قضاء البكيرية ؛ وأكمل عليه قراءة صحيح مسلم ، وسمع منه شرح الزاد ، والآجرومية في النحو ، والفرائض ، وغيرها ، وفضيلة الشيخ / محمد بن صالح الخزيم ـ رحمه الله ـ الذي أتم على يديه حفظ القرآن وتجويده ، وفضيلة الشيخ/ محمد بن عثمان الشاوي ـ رحمه الله ـ الذي قرأ عليه بلوغ المرام وغيره ، وفضيلة الشيخ/ سليمان بن صالح الخزيم ـ رحمه الله ـ الذي قرأ عليه بلوغ المرام ، وعمدة الأحكام ، وغيرهم .
وقد حفظ الشيخ عدداً غير قليل من المتون في مختلف الفنون ؛ منها ثلاثة الأصول ، والقواعد الأربع ، ونواقض الإسلام ، وكتاب التوحيد ، وعمدة الأحكام ، وبلوغ المرام ، والأربعون النووية ، وزاد المستقنع ، ونظم المفردات ، والرحبية ، وملحة الإعراب ، والآجرومية ، وغيرها .
وكان من زملائه في الطلب أخـوه فضيلة الشـيخ / عبـدالله بن عبدالعزيز الخضيري (3) ـ رحمه الله ـ ، وفضيلة الشيخ / عبدالرحمن بن محمد المقوشي ـ رحمه الله ـ (4)، وغيرهما .
وعندما بلغ الشـيخ / إبراهيم ثلاث عشـرة سـنة طلب منه إمام مسـجد العُبيـد بالبكيريـة الشيخ / عبدالله بن محمد السبيل (5) أن يصلي عنه بالناس ـ بعد أن كبر سنه ـ فصلّى بهم . وعندما أتم الشيخ أربع عشرة سنة لقيه شيخه ابن مقبل في أحد الطرقات قبيل رمضان وقال له :
يا إبراهيم ستصلي بالناس التراويح في الجامع الكبير بالبكيرية ، وقد حدثني الشيخ / إبراهيم عـن ذلك فقـال : وكانـت القـراءة في التراويح عن ظهر قلب من أول القرآن ، ولم أكن أحفـظ إلا نصف القـرآن الأخير ، وعنـدما صليـت بالناس الفجـر في مسـجد العبيد في آخـر يوم من شعبان صعدت إلى سطح المسجد ، ولم أنزل منه إلا عندما زالت الشمس ، وقد حفظت الجزء الأول من القرآن عن ظهر قلب ، وقرأت به في صلاة التراويح في جامع البكيرية ، وهكذا فعلت في العشر الأولى من رمضان ، ثم وعكت فقرأت من المصحف حتى وصلت إلى ما كنت أحفظه ، فعدت إلى القراءة عن ظهر قلب ، وبعد نهاية رمضان أتممت حفظ القرآن ومراجعته في بضعة أشهر .
وعندما بلغ الشيخ / إبراهيم خمس عشرة سنة لقيه شيخه ابن مقبل ، وقال له : ستخطب يوم الجمعة في الجامع الكبير ، وكان ذلك بعد أن اعتذر الشيخ / محمد بن صالح الخزيم عن الخطابة ، فخطب فيه ، وكان الشيخ / إبراهيم أصغر خطيب يعلو منبر الجامع منذ إنشائه وحتى الآن ، واستمر على ذلك سنوات ، كما كان الشيخ أصغر من أَمّ الناس بجامع البكيرية في صلاة التراويح ، واستمر على ذلك حتى عين في سلك القضاء .
وقد احتسبت خطابة الشيخ في جامع البكيرية من ضمن خدماته الوظيفية ؛ إلا أنه لم يحتسب له ذلك إلا اعتباراً من تاريخ 1/1/1358هـ (6) .
توليته القضاء :
في أوائل عام 1371هـ طلب سماحة الشيخ/ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ـ رحمه الله ـ من قاضي بريدة سماحة الشيخ / عبدالله بن محمد بن حميد ـ رحمه الله ـ أن يبحث عن بعض طلبة العلم ممّن يصلحون لتولي القضاء ، فقـام الشـيخ ابن حميـد بسـؤال المشـايخ فـي مدن القصيم المختلفة ، وكان ممّن سأله الشيخ / عبدالعزيز بن عبدالله السبيل قاضي البكيرية ، فذكر له الشيخ / إبراهيم ، وأثنى عليه ، وصادف أن جلس الشيخ / إبراهيـم وكيلاً فـي إحـدى القضايا بيـن يـديّ سـماحة الشـيخ / ابن حميـد فأعجب به ، وكتب عنه لسماحة الشيخ محمد بن إبراهيم ، وعلى اثر ذلك صدر من الملك عبدالعزيز ـ رحمه الله ـ أمر يقضي بتعيين الشيخ إبراهيم قاضياً في ضرية (7)(8) ، وكان ذلك بتأريخ 1/11/1371هـ ، فاعتذر الشيخ إبراهيم عن ذلك لحاجة أبيه إليه ، فأخبره سماحة الشيخ ابن حميد أن عذره غير مقبول ، وأن عليه الطاعة ، فأطاع ، وباشر عمله قاضياً في محكمة ضرية .
وقد عين الشيخ إبراهيم في ضرية على المرتبة الرابعة براتب قدره أربعمائة ريالـ400ـ ، واستمر في العمل فيها مدة أربع سنوات وبضعة أشهر .
وفي منتصف عام 1376هـ قام الشيخ / إبراهيم يرافقه أمير ضرية بزيارة للملك فيصل ـ رحمه الله ـ عندما كان ولياً للعهد ، وكان قد خرج للنزهة في وقت ربيع وأمطار بالقرب من ضرية ، فلما سلم الشيخ على الأمير نعى إليه الأمير فضيلة الشيخ / عبدالرحمن بن ناصر السعدي ، وأخبره أنه توفي صباح ذلك اليوم (9) ، فاسترجع الشيخ ، وعزى الأمير بوفاة الشيخ ابن سعدي ، وحزن لذلك .
وبتاريخ 1/6/1376هـ صدر قرار من رئيس القضاة في نجد والمنطقة الشرقية وخط الأنابيب سماحة الشيخ / محمد بن إبراهيم يقضي بنقل الشيخ / إبراهيم إلى قضاء السليل على المرتبة الرابعة براتب قدره ألف وثلاثمائة وخمسة وسبعون ريالاً1375(10) وعلى إثر صدور قرار نقل الشيخ إلى السليل انطلق أعيان ضرية وتوابعها يتقدمهم أمير ضرية / محمد بن راشد الغريب ، وأمير مسكه وأمير الصمعورية إلى سماحة الشيخ / محمد بن إبراهيم يطالبون بشيخهم ، ويذكرون جهوده في إنهاء القضايا ، وسرعة الفصل في الخصومات ، وجهوده في الدعوة والتعليم ، فردهم سماحة الشيخ / محمد بن إبراهيم وقال لهم : إننا نريده لأكبر من ذلك .
وفي النصف الثاني من عام 1376هـ باشر فضيلة الشيخ إبراهيم عمله في قضاء السليل ، وأبدى براعة فائقة في القضاء ، وتميزاً في القضايا العقارية نتج عن ذلك انتدابه للفصل في عـدد من القضايا الشـائكة ؛ منها نظر النزاع الحاصل على ماء المستجد والفصل فيه ، وقد توجه إلى هذه المهمة بتأريخ 28/1/1382هـ ، كما فصل في عدد من القضايا في نمره التي انتدب إليها مدة شهر(11) .
كما انتدب إلى محكمة الوادي ، وعند انتهاء انتدابه تقدم حمود بن حقطان بن وثيله ومناحي بن هجرس الخريم ومترك بن الخضاري ورفقاؤهم بكتاب إلى سماحة رئيس القضاة الشيخ محمد بن إبراهيم (12) جاء فيه : (( إن مدة انتداب الشيخ إبراهيم الخضيري قد انتهت ، وأن الدموع هلت على هذا الرجل المخلص العامل الذي عُرف فيه كل عزم ونشاط ، وقوة في العمل ، وأنه يمكنه التمشي وفقاً لظروف أهل الوادي بعدالته وإنسانيته ، فلذا نرجو نقله إلى الوادي رسمياً )) .
ثم توالت الكتابات والبرقيات من أهالي الوادي يطالبون بنقل فضيلة الشيخ إبراهيم إليهم .
ولما علم أهالي السليل بمطالبات أهالي الوادي بدأت الكتابات والبرقيات تنهال على رئاسة القضاة تطالب ببقاء الشيخ لديهم ، ومنها برقية عبدالله بن خفران وجماعته لسماحة رئيس القضاة (13) المتضمنة أن الشيخ رجل منصف يسعى بين الأهالي بالصلح ، وإذهاب الشحناء والبغضاء ، ويسترحمون سماحة رئيس القضاة عدم قبول طلب من يطلب قاضيهم ؛ وبرقية أمير السليل محمد بن دليم المرفوعة لسماحة رئيس القضاة (14) والتي جاء فيها :
(( إن هذا الرجل (يعني الشيخ إبراهيم ) بصير عاقل عرف دعاويهم جميعها ، وطلب مني جميع أعيان السليل الرفع بمطلوبهم إعادته )) .
وقد رأى سماحة رئيس القضاة ـ رحمه الله ـ نقل فضيلة الشيخ إبراهيم إلى الوادي لوجود قضايا شائكة تحتاج إلى قاضي مثله ، فصدر قرار سماحته برقياً برقم 260/2/ ب ، في 25/2/1385هـ إلى فضيلة الشيخ إبراهيم المتضمن نقله إلى قضاء الوادي ، ثم أكد عليه ذلك ببرقيته الصادرة برقم 357/2/ ب ، في 14/3/1385هـ .
فأجاب الشيخ إبراهيم سماحة رئيس القضاة برقياً بتاريخ 17/3/1385هـ بما نصه : (( سمعاً وطاعة لأمر سماحتكم قد اعتمدنا ذلك )) (15) .
وكان الشيخ يرغب النقل إلى إحدى محاكم منطقة القصيم ، أو إلى الشمال كرفحا ولينه ، أو إلى المنطقة المحايدة (16) .
من قصص الشيخ في السليل :
وقبل أن نغادر مع الشيخ إلى الوادي نقف على بعض قصصه في السُّليِّـل ، وهي قصص فيها عبر ، وأقتصر على اثنتين منها ؛ الأولى :
حدثني بها الشيخ فقال : في عام 1378هـ أو قريباً منه استأذنت سماحة رئيس القضاة الشيخ محمد بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ للقدوم عليه ، فأذن لي . وقبيل المغرب توجهت بسيارتي من نوع فورد ونيت حمراء إلى الرياض يرافقني محضر الخصوم في المحكمة سعيد بن إبراهيم الصائغ ، وكانت السماء ملبدة بالغيوم ، فلما قطعت جزءً من الطريق ـ وكان الطريق ترابياً ـ عرض لي غزال فلحقت به ، ففاتني ، وعندما أردت العودة إلى الطريق أضعته ، ووقعت في شبكة طرق مقانيص تؤدي إلى الربع الخالي سرت فيها ، فلما مضى نصف الليل أو قريباً منه توقفت ، وتعذر علي الاستدلال بالنجوم بسبب الغيم ، وعند طلوع الفجر أدينا الصلاة ، ووضعت خطاً باتجاه القبلة ، فلما أسفر الصبح ، وكان الغيم قد انجلى بعضه تبين لي أننا صلينا جهة الشرق ، فأعدنا الصلاة ، ثم أخبرت صاحبي بأمر قد أهمني من الليل فقلت له يا سعيد لقد أوشك البنزين على النفاد ، فماذا ترى ؟ فقال لي : الرأي ما تراه . فعمدت إلى الكثبان المرتفعة أصعدها فإذا علوتها نظرت بالمنظار المُقرب لعلي أرى أحداً أو أعثر على أثر، فلا أرى شيئاً ، فعلت ذلك بضع عشرة مرة ، وفي المرة الأخيرة صعدت كثيباً ونظرت وقلت لصاحبي أبشر، فقال لي : بشرت بالجنة ، فأخبرته أنني أرى أثر أغنام ، ومسارح الغنم لا تكون بعيدة عن مرابضهـا ، فانطلقت إلى الأثر أقصّه حتى وقفنا على عدد من بيوت الشعر ، فقلت لصاحبي لا تتكلم ، ثم وقفت عند أكبرها وكان فيه خمسة رجال ، فسلمت وأنا في السيارة عليهم ، فردوه بمثله ، فسألتهم هل رأوا هذا الصباح ونيتاً أحمراً ؟ فقالوا : لا ، وظنوا أنني أسأل عن رفقة لي ، وأننا خرجنا للصيد ، ثم عرضوا علينا شرب القهوة فأجبناهم ، وتعرفت عليهم فتبين لي أنهم من جماعة.... ، وكنت قد حكمت بآبار لأهل الأفلاج اختصموا بها معهم ، ولم يكن من بينهم أحد ممن شارك في الخصومة ، فأخذت أتكلم عن الصيد ، فغلب على ظنهم أنني خرجت مع رفقتي للصيد ، ثم مددت رأسي لأنظر خارج البيت فتيقنوا أنني انتظر رفقتي ، وكنت قد رأيت أمام البيت سيارة بدأ لي أنها لم تتحرك منذ زمن، وبقربها برميل ممّا يوضع فيه البنزين ، فسألت عن السيارة فقالوا : متعطلة ، وسألني بعضهم هل تعرف إصلاحها ؟ فقمت إليها ، وتبين لي أنها بحاجة إلى بطارية ، واتكأت بيدي أثناء حديثي على البرميل ، ودفعت به قليلاً فتبين لي أن فيه النصف ، فطلبت من محدثي أن يبيعني تنكة منه ، فرفض فأضعفت له القيمة ، فباعني إياها ، فكانت عند صبها في سيارتي كالعسل على كبدي ، فطلبت منه أن يبيعني تنكة أخرى فرفض ، فأضعفت له القيمة ضعفين فرفض ، فقلت له لو حضر أحد من محبّي وأخبرته بما أعطيتني لأعطاك بدل التنكة اثنتين ، فطمع أن يعود إليه ضعف التنكتين دون مقابل ، بعد أن أخذ أكثر من ضعف ثمنهما ، فباعني تنكة أخرى ، وبقي علي معضلة الطريق الذي أضعت ، فطلب مني أحدهم أن يركب معنا لأوصله إلى بيوت بعض جماعته فسألته أهي على الطريق إلى الطريق العام ، فقال : نعم ، فركب معنا وبعد عشرين كيلاً تقريباً طلب النزول ، فنزل في مكان خال ، فسألته عن الطريق فقال : أمامك قريب فسرت أربعين كيلاً حتى وصلت إليـه ، فســرت معـه ، وبعـد زمن يسير قابلنـا أناس مـن أهالي السـليل ففرحوا برؤيتي ، وسألوني هل لي من حاجة ؟ فقلت : بنزين فملؤوا لي خزان الوقود ، ثم سرت فرأيت سدرة كبيرة ، فوقفت بالقرب منها ، وقلت لمرافقي جهز الغداء ، وأنا سأنام عند تلك الشجرة ، ولا توقظني حتى استيقظ ، وكان قد أجهدني التعب والسهر .
أما القصة الأخرى فقد حدثني بها خالد ابن الشيخ فقال : في ليلة شاتية تحلقت وبعض أسرتنا حول سمر أوقد ، وفجأة قصَّ أبي علينا قصة عجباً لم يقصها عليّ من قبل .
قال : عندما كنت بالسليل كان معي أبي فمرض ، فسافرت به إلى جدة لمراجعة طبيب ذكر لي هناك ، وفي اليوم التالي لوصولنا وصلتني برقية من السليل يخبرني مرسلها بوفاة أحد أبنائي فترقرق الدمع من عينيّ ، وكتمت حزني عن أبي ولم أخبره ، وفي اليوم الثاني وصلتني برقية أخرى يخبرني مرسلها بوفاة ابني الثاني ففاض الدمع من عينيّ وعظم حزني ، وفي اليوم الثالث وصلتني برقية ثالثة فوجل قلبي منها ، فلما قرأتها وجدت مرسلها يخبرني بوفاة ابني الثالث ، وكانت أعمار أبنائي بين ثلاث وخمس سنين ، وكانوا قد تعلقوا بيّ وتعلقت بهم ، ولهم في القلب منزلة ، فسال الدمع من عينيّ ، وقصدت البحر حتى لا يقرأ أبي ملامح الحزن على وجهي ، ووقفت على ساحله ليختلط ماء دمعي بمائه ، وكنت أجد رغبة قوية في القيء فأقيء دماً . قال محدثي : وقد شعرت بقشعريرة تسري ببدني وأبدان من حولي ، وترقرق الدمع من ماق البعض منا وسال من آخرين ، فرفعت رأسي لأسأل أبي عن أسماء إخوتي، فوجدت دمعه يجري على خدَّيه، فألجمني رهبة الموقف عن السؤال.
لقد كتم الشيخ حزنه على أبنائه في قلبه ، ولم ينسهم رغم مرور ما يقارب خمسين عاماً على ذلك .
1/3
وكتبه :
إبراهيم بن صالح الزغيبي