مساعد محقق
18-08-2011, 01:00 AM
دكتور
أحمد لطفي السيد
كلية الحقوق – جامعة المنصورة
مقدمة
1- الإجراءات الجنائية وحقوق الإنسان : إشكالية الصراع :
إن تلاقي الإجراءات الجنائية بفكرة حقوق الإنسان ليس بالأمر المستغرب ، ذلك أن الهدف الأسمى لما نسميه بالإجراءات الجنائية هو صيانة جملة الحقوق التي تعترف بها القوانين الوطنية والمواثيق الدولية للإنسان من حيث كونه إنساناً. فمنذ أن حرم الأفراد سلطة إقامة قضاء خاص ، وحرم المجني عليه من حقه في الانتقام الفردي ، أخذت الدولة على عاتقها الالتزام بإقامة العدالة في المجتمع وحسن توزيعها على المواطنين ، وهو التزام ليس للدولة مكنة الوفاء به إذا لم تعمل على إعطاء الحقوق المقررة قانوناً للأفراد الفاعلية والنفاذ عملاً.
والحق أن التلاقي بين الإجراءات الجنائية - كأحد أدوات دولة القانون Etat de droit – وبين حقوق الإنسان قد يخلف وجه من أوجه التصادم أو التعارض ، بحسبان أن جل الإجراءات الجنائية قد تعطل ممارسة الحقوق الأساسية للفرد بغية الحفاظ على كيان المجتمع وتوقيه خطر الجريمة. فالقبض والحبس الاحتياطي ، والتفتيش ، والتحفظ على الأشياء وضبطها ، وكذا مراقبة المراسلات والاتصالات التليفونية ، جميعها إجراءات تمس بطائفة من الحقوق المستقرة للإنسان ، كحقه في التنقل ، وحقه في الملكية ، وحقه في الحياة الخاصة...الخ. فعنصر الدفاع عن حرية الفرد يقف متعارضاً ، منذ بدء الإجراءات الجنائية ، مع حق المجتمع في ملاحقة المجرمين للنيل منهم . فمهما كانت مناصرة المرء للحرية الشخصية وحقوق الإنسان ، فلا مندوحة من الاعتراف بأن هذه الحرية وتلك الحقوق لا يمكن أن تكون مطلقة في الحياة الاجتماعية. فمصلحة المجتمع تتطلب – في مجال إدارة العدالة الجنائية – بعض المساس بحرية الأفراد الشخصية وتقييد حقوقهم الإنسانية ، وخاصة من كان منهم متهماً بارتكاب جريمة.
بيد أن المجتمع كما يهمه عقاب المتهم والقصاص منه حال ثبوت الجرم في حقه ، يهمه أيضاً ألا يطول العقاب بريئاً ، لذا فقد توجب حال تنظيم الإجراءات الجنائية - في دولة القانون - مراعاة التنسيق بين مصالح المجتمع في صونه من الإجرام والحد من تفاقمه ، وبين حقوق وحريات الأفراد. وحال بلوغ هذا التوازن يمكن القول بأن التنازع بين حق الدولة في العقاب وحق المتهم في الحرية الفردية أصبح تنازعاً ظاهرياً يعبر عن وجهين لعملة واحدة ، بحسبان أن عقاب الجاني هو تأكيد للحرية الفردية للشخص البرئ . فالجماعة لا صالح لها إلا في التعرف على الحقيقة المجردة ، فهى لا تبغي توقيع العقاب على برئ ، الأمر الذي يوجب عليها حال ملاحقة المتهم ضماناً لأمنها واستقرارها التثبت من صحة الاتهام أو بطلانه .
فإذا كان الدور التقليدي لقانون الإجراءات الجنائية يتمثل في إدخال قانون العقوبات - فيما يتضمنه من نصوص تجريم وعقاب - حيز التطبيق ، إلا أنه يظل الهدف الأسمى لذاك القانون هو تقرير حماية للبرئ من إدانة ظالمة ، وكذا توكيد حماية للمتهم من إدانة تتأتى وفق إجراءات تمتهن فيها آدميته وكرامته الإنسانية . والثابت أنه لا يتيسر السبيل إلى ذلك إلا بتبني نظام إجرائي مركب القواعد يرسم من خلاله المشرع الحدود التي تقف عندها سلطة الدولة كي يبدأ مجال ما نسميه في الآونة المعاصرة "حقوق الإنسان" ؛ هذا السياج الذي لا يجب على الدولة انتهاكه بدعوى الحفاظ على مصالح مجتمعية معينة ضد خطر الجريمة (حال ممارسة الدولة لوظيفتها للضبط الإداري) ، أو بدعوى الرغبة في الكشف عن الجرائم ومرتكبيها (حال ممارسة الدولة لوظيفتها في الضبط القضائي). ففاعلية المكافحة ، وكذا حسن إدارة العدالة ، لا يجب أن تتأتى على حساب التضحية بالحريات الشخصية وسائر حقوق الإنسان المرتبطة بها .
2- الشرعية الإجرائية أداة لإدارة الصراع :
لا شك أن لتنظيم الإجراءات الجنائية مفترضات ومرتكزات لا يتسنى دونها وصف الهيكل القانوني للدولة بالمشروعية ، إذ هو يهوي حال إنكارها أو حال عدم تفعيلها نحو دكتاتورية الدولة والنيل من سيادة القانون. ويأتي احترام الشرعية الإجرائية Légalité procédurale – التي تقابل في أهميتها قاعدة شرعية الجرائم والعقوبات - كأحد أهم ما يجب أن تحرص عليه الدولة حال تنظيمها للإجراءات الجنائية. ولا يعلل هذا الأمر – على حد قول البعض – إلا لكون الشرعية الإجرائية أداة تنظيم الحريات وحماية حقوق الإنسان ، ولكونها ضمان للتوفيق بين فاعلية العدالة الجنائية واحترام الحرية الشخصية ، الأمر الذي يمكن من صياغة قانون إجرائي لحقوق الإٌنسان يمثل نموذجاً لما يجب أن يكون عليه قانون الإجراءات الجنائية في دولة القانون.
ورغم أن الشرعية الإجرائية أحد حلقات ثلاث تكون معاً مبدأ الشرعية الذي يسود القانون الجنائي عامة ، وهى بالأحرى حلقة تتوسط شرعية الجرائم والعقوبات Légalité des délits et des peines ، وشرعية التنفيذ العقابي أو شرعية تنفيذ الجزاء الجنائي Légalité de l’exécution des sanctions pénales ، إلا أنها تظل الترمومتر الذي يكشف عما إذا كان نشاط السلطة العامة إزاء حقوق وحريات الأفراد يباعد أم لا بينها وبين مفهوم الدولة البوليسية L’Etat de police .
وتبنى الشرعية الإجرائية على افترض براءة المتهم Présomption d’innocence في كل إجراء من الإجراءات التي تتخذ قبله منذ البدء في جمع الاستدلالات وحتى استنفاذ طرق الطعن في الأحكام ، وذلك من أجل ضمان الحرية الشخصية . ولم يكن هذا المعني ليغيب عن المشرع الدستوري المصري الذي نص في المادة 67 من الدستور الحالي لعام 1971 على أن " المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه". وهكذا فإنه إذا كانت الشرعية الإجرائية هى عماد البنيان الإجرائي على المستوى الجنائي ، فإن أصل البراءة المقرر للإنسان هو الركن الركين لتلك الشرعية ، ومن ثم وجبت لهذا الأخير الصدارة حال معالجتنا للعلاقة بين الإجراءات الجنائية وحقوق الإنسان (الفصل الأول).
على أنه لا تتكشف لنا حقيقة الصلة بين الإجراءات الجنائية وحقوق الإنسان إلا عند تحليل الضمانات القانونية المقررة للأفراد حال اتخاذ إجراءات جنائية ماسة أو مقيدة للحرية قبلهم. وهنا يتجلى لنا مقوم آخر من مقومات الشرعية الجنائية والمتمثل في ضرورة استناد الإجراءات الجنائية إلى نص قانون. فإذا كانت المصلحة الاجتماعية تقتضي الحد من حريات الأفراد من أجل المساهمة في كشف الحقيقة بشأن جريمة ما من الجرائم ، ومن أجل تسهيل ممارسة الدولة لحقها في العقاب ، إلا أن خطر المساس بتلك الحريات يجب أن يتعين له سياج من الضوابط ، يتاح للفرد العلم بها من خلال نصوص قانونية تقوم على سنها الهيئة التشريعية صاحبة الحق في التعبير عن إرادة المجموع. فالمشرع وحده – على حد قول محكمة النقض الفرنسية – هو الذي يملك تحديد الأحوال والشروط التي يجوز فيها المساس بالحريات الشخصية للأفراد .
وهذا الخطاب التشريعي الذي تعبر عنه نصوص قانون الإجراءات الجنائية لا شك يخاطب كافة سلطات الدولة ، على أنه عند الحديث عن ضمانات الحرية الشخصية يأتي مرفق الضبط القضائي على رأس المخاطبين باحترام الشرعية الإجرائية ، بما يوجب عليه التيقن من أن الإجراء الجنائي الماس بحريات الأفراد - والمزمع اتخاذه قبل أحدهم - قد توافرت بشأنه الشروط والضوابط التي تقررها القواعد القانونية. وهكذا يمكننا القول أن التنظيم الدقيق لعمل مرفق الضبط القضائي – وعلى رأسهم رجال الشرطة - في علاقته بالحريات الشخصية للأفراد هو استكمال لهيكل دولة القانون التي ينظر فيها للإجراءات الجنائية كأحد آليات حماية حقوق الإنسان ، ويلتزم فيها مرفق الشرطة حال ممارسته لمهمة الضبط القضائي بكافة عناصر وأركان الشرعية الإجرائية ، وعلى رأسها أصل البراءة في الإنسان ولو كان متهما ، وقاعدة أن القانون مصدر للإجراءات الجنائية (الفصل الثاني).
وعلى هذا فإن دراستنا للعلاقة بين الإجراءات الجنائية وحقوق الإنسان سوف تتوزع إلى فصلين على النحو التالي :
الفصل الأول : افتراض البراءة والشرعية الإجرائية
الفصل الثاني : الشرطة والشرعية الإجرائية
الفصل الأول
افتراض البراءة والشرعية الإجرائية
3- تمهيد وتقسيم :
سبق لنا القول أن افتراض البراءة في الإنسان ، حال اتخاذ إجراءات ماسة بحريته الشخصية أو حال خضوعه للاتهام من قبل سلطات التحقيق ، هو المرتكز الذي تقوم عليه دعائم الشرعية الجنائية في شقها الإجرائي ، بل لقد قيل أن قاعدة شرعية الجرائم والعقوبات التي تسود حال تطبيق القواعد الجنائية الموضوعية إن هى إلا تعبير عن ضمان افتراض البراءة في الإنسان ولو كان متهماً . فحماية الحرية الشخصية التي كفلتها الدساتير والمواثيق لا يتسنى بلوغها إلا إذا افترضت براءة من خضع لاتهام جنائي إلى أن تثبت إدانته في محاكمة عادلة تتوافر فيها كافة ضمانات القضاء العادل.
والحق أن افتراض البراءة "مبدأ سيادي" يهيمن على كافة مراحل الإجراءات الجنائية أياً كانت المرحلة التي تتخذ فيها ، بدءاً بمرحلة جمع الاستدلالات ، ومروراً بمرحلة التحقيق ، وانتهاءً بمرحلة المحاكمة. ولا يتسنى لنا التأكد من "سيادية" هذا المبدأ إلا بتتبع بناءه ، وذلك بالكشف عن التيار الفقهي الذي ناصره حتى جعله واقع ملموس في كافة التشريعات الجنائية المعاصرة (المبحث الأول) ، وكذا بتتبع أثاره وخاصة فيما يتعلق بعبء إثبات الاتهام وتقييم أدلة الإدانة ، وضرورة السماح للمتهم بالمساهمة في تدعيم براءته المفترضة (المبحث الثاني).
المبحث الأول
أصل البراءة في مرحلة البناء
4- أولاً : الظهور الوضعي للمبدأ :
يقصد بأصل البراءة كمبدأ عام من مبادئ الإجراءات الجنائية المعاصرة ضرورة معاملة من وجه له اتهام بارتكاب جريمة من الجرائم المنصوص عليها قانوناً باعتباره بريئاً حتى تثبت سلطة الاتهام بالدليل القانوني إدانته أمام محكمة مستقلة ومحايدة . فالجريمة تظل أمر استثنائي وخارق للناموس الطبيعي في حياة الفرد والمجتمع ، ومن ثم وجب على من يدعي وقوعها ونسبتها إلى شخص معين أن يثبت ذلك ، فإذا لم ينجح في إثبات ادعائه إثباتا قاطعاً ، تعين الإبقاء على الأصل. وينتج عن ذلك أنه لا يجوز بحال أن يكلف المتهم بإثبات براءته ، ذلك أنها أصل فيه.
والمؤكد أن مبدأ أصل البراءة ما نشأ إلا ثمرة كفاح طويل عاشته الإنسانية عبر رحلتها الطويلة. ففي وقت أن كانت الإنسانية تعيش عصورها الأولى سيطرت الأساطير والمعتقدات الدينية على طرق الإثبات الجنائي ، فأوجبت إخضاع الأفراد حال اتهامهم بارتكاب جريمة ما إلى عدد من الاختبارات القاسية (كالإمساك بالحديد المحمي ، أو وضع الأيدي في ماء مغلي...الخ) ، والتي تحمل في طياتها معنى افتراض الإدانة وأن المتهم هو المتحمل لعب إثبات براءته . ولم يكن يبرر اللجوء إلى تلك الوسائل البدائية في إثبات البراءة إلا اعتقاد الأولين أن تلك الاختبارات هى حكم الله Judicium Die ، وأن الآلهة لن تتخلى عن البرئ ، بل أنها سوف تتدخل لحماية جسده من تلك العذابات . وبمعنى آخر لم يكن هناك ما يشير في المحاكمات القديمة إلى وجود نظرة متسامحة مع المتهم ، بل الثابت أنه كان يقاسي صنوف العذاب التي تسد أمامه كل أمل في البراءة.
ولا مرية في أن قاعدة افتراض البراءة – خاصة في شقها المتعلق بالإثبات - تعود في مبتدئها الوضعي إلى الأصول الفقهية الرومانية التي سطرها شراح القانون الروماني ، ويدعم ذلك جملة القواعد التي جاءت بها مدونة جوستنيان فيما يتعلق بالإثبات الجنائي : ومنها قاعدة أن البينة على من ادعى ، وأن في المواد الجنائية يجب التأويل بالأرحم ، وأن المنكر لا يطلب منه الدليل ، وأن الأصل عدم اعتبار أحد مسيئاً ، وأن الدفاع عن المتهم مباح ، وأنه إذا عجز المدعي عن البينة برئت ساحة المدعى عليه .
وإذا كان تتبع تاريخ أصل البراءة في القانون الوضعي يكشف عن أن انجلترا تعد البلد الأم لهذا المبدأ بحسبانها مهد النظام الاتهامي ، إلا أن المؤكد أن تلك البلد لم تعرفه إلا في بدايات القرن التاسع عشر. فكما يكشف بعض الفقهاء الإنجليز أنه قبل تلك الفترة كان القانون الجنائي يمثل تناقضاً غريباً ، وأنه بدراسة الدعاوى الجنائية أو دعاوى الحق العام Pleas of the crowin يستبين لنا أنها كانت تحتوي على ما يمكن تسميته بتفاهات البراءة Platitudes of innocence ، والتي تبدو في ظهور براءة العديد من المتهمين بعدما يكون قد نفذت أحكام صادرة بالإعدام في حقهم أو بعد فوات مدد طويلة من سلب الحرية.
والمؤكد أنه طيلة حقبة القرن الثاني عشر سيطر نظام المسئولية المشتركة Frankpledge system على تنظيم الإثبات الجنائي في إنجلترا. ويبنى هذا النظام على فكرة الاتهام الفردي الذي كان يتولاه جيران المتهم بناء على معلوماتهم الشخصية مع إخضاع المتهم لعدد من الاختبارات والمحن الجسدية من أجل إثبات براءته. ومع مطلع القرن الثالث عشر بدأ التفكير في تشكيل جهة تتولى الإثبات الجنائي ، الأمر الذي كرسه قانون ونشستر Winchester عام 1285 ، الذي بموجبه يتولى مئة شخص عب ملاحقة المجرمين واثبات إدانتهم ، بحيث إذا ما فشلوا في ذلك تحملوا عبء تعويض الضرر الناشئ عن الجريمة (وعلى الأخص في جرائم السرقات) ، بل عدوا شركاء في الجرم إذا ما أهملوا واجبهم في إثبات الاتهام . ولما كان هذا القانون يفتح الباب أمام إثراء الأفراد على حساب الغير ويحمل أفراداً عبء المسئولية عن جرم لم يشاركوا حقاً فيه ، فقد رؤى التخفيف منه عام 1749 (أي بعد قرابة الخمسمائة عام) بأن تحدد مبلغ التعويض الذي يتحمل به هؤلاء المئة في حد أقصى لا يجوز بحال تجاوزه. وفي ذات الآونة تم اللجوء في إثبات الوقائع إلى هيئتين من المحلفين ، أحدهما كبري Grand Jury ويتولى الاتهام فيها قضاة ، والأخرى صغرى ، Petty Jury ويتولى شأن الاتهام فيها أفراد من الشعب. وفي ذلك وتلك لم تكن تفترض براءة المتهم ، وليس أدل على ذلك من حرمان المتهم من الاستعانة بمحام حتى في الجرائم الخطيرة ، وعدم أحقيته في العلم بتفاصيل التهمة الموجهة ضده ، وعدم أحقيته في الاستعانة بشهود نفي ، بحسبان أن هيئات المحلفين كانت تعمل باسم التاج ، وفي الاستعانة بشهود نفي ما يبرز عدم ولائهم لهذا الأخير. وعلى حد فقهاء ذلك العصر ، فإن التاج يعد حارساً للجماعة وأمنها ، وفي سبيل ذلك ليس بوسعه أن يقدم أية تنازلات للمتهم .
وبحلول منتصف القرن التاسع عشر بدأت أقلام الفقهاء الإنجليز تكرس هذا المبدأ ، حتى لقد صار المبدأ من قبيل "الحكمة" التي طالما واظب القضاة على ترديدها بقولهم أنه "خير للعدالة إطلاق سراح عشرة مذنبين من إدانة واحد قد يكون بريئاً"
It is a maxim of English Law that ten guilty men should escape rather than that one innocent man should suffer.
ويكفينا دليلاً على استقرار أصل البراءة كمبدأ من مبادئ القانون الإنجليزي في تلك الفترة أن نقارن بين التعبيرات التي كان يستخدمها القضاة فيما يتعلق بالإثبات حتى مطلع القرن التاسع عشر ، وبين ما بدأ التعارف عليه أواسط هذا القرن. فالملاحظ أنه وإلى حين بلوغ القرن التاسع عشر كان تفترض إدانة المتهم في بعض الأحوال. فها هو القاضي بست Best يقول في قضية R. v. Burdett عام 1820 : يجب ألا يفترض بدون دليل ، ويجب ألا نتخيل افتراض ذنب ضد المتهم عندما لا توجد أية بينة تشير إلى صحة الافتراض ، ولكن هناك أموراً دلت التجربة على أنه عند ثبوتها لابد أن أمراً آخر – ولو لم يثبت – يجب افتراض حدوثه. وكذا يؤكد القاضي هولرويد Holroyed في ذات الدعوى أنه وفقاً للقانون الإنجليزي يجب ألا يدان أي شخص بناءً على مجرد قرينة عارية Mere Naked Presumption ، غير أن أكثر الجرائم خطورة يمكن إثباتها بناءً على قرائن الإثبات فقط حتى لا يفلت مجرم من العقاب ، ومن المقرر كقاعدة عامة في الإثبات أن عبء الإثبات يقع على عاتق الشخص الذي يرغب في أن يدعم قضيته بناءً على واقعة معينة هو على علم بها على وجه الخصوص. ويؤمن على ذلك القاضي بيلي Bayley بقوله : أن الافتراضات يمكن أن يؤخذ بها في القضايا الجنائية ، وأن التجربة المستمرة تؤكد صحة الاعتماد عليها ، بل أن أكثر من نصف المتهمين تتم إدانتهم استناداً إلى قرائن الإثبات ، بحيث يقع على عاتق المتهم عبء إثبات براءته.
كل تلك الأقوال تكشف عن التوجه المتشكك للقضاء الإنجليزي من مبدأ اصل البراءة ، هذا التوجه الذي سرعان ما لبث أن تبدل منتصف القرن التاسع عشر ، وعلى الأخص عام 1865 ، في قضية R. v. White والتي خاطب فيها القاضي مارتن Martin هيئة المحلفين بقوله "إذا كانت هيئة المحلفين تريد أن تصل إلى قرار بالإدانة ، فإنه يجب عليها ألا تقرر الإدانة حتى تثبت إدانة المتهم وراء أي شك معقول ، وإذا كان كل ما يعتمد عليه في إدانة المتهم يقوم على مجرد الاحتمال ، فإن من واجبهم تبرئة المتهم". بتلك العبارات القليلة يكون قد ثبت من ذلك التاريخ رسوخ أصل البراءة في القانون الإنجليزي على وجه اليقين .
ولقد تبع القانون الأمريكي شقيقه الإنجليزي في رحلته التاريخية حول أصل البراءة. فكما يؤكد العديد من الفقهاء فإن غموضاً ظل يكتنف هذا المبدأ في القانون الأمريكي إلى أن ترسخ في عام 1803 مع بدء جلسات قضية Despard’s Case والتي خاطب فيها النائب العام المحلفين بقوله : "أن بشاعة الجريمة المرتكبة يجب ألا تخلق في أذهانكم أي نوع من الكراهية ضد المتهم ، بل على العكس ، يجب أن يكون ذلك حافزاً لكم لإعطائه أكبر قسط من العدالة يسمح به قانوننا ممثلاً في ذلك المبدأ المتسامح والمفيد ، وهو مبدأ افتراض براءة المتهم...وإنني لجد متأكد من أنكم...لن تقرروا إدانته ما لم تقنعكم البينات المقدمة إقناعاً جازماً بأنه مذنب".
ولم يكن القرن التاسع عشر يلفظ سنواته الأخيرة حتى تأكد هذا المبدأ في القضاء الأمريكي مرة أخرى في قضية William Plamer’s Case حين وجه القاضي اللورد كامبل نظر المحلفين إلى أنه : في تلك البلاد يجب أن تفترض براءة المتهم حتى تثبت إدانته ، وهى لا تثبت إلا بناءً على بينات مباشرة من قبل الاتهام ، وإذا لم تكن بينة الاتهام مقنعة إلى درجة تؤدي إلى الإدانة ، فإنه يجب أن تبرئ ساحة المتهم ، فيجب ألا تتقرر إدانته بناءً على الشبهات مهما كانت قوية...فإذا ثار أدنى شك معقول فإن من الواجب أن يعطى المتهم فائدة ذلك الشك.
ويكشف عن رسوخ هذا المبدأ في القضاء الأمريكي الحكم الذي أصدرته المحكمة الاتحادية العليا الأمريكية عام 1895 في قضية كوفن Coffin’s Case والذي قررت فيه برأي جماعي Dissenting opinion : أن افتراض البراءة هو مبدأ بديهي وأولي ، وأنه يجد سنداً له في الأساس الذي يقوم عليه إدارة القانون الجنائي. وفي ضوء ذلك فلا يمكن أن تتقرر الإدانة إلا بناءً على بينات واضحة تكاد تصل إلى درجة اليقين .
وقد يقال أن اعتناق القانون الفرنسي - ومن سار في فلكه - للنظام التنقيبي Système inquisitoire في الإجراءات الجنائية قد لا يدعم مبدأ أصل البراءة الذي تفتخر بلدان النظام الاتهامي Système accusatoire بأنها التي احتضنته في مهده حتى استقام على عوده في التشريعات المعاصرة. والحق أنه أياً ما كانت الفوارق بين النظامين السابقين من حيث كيفية تنظيم الإجراءات الجنائية فإن الدول التي أقرت النظام التنقيبي – ومنها فرنسا – قد ساندت مبدأ البراءة في الإنسان ، وكل ما يتحصل من فارق فيما يخص هذا المبدأ هو ظهورها في النظام الاتهامي كقاعدة تباشر أثرها في نقل عبء الإثبات إلى عاتق الاتهام ، وكذا في حماية الحرية الشخصية في المرحلة السابقة على المحاكمة : يفترض براءة المتهم فيما يتعلق بالإجراءات الماسة بالحرية الشخصية ، وكذلك يفترض براءته فيما يتعلق بعبء الإثبات. هذا التوسع في مجال أصل البراءة قد لا نراه بذات الحجم في دول النظام التنقيبي ، إذ لا يقام وزناً كبيراً للحرية الشخصية في مرحلة التحقيق السابقة على المحاكمة ، وذلك حين يسمح القانون باتخاذ بعض الإجراءات الماسة بحرية المتهم الشخصية وتغلب افتراض الجرم في الأخير . وقد لا يعلل النيل من مبدأ أصل البراءة في المرحلة السابقة على المحاكمة في دول النظام التنقيبي إلا لتغليب هذا النظام لمصلحة المجتمع فوق مصلحة المتهم. وهكذا لا يمكن القول بأن اعتماد النظام التنقيبي من شأنه التغاضي التام عن الأخذ بمبدأ أصل البراءة المفترض في الإنسان ، فها هى مرحلة المحاكمة تجمع من جديد جناحا النظم الإجرائية المعتمدة في العالم (النظام الاتهامي والنظام التنقيبي) في مسار إجرائي واحد بحيث لا يظهر فارق بين النظم ، اللهم إلا من حيث دور القاضي الجنائي ، الذي هو سلبي ومحايد في النظام الاتهامي وايجابي هو في النظام التنقيبي . فالنظم الإجرائية مهما توزعت أصبحت تعتمد عدة مبادئ تمثل ركيزة وعماد المحاكمة الجنائية ومنها : مبدأ افتراض البراءة في المتهم ، وشفوية المرافعة ، وكفالة حق المتهم في الدفاع ، وعدم إجبار المتهم على الكلام...الخ.
والحق أنه من الناحية التاريخية فإن القانون الفرنسي القديم والذي اعتمد النظام التنقيبي - والذي اعتنقته فرنسا منذ القرن الثالث عشر وتكرس في نظامها القانوني بموجب القار الصادر في عام 1670 - لم يكن يركز إلا على الوصول للحقيقة بأي ثمن كان ولو تأتى ذلك على حساب حرية المتهم وحقوقه ، ومن ثم سمح باتخاذ كافة الإجراءات التي من شأنها إثبات الذنب على المتهم ، الأمر الذي يتسنى معه القول بأنه قد افترض إذناب المتهم في كافة إجراءات التحري والتحقيق. فكان يسمح باستخدام التعذيب للحصول على الاعتراف بالتهمة ، وكان الاستجواب يتخذ كوسيلة للإرباك المتهم والتأثير عليه ، وسمح بأن يتولى القاضي بنفسه مهمة الاستجواب خروجاً على ما توجبه العدالة من فصل بين سلطتي التحقيق والحكم ، وكان المتهم يكلف بأداء القسم خروجاً كذلك على مقتضيات الحق في الدفاع. وكان الإثبات يتقيد بأدلة قانونية محصورة لا سبيل للقاضي حيالها أن يقيم اقتناع ذاتي. وفي ظل نظام هذا شأنه لم يكن هناك مجال لإعمال قاعدة تفسير الشك في صالح المتهم طالما أن القاضي ملزم بأن يقضي بالإدانة طالما توافرت أدلة قانونية معينة ، خروجاً كل ذلك على ما يجب للقاضي من حرية في تقدير الدليل . وبالجملة لم يكن يعرف القانون الفرنسي القديم افتراض براءة المتهم فيما يتعلق بالإجراءات الماسة بالحرية الشخصية ، فالأصل فيما يسبق المحاكمة كان افتراض الإدانة في المتهم. ولم يكن ينبع ذلك في حقيقته من نص قانوني بقدر ما يستنبط من طبيعة الوسائل المسموح باتخاذها في سبيل الوصول للحقيقة حول الواقعة الإجرامية ومرتكبيها.
ولم يكن لهذا النظام التعسفي أن يحيا كثيراً وقد بدأ فلاسفة القرن الثامن عشر - من أمثال فولتير (1689-1755) ومونتيسكيو (1686-1755) وروسو (1712-1778) - ينددون به ويدعون لاحترام كل مظهر من مظاهر الحرية الشخصية. وأمام هذه الحركة التنويرية التي قادها على المستوى الجنائي الماركيز الإيطالي سيزار دي بيكاريا (1738-1794) في مؤلفه العمدة "عن الجرائم والعقوبات" Die delitti e delle pene(1767) - والتي تبعتها ثورة فرنسية الموطن ، عالمية الصدى ، حفظت ودعمت للإنسان الكثير من حقوقه ، وأهمها حق الإنسان في افتراض براءته - صدر إعلان حقوق الإنسان والمواطن في 27 أغطس عام 1789 مقرراً في مادته التاسعة أن كل إنسان تفترض براءته إلى أن تثبت إدانته Tout homme étant présumé innocent jusqu'à ce qu’il ait été déclaré coupable. وامتثالاً لما تقرر في هذا الإعلان صدر قانون في 18 أكتوبر عام 1789 ملغياً كل ما كان مسموحاً به من قبل من انتهاكات جرى عليها العمل من قبل وفق النظام التنقيبي في مرحلتي التحري والتحقيق ، لولا الأحكام الدموية التي صدرت في 10 يونيو 1794 من المحاكم الثورية التي جعلت مما جاء بهذا القانون وما جاء بإعلان حقوق الإنسان والمواطن حبراً على ورق.
غير أنه يظل لهذا الإعلان قيمته القانونية ، ذلك أن قانونا الإجراءات الجنائية الفرنسي لعامي 1808 ، 1958 قد أغفلا النص على مبدأ أصل البراءة ، بما سمح بنشوء جدل قانوني حول قيمة هذا المبدأ في النظام القانوني الفرنسي . وقد انتهى هذا الجدل إلى وضع هذا المبدأ في مصاف المبادئ الدستورية ، ذلك بأن دستور الجمهورية الخامسة لعام 1958 قد تضمن في ديباجته النص على ما جاء من مبادئ في إعلان حقوق الإنسان والمواطن ، الأمر الذي يزيل كل شك حول استقرار مبدأ أصل البراءة في القانون الفرنسي ، بحسبانه دعامة النظامي الإجرائي التنقيبي.
5- ثانياً : التكريس الإسلامي لمبدأ :
آيا ما بدا من نشأة وضعية غربية لأصل البراءة ، إلا أنه من الثابت أن هذا الأخير مبدأ إسلامي النسب. فالقاعدة الشرعية توجب أن الأصل براءة الذمة ، تلك القاعدة التي يتسع مجال تطبيقها ليشمل ليس فقط المجال الجنائي ، بل كافة فروع القانون المختلفة . وفي مقام الاتهام تفترض براءة من توافرت في حقه دلائل على ارتكاب جريمة ، ذلك أنه إن لم تفترض تلك البراءة ، فسوف يكون المتهم مطالباً بإثبات موقف سلبي يتمثل في عدم ارتكابه للجريمة ، وهو أمر يتعذر في كثير من الأحول تحقيقه ، ويوصل إلى انعقاد المسئولية في حق شخص على أساس الظن ، بما يعارض قول ربنا عز وجل "وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ " ، وقوله عز من قائل "وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا" . ويتفرع عن ذلك أن البراءة شرعاً لا تزول بالشك ولا عقاب عند الظن ، مصداقاً لقول الرسول الكريم "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجاً فخلوا سبيله فإن الإمام يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة" .
ولقد أسس الفقه الإسلامي أصل البراءة على قاعدة استصحاب الحال ، أي بقاء كل شيء على ما كان حتى يوجد ما يغيره أو يثبت خلافه . فالأصل إذاً استدامة إثبات ما كان منفياً أو نفي ما كان منفياً ، أي بقاء الحكم إثباتا ونفياً حتى ينهض الدليل المغير . وفي ذلك يقول العلامة الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله "الاستصحاب يؤخذ به في قانون العقوبات ، وهو أصل فيه ، لأن الأمور على الإباحة ما لم يقم نص يثبت التجريم والعقوبة ، وأن قضية المتهم برئ حتى يقوم دليل على ثبوت التهمة...هى مبنية على الاستصحاب ، وهو استصحاب البراءة الأصلية". واعتماداً على هذا التأسيس استنبط الفقه الإسلامي قاعدة أن ما يثبت باليقين لا يزول إلا بيقين مثله ، ولا يزول بالشك .
ويتسنى لنا هنا القول أن النبع الحقيقي لمبدأ افتراض البراءة هو القانون الطبيعي الذي جبلت عليه فطرة الإنسان قبل هبوط الرسالات والعمل بالشرائع. هذه الفطرة التي نسجت وشكلت قاعد أن الأصل في الأشياء الإباحة ، وأن الاستثناء هو التجريم والعقاب ، واستنتاجاً من هذا يتعين النظر إلى الإنسان بوصفه بريئاً ، إلى أن يخرج من دائرة الإباحة إلى دائرة التجريم بحكم القضاء. فالإنسان بفطرته يدرك أن فاعلية إدارة العدالة الجنائية وصون الحرية الشخصية للأفراد لا يتأتيان إلا باستصحاب البراءة التي تقررت للفرد منذ ميلاده خلال كافة مراحل عمره وحتى ولو خضع خلالها إلى اتهام جنائي. ولعلنا نلمح صدق هذا التحليل في عبارات المحكمة الدستورية العليا حين قالت أن : "أصل البراءة قاعدة أولية توجبها الفطرة التي جبل الإنسان عليها ، وتقتضيها الشرعية الإجرائية ، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية ، وبوصفها مفترضاً أولياً لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة ، ليوفر بها لكل فرد الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل ، وكان افتراض البراءة لا يقتصر على الحالة التي يوجد الشخص فيها عند ميلاده ، بل يمتد إلى مراحل حياته حتى نهايتها ، ليقارن الأفعال التي يأتيها ، فلا ينفصل عنها باتهام جنائي أياً كان أو الأدلة التي يؤسس عليها...هذا الأصل كامناً في كل فرد سواء كان مشتبهاً فيه أم متهماً".
6- ثالثاً : التكريس المعاصر للمبدأ :
رغم ما يبدو لمبدأ افتراض البراءة في الإنسان - وإن صار متهماً - من بداهة تتسق والفطرة الطبيعية إلا أنه قد تعرض لنقد شديد من قبل العديد من الفقهاء ، بيد أن هذا النقد لم يفلح في النيل من سلامة هذا المبدأ ومن التوجه نحو تكريسه على المستوى التشريعي ، سواء في المواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان ، أو في الدساتير الوطنية على تنوعها. على أن هذه المقبولية يجب أن يتزاوج معها غطاء حمائي وتدعيم يفرضه المشرع كي لا يفرع مبدأ أصل البراءة من قيمته.
7- أ : المقبولية الفقهية للمبدأ :
لم يلقى مبدأ أصل البراءة مقبولية لدى البعض من الفقه ، ويأتي على رأس هؤلاء أنصار المدرسة الوضعية ، ويشاركهم البعض من الفقهاء المعاصرين توجهم الرافض.
8- أصل البراءة في فكر المدرسة الوضعية :
لاقى مبدأ افتراض البراءة نقداً شديداً من قبل أنصار المدرسة الوضعية ، لما رأوه من تعارض بين هذا المبدأ وبين فلسفتهم المعتمدة في تصنيف المجرمين ، والتي تبنى على الاهتمام بشخص المجرم أكثر مما تهتم بالواقعة الإجرامية ذاتها. فنفر من أنصار تلك المدرسة قد قال بفكرة المجرم بالميلاد ، وهم أولئك الأشخاص الذين يعود إجرامهم إلى تكوينهم الطبيعي أو البيولوجي ، كما ميزوا بين المجرمين بالعادة ، والمجرمين المجانين ، وآخرين بالصدفة ، والمجرمين بالعاطفة ، وأمام هذا التنوع قالوا بعدم إمكانية الأخذ بمبدأ افتراض البراءة إلا بالنسبة للمجرمين بالصدفة أو بالعاطفة دون بقية الطوائف ، الأمر الذي يتعارض مع عمومية انطباق المبدأ على كافة مرتكبي الجرائم كما يرى أنصار المدرسة التقليدية. وكما يرى أنريكو فيري (1856-1928) ، أحد أقطاب المدرسة الوضعية ، أن تعميم مبدأ أصل البراءة على كافة المجرمين من شأنه أن يؤدي إلى نتائج مبالغ فيها ، وعلى الأخص فيما يتعلق بمنحه حصانة غير مرغوب فيها لمرتكبي الجرائم وفيما يتعلق بالمغالاة في حماية المصلحة الشخصية للمجرم على حساب مصلحة المجتمع . كما قيل أنه لو فرض وسلمنا بافتراض البراءة فإن هذا لا يتصور إلا في مرحلة التحقيق الابتدائي ، حيث لم تثبت الأدلة بعد في حق المتهم على وجه اليقين ، وحيث لا تمثل تلك الأدلة إلا مجرد احتمالات أو ادعاءات ما زالت تعتريها الشبهة . هذا فضلاً عن أن قيمة هذا المبدأ لا تظهر – في رأي أنصار تلك المدرسة – إلا حينما تكون الأدلة ضد المتهم ضعيفة وافتراضية ، أما حين تكون الجريمة متلبس بها ، أو حينما يدلي المتهم باعتراف تفصيلي ، فإن قيمة هذا المبدأ تبدأ في التلاشي. فإذا أضيف إلى كل ذلك ما يكشف عنه الواقع العملي من أن الكثير من المتهمين تتقرر إدانتهم ، لثبتت المبالغة التي يقيمها الفقه لمثل هذا المبدأ .
والواقع أن الانتقادات التي قال بها أنصار المدرسة الوضعية تبدو مغالى فيها. فقولهم أن هذا المبدأ يعيبه أنه يسري على كافة المجرمين دون تمييز بين طوائفهم ، قول مردود عليه بأن التصنيف الذي اعتمدته تلك المدرسة إنما هو تقسم فقهي أكثر منه تقسيم علمي يستند إلى أسس علمية سليمة. وإذا فرض وقيل أن لهذا التصنيف سند من العلوم التجريبية ، فإنه لن يكون له قيمة إلا في مرحلة التفريد القضائي للجزاء وفي أعقاب ثبوت الإدانة ، أما بالنسبة للإثبات الإدانة ذاتها فإن مقتضى مبدأ أصل البراءة يفرض وجوب تطبيقه على كافة المتهمين دون تمييز. وفي ذلك مراعاة لمبدأ المساواة النابع مما تقتضيه قاعدة القانون من اتصافها بالعمومية والتجريد.
حقاً قد يستفيد بعض المذنبين من هذا الافتراض للبراءة ، ولكن العدالة تأبى أن يكون هناك أنموذجين في تطبيق القاعدة القانونية ، أحدهما يفترض براءة طائفة من المجرمين ، وأخرى تفترض إدانة طائفة أخرى ، ذلك أن مجال تطبيق كل من الأنموذجين لا يمكن تحديده إلا بعد صدور حكم قضائي نهائي يحدد من كان مذنباً ومن كان بريئاً. أما قبل صدور حكم قضائي يحدد مراكز المتهمين فيتعين أن تتوحد المراكز القانونية للجميع دون تمييز. وبهذا الفهم لا يصدق القول بأن مبدأ افتراض البراءة يمنح المجرمين نوعاً من الحصانة غير المرغوب فيها ، فالحق أنه يمنح الجميع حصانة ضد التعسف والحيف والاتهامات التي تنال من الحرية الفردية .
كما لا يصح الادعاء بأن هذا المبدأ لا يجد له قيمة حين تكون الجريمة في حالة تلبس ، أو عندما يدلي المتهم باعتراف تفصيلي ، ذلك أن مبدأ أصل البراءة لا يقتصر أثره على إلزام هيئة الاتهام بإثبات وقوع الجريمة ونسبتها إلى فاعلها فقط ، وإنما يفرض عليها ، إلى جانب ذلك ، معاملته على أساس أنه برئ طوال فترة الاتهام حتى تثبت إدانته ثبوتاً قطعياً لا شك فيه. وبدلالة أخرى ، فإن هذا المبدأ لا يهيمن فقط على مشكلة توزيع عبئ الإثبات ، وإنما يهيمن أيضاً على مشكلة أخرى ، لها النصيب الأكبر في مقام الإجراءات الجنائية ، ألا وهى مشكلة ضمان الحرية الفردية لمن تعرض لاتهام.
حقاُ إن ضبط المتهم في حالة تلبس يشكك في براءة المتهم ، الأمر الذي يبرر الخروج على بعض الأصول الكلية للإجراءات الجنائية فيما يتعلق بعمل مأموري الضبط القضائي كي يتمكنوا من الحفاظ على أدلة الجريمة وهى ساخنة ، غير أن ذلك لا يمكن له أن يدحض أصل البراءة المفترض ، الذي يظل محتفظاً بقيمته كاملة ، سواء من حيث دوره في صيانة الحرية الشخصية ، أو من حيث إلقاء عبء الإثبات على عاتق سلطة الاتهام. فلا يعدو التلبس إلا أن يكون قرينة بسيطة على صحة الأمر المدعى به من قبل تلك الأخيرة ، الذي قد يدحضها وجود سبب من أسباب الإباحة في حق من زعم نحوه بحالة التلبس ، أو تأكيد الأخير أن سبب ضبطه في تلك الحالة إنما محاولته إنقاذ الجني عليه الذي استغاث به ، أو مجرد تصادف وجوده في مكان الحادث .
وإذا كنا لا نجادل في أن اعتراف المتهم يمثل رأس الأدلة في مقام الإثبات الجنائي متى صدر عن إرادة حرة ، ومن شخص كامل الأهلية ، وكان واضح الدلالة على ارتكاب الجريمة أو المساهمة فيها ، إلا أن ذلك لا ينال من قيمة أصل البراءة المفترض في المتهم ، إذ تظل سلطة الاتهام مكلفة بعبء إثبات أن الاعتراف قد صدر مستكملاً عناصر مشروعيته كدليل للإدانة ، فضلاً عن تمتع المتهم بكامل الحماية التي يضفيها عليه افتراض براءته. وهذا كله لا يدعمه إلا لأن الاعتراف – مع سيادة مذهب الإثبات الحر - صار كغيره من الأدلة يخضع لتقدير محكمة الموضوع التي لها مطلق الحرية في تقدير صحته وقيمته القانونية ، بحيث يكون لها أن تطرحه كدليل مقدرة براءة المتهم .
ويكفينا رداً على قول أنصار المدرسة الوضعية أن الواقع العملي يكشف عن أن معظم من يتقرر اتهامهم تتأكد إدانتهم ، أن هذا القول بذاته حجة عليهم ، إذ هم يقرون هكذا أن بعض من يتقرر اتهامهم يقضى ببراءتهم ، الأمر الذي يؤكد ضرورة تمتع كافة المتهمين بأصل البراءة منذ توجيه الاتهام. فما دام أن العمل قد أثبت أن كثيرين قد ثبتت براءتهم بعض أن تعرضوا للاتهام وللحبس الاحتياطي ، فإنه من الأحوط ، إن لم يكن من الضرورة ، معاملة جميع المتهمين على أساس أنهم أبرياء إلى أن يقضى نحوهم بإدانة قاطعة . ولا يخشى حال ذلك أن يفلت بعض المذنبين من قبضة العدالة ، فتلك الأخيرة لا يؤذيها هذا الإفلات بقدر ما يؤذيها إدانة ظالمة لبرئ واحد . والقول بغير ذلك يدفع بالمجتمع نحو التضحية بالأبرياء في سبيل إدانة المذنبين ، الأمر الذي يمثل انتهاك للحرية وامتهان لكرامة الإنسان ، وفرض طابع تسلطي على مجمل الإجراءات الجنائية بحجة ، هى في مبدأها ومبناها واهية ، تسمى الدفاع عن المجتمع ضد الإجرام.
9- أصل البراءة في الفقه المعاصر :
وجه بعض الفقهاء المعاصرين سهام النقد لمبدأ اصل البراءة ، حتى أنهم وصفوه بالمبدأ ذو الطبيعة الخيالية أو المثالية utopique Caractère fictif ou فلدى هؤلاء أنه إذا كان هناك ما يدعم هذا المبدأ في الماضي ، إلا أنه ليس هناك ما يدعمه في الوقت الحاضر ، فميزان العدالة كان يميل في الماضي إلى جانب سلطة الاتهام على حساب مصلحة المتهم ، إلى أن تحسن مركز الأخير ونال الكثير من حقوقه ، حتى غدت مدونات الإجراءات الجنائية تنهض على أساس محاباة المتهم على حساب حقوق المجني عليه والمضرور من الجريمة ، الأمر الذي أخل في النهاية بالتوازن الواجب بين حقوق المتهم وما يتوجب للمجني عليه من حقوق . وينتهي هؤلاء للقول بضرورة أن يفسر الشك لصالح المجني عليه أو المضرور من الجريمة لا لصالح المتهم ، فمن الخيال ، بل من السخرية ، القول ببراءة هذا الأخير ثم إحالته للمحاكمة ، فأي برئ هذا الذي تجري محاكمته!؟ ولا يخشى – في رأي هؤلاء – التعسف نحو المتهم ، طالما أن الاتهام لا يسعى إلى الإدانة بل يسعى إلى الحقيقية سواء جاءت في صالح المتهم أم ضده ، وطالما تقرر حق الطعن في أحكام المحاكم الدنيا لدى رجات قضائية أعلى تسمح بتجنب الإدانة الظالمة.
والواقع أننا نجد لهذا النقد صدى في الفقه المصري ، وذلك حين قال البعض بعدم دقة افتراض البراءة لتعارضه مع واقعة الاتهام ذاتها ومع الإجراءات الماسة بالحرية كالقبض والتفتيش والأمر بالحبس الاحتياطي ، وهى إجراءات لا يتسنى اتخاذها إلا قبل من توافرت دلائل قوية في حقه على الاتهام بارتكاب الجريمة ، فإذا قيل بافتراض البراءة لأصبحت تلك الإجراءات بغير أساس قانوني سليم. هذا فضلاً عن أن الضمانات التي تقررت للمتهم في كافة مراحل الدعوى الجنائية لم تتقرر لكونه برئ وإنما لمجرد كونه متهم. كما أن تفسير الشك لمصلحة المتهم لا يعود لكونه بريئاً ، بل لأن القاعدة أن الإدانة الجنائية تبنى على الجزم واليقين. وأن قاعدة أن عبء الإثبات يقع على عاتق الاتهام فهى الأخرى ليست تطبيقاً لقاعدة افتراض البراءة ، وإنما نابعة من طبيعة الخصومة الجنائية ذاتها. وينهى هذا الرأي بضرورة استبدال عبارة افتراض البراءة بالعبارة التي تبناها الدستور الإيطالي القائلة بأن "المتهم لا يعد مذنباً حتى صدور الحكم النهائي بإدانته" (م.27/2) ، أو بالنص على اعتبار المتهم مجرد مشتبه فيه Simplement suspect بدلاً من اعتباره بريئاً Innocent.
والحق أن تلك الحجج ليس من شأنها الإقناع بعدم مقبولية مبدأ أصل البراءة. فليس صحيحاً أنه لا يوجد في الحاضر ما يبرر هذا المبدأ ، إذ أن افتراض البراءة لا يتوجه بالخطاب فقط لرجال السلطة العامة ، بل يتوجه للقضاء كذلك في مرحلة المحاكمة. فالواقع أن هذا المبدأ يبدو في كثير من الأحيان كمكمل لعدد من المبادئ التي تلزم لوصف المحاكمة الجنائية بالمحاكمة العادلة ، وعى رأسها مبدأ حياد القاضي الجنائي. فلو فرض وقام شاهد بالتعبير عن رأي يضير بالمتهم ، أو أطلق العنان للسانه لسب المتهم ولم تنه المحكمة عن ذلك ، فإن الأخيرة تكون قد فقدت حيادها بأن شاركت الشاهد عداوته للمتهم ، وافتأتت من ثم على مبدأ أصل البراءة ، الذي يظهر كمكمل لمبدأ حياد القاضي .
بل إننا لا نشطت في الحديث إذا قلنا أن النص على هذا المبدأ في صلب الوثائق الدستورية يعني توجهه بالخطاب كذلك للسلطة القائمة على أمر التشريع الجنائي ، بما يضع على عاتقها قيداً يوجب مراعاة قيم هذا المبدأ ونتائجه حال تنظيم الإجراءات الجنائية التي يمكن اتخاذها إذا تم توجيه الاتهام للأحد الأفراد. ولعل كل ذلك يؤكد ضرورة الإبقاء على قيم هذا المبدأ في وقتنا الحاضر ، هذا الوقت الذي تتوجه فيه الأنظار نحو تعزيز واحترام حقوق الإنسان.
كما أن هذا الرأي يتغافل عن الخصوصية التي تتمتع بها الدعوى العمومية ، وكونها دعوى تهم المجتمع بأسره ، ومن ثم فإن تحديد مواقف الخصوم تمليه المصلحة العامة لا مصلحة الجني عليه. والمجتمع كما تهمه معاقبة المتهم حال ثبوت الجرم في حقه ، تهمه أيضاً براءة من وجه إليه اتهام ظالم. وهكذا فإن المجني عليه لا يظهر بحسبانه خصماً في الدعوى العمومية ، ولا تبدو الأخيرة – على خلاف الدعوى المدنية – أنها تستهدف الوصول إلى تسوية عادلة بين المتهم والمجني عليه ، ولا يمكن والحال كذلك القول بأن المجتمع يرى خيره في أن يسارع بإدانة شخص قد تظهر براءته فيما بعد. فالحرية ليست منحة من المجتمع ، بل هى حق طبيعي يتقرر لكل فرد ، ومصلحة الفرد في الدفاع عن حريته تعلو على مصلحة الجماعة في مواجهة الجريمة ، وذلك لما يترتب على الجزاء الجنائي من مخاطر يتعذر في كثير من الأحيان تجاوزها.
يضاف إلى ذلك أن مبدأ أصل البراءة لا يتعارض بحال مع الإجراءات الماسة بالحرية التي يمكن اتخاذها قبل المتهم في مرحلة التحقيق الابتدائي أو في مرحلة المحاكمة ، فكما سبق القول أن عنصر الدفاع عن حرية الفرد يتصادم منذ البداية مع مصلحة المجتمع في الدفاع عن نفسه ضد خطر الجريمة ، وللتنسيق بين المصلحتين يتوجب السماح – بموجب غطاء شرعي من نص دستوري أو قانوني – بالمساس بالحرية الفردية بما يمكن من الوصول للحقيقة حول جريمة ما ، مع وجوب افتراض براءة من خضع لتلك الإجراءات ، بحيث لا تتقرر إدانته في النهاية إلا بأدلة قاطعة تبرر في النهاية ما عساه يكون اتخذ قبله من إجراءات ماسة بشخصه. ولم يكن يمكن التوصل إلى قدر من التوازن بين مصلحة المتهم ومصلحة المجتمع إلا بتقرير ضمانات وحقوق للمتهم ، لا بحسبانه متهماً ، ولكن بحسبان أن ما يتخذ قبله من إجراءات ماسة بالحرية إنما يزيل البراءة المفترضة فيه. ولو قيل أن تلك الضمانات تعود فقط لكونه متهماً ، فلنا أن نتساءل ، لماذا لم تتضمن التشريعات القديمة مثل تلك الضمانات حماية لحقوق المتهم الذي كانت تفترض فيه الإدانة وقتئذ ؟ ولا شك أن المبرر في ذلك يعود إلى أن الإنسانية لم تكن إلى ذاك الوقت لم تكن قد تلمست فكرة افتراض البراءة بعد ، فالمبدأ آنذاك أن يسمح بالمساس بحرية الفرد ، قبضاً وتفتيشاً وحبساً احتياطياً دون أن يكون لذلك أي مبرر من ضرورات تحقيقي أو أمن مجتمع . أما حين عرف مبدأ أصل البراءة مع تعاظم صيحات الفلاسفة والمفكرين منتصف القرن الثامن عشر ، وحين تم تسجيل هذا المبدأ كأصل دستوري وإنساني ، فقد جاءت التشريعات مقررة لضمانات حال خضوع شخص لاتهام بارتكاب جريمة.
وإلى جانب ضمانة تفسير الشك لمصلحة المتهم استصحاباً للبراءة فيه ، فإن إلقاء عبء الإثبات على عاتق سلطة الاتهام تظل أهم نتائج مبدأ أصل البراءة. فهذه القاعدة لا يبررها – على حد قول المعارضين - طبيعة الخصومة الجنائية ، إذ لو صح قول هؤلاء أن من طبيعة الخصومة الجنائية أن يقع عبء الإثبات على عاتق الاتهام ، فكذلك يصح القول بأن من طبيعة الخصومة المدنية أن عبء الإثبات يقع على عاتق المدعي. بيد أن عبء الإثبات يختلف كثيراً في كلتا الخصومتين. ففي الخصومة الجنائية يظل عبء الإثبات دائماً على عاتق الاتهام وسلطة الادعاء ، ولا يرتفع عن كاهلها إلا إذا نص القانون على ذلك صراحة ، فإذا فشلت تلك الأخيرة في هدم قرينة البراءة بإقامة الدليل القاطع على ذلك ، ظل المتهم على براءته ، ولا يكفي أن يبنى الاتهام على قول دون دليل ، ولا يكلف المتهم بإثبات براءته. أما في الخصومة المدنية ، فإن عبء الإثبات يمكن أن ينتقل إلى عاتق المدعي عليه الذي يصبح مدعياً يقع عليه عبء إثبات ما يدعيه إذا ما أثار دفعاً ، ولم يقتصر موقفه على مجر الإنكار. هذا كله لا يسري بحال في المجال الجنائي ، فالمدعى عليه لا ينقلب بمرافعته أو بدفعه مدعياً ، وذلك استبقاءً للبراءة التي تهيمن على كافة إجراءات الدعوى الجنائية ، بما فيها توزيع عبء الإثبات الجنائي .
10- ب : المقبولية التشريعية للمبدأ :
مع ضعف الحجج التي أرادت النيل من مبدأ أصل البراءة تأكدت حظوة هذا المبدأ على المستوى الفقهي ، غير أن تلك المقبولية الفقهية لم تتحدد قيمتها إلا حال لاقى هذا المبدأ قبولاً تشريعياً ، سواء من قبل المواثيق الدولية ، أو من قبل التشريعات الوطنية الداخلية.
11- مقبولية المبدأ في المواثيق الدولية :
هاهو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها رقم 217 ألف (د-3) في العاشر من ديسمبر عام 1948 يطالعنا في مادته الحادية عشر بقوله "كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن يثبت ارتكابه لها قانوناً في محاكمة علنية تكون قد وفرت له فيها جميع الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه". وهذا ما عاود العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الأمم المتحدة بقرارها رقم 2200 (د-21) في السادس عشر من ديسمبر عام 1966 النص عليه في المادة 14/2 بقوله "من حق كل متهم بارتكاب جريمة أن يعتبر بريئاً إلى أن يثبت عليه الجرم قانوناً" .
وإذا انتقلنا إلى المستوى الإقليمي ، فإن الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية La Convention européenne de sauvegarde des droits de l’homme et des libertés fondamentales ، الصادرة عن المجلس الأوروبي ، والموقعة في روما في الرابع من شهر نوفمبر عام 1950 ، تحتل موقع الصدارة في النص على مبدأ أصل البراءة ، إذ خصصت له فقرة مستقلة ، في حين جمعت بقية الحقوق الأخرى للمتهم في فقرة واحدة أخرى ، دلالة منه على أن تلك الأخيرة إنما هى حقوق متفرعة عن أصل البراءة التي تهيمن كمبدأ على تنظيم الإجراءات الجنائية في كافة مراحلها . فقد جاء في الفقرة الثانية من المادة السادسة منها أن "كل شخص يتهم بارتكاب جريمة يعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته قانوناً"
Toute personne accusée d'une infraction est présumée innocente jusqu'à ce que sa culpabilité ait été légalement établie.
وتضطلع المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان La Cour européenne des droits de l’homme بحق رقابة احترام الدول الأطراف لتعهداتهم المتولدة عن الاتفاقية وبروتوكولاتها (م.19). وقد جاء في قضاء تلك المحكمة تفسير لما جاء بالفقرة الثانية من المادة السادسة حول أصل البراءة في قضية Pfunders ، إذ تأكد أن "ذلك النص الخاص بافتراض براءة المتهم إلى أن تثبت إدانته قانوناً يتطلب أن قضاة المحكمة في أدائهم لواجبهم يجب ألا يبدأوا بالإدانة أو افتراض أن المتهم ارتكب الجريمة التي يحاكم من أجلها. بمعنى أخر فإن مسئولية إثبات الجرم تقع على عاتق سلطة الاتهام ، وأي شلك في إقامة الدليل على ذلك يكون في صالح المتهم. وعلاوة على ذلك يجب أن يسمح قضاة المحكمة للمتهم بتقديم شهود النفي Témoins à décharge ، وليس لقضاة الحكم بإدانة المتهم إلا إذا وجدت أدلة مباشرة أو غير مباشرة قوية في نظر القانون بالدرجة التي يمكن معها نسبة الفعل يقيناً إلى المتهم . كما أكدت المحكمة ذات الأمر في حكم Minelli بقولها أن الحكم القضائي الذي يعكس الإحساس بإذناب المتهم دون أن يقوم بإثبات إدانته ، أو لا يمنح المتهم الفرصة الكافية لممارسة حقه في الدفاع عن نفسه ، يعتبر متجاهلاً لافتراض البراءة .
ويتجاوز مبدأ أصل البراءة الحدود الأوروبية كي ينتشر في المحيط الأرضي الرحب بقاراته المختلفة. فها هى الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان ، الصادرة في 22 نوفمبر 1969 ، تعتمده بأن نصت في الفقرة الثانية من المادة الثامنة منها على أن "لكل متهم بجريمة الحق في أن يعتبر بريئاً طالما لم تثبت إدانته وفقاً للقانون". وبعد ذلك بسنوات قليلة يصدر الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان عن منظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقي حالياً) عام 1981 متضمناً المادة 7/1 (ب) التي تقضي في صراحة أن "الإنسان برئ حتى تثبت إدانته أمام محكمة مختصة" ، تلك الصيغة التي تبناها بعد عدة أعوام الميثاق العربي لحقوق الإنسان الصادر عن جامعة الدول العربية في 15 سبتمبر 1994.
ولعل أهم ما تكشف عنه تلك النصوص ذات الصيغ المتقاربة ، هو مدى ارتباط مبدأ أصل البراءة بمفهوم حقوق الإنسان في المجتمع الدولي المعاصر ، وأنه لا بناء لعالم تتدعم فيه حقوق الإنسان إلا إذا حرص المشرع الداخلي عند سن القوانين الجزائية والإجرائية باحترام ما يوجبه هذا المبدأ من نتائج ، خاصة حال تنظيم القواعد الماسة بالحرية الشخصية . فالحرية الشخصية – على حد قول محكمة القضاء الإداري – "هى ملاك الإنسانية كلها ، لا تخلقها الشرائع ، بل تنظمها ، ولا توجدها القوانين ، بل توفق بين شتى مناحيها ومختلف توجهاتها ، تحقيقاً للخير المشترك للجماعة ورعاية للصالح العام ، فهى لا تقبل من القيود إلا ما كان هادفاً إلى هذه الغاية مستوحياً تلك الأغراض" .
12- مقبولية المبدأ في التشريعات الوطنية :
إذا كان مبدأ أصل البراءة قد لاقى تكريساً في جل التشريعات الداخلية على صعيد كافة الأنظمة القانونية ، إلا أن الدول قد تباينت في تحديد الرافد الذي ينبع منه هذا المبدأ. فالبعض من التشريعات قد اقتصرت على النص عليه في قانون الإجراءات الجنائية ، والبعض الأخر أعطت له قيمة دستورية ، في حين جمعت تشريعات أخرى بين القيمة الدستورية والقانونية لهذا المبدأ.
ونلحظ أن غالبية الدول قد أولت هذا المبدأ قيمة دستورية بأن نصت عليه في صلب الوثيقة الدستورية . ونذكر من ذلك نص المادة 27 من الدستور الإيطالي التي تقضي بأن "لا يع المتهم مذنباً قبل الحكم النهائي عليه". ونذكر كذلك نص المادة 11/د من الميثاق الكندي للحقوق والحريات التي تقرر أن "كل متهم له الحق في أن يفترض بريئاً طالما لم تعلن إدانته طبقاً للقانون بواسطة محكمة مستقلة ومحايدة وفي محاكمة علنية وعادلة". وقد تبع ذات النهج المشرع المصري حين اعترف للمبدأ بقيمته الدستورية منذ دستور عام 1971 بأن قرر في المادة 67 من الدستور أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها جميع الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه. وعلى ذات النهج – وفي صيغ متقاربة - سارت دساتير كل من ليبيا (م.15) ، وتونس (الفصل الثاني عشر) ، والكويت (م. 34) ، ودستور العراق السابق (م. 23) ، وسوريا (م.28).
ومن الدول من أراد تدعيم هذا المبدأ بأن عاود النص عليه في قانون الإجراءات الجنائية بعد أن جاء النص عليه في الدستور. من تلك التشريعات نذكر التشريع السوداني الذي نص في المادة 69 من دستور عام 1973 على المبدأ بقوله "أي شخص يلقى القبض عليه متهماً في جريمة ما يجب ألا تفترض إدانته ، ولا يجب أن يطلب منه الدليل على براءة نفسه ، بل المتهم برئ إلى أن تثبت إدانته دون ما شك معقول" ، وهو ذات النص الذي اعتمدته المادة الثالثة من قانون الإجراءات الجنائية السوداني .
وهذا النهج في رأينا نهج محمود ، ففي ازدواجية النص على مبدأ أصل البراءة ، دستوراً وقانوناً ، ما يؤكد متانة المبدأ وهيمنته على التشريع الجنائي ككل. فضلاً عن أن معاودة النص على هذا المبدأ في قانون الإجراءات الجنائية من بعد الدستور هو من قبيل التحوط إذ أن معظم رجال الضبط القضائي ، وأعضاء سلطة الاتهام ، والقضاة ، يعتادون التصرف وفقاً لما يتقرر بمدونة الإجراءات الجنائية أكثر مما يرد بالدستور . ولعل ذلك يدعونا إلى أن نهيب بالمشرع المصري أن يسارع إلى النص على هذا المبدأ في صدر مدونة الإجراءات الجنائية.
والقليل من الدول ، كالتشيك (م.2) وبولندا (م.3) ، قد اقتصرت على النص على مبدأ أصل البراءة في قانون الإجراءات الجنائية. وقد تبع المشرع الفرنسي مؤخراً هذا النهج بناءً على توصية من لجنة العدالة الجنائية وحقوق الإنسان ، وذلك بأن أضاف مادة تمهيدية لقانون الإجراءات الجنائية ، بالقانون رقم 516-2000 الصادر في 15 يونيو 2000 (المسمى قانون تدعيم قرينة البراءة وحقوق المجني عليهم)، جاء في فقرتها الثالثة أن "كل مشتبه فيه ، أو ملاحق جنائياً برئ حتى تثبت إدانته. وتحظر الاعتداءات على قرينة البراءة ، ويجري التعويض عنها والعقاب عليها وفق الشروط المنصوص عليها قانوناً". (م.9-1 من القانون المدني)
Toute personne suspectée ou poursuivie est présumée innocente tant que sa culpabilité n’a pas été établie. Les atteintes à sa présomption d’innocence sont prévenues, réparées et réprimées dans les conditions prévues par la loi.
ولا شك أن هذا النهج يغاير ما يقتضيه المنطق السليم ، ذلك أن المكان الصحيح لتلك الضمانة التي يبنى عليها بقية ما يتقرر للمتهم من حقوق بصدد الخصومة الجنائية هو الدستور ، باعتباره القانون الأسمى الذي يقيد كافة سلطات الدولة ، بحيث لا يتسنى للمشرع أن يصدر قانوناً يخالف به أصل البراءة المفترض ، ولا يحق لرجال السلطة التنفيذية اتخاذ إجراءات ماسة بالحرية الفردية بعيداً عن رقابة القضاء ، كما لا يحق للقضاء ذاته أن يخرج عن موجبات البراءة المفترضة ، بأن يلقي عبء الإثبات على عاتق المتهم ، أو يقضي بالإدانة بناءً على أدلة غير جازمة ، أو يفسر الشك في غير صالح المتهم.
13- ج : مقبولية المبدأ وضرورات الحماية والتدعيم :
إن المقبولية الفقهية والتشريعية لمبدأ أصل البراءة لا تجدي في الحقيقية شيء إذا لم ينتهج المشرع نهجاً حمائياً لهذا المبدأ ؛ وذلك بأن يضع من الأجزية والقيود ما يضمن به حظر وحصر الانتهاكات الماسة بالبراءة المفترضة في الإنسان قبل أن يصدر حكماً قضائياً نهائياً ، يمثل عنوان الحقيقة حول الجرم المرتكب وسلامة الأدلة على نسبته إلى شخص معين. فالحقيقة لا يمكن توافرها إلا باليقين التام لا بمجرد الظن والاحتمال ، والإدانة بناء على مجرد الشك في صحة الدفاع تتنافى مع ما يجب من عدم إقامة الإدانة إلا على أساس يقيني .
وهكذا فإنه يتعين تدعيم قرينة البراءة وإلى حين صدور الحكم النهائي بالإدانة ، وهنا تتوزع التشريعات في كفالة هذا التدعيم. فالقانون الأمريكي يقرر حق المتهم في طلب إبطال حكم الإدانة إذا لم يقم القاضي بتوجيه المحلفين نحو احترام أصل البراءة فيمن تجري محاكمته . كما اتجه القانون الفرنسي نحو حماية البراءة المفترضة في المتهم بموجب قانون 4 يناير 1993 والمعدل بقانون 24 أغسطس 1993 حين قرر استبدال كلمة "متهم" الواردة بمفرداتها الثلاثة : Accusé – Inculpé – Prévenu ، بكلمة "الشخص الموضوع تحت الملاحظة" La personne mise en examen. وقد يتخيل أن هذا التعديل تعديل لفظي ليس له من أثر في الحماية ، غير أن عبارات وأسلوب التشريع تدل على روحه ، واستعمال جمل محددة تهدف إلى تجنب كل تقييم ذاتي يصدر من قبل العامة قبل صدور حكم فاصل في الدعوى .
واستكمالاً من المشرع الفرنسي لغطاء الحماية الواجبة لمبدأ أصل البراءة أكد القانون رقم 2-93 الصادر في 4 يناير لعام 1993 على تعديل المادة التاسعة من القانون المدني الفرنسي بأن جعل من حماية افتراض البراءة حقاً ذاتياً يجيز لكل فرد انتهكت براءته اللجوء للقضاء للمطالبة بوقف انتهاك افتراض البراءة . كما نص في الفقرة الثانية من المادة التاسعة سالفة البيان إلى حق القاضي بأن يطلب فوراً بإدخال تصحيح للأخبار التي نشرت في حق شخص أو وقائع ما زالت محلاً لتحقيق قضائي وذلك بغية إيقاف انتهاك افتراض البراءة وذلك على نفقة المسئول عن هذا الانتهاك .
وبموجب التعديلات التي أدخلت على القانون سالف الذكر بالقانون 24 أغسطس 1993 أضيفت أحكام أخرى لتدعيم الحقوق والحريات الفردية ، ومنها قرينة البراءة . فقد تقرر وللأول مرة حق المحتجز بمعرفة الشرطة القضائية Personne placée en garde à vue في الاتصال بمحامية بعد انقضاء ثماني ساعات من بداية الاحتجاز. كما تقرر إسناد أمر الحبس الاحتياطي فضلاً عن كافة إجراءات التحقيق لقاضي التحقيق Juge d’instruction ، وتدعم حق المحامي في الإطلاع على ملف التحقيق. ثم أتى القانون الصادر في 23 يونيو 1999 ليضيف ضمانات أخرى في المرحلة السابقة على المحاكمة بأن ألغى حالات التلبس الحكمي Flagrance par assimilation (م.53/2 إجراءات جنائية فرنسي) ، وتحديد المدة التي يسمح فيها بمباشرة الإجراءات المرتبطة بحالات التلبس لتصبح ثمانية أيام كحد أقصى ، وكذا الحد من المدة التي يباشر في التحقيق الابتدائي.
ولقد توج المشرع الفرنسي جهوده الحمائية لأصل البراءة المفترض بأن قرر في عجز الفقرة الثالثة من المادة التمهيدية المضافة لقانون الإجراءات الجنائية والمضافة بالقانون 516-2000 الصادر في 15 يونيو 2000 إمكانية التعويض المدني – فضلاً عن الجزاء الجنائي - عن الانتهاكات التي تمثل عدواناً على قرينة البراءة . كما عدل من المادة التاسعة من القانون المدني ، كي يكون أكثر تحديداً للحماية ، بأن قرر أن "لكل إنسان الحق في احترام قرينة البراءة. وإذا عرض الشخص على الجمهور قبل صدور حكم بإدانته ، بحيث يظهر كما لو كان قد ارتكب الأفعال محل الاستدلالات أو التحقيقات القضائية كان للقاضي أن يأمر ولو بصور مستعجلة ، ودون الإخلال بالحق في التعويض عن الأضرار ، باتخاذ الإجراءات لوضع حد للاعتداء على قرينة البراءة ، كنشر تصحيح أو إصدار بيان ، وذلك على حساب الشخص الطبيعي أو المعنوي المسئول عن هذا الاعتداء".
وبالنظر إلى أن انتهاك قرينة البراءة يتأتى كثيراً من جانب الجهات الإعلامية التي تباشر رسالتها في إعلام المجتمع ، لذا فقد أضاف القانون رقم 516 لسنة 2000 نصاً (م.35-3) إلى قانون حرية الصحافة جرم به النشر ، بأي وسيلة كانت ، وعلى أي دعامة ، لصورة شخص معروف أو قابل للتعريف ، مقيد بالأغلال أو الأثقال إذا كان محلاً لإجراء جنائي لم يصدر فيه حكم بالإدانة دون موافقته. كما جرم ذات النص إعداد أو نشر استطلاع للرأي أو التعليق عليه بشأن اتهام شخص كان محلاً لإجراء جنائي أو بشأن العقوبة التي يمكن تطبيقها أو نشر إشارات تمكن من الإطلاع على استطلاعات الرأي المشار إليها سلفاً . والحق أنه ما أحوجنا إلى تبني مثل هذا النص في التشريع المصري أمام تزايد البرامج المتلفزة (من أمثال برنامج خلف الأسوار ) التي تعرض على الجمهور من يشتبه بارتكابهم لجرائم قبل أن يقول القضاء كلمته النهائية بالإدانة ، ضاربة بأصل البراءة المفترضة عرض الحائط.
وكانت المادة 803 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي ، وفق نموذجها الذي أتى به قانون 4 يناير 1993 ، تنص على أنه لا يجوز أن يحمل الشخص أغلالاً أو أثقالاً إلا إذا كان يمثل خطورة على الغير أو على نفسه أو كان من المتصور هروبه ، إلا أن القانون رقم 516 لسنة 2000 قد أضاف إليها فقرة جديدة تنص على أنه في الفرضين السابقين يجب اتخاذ الإجراءات اللازمة التي تتفق والمقتضيات الأمنية للحيلولة دون تصوير الشخص أو إجراء تسجيل بالصوت والصورة وهو يحمل الأغلال أو الأثقال .
ولأغراض تفعيل الحماية الداعمة لحقوق المتهم في المرحلة السابقة على المحاكمة والمتصلة بقرينة البراءة قرر قانون 15 يونيو 2000 عدد من الضمانات منها : إلزام مدعي الجمهورية بتحديد أجل حال تكليف أحد مأموري الضبط القضائي بالقيام بأعمال استدلال (م.75-1 إجراءات جنائية) ، كما أن على مأمور الضبط القضائي أن يقدم تقريراً إلى مدعي الجمهورية إذا كان قد باشر أعمال استدلال من تلقاء نفسه قبل مضي ستة أشهر على بدئها. كما يلتزم مأمور الضبط القضائي بإخطار مدعي الجمهورية بأمر الاحتجاز الصادر قبل شخص وذلك منذ بدء الاحتجاز (كان قانون 4 يناير 1993 يكتفي بالإخطار في أنسب وقت). وكذا تم حظر احتجاز أي شخص لا توجد شبهات على تورطه في الجريمة (م.62-2) ، الأمر الذي يحول دون احتجاز الشهود للإدلاء بشهادتهم كما كان يجري من قبل. وحظر القانون البحث الداخلي الذي يباشر على جسم الإنسان في مرحلة الاستدلالات إلا بمعرفة طبيب يندب لذلك (م. 63-5). كما أوجب قانون 15 يونيو 2000 على مدعي الجمهورية زيارة أماكن الاحتجاز حال الضرورة ، وكذا مرة كل ثلاثة أشهر على الأقل (م.41) . كما سمح هذا القانون للشخص المحتجز بأن يستفسر من مدعي الجمهورية عما سوف يتم بشأنه إذا مضت ستة أشهر منذ بدء الاحتجاز ولم تقام الدعوى الجنائية ضده أو يتخذ إجراء من الإجراءات البديلة لها أو لم يخطر بحفظ الدعوى أو عرض الأوراق على قاضي الحبس والحريات Juge des libertés et de la détention لطلب الاستمرار في الاستدلالات (م.77-2 ، 77-3).
كما فرض هذا القانون على سلطة جمع الاستدلالات عدة التزامات ، توجب حال إغفالها بطلان الإجراءات المتخذة في تلك المرحلة. من ذلك الالتزام بإثبات إعلام المشتبه فيه بحقوقه في محضر جمع الاستدلالات ، وذلك بلغة يفهمها (م.63-1) ، والالتزام بإعلام المشتبه فيه بطبيعة الجريمة المتهم بارتكابها (م.63-1) ، وإعلامه بحقه في الاتصال بأقاربه دون تأخير délais Sans ، وإخطار مدعي الجمهورية "دون تأخير" بأمر الاحتجاز ، والالتزام بإعلام المشتبه فيه بحقه في الاتصال بمحاميه منذ بدء الاحتجاز وكذا بعد مرور 20 ساعة من بدء الاحتجاز ، وبعد 12 ساعة حال كل مد للاحتجاز (م.63-1 ، 63-4) ، وإعلامه بحقه في عدم الإجابة على أسئلة المحققين ، أي حقه في الصمت (م.63-1). كما أوجب القانون ضرورة تضمين محضر جمع الاستدلالات جميع الأسئلة التي تمت الإجابة عليها (م.429-2) .
ودعماً لقرينة البراءة في مرحلة التحقيق الابتدائي ، حرص المشرع الفرنسي على وضع مزيد من القيود على الاتهام بواسطة قاضي La mise en examen. فالمعلوم أنه قبل قانون 15 يونيو لعام 2000 كان يمكن لقاضي التحقيق أن يوجهه الاتهام لكل شخص تقوم دلائل Des indices تدعو لافتراض أنه ساهم كفاعل أو كشريك في الوقائع المحالة إليه (م. 8-1 إجراءات جنائية قبل التعديل). وتجنباً للآثار الضارة للاتهام ألزم التعديل الجديد قاضي التحقيق صراحة بعدم اتهام شخص إلا إذا وجدت ضده دلائل خطيرة أو متطابقة Des indices graves ou concordants تجعل من مساهمته في الجريمة كفاعل أو شريك قريبة الاحتمال Vraisemblable ، ويقع البطلان كجزاء على مخالفة هذا الشرط (م.80-1/1). كما لم يعد جائزاً اتهام شخص قبل سماع أقوالة أمام قاضي التحقيق ، بعد أن كان تلك الصفة يمكن أن تسبغ على الشخص لمجرد صدور أمر بضبطه وإحضاره أو بالقبض عليه أو بإرسال كتاب مسجل إليه بالاتهام. وكذا فقد حرص المشرع في تعديلاته على تقيد المدة التي يباشر فيها التحقيق الابتدائي. فألزمت المادة 116-6 من قانون الإجراءات الجنائية والمضافة بقانون 15 يونيو لسنة 2000 قاضي التحقيق بإخطار المتهم (وكذلك المدعي بالحقوق المدنية) بالفترة التي يتوقع أن تنتهي فيها إجراءات التحقيق حالة ما إذا كانت الفترة أقل من سنة في مواد الجنح أو أقل من 18 شهراً في مواد الجنايات. فإذا ذادت المدة التي يتوقع أن يستغرقها التحقيق عن هذه الفترات ، فإن قاضي التحقيق يلتزم بإبلاغ الأطراف المعنية بحقهم في طلب إنهاء التحقيق بالشروط المنصوص عليها في المادة 175-1.
ودعماً لمبدأ أصل البراءة فقد حرص المشرع الفرنسي – بموجب المادة 137 من قانون الإجراءات الجنائية في صياغتها الجديدة - على تأكيد مبدأ استثنائية الحبس الاحتياطي كأجراء احتياطي Subsidiaire . فقرر أن الشخص محل الاتهام ، المفترض براءته ، يظل حراً. ويجوز لضرورات التحقيق أو كتدبير احترازي إلزام المتهم بواحد أو أكثر من التزامات الرقابة القضائية. وحينما لا تكفي تلك الأخيرة في تحقيق أهدافها ، يكمن بصفة استثنائية إخضاعه للحبس المؤقت . وعلاوة على ذلك فقد حرص المشرع على الحد من حالات الحبس الاحتياطي ، وقصره على الجرائم ذات الجسامة (م.143-145).
وتطبيقاً للمادة التمهيدية لقانون الإجراءات الجنائية الفرنسي ، التي توجب التعويض عن الاعتداءات على قرينة البراءة ، خطى المشرع خطوات واضحة نحو تفعيل مبدأ التعويض عن الحبس الاحتياطي ، بأن رفع مبدأ التعويض من مصاف المكنة للجهة القضائية التي تفصل في الطلب ، إلى مصاف الوجوب إذا توافرت شروط التعويض (م.149) . وقد أوجب قانون 15 يونيو 2000 إخطار الشخص ، فور صدور أمر بألا وجه في مواجهته أو حكم بالبراءة ، بحقه في طلب التعويض (م.149 ، 149-1). كما سمح القانون سالف الذكر بفحص طلب التعويض على درجتين .
المبحث الثاني
أثار أصل البراءة
14- تمهيد وتقسيم
يترتب على أصل البراءة المفترضة عدة أثار فيما يتعلق بالإثبات تتوزع على شقين : الأول تتعلق بتقديم دليل الإثبات ؛ حيث تلزم تلك القاعدة السلطة القائمة على شأن الاتهام بتقديم دليل الإدانة. أما الشق الثاني فيتعلق بتقييم دليل الإدانة الذي قدمته سلطة الاتهام ؛ إذ يجب أن تبنى الإدانة على اليقين التام مما يستتبع القول أن كل شك يجب أن يفسر في مصلحة المتهم ؛ عودة لأصل البراءة المفترض.
15- أولاً : أثار المبدأ حال تقديم أدلة الإثبات :
سبق القول أن افتراض البراءة يعني أن من خضع للاتهام يظل بريئاً مما اسند إليه وعلى من يدعى عكس ذلك أن يثبت هذا الادعاء، وهو ما يحتم إلقاء عبء إثبات الاتهام على عاتق سلطة الاتهام ، كأحد المبادئ الأساسية التي تحكم الإثبات الجنائي. بيد أن من التشريعات الإجرائية ما يخرج عن تلك القاعدة كي تقرر أن المتهم يكون مسئولاً عن الجرم المسند إليه إلى أن يثبت بذاته براءته ، وذلك ما يسمى قرائن الاتهام القانونية. وهنا يثور التساؤل حول اتفاق تلك القرائن مع أصل البراءة المفترضة في المتهم.
16- أ : سلطة الاتهام وعبء الإثبات :
يوجب افتراض براءة المتهم إلقاء عبء إثبات الاتهام على عاتق النيابة العامة بوصفها سلطة الاتهام ؛ ذلك أن المتهم غير مطالب بإثبات براءته المفترضة فيه بنص الدستور ، وتطبيقاً لمبدأ عام ، يسري على كافة فروع القانون ، القائل بأن "البينة على من ادعى" Actori incumbit probatio ، والمشار إليه في المادة الأولى من قانون الإثبات في قولها "يجب على الدائن إثبات الالتزام" . ومن ثم وجب على السلطة الأخيرة تقديم الدليل اليقيني على وجود الجريمة ، وصحة نسبتها إلى المتهم. يفهم من ذلك أنه إذا عجزت تلك السلطة عن إثبات ما تدعيه فإنه يتعين على المحكمة أن تقضى بالبراءة. وتكلف النيابة العامة في هذا الشأن بإثبات جميع الأركان المكونة للجريمة ومسئولية المتهم عنها ، غير أن خلافاً قد نشأ حول تحديد من يقع عليه عبء إثبات الدفوع التي قد يدفع بها المتهم.
17- إثبات أركان الجريمة :
يقع على عاتق النيابة العامة عبء إثبات جميع الأركان المكونة للجريمة ومسئولية المتهم عنها ، ومن ثم وجب عليها إثبات توافر الركن الشرعي – عند من يقولون بوجوبه كمكون من مكونات الجريمة – فضلاً عن قيامها بإثبات الركنين المادي المعنوي.
فقد مال البعض من الفقه إلى القول بأن على النيابة العامة إثبات النص القانوني الواجب التطبيق على الجريمة المسندة إلى المتهم والمقامة عنها الدعوى العمومية ، وكذلك إثبات عدم انتفاء الركن الشرعي بالعفو العام ، أو تقادم الدعوى الجنائية. والحق أن القاعدة القانونية لا تكون محلا للإثبات ؛ ومن ثم فليس من الضروري إثبات النص القانوني الذي قدم المتهم على أساسه للمحاكمة ، فنصوص القانون لا تعتبر ركنً في الجرائم التي تنشأ ، وأن عدم المشروعية هو حكم على الواقعة يتم خارج نطاق الفرد ، ولا يتوقف على علمه بأن هذه الواقعة تخالف نصاً من نصوص التجريم ، وبناء على ذلك لا يشترط إثبات هذا النص من قبل سلطة الاتهام ؛ فالقاضي هو المكلف بتطبيق القانون على الواقعة المعروضة عليه ، وليس بحاجة إلى من يبين له القاعدة واجبة الإعمال ، ولا أن يبين له مضمونها .
أما عن إثبات عدم انتفاء الركن الشرعي بالعفو العام أو بتقادم الدعوى الجنائية ، فهو قائم على كاهل النيابة العامة بحجة أن تلك الأخيرة يقع على عاتقها إثبات انتفاء سبب يرفع عما ارتكبه المتهم الصفة التجريمية. ومن ثم تلتزم النيابة العامة بإثبات انتفاء أسباب الإباحة ، هذا الأخير الذي يعد في الحقيقة إثباتاً لتوافر الركن الشرعي للجريمة ، فيدخل في نطاق التزام الاتهام بإثبات أركان الجريمة كافة .
وإذا لم يكن هناك من خلاف حول تكليف النيابة العامة بعبء إثبات الركن المادي للجريمة بعناصره الثلاثة من سلوك ، ونتيجة ، وعلاقة سببية ، واثبات البدء في التنفيذ إذا وقفت الجريمة عند حد الشروع ؛ غير أن مشكلة قد تثور بشأن إثبات السلوك الإجرامي ذو الطابع السلبي. فقد رأى بعض الفقه أن سلطة الاتهام سيستحيل عليها أن تقدم الدليل على الوقائع السلبية المحضة ، بما يوجب تحميل المتهم عبء إثبات الوقائع الإيجابية التي تنفى النشاط السلبي محل الاتهام. كما هو الشأن في جريمة التشرد التي يقع على المتهم عبء نفيها بإثبات وجود محل إقامة معين له وسبل رزق يتكسب منها . ولدينا أن هذا الرأي يجافي أصل البراءة المفترضة في المتهم ؛ ومن ثم فإن عبء إثبات الوقائع يقع على عاتق النيابة العامة ، سواء أكانت تلك الوقائع إيجابية أم سلبية. ويكفي في إثبات الوقائع السلبية أن تقيم النيابة العامة الدليل على وقائع إيجابية تتضمن السلوك السلبي بطريق المخالفة .
وفوق ذلك فإن سلطة الاتهام عليها عبء إثبات الركن المعنوي ، وعلى الأخص فيما و كانت الجريمة عمدية. ففي تلك الحالة الأخيرة يتعين على النيابة العامة إثبات توافر القصد الجنائي لدى الفاعل الأصلي للجريمة ، وفى حالة المساهمة التبعية تلتزم تلك الأخيرة بإثبات توافر قصد المشاركة في تحقيق الجريمة لدى من كان شريكاً في الجريمة. أما إذا كانت الجريمة المسندة للمتهم غير عمدية ، فيتعين على سلطة الاتهام أن تقوم بإثبات خطأ المتهم ، سواء في صورة الإهمال أو الرعونة أو عدم الاحتياط أو الاحتراز. ، أما إذا كان الخطأ في صورة عدم مراعاة القوانين واللوائح والأنظمة ، فإنه يكفى أن تثبت سلطة الاتهام الواقعة المادية المكونة للمخالفة. وفى جميع الحالات يجب على سلطة الاتهام أن تثبت علاقة السببية بين السلوك الخاطئ والنتيجة الإجرامية الناجمة عنه.
ويذهب نفر في الفقه إلى أن التزام النيابة العامة بإثبات توافر القصد الجنائي يكون بمعزل عن نوعه أو درجته . بيد أن هذا الرأي وإن صدق بشأن القصد المحدود والقصد غير المحدود ، أو بشأن القصد البسيط والقصد المصحوب بسبق الإصرار ، إلا أنه لا يصدق بالنسبة للقصد الخاص ؛ ذلك أن هذا النوع من القصد الجنائي قد يكون لازماً لقيام الجريمة ، كما هو الحال بصدد جريمة التزوير والسرقة والنصب والبلاغ الكاذب...الخ ، بحيث تنتفي الجريمة تبعا لانتفائه. وبناء عليه يجب على النيابة العامة إثبات توافر هذا القصد الخاص.
18- عبء إثبات وسائل الدفاع :
يثور التساؤل حول من يقع عليه عبء إثبات وسائل الدفاع التي قد يدفع بها المتهم ، ومنها أن يدفع بوجود سبب من أسبابه الإباحة ، أو بتوافر مانع من موانع المسئولية الجنائية مثل الجنون أو الإكراه ، أو يدعى المتهم استفادته بعذر من الأعذار المعفية من العقاب كاعتراف الراشي أو الوسيط في جريمة الرشوة (م. 107 عقوبات).
ذهب البعض إلى أن المتهم الذي يتمسك بوجود سبب من أسباب الإباحة ، أو مانع من موانع المسئولية، أو عذر من الأعذار المعفية أو المخففة للعقاب عليه أن يثبت ذلك طبقا لما تقرره للقاعدة اللاتينية القائلة بأن المدعى عليه يصبح مدعياً بالدفع resue in .excipiendo fit actor وهذه القاعدة وإن كانت تجد تطبيقها الصريح في مجال القانون المدني إلا أنها صالحة بذاتها للتطبيق في المواد الجنائية . وعلة ذلك في رأي البعض أنه لما كان الأصل في الإنسان أنه مسئول عن أفعاله ، فإن نفي هذا الأصل يقع من يدعي به .
على حين ذهب البعض الأخر إلى أن قاعدة المدعى عليه يصبح مدعياً بالدفع لا تصلح للتطبيق في الإجراءات الجنائية لما للأخيرة من أوجه خصوصية ، ولكونها قاعدة تتجاهل افتراض البراءة في المتهم ، ذلك المبدأ الركين الذي يوجب ألا ينحصر دور سلطة الاتهام في إثبات أركان الجريمة في حق المتهم ، ولكن أيضا إثبات عدم توافر أي سبب قابل لهدم تلك الأركان ويوجب من ثم البراءة. فالإدانة تفترض عدم وجود سبب من أسباب الإباحة ، أو سبب من أسباب انعدام المسئولية ، أو مانع من موانع العقاب ، أو سبب من أسباب انقضاء الدعوى الجنائية . وهكذا يكفي في نظر أصحاب هذا الرأي أن يتمسك المتهم بالدفع ، حتى يقع على عاتق النيابة العامة إثبات عدم صحة هذا الدفع ؛ فتلك الأخيرة تملك من الوسائل والصلاحيات مالا يقدر عليها المتهم ، فهى أقدر منه في كشف حقيقة هذه الدفوع للقاضي. كما أن القاضي الجنائي عليه عبء التحري عن الحقيقة بنفسه لدوره الإيجابي في الدعوى الجنائية ، وله أن يكلف النيابة العامة في معاونته على ذلك ، كأن يطلب منها استظهار وسائل الدفاع التي دفع بها المتهم لنفي التهمة أو المسئولية عنه .
ويكشف تحري موقف القضاء الفرنسي في هذا الشأن عن بعض الغموض. فقد ذهبت بعض الأحكام إلى أن عبء إثبات قيام الركن الشرعي يقع على عاتق النيابة العامة وأن هذا الركن لم يزول بالتقادم أو بالعفو . وعلى النقيض ذهبت بعض الأحكام إلى أنه بالنسبة للأسباب الإباحة ، ومنها الدفاع الشرعي ، يقع على عاتق المتهم عبء إثبات هذا الدفع ، فيما عدا الحالات التي يقرر القانون فيها قيام قرينة على الدفاع الشرعي . أما بخصوص موانع المسئولية ، كالإكراه أو عاهة العقل ، فإن القضاء الفرنسي يلقي بعبء الإثبات على عاتق المتهم على أساس توافر قرينة عامة على سلامة العقل وحرية الإرادة. ويظهر ذلك جلياً بصفة خاصة تجاه الإكراه Contrainte ، حيث تسود النظرية المدنية للقوة القاهرة في مجال الإجراءات الجنائية .
أما القضاء المصري فيتخذ موقفا واضحاً بالنسبة لعبء إثبات وسائل الدفاع ، إذ يستقر قضاء النقض على أنه يكفى أن يتمسك المتهم بالدفع ، دون أن يكون ملزما بإثبات صحته ، وعلى النيابة والمحكمة التحقق من مدى صحة هذا الدفع وترد عليه إيراداً ورداً ، وإلا كان حكمها مشوبا بالقصور في التسبيب ، والإخلال بحق الدفاع لإخلال المحكمة في واجبها نحو إثبات الإدانة ، بحسبانه دفاعاً جوهريا ظاهر التعلق بموضوع الدعوى ، وقد يترتب على صحته نفى وقوع الجريمة أو امتناع المسئولية أو العقاب أو انقضاء الدعوى الجنائية .
هذا الاتجاه بذاته تبنته المحكمة أيضاً فيما يتعلق بالدفاع الشرعي ، إذ ذهب النقض في قضاءه إلى عدم اشتراط تمسك المتهم به ؛ ذلك أن القانون يوجب على المحكمة أن تبحث ظروف الدعوى والأدلة القائمة فيها ، فإذا اتضح لها أن المتهم كان في حالة دفاع شرعي تعين عليها أن تعامله على هذا الأساس . وكذا إذا دفع بالجنون فلا يجوز للمحكمة أن تستند في إثبات عدم وجود هذا الجنون إلى أن المتهم لم يقدم دليلا عليه ، بل من واجبها في هذه الحالة أن تثبت بنفسها أن المتهم وقت ارتكابه الجريمة لم يكن مجنوناً ، دون أن تكلفه عبء تقديم الدليل على ادعاءه . وهذا الأمر بذاته أخذ به بشأن الدف بانقضاء الدعوى الجنائية بالتقادم ، أو بسابقة الفصل في الموضوع .
بيد أن قضاء النقض قد غاير موقفه هذا فيما يتعلق بأسباب التخفيف من العقاب ، حيث جاء في قضاءه أنه "لما كانت المادة 38 من قانون المخدرات لا تشترط أن يكون الإجراء المنصوص عليه فيها مقصوداً به الاتجار ، فكل إحراز يعاقب عليه بموجبها إلا إذا ثبت أمه كان يقصد التعاطي أو الاستعمال الشخصي. ففي هذه الحالة يكون للمتهم أن ينتفع بالعقاب المخفف الورد بالمادة 37 ، وعبء الإثبات غي تخصيص القصد من الإحراز يقع دائماً على عاتق المتهم" .
19- ب : المتهم وعبء الإثبات :
استبان لنا مما سبق أن الأصل أن المتهم يظل برئ من التهمة المسندة إليه ، ما لم يقم دليل قاطع تقدمه سلطة الاتهام على ارتكابه الجريمة محل الدعوى. غير أن التشريعات قد تخرج عن هذه القاعدة ، وتقرر قلب عبء الإثبات بالنص على قرائن قانونية لإثبات التهمة بقصد تسهيل مهمة سلطة الاتهام في إثبات الجريمة. فما مضمون تلك القرائن ؟ وهل من تعارض بينها وبين أصل البراءة موضع حديثنا. ومن ناحية أخرى فإنه إذا كان المتهم غير مكلف بإثبات براءته ، إلا أن التشريعات يجب أن تسمح له بالمشاركة في هذا الإثبات ، سواء تم ذلك بشكل إيجابي أو بشكل سلبي(حق المتهم في الصمت).
20- 1- إشكالية قرائن الإثبات القانونية :
في الواقع أن قرائن الإثبات القانونية قد تتعلق بالركن المادي لجريمة ، وقد تتصل بالركن المعنوي فيها.
21- القرائن المتصلة بالركن المادي :
إذا ما توافرت قرينة إثبات قانونية نتج عن ذلك إعفاء سلطة الاتهام من إثبات الركن المادي للجريمة ، إذ أن هذه القرينة تبنى على وقائع تثبت في حق المتهم ، وهذه الوقائع هى التي تنشأ بها قرائن الاتهام التي تدل على عكس افتراض البراءة ومن ثم ينقلب عبء الإثبات ، ويقع على عاتق المتهم إثبات أن القرينة الموضوعة بواسطة القانون لا تطابق الواقع. وهكذا فالقرينة بسيطة لا تحول بين المتهم واثبات براءته عن طريق نقض القرينة وإثبات عكسها.
ويمكن أن يمثل لذلك النوع من القرائن بما جاء في نص المادة 225/6 عقوبات فرنسي جديد ، من أنه يعد قواداً من اعتاد العيش مع عاهرة وعجز عن إثبات مصادر دخله التي تناسب طريقة معيشته. ومن ذلك أيضاً ما تنص عليه المادة 418 من قانون الجمارك الفرنسي التي تفترض قرينة التهريب والغش لدى كل من يضبط داخل الدائرة الجمركية ومعه بضائع لا توجد عليها العلامات الجمركية التي تسمح بدخولها على الإقليم الفرنسي. وفي تلك الحالة الأخيرة لا تلتزم سلطة الاتهام بإثبات واقعة التهرب والغش ، لأنها مفترضة افتراضاً لا يقبل العكس إلا في حالة القوة القاهرة .
ويعرف القانون الإنجليزي هذا النوع من القرائن إذ تقرر المادة 30 من قانون الجرائم الجنسية sexual offences Act حكماً شبيهاً بما جاء في المادة 225/6 عقوبات فرنسي سالفة الذكر. كما أن قانون الوقاية من الرشوة Prevention of Corruption Act لعام 1916 يقرر أن الموظف الذي تلقى أية مبالغ مالية أو عطايا يجب عليه أن يثبت أن هذا التلقي لم يكن على سبيل الرشوة. وبصفة عامة يقرر القانون الإنجليزي في إطار المحاكمات الموجزة Summary Trial ، والقابل للتطبيق على المخالفات ، أنه عندما يمنع القانون فعل ما ، ويقرر إباحته استثناء في بعض الأحوال ، فإنه يجب على المتهم أن يثبت أن فعله يدخل في دائرة الاستثناء .
ولا يغفل المشرع المصري الاستعانة بهذا النوع من القرائن. ومن ذلك ما تنص عليه المادة 276 عقوبات من أن "الأدلة التي تقبل وتكون حجة على المتهم بالزنا هى... "وجوده في منزل مسلم في المحل المخصص للحريم". ويستفاد من هذا النص أن قرينة الاشتراك في الزنا تتحقق من مجرد واقعة ضبط المتهم في منزل مسلم ، وفي المكان المخصص للحريم ، والتي إذا ثبتت تلك الواقعة افترض في حقه الاشتراك في الزنا.
22- القرائن المتصلة بالركن المعنوي :
يغلب على الكثير من قرائن الإثبات القانونية اتصالها بالركن المعنوي للجريمة. وهى في هذا الصدد لا تخص الجرائم التقليدية التي تمس القيم والمصالح الأساسية للمجتمع والتي قرر لها القانون عقاباً يتفق وجسامة المصلحة المحمية (الجرائم الطبيعية) ، وإنما تتصل في العادة بالجرائم المصطنعة التي هى من صنع المشرع كي يحمى بها مصلحة ما يراها جديرة بالحماية. مثال ذلك المخالفات الخاصة بالطرق والبيئة والتلوث والجرائم الضريبية والجمركية...الخ.
ويمكن أن نمثل لتلك القرائن بما جاء في المادة 399 من قانون الجمارك الفرنسي بشأن افتراض المصلحة في الغش. وكذا ما تقرره المادة 369/3 من القانون سالف الذكر من قرينة سوء النية. ومنها أيضاً قرينة المادة 21/1 من قانون الطرق التي تفترض مسئولية سائق السيارة عن مخالفات الوقوف في الممنوع.
وقد اشتهرت تلك القرائن في التشريع المصري ، ومنها ما كانت تقرره المادة 121/2 من قانون الجمارك من افتراض العلم بالتهريب إذا لم يقدم من وجدت في حيازته البضائع بقصد الاتجار المستندات الدالة على أنها قد سددت الرسوم الجمركية المقررة. وكذلك ما تقرره المادة 195 من قانون العقوبات من افتراض مسئولية رئيس التحرير عن الجرائم التي ترتكب بواسطة صحيفته تأسيساً على افتراض العلم بما تنشره جريدته . ومن قبيل ذلك أيضاً ما كان يقرره القانون رقم 48 لسنة 1941 في شأن قمع الغش والتدليس وتعديلاته ، قبل تعديله النهائي بالقانون رقم 281 لسنة 1994 ، من افتراض علم المتهم بالغش في حالة اشتغال المخالف بالتجارة أو كان من الباعة الجائلين ، ما لم يثبت حسن النية.
23- تعارض قرائن الإثبات مع أصل البراءة :
حاول البعض من الفقه تبرير اللجوء إلى قرائن الإثبات على سند من الصعوبات التي تكتنف الإثبات في بعض أنواع الجرائم ، والتي ينصب الإثبات فيها على بعض الوقائع السلبية. والحق أن هذه الاعتبارات لا يمكن قبولها ذلك أن معالجة هذه الصعوبات لا يتأتى بالافتئات على الشرعية الإجرائية أو الإخلال بافتراض البراءة الذي يعد أحد مكتسبات حقوق الإنسان في الفكر القانوني المعاصر.
على أن مراجعة أحكام القضاء على الصعيد الدولي والداخلي يكشف عن تشكك حول التعارض المطلق بين قرائن الإثبات ومبدأ أصل البراءة. فها هي المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تحاول أن تجد مسعى للتوفيق بين الأمرين ، في الوقت الذي يقف القضاء الداخلي لبعض الدول ، وعلى رأسه المحكمة الدستورية العليا المصرية ، موقف العداء لهذا النوع من القرائن بحجة مناقضته لقرينة لبراءة.
فلقد اتيحت الفرصة لكل من اللجنة والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في عدة مناسبات للكشف عن مدى تطابق بعض النصوص التشريعية المتضمنة لقرائن الإثبات مع مبدأ افتراض البراءة المنصوص عليه في المادة 6/2 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. وفي البدء قررت اللجنة الأوروبية لحقوق الإنسان في قرارها الصادر بتاريخ 19 يوليه 1972 المتعلق بتجارة البغاء أو الدفع بأشخاص إلى هذه الممارسة أن نص المادة 6/2 من الاتفاقية – المتعلق بأصل البراءة - لا يضع حاجزاً أمام القرائن الفعلية أو القانونية المخصصة في المواد الجنائية. ولقد اعتبرت اللجنة أن قرينة الإثبات – المنصوص عليها في القانونين الفرنسي والإنجليزي – مقبولة وغير مخالفة لافتراض البراءة نظرا لطابعها العقلاني والغير قابل للدحض . كما سبق وأعلنت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان عن موقفها تجاه قرائن الإثبات عندما طرح عليها الأمر تجاه المادة 392/1 من قانون الجمارك الفرنسي المتضمنة لقرينة الغش في حق حائز البضاعة المغشوشة ، حيث قررت المحكمة أن "كل نظام قانوني يعرف قرائن الإثبات الواقعية والقانونية وأن الاتفاقية لا تمنعها من حيث المبدأ. غير أنه في هذا المجال تلتزم الدول الأعضاء بعدم تجاوز الحدود المعقولة ، آخذة بعين الاعتبار خطورة الموضوع مع الحفاظ على حقوق الدفاع" .
Toute système juridique connaît des présomptions de preuve de fait et de droit et que la convention n’y met pas obstacle en principe, mais en matière pénale oblige les Etats contractants à ne pas dépasser des limites raisonnables prenant en compte la gravité de l’enjeu et préservant les droit de la défense.
وهكذا فإن قضاء المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان يكشف عن الاعتراف بكل وضوح بقبول قرائن الإثبات ، مع تقييد تلك الأخيرة حتى لا تؤدي إلى انتهاك مبدأ افتراض البراءة ، ومن تلك القيود قابلية القرينة لإثبات العكس ، وعدم تجاوز هذه القرائن للحدود المعقولة ، أي تجاوزها للمبادئ الأساسية للمحاكمة العادلة وافتراض البراءة ، وأخيراً ضرورة الحفاظ على حقوق الدفاع.
وعلى النقيض من ذلك فقد اتخذت المحكمة الدستورية العليا في مصر موقفاً رافضاً تجاه قرائن الإثبات القانونية حيث قضت بعدم دستوريتها لأنها تتنافى مع مبدأ افتراض البراءة والذي يمثل أصلاً ثابتا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها ويشمل الدعوى الجنائية في جميع مراحلها وعلى امتداد إجراءاتها ولا يجوز نقض هذا الافتراض بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها المحكمة وتتكون من جماعها عقيدتها . وهكذا جاء في قضائها أن "اختصاص السلطة التشريعية في مجال إنشاء الجرائم وتحديد عقوباتها لا يخولها التدخل في المجال الجنائي لفرض قرائن قانونية تنفصل عن واقعها ، ولا تربطها علاقة منطقية بالنتائج التي رتبتها عليها" . ولقد أكدت المحكمة على أن افتراض البراءة يقتضي أن تقوم النيابة العامة بإثبات أركان الجريمة بما في ذلك القصد الجنائي بنوعيه إذا كان متطلبا فيها وأنه لا يجوز أن تعتبر الواقعة ثابتة بغير دليل وهو لا يأتي معه أن يفترض المشرع ثبوت الجريمة بقرينه ينشئها ومن ثم فلا يجوز افتراض الركن المادي أو الركن المعنوي . وفي ضوء ذلك قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية نص المادة 121 من قانون الجمارك الصادر بقرار رئيس الجمهورية بقانون رقم 66 لسنة 1963 . كما قضت بعدم دستورية نص المادة 5 من المرسوم بقانون رقم 98 لسنة 1945 بشأن المتشردين والمشتبه فيهم وبسقوط أحكام المواد المرتبطة بها (م.6 ، 13 ، 15) وذلك على أساس عدم دستورية إدانة الشخص على أساس الاشتهار بارتكاب جرائم من نوع معين بما يخالف قرينة البراءة . وكذا قضي بعدم دستورية ما قرره القانون رقم 48 لسنة 41 في شان قمع التدليس والغش قبل تعديله بالقانون رقم 281 لسنة 1994 من افتراض العلم بغش المادة موضوع الجريمة أو فسادها في جانب المشتغلين بالتجارة ما لم يثبت حس النية ، بما يخالف الأصول العامة في الإثبات الجنائي .
وفي ذات الاتجاه قضي بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة 15 من قانون الأحزاب السياسية الصادر بالقانون رقم 40 لسنة 1977 والمعدل بالقرار بقانون رقم 36 لسنة 1979 فيما تضمنته من افتراض مسئولية رئيس الحزب مع رئيس تحرير صحيفة الحزب عما ينشر فيها عدواناً على قرينة البراءة . ولذات الأمر قضي بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة 195 من قانون العقوبات التي كانت تنشأ قرينة على العلم بما نشر بالجريدة في حق رئيس تحرير الجريدة أو المحرر المسئول إذا لم يكن ثمة رئيس تحرير .
ولدينا أن اتجاه المحكمة الدستورية العليا توجه محمود لما تمثله قرائن الإثبات القانونية من انتهاك واضح لمبدأ افتراض البراءة ، ولكونها تؤدي إلى بناء الإدانة على مجرد عجز المتهم عن إثبات ما يناقض القرينة ، وهى إدانة تبنى من ثم على الشك.
24- 2- مساهمة المتهم في تدعيم أصل البراءة :
إذا كان مبدأ افتراض البراءة في المتهم يعفي المتهم من الالتزام بإثبات براءته ؛ ، إلا أنه إذا أراد المتهم أن يساهم في الإثبات ، فإنه ينبغي أن يسمح له بذلك ؛ لأن هذه المشاركة تشكل ضمانة هامة لتأكيد البراءة المفترضة فيه. وهكذا أوصى المشاركون في المؤتمر الدولي الأول لحماية حقوق الإنسان وتحقيق العدالة في النظام القضائي الإسلامي – الذي انعقد بمقر المعهد الدولي العالي للعلوم الجنائية بسيراكوزا في الفترة من 28 على 31 مايو 1979 – بضرورة أن يكون للمتهم الحق في تقديم أدلة الإثبات وطلب سماع الشهود دفاعاً عن نفسه.
وتتخذ تلك المساهمة المتهم في الإثبات مظهرين : أولهما إيجابي يتمثل في الحق في الإثبات ، والثاني سلبي ويتمثل في حق المتهم في الصمت.
25- حق المتهم في الإثبات :
26- مضمون حق المتهم في الإثبات :
لا شك أن فكرة حق المتهم في الإثبات تعتبر من الأفكار الحديثة نسبياً. فمن الناحية التاريخية ظل دور المتهم في الإثبات معتبراً بمثابة الواجب لسنوات طويلة. ففي المجتمعات القديمة كان المتهم هو المكلف بإثبات براءته من الاتهام المنسوب إليه نظرا لسيادة قرينة الذنب أو الإثم ، وكان مجرد الاتهام يثير افتراضاً قويا بأن المتهم مذنب، وكان يفرض على المتهم أن يثبت براءته بتقديم شهود يحلفون اليمين على صدق قسمة بأنه برئ، وكان اليمين يؤيد ببعض التعاويذ الدينية ، وفى كثير من الأحيان كان العقاب يعتمد على التحكيم الإلهي ، والذي يتمثل في اتخاذ بعض الإجراءات الماسة بالحرية مثل التعذيب والمبارزة . وفى القانون الروماني ، ما أن حلت الإجراءات المكتوبة محل الإجراءات الشفوية أصبح من سلطة القاضي أن يطلب من المتهم تقديم إيضاح عن موقفه ، ومن ثم انقلب عبء الإثبات ليقع على عاتق المتهم، وأصبح الجرم مفترضا في حقه.
على أنه بتكريس مبدأ أصل البراءة في القانون الوضعي والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان ، تدعم حق المتهم في الإثبات برغبته الحرة في تقديم ما يقنع القاضي على عدم صحة الاتهام المنسوب له ، وانتفى عنه من ثم وصف الواجب. هذا الأخير الذي يقع على سلطة الاتهام.
والحق في الإثبات Droit à la preuve "مكنه تخول للخصم أن يقيم الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددها القانون". وهو في مقام المحاكمات الجنائية مكنه تخول للمتهم - المفترض براءته - أن يقيم الدليل على عدم صحة الاتهام المنسوب إليه ؛ ومن ثم يجب الترخيص له بكافة التسهيلات، والوسائل اللازمة لإقناع القاضي بعدم سلامة الأدلة المقدمة ضده من سلطة الاتهام.
وحق المتهم في الإثبات بقية من بقايا النظام الاتهامي على المستوى الإجرائي ، هذا الذي تسود فيه المساواة بين المتهم وسلطة الاتهام ؛ والذي لا يمنح فيه أي امتياز لخصم على آخر ، بحيث يكفل لكل خصم الحق في أن يجمع الأدلة لكي يواجه بها خصمه في محاكمة علنية تدور فيها المناقشات شفاهة وبحضور الخصوم. ففي القانون الإنجليزي يتقرر للمتهم بواسطة محامية حق الاستعانة بمخبر خاص Privet detective كي يجرى تحريات موازية لتحريات الشرطة ، وفى الجلسة يقوم المحامى باستجواب الشهود تحت إشراف ورقابة القاضي الذي لا يملك - من حيث المبدأ – أية سلطة في بحث وإدارة الدليل .
هذا الحق بدأ يغزو بلدان النظام التنقيبي. فها هى إيطاليا تسير على نهج مقارب للقانون الإنجليزي منذ تطبيق قانون الإجراءات الجنائية الجديد عام 1989. فبعد سنوات من تبنى النظام الإجرائي التنقيبي في مرحلة التحقيق ، وتبنى النظام المختلط في مرحلة المحاكمة ، قلبت إيطاليا نظامها الإجرائي واتجهت صراحة صوب النظام الاتهامي. وهكذا نظم القانون الجديد ، المسمى قانون Vassalli مبدأ المساواة في الأسلحة بين النيابة العامة والمتهم ، وذلك بتقريره الحق لكل خصم في دليل الإثبات (م 190 إجراءات)، وتنظيمه لكيفية مباشرة هذا الحق بواسطة الدفاع عن المتهم، فالأخير له إمكانية القيام ببحث مواز عن الأدلة مع النيابة العامة .
وتقرير حق المتهم في الإثبات يهدف إلى جعل الأخير خصماً نشطاً في الدعوى الجنائية ، ومن هذه الزاوية فهو يضمن فعالية أصل البراءة ، والأخير يقترن دائما بوسائل إجرائية إلزامية من بينها - حسب تعبير المحكمة الدستورية العليا - حق المتهم في مواجهة الأدلة التي طرحتها النيابة العامة إثباتاً للجريمة ، وكذلك الحق في هدمها بأدلة النفي التي يقدمها ؛ ولذلك يتمثل هذا الحق في ضحد الأدلة القائمة ، وأيضا البحث عن أدلة النفي وتقديمها للمحكمة.
وننوه إلى أن هذا الحق لا يتعارض مطلقاً مع الدور الإيجابي للقاضي الجنائي في مجال الإثبات. لذ فإنه حتى في ظل التشريعات التي تنتمى إلى أنظمة العرف الإنجليزي ، وعلى الرغم من تمتع المتهم بالحق في دليل الإثبات ، فإن القاضي يمارس دوراً إيجابياً. ففي القانون الإنجليزي ، يستطيع القاضي أن يسمع شاهداً لم يذكره الخصوم ، عندما يرى أن سماعه ضروري لتحقيق العدالة ، أو عندما يكون لدى هذا الشاهد أقوال أو معلومات تفيد في كشف الحقيقة . وفى القانون الإيطالي يستطيع القاضي - وفقاً لنص المادة 507 إجراءات - في حالة الضرورة أن يقرر من تلقاء نفسه البحث عن أدلة جديدة .
27- نطاق ومظاهر حق المتهم في الإثبات :
في تحديد نطاق حق المتهم في الإثبات يثور التساؤل حول جواز حرمان المتهم من الحق في تقديم الدليل إذا لم يمارسه خلال فترة زمنية معنية. ولدينا أن حق المتهم في تقديم الدليل يظل قائما طالما بقى الاتهام ، ومتى لم يصدر حكم فاصل في موضوع الدعوى. وهنا يرى البعض أن الحق في تقديم الدليل يظل قائما طوال فترة المحاكمة ، ويعتبر هذا الحق وقاعدة البينة على من ادعى وجهان لعملة واحدة. وبالتالي فإن دليل الاتهام لا يهدم أصل البراءة إلا إذا وضع المتهم في ذات المستوى الخاص بالاتهام فيما يتعلق بالإثبات . ولعل هذا ما كشفت عنه المحكمة الدستورية العليا حين قضت بعدم دستورية المادة 123 فيما تضمنته من إلزام المتهم بأن يقدم خلال الخمسة أيام التالية لإعلان تكليفه بالحضور بياناً بالأدلة على صحة كل فعل أسنده إلى موظف عام. وفي هذا القضاء قالت المحكمة أن "سقوط الحق في تقديم الدليل عند الفصل في اتهام جنائي يصادم المفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة، ويناقض بالتالي القواعد المبدئية التي لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها" .
وهنا يثور التساؤل أيضاً عن جواز تقديم المتهم لدليل غير مشروع كي يثبت براءته. وفي معرض الإجابة على هذا التساؤل ذهب البعض إلى تطلب مشروعية الدليل سواء في حالة الإدانة أو في حالة البراءة ، استناداً إلى نص المادة 336 من قانون الإجراءات التي تنص على أنه ، إذا تقرر بطلان أي إجراء فإنه يتناول جميع الآثار التي ترتب عليه مباشرة ؛ ذلك أن هذا النص لم يفرق بين دليل الإدانة ودليل البراءة. هذا فضلاً عن أن الطرق المشروعة تكفل إثبات البراءة ، ولا يجوز اقتضاء تلك البراءة على حساب إهدار مبدأ الشرعية ، وإلا أصبغنا المشروعية على البراءة التي تتأتى بالتزوير أو الشهادة الزور.
على حين ذهب جانب أخر من الفقه إلى وجوب التفرقة بين ما إذا كانت عدم مشروعية الدليل ترجع إلى أن وسيلة الحصول عليه تخالف قواعد الإجراءات الجنائية ، وبين ما إذا كانت هذه الوسيلة تعد جريمة جنائية ؛ وهنا يقبل الدليل غير المشروع فقط في الحالة الأولى لإثبات البراءة ، استنادا إلى أن البطلان الذي شاب وسيلة التوصل إلى الدليل إنما يرجع إلى فعل من قام بالإجراء الباطل ؛ ومن ثم لا يجوز للمتهم أن يضار من فعل لا يد له فيه. أما في الحالة الثانية والتي تنتج فيها الأدلة عن وسائل تعد جريمة جنائية - كالتزوير أو الشهادة الزور - فإنه يتعين إهدار هذا الدليل ، وعدم التعويل عليه ، استنادا إلى أن الوسيلة يجب أن تأخذ حكم الغاية. فإذا كانت الغاية مشروعة تعين أن تكون الوسيلة المؤدية إليها أيضا مشروعة. والقول بغير ذلك يحفر على ارتكاب الجرائم توسلاً لإثبات البراءة.
وبتفحص اتجاهات القضاء في هذا الصدد يستبين لنا أن محكمة النقض قد دعمت الرأي الأول ، بما مؤداه عدم اشتراط المشروعية في دليل البراءة ؛ ذلك أن هذه الأخيرة أصل في الإنسان. هذا فضلاً عن أن عدم التعويل على الدليل الغير مشروع إنما شرع لضمان حرية المتهم ، فلا يجوز أن ينقلب هذا الضمان ضده. فالمتهم له الحرية الكاملة في اختيار وسائل دفاعه بقدر ما يسعفه مركزه في الدعوى وما تحيط به نفسه من عوامل الخوف والحرص والحذر وغيرها من العوارض الطبيعية لضعف النفوس البشرية. وأن حق المتهم في الدفاع عن نفسه يعلو على حق الهيئة الاجتماعية التي لا يضيرها تبرئة مذنب بقدر ما يؤذيها إدانة برئ .
أما بصدد مظاهر حق المتهم في الإثبات ، فلنا أن نستبين وجود مظاهر لهذا الحق في المرحلة السابقة على المحاكمة ، إذ يجوز للمتهم أن يقدم طلباته ودفوعه إلى قاضى التحقيق ، ويفصل الأخير في هذه الطلبات والدفوع في خلال أربع وعشرين ساعة مبينا الأسباب التي استند إليها. كما يجوز للمتهم أن يستعين بخبير استشاري ، كما يجوز له أن يطلب سماع شاهد (م. 81 ، 82 ، 87 ، 110 ، 115 إجراءات جنائية). أما في مرحلة المحاكمة ، حيث تسود مبادئ النظام الاتهامي ، فإن للمتهم حق المشاركة في التحقيق بالجلسة من أجل دحض أدلة الاتهام ، كما أن له بصفة خاصة الاستعانة بشهود نفى ، وكذا الاستعانة بخبير استشاري.
ويجري تكليف شهود النفي بالحضور أمام محكمة الجنح بواسطة المتهم أو المسئول عن الحقوق المدنية وبذلك قبل الجلسة بأربع وعشرين ساعة غير مواعيد المسافة ، ويجوز حضور الشهود في الجلسة بناء على طلب المتهم ، وبغير إعلان سابق. وعند حضور الشهود يسألون بمعرفة المتهم أولا ، ثم بمعرفة المسئول عن الحقوق المدنية. ويجوز للمتهم أن يطلب إعادة سماعهم لإيضاح أو تحقيق الوقائع التي أدوا الشهادة عنها ، كما يجوز للمحكمة أن توجه لهم أية أسئلة تراها لازمة لظهور الحقيقة ، وتلتزم المحكمة بسماع شهود النفي المعلنين ، أما الشهود الذين يحضرون الجلسة بدون إعلان فتملك المحكمة سلطة تقديرية كاملة في قبول أو رفض سماع شهادتهم .
ولا يجوز للمحكمة أن ترفض سماع شهود النفي تأسيسا على أن أدلة الثبوت في الدعوى كافية ؛ لأنه لا يجوز الحكم مسبقاً على شهادة الشاهد ؛ إذ بناء على سماع هذه الشهادة قد يتغير وجه الرأي في الدعوى. على أنه يشترط في طلب سماع شهود النفي أن يكون ظاهر التعلق بموضوع الدعوى ، أي أن يكون هذا الطلب لازماً للفصل في موضوعها ، وإلا فيجوز للمحكمة أن ترفض هذا الطلب ، ولا تلتزم بالرد عليه صراحة ، كما إذا كان الغرض من طلب سماع شهود النفي المماطلة في إجراءات الدعوى. وللمحكمة مطلق السلطة في تقدير الشهادة بعد سماعها ، بما مؤداه أنه لا يجوز للمحكمة أن تقدر شهادة أحد الشهود قبل سماعها .
ومن بين مظاهر حق المتهم في الإثبات تقرير أحقيته – كما هو حق لباقي الخصوم - في الاستعانة بخبير استشاري من أجل مناقضة الرأي الفني للخبير المعين بواسطة المحكمة (م. 88 ، 292 إجراءات جنائية). وهنا يحق للخبير الاستشاري أن يطلب من المحكمة تمكينه من الإطلاع على أوراق ومفردات الدعوى ، والإطلاع على التقرير المقدم من الخبير المعين بواسطة المحكمة. ويحق للمتهم طلب حضور الخبير المعين لمناقشته بواسطة الخبير الاستشاري. على أن المحكمة تظل هى الخبير الأعلى في الدعوى ، ومن ثم تملك السلطة التقديرية الكاملة في المفاضلة بين تقارير الخبراء سواء المعينين أو الاستشاريين ، فالخبرة لا تخرج عن كونها دليل في الدعوى يخضع لتمحيص وقناعة محكمة الموضوع.
28- حق المتهم في الصمت :
إذا كان للمتهم حق المساهمة الإيجابية في الإثبات عن طريق الحق في تقديم الأدلة التي تدحض الاتهام المنسوب إليه فإنه يستطيع أيضاً أن يلتزم الصمت دون أن يفسر هذا الصمت على إنه اعتراف بالتهمة ، ومن ثم دليل على الإدانة. فحق المتهم في الصمت Droit au silence حق أصيل من حقوق المتهم ، الذي يجب أن يسمح له بمساحة حرة في تنظيم دفاعه كيفما يريد ، ولو بالصمت ، دون أن يستنج من هذا الصمت دليل على سلامة ما ينسب إليه من اتهام.
ولا شك أن حق المتهم في الصمت حق حديث النشأة ، ذلك أنه لم يكن مقرراً في العصور القديمة ؛ إذ كان إجبار المتهم على الكلام من الأمور المباحة قانوناً ولو تأتى ذلك باستخدام القسوة والتعذيب . كما أن صمت المتهم قد مر تاريخياً من اعتباره واجبا عليه إلى اعتباره حقا له ؛ إذ أن واجب الصمت كان معروفا في إنجلترا حتى سنة 1898. وفى جلسات المحاكمة كان المتهم لا يستطيع الإدلاء بأية أقوال لصالحه ، كما كان لا يجوز له أن يترافع كمتهم منذ البداية ولم يكن مسموحا له بالكلام ؛ إذ أن محامية كان هو الناطق بلسانه. ولكن اعتبار من عام 1898 كرس في القانون الإنجليزي حق المتهم في الصمت، وأصبح من حق المتهم أن يختار بين الشهادة بالنفي أو البقاء صامتاً .
على أن تقرير هذا الحق حين غزا القوانين والمواثيق الدولية قد تم بدلالات لفظية مختلفة ، ففي القانون الأمريكي ، وطبقا للتعديل الخامس للدستور الأمريكي عام 1791 ، يكون للمتهم الحق في البقاء صامتاً (قضية ميراندا عام 1966) ، وفى القوانين الإنجليزي والكندي يعبر عن هذا الحق "بالحق في أن لا يكره المتهم على الشهادة ضد نفسه". وفى القانون الإيطالي تم التعبير عن هذا الحق بأن "يكون لكل متهم الحق في السكوت ولا يساهم مطلقاً فيما يخص تجريمه". وفى القانون البرتغالي يكون للمتهم "الحق في عدم الإجابة على الأسئلة". وفي القانون الفرنسي للمتهم الحق في "عدم القيام أو الإدلاء بأي إقرار" (م. 114-1) ، "وعدم جواز سؤال المشتبه فيه إلا بموافقته" (م. 116-3 إجراءات فرنسي). وفى القانون المصري "لا يجوز استجواب المتهم إلا إذا قبل ذلك" (م 274 إجراءات مصري).
وهنا يثور التساؤل حول الطبيعة القانونية للصمت ، أي ما إذا كان صمت المتهم يمثل حقاً ، أم حرية ، أم رخصة. الواقع أن الصمت امتياز أساسي يمنح للمتهم في مواجهة المجتمع والسلطات القضائية ، يقف على ذات المستوى مع افتراض البراءة ، والحق في الاستعانة بمحام ، بحسبان أن الصمت يدخل ضمن دائرة حقوق الدفاع. وأياً ما كان المدلول الحقيقي لعبارات حق ، حرية ، رخصة ، فإن الصمت يمثل حقاً ، بحسبان أنه ينسب لشخص طبيعي كان أو معنوي ، وبحسبان أن من التشريعات ما كفل حمايته ضد خطر العدوان ، وبحسبان أنه لا يحتاج إلى تبرير من صاحب الحق فيه حال ممارسته ، شانه في ذلك شأن سائر الحقوق .
فالصمت – أياً كانت دوافعه - حق للمتهم ، يمنحه إمكانية اتخاذ موقف سلبي. ويتخذ الموقف السلبي شكل الامتناع عن الإجابة على الأسئلة الموجهة إليه من سلطة التحقيق ، وكذلك الامتناع عن المشاركة في المناقشات ، والتحقيق بالجلسة. فالقانون لا يجبر الشخص على اتهام نفسه بنفسه ، ولكن يكلف النيابة العامة بتقديم دليل الاتهام ، والقول بغير ذلك يهدر كل قيمة لأصل البراءة.
ولما كان الصمت حق ، فإنه يمنح المتهم ميزة الحق في الكذب Droit de mentir. هذا الأخير الذي يعد أحد مظاهر حرية المتهم في الدفاع عن نفسه ، تلك الحرية المقررة للمتهم سواء كان دفاعه صادقاً أم مشتملاً على أكاذيب. وهنا يأخذ الكذب أحد سبيلين : إما يتمثل في إدلاء المتهم بأقوال مناقضة للحقيقة ، وذلك على سبيل الخداع والتضليل ، أو إنكار واقعة حقيقة ، أو إنكار المساهمة في ارتكاب الجريمة بل وتحويل دفة الاتهام إلى شخص آخر. وإما يتمثل في الكذب نتيجة النسيان ، أو تعمد إخفاء واقعة جوهرية تتعلق بظروف الجريمة.
فالكذب يأخذ بالنسب للمتهم – خلافاً للشاهد - نفس أهمية الصمت من حيث اعتباره وسيلة للدفاع. فللمتهم أن يكذب متى كان ذلك سبيله إلى تقرير براءته ، ولا يكلف باتخاذ موقف معين تجاه الأدلة والشبهات القائمة ضده . والاعتراف للمتهم بالكذب يكون باعتباره حقاً ، وليس رخصة كما ذهب البعض ؛ لأنه يتقرر في وقت يكون فيه المتهم معتصماً بأصل البراءة، والقاضي يعلم جيدا أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته، وأنه لا يمكن الاعتماد على الكذب لتأسيس الإدانة. والقول بغير ذلك يهدر حق المتهم في أن يتخفى وراء أقوال كاذبة، وبالتالي حقه في الدفاع كما يريد، بالإضافة إلى أنه بوسع القاضي أن يطرح الأقوال الكاذبة إذا لم يقتنع بها. وما يؤكد أنه حق أن بعض التشريعات قد نصت صراحة على عدم عقاب المتهم إذا أدلى بأقوال كاذبة (م. 180/2 من قانون المحاكمات الجزائية العراقي ، م. 158 من قانون المحاكمات الجزائية الكويتي). وهو ما أكدته محكمة النقض المصرية بقولها إن "مسلك المتهم في الدفاع عن نفسه بكل السبل لا يصح اتخاذه دليلا على قيام موجب المسئولية ى حقه" .
وإذا كان تقرير حق المتهم في الصمت يجد قبولاً في مرحلة المحاكمة ، إلا أن بعض التشريعات قد دعمت هذا الحق كذلك في المرحلة السابقة على المحاكمة. ففي القانون الإنجليزي يجب على الشرطة وجهة التحري إحاطة المتهم بالحقوق التي يتمتع بها قانونا ، وليس لهذا الأخبار شكل محدد ، إذ قد يكون شفويا أو كتابياً. ويلتزم رجل الشرطة بإحاطة المتهم بأنه غير مكره على الإجابة على الأسئلة التي توجه إليه ، وأن كل قول له يمكن الاستناد إليه قضائياً . وكذا تقرر في القانون الأمريكي هذا الحق في المرحلة الشرطية. ففي عام 1966 كرست المحكمة العليا القواعد التي تطبق على استجواب الشرطة وذلك في قضية ميراندا Miranda ، ومنها وجوب إعلان المتهم بعبارات واضحة وغير غامضة في أن له الحق في البقاء صامتا ، وأن كل ما يقوله أو يدلى به يمكن أن يستخدم ضده أمام المحكمة ، وإذا فضل المتهم البقاء صامتاً تعين وقف الاستجواب على الفور .
هذا الأمر بذاته قد تقرر في قانون الإجراءات الجنائية الإيطالي الجديد المطبق منذ عام 1989 ، حيث وضع هذا القانون تصوراً جديداً لاستجواب المتهم بمعرفة الشرطة وذلك تحت تأثير تحول هذا القانون من النظام التنقيبي إلى النظام الاتهامي على غرار النظام الإنجليزي. ووفقاً للمادة 350 من هذا القانون لا يجوز استجواب المتهم بواسطة الشرطة القضائية إلا بتوافر شرطين : الأول احترام الضمانات المنصوص عليها في المادة 64 من قانون الإجراءات والتي تقضي بتأكيد حق كل شخص يستجوب في عدم الإجابة على الأسئلة ، أي صمته وحقه أن يخبر مقدماً بهذه الميزة. وتستلزم المادة 64 ضرورة إخبار المتهم بحقه في البقاء صامتاً ولو كانت الجريمة في حالة تلبس. وتلتزم أيضاً بهذا الإخبار النيابة العامة. ومخالفة ذلك يترتب عليه بطلان ويكون إخبار المتهم بالحق في الصمت والمحامي خلال كل استجواب وليس الاستجواب الأول فقط وذلك من أجل تحقيق فعالية الحق في الصمت واحترام إرادة المتهم .
وقد اعترف المشرع الفرنسي بحق المتهم في الصمت في مرحلة جمع الاستدلالات بنص صريح بعد تعديل المادة 63/1 من قانون الإجراءات الجنائية بموجب القانون رقم 516 لسنة 2000 الصادر في 15 يونيو 2000 حيث نص التعديل الجديد على أنه يتعين إخبار الشخص المحتجز بوليسياً بحقه في عدم الإجابة على الأسئلة التي توجه إليه من المحققين. وكذا يطبق الحق في الصمت في مرحلة التحقيق الابتدائي وفقا للمادة 116/3 والمتعلقة بالحضور الأول أمام قاضي التحقيق ، حيث تنص هذه المادة على عدم جواز استجواب محل الملاحظة (المتهم) إلا برضاه.
أما على مستوى القانون المصري فليس هناك من نص يقرر حق المتهم في الصمت في مرحلة ما قبل المحاكمة. وإذا كانت المواد 29 ، 35 إجراءات جنائية تعطي الحق لمأمور الضبط القضائي في سؤال المشتبه فيه وكل من لديه معلومات عن الجريمة ، وتجيز له أن يستدعي الأشخاص المشتبه فيهم فإن رفضوا الحضور جاز له أن يستصدر أمرا من النيابة العامة بضبطهم وإحضارهم ، إلا أنه ينعقد الاتفاق على أنه يجب عند سماع أقوال المقبوض عليه أن يسمح له مأمور الضبط بالإدلاء بما يشاء من أقوال بحرية تامة ودون تأثير عليه ، بحيث إذا رفض المشتبه فيه الإجابة على الأسئلة فلا يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يكرهه على الإجابة لأن له الحرية الكاملة في الإجابة أو عدم الإجابة ، فهو غير ملزم بالكلام . هذا الأمر بذاته ينطبق في مرحلة التحقيق الابتدائي- رغم عدم وجود نص صريح - ، تأسيساً على حظر المشرع تحليف المتهم اليمين ، وحمايته من الإكراه حال إدلائه بأقواله (م.302/2 إجراءات).
وتكاد تجمع التشريعات على عدم جواز استخلاص القاضي من صمت المتهم شيئاً في غير صالحة. وبدلالة أخرى ، لا يجوز للمحكمة أن تعتبر الصمت دليلاً على الاعتراف بالذنب أو صحة الاتهام. ففي القانون الكندي لا تستطيع سلطة الاتهام ولا المحكمة التعليق على صمت المتهم أمام هيئة المحلفين ونفس الأمر في القانون الأمريكي ومع ذلك يجوز للمتهم أو مدافعه توجيه المحلفين بأن صمته يجب ألا يؤدي إلى قرينة سلبية ضده. ويقضي القانون البرتغالي بهذا الحكم في صراحة إذ تنص المادة 343/1 من قانون الإجراءات الجنائية على أن صمت المتهم لا يمكن أن يضر به. وهذا ما استقر عليه قضاء النقض المصري حيث قضي بأن "سكوت المتهم لا يصح أن يتخذ قرينة على ثبوت التهمة ضده" .
ويقرر البعض بحق أنه وإن كانت القاعدة تقضي بأن القاضي لا يستطيع أن يتخذ من صمت المتهم قرينة على ثبوت التهمة ضده ، إلا أن مبدأ حرية القاضي الجنائي في الاقتناع يحد من فاعلية مباشرة الحق في الصمت ، ذلك أن القاضي يستطيع أن يحتفظ داخلياً بدلالة عكسية من هذا الصمت دون أن يفصح عنها ويكون لها أثر بلا شك على قراره .
29- ثانياً : أثار المبدأ حال تقييم أدلة الإثبات :
استقر حديثنا على أن افتراض البراءة يعفي المتهم من عبء إثبات براءته ، بحيث تتحمل النيابة العامة بعبء إثبات الاتهام عن طريق تقديم الأدلة على الإدانة. على أن هذه الأخيرة لا تتأتى لمجرد تقديم الدليل ، بل تعلق على قناعة القاضي قناعة يقينية بها ، بحيث إذا ثار شك حول دلالتها أو قوتها الاقناعية تعين القضاء بالبراءة. فالأحكام الجنائية يجب أن تبنى على الجزم واليقين لا على الظن والاحتمال. وهكذا فإن أصل البراءة يوجب اعتماد اليقين القضائي كأساس للحكم بالإدانة ، كما يوجب اعتماد الشك في الاتهام سنداً للبراءة.
30- أ : اليقين القضائي أساس الإدانة :
البراءة أصل مفترض في المتهم ، وهذا الأصل لا يجوز نقضه بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها المحكمة وتتكون من جماعها عقيدتها ، بما يقطع بأن اليقين القضائي هو المعول عليه حال تقرير الإدانة. وهذا اليقين هو سبيل المحكمة في تكوين عقيدتها. تلك العقيدة التي يكونها القاضي الجنائي بحرية الكاملة من أي دليل يطمئن إليه ضميره ، طالما أن له أصل في الأوراق. وللقاضي وحده يرجع تقدير قيمة الدليل ، بحيث لا يحق مطالبته بالأخذ بدليل دون الآخر ، وهو ما يعني في النهاية أن القاضي يعتمد في قضائه على صوت ضميره ويلبي نداء إحساسه وشعوره وتقدير لأدلة الدعوى. وهذا ما كرسته المادة302/1 من قانون الإجراءات الجنائية حيت نصت على أنه "يحكم القاضي في الدعوى حسب العقيدة التي تكونت لدية بكامل حريته" ، كما كرسته المادة 304 إجراءات جنائية حين قررت أنه "إذا كانت الواقعة غير ثابتة...تحكم المحكمة ببراءة المتهم". فالمبدأ إذا هو حرية القاضي في الإثبات الجنائي وحريته في تكوين عقيدته L’intime conviction du juge ، الأمر الذي يعد هجر لنظام الأدلة القانونية Preuve légale ، الذي تحدد فيه للقاضي سلفاً الأدلة التي يمكنه بمساعدتها معرفة الحقيقة مع تقدير قيمة كل منها في الإثبات .
ولكن حرية المحكمة في الاقتناع لا تعني التحكم ولا تنبي على الفوضى في التقدير فلابد أن يكون الاقتناع مبنياً على حجج قطعية الثبوت وتفيد الجزم ، أي مبنياً على اليقين . ويقصد باليقين هنا ليس اليقين الشخصي للقاضي فقط ، وإنما هو اليقين القضائي الذي يتفق مع العقل والمنطق والذي يمكن أن يصل إليه الكافة من خلال أدلة الدعوى. فلليقين جانبين ، أحدهما شخصي والأخر موضوعي. واليقين الشخصي هو ما استقر في وجدان القاضي وارتاح إليه ضميره ، أما الجانب الموضوعي فهو اليقين القضائي المستمد من الأدلة التي أقنعت القاضي والتي يمكن أن تفرض نفسها على الكافة ، حتى لا يكون عمل القاضي ابتداعاً للوقائع وانتزاعا من الخيال . يفهم من جماع ذلك أن القاضي يسعى للوصول للحقيقة القضائية دون الحقيقة المطلقة ، تلك التي لا يعلمها إلا لله عز وجل ، ذلك أن الإثبات في المواد الجنائية ير على وقائع مادية ونفسية وليس على تصرفات قانونية كما هو الحال في المواد المدنية .
وإذا كانت حرية القاضي في الاقتناع لا تعني التحكم أو الفوضى في التقدير ، فكان من الواجب أن يتقيد القاضي بمجموعة من الضوابط ، الأمر الذي يكفل توافر فكرة المحاكمة القانونية التي أوجبها الدستور كأداة لهدم قرينة البراءة المفترضة في المتهم. ومن بين تلك الضوابط ضرورة أن تكون الأدلة التي استقى منها القاضي اقتناعه مقبولة في العقل والمنطق ، وأن تكون هذه الأدلة قد طرحت على بساط البحث والمناقشة في الجلسة بحيث يتمكن الخصوم من الرد عليها ، وأن يكون المتهم قد تم سماعه وتحقيق طلباته المنتجة في الدعوى وذلك على قدم المساواة التامة مع الاتهام وأن تكفل المحكمة للمتهم الحق في الدفاع. هذا ويجب أن يكون الحكم الصادر بالإدانة قد تكونت عقيدة القاضي فيه بناء علي دليل مشروع ، لأن الحرية التي يمارسها القاضي في تكوين اقتناعه يجب أن تتم في إطار المشروعية وتحت مظلة القانون. وفي النهاية يلتزم القاضي بتسبيب حكمه حتى يكون مرآة لمنطق قضائي سليم ، وحتى يكمن إعمال الرقابة على الشق الموضوعي لليقين القضائي .
31- 2- : الشك في الاتهام سند للبراءة :
النتيجة الطبيعية لتطلب اليقين القضائي في الإدانة ، هى وجوب تفسير الشك لصالح المتهم In dublio pro reo ، ذلك أن هذا رجوع للأصل العام في الإنسان ، ألا وهو البراءة. وتعني قاعدة الشك يفسر لمصلحة المتهم أنه عندما لا يقتنع القاضي اقتناعاً يقينياً تاماً بإدانة المتهم ، وكذلك عندما يقتنع بأن الأدلة التي قدمتها النيابة العامة غير كافية للإدانة ، فإنه يتعين عليه أن يقضي ببراءة المتهم إذ لا يستطيع أن يحكم بالإدانة إلا إذا كانت أدلة الاتهام أكيدة ومقنعة على سبيل الجزم واليقين. فكل شك في الاقتناع يجعل الحكم بالإدانة على غير أساس لأن إمكانية العكس مازالت محتملة.
وقاعدة تفسير الشك لصالح المتهم ترد على الشك الذي يكتنف الوقائع ، كما ترد على الشك الذي يتعلق بتفسير وتطبيق القواعد القانونية. ويترتب على ذلك أنه لا يشترط أن يبنى القاضي حكمه بالبراءة على أدلة ن بل يكفي أم يتشكك القاضي في أدلة الإثبات المقدمة إليه ، أو حتى في أدلة النفي . وهكذا يختلف الحكم بالإدانة عن الحكم بالبراءة فيما يتعلق ببيان الأدلة التي بني عليها ، فالحكم بالإدانة يجب أن يشتمل على بيان الواقعة المستوجبة للعقوبة ، والظروف التي وقعت فيها ، وأن يشير إلى نص القانون الذي حكم بموجبه (م 310 إجراءات). ففي جميع الأحوال يتعين على قاضي الموضوع أن يبين في حكمه بالإدانة الأدلة التي استمد منها اقتناعه اليقيني ؛ أما حكم البراءة فإنه يكفي فيه مجرد إبداء الرأي حول أدلة الإثبات دون أن تلتزم المحكمة بالتدليل القاطع على البراءة ، لأنها عودة للأصل في الإنسان .
غير أن تطبيق تلك القاعدة يظل مشروطاً بوجوب اشتمال الحكم الصادر بالبراءة على ما يفيد أن المحكمة قد محصت الدعوى ، وأحاطت بظروفها وملابساتها ، وبالأدلة التي قام عليها الاتهام ، كل ذلك عن بصر وبصيرة ، ووازنت بين هذه الأدلة وأدلة النفي ورجحت لديها دفاع المتهم أو ساورها الشك في صحة أدلة الإثبات .
الفصل الثاني
الشرطة والشرعية الإجرائية
32- تمهيد وتقسيم :
الشرطة برجالاتها تشكل – فوق دورها في القيام بالضبطية الإدارية (ومثالها الدوريات التي تسيرها الشرطة لحفظ الأمن ، وإجراءات التحقق من شخصية الأفراد أو ما يقال له الاستيقاف) - ركناً ركيناً من عناصر الضبطية القضائية Police judiciaire ، وذلك بحسب ما يستبين لنا من قراءة نص المادة 23 من قانون الإجراءات الجنائية ، التي تولت تعداد مأموري الضبط القضائي ، سواء في دوائر اختصاصهم ، أو في جميع أنحاء الجمهورية .
فما أن تقع الجريمة حتى تبدأ الدولة في مباشرة مهمتها في الكشف عن مرتكبيها وجمع التحريات والاستدلالات التي تلزم لتحقيق الدعوى الجنائية الناشئة عنها ، وتلك هى مهمة الضبطية القضائية. وهكذا نصت المادة 21 من قانون الإجراءات الجنائية على أن "يقوم مأمورو الضبط القضائي بالبحث عن الجرائم ومرتكبيها وجمع الاستدلالات التي تلزم للتحقيق في الدعوى.
والشرطة بحسبانها عنصر في الضبط القضائي لا تباشر مهمتها خارج سياج القانون ، بل يرتبط عملها ارتباطاً عضوياً مع الأهداف العامة للإجراءات الجنائية في كشف الحقيقة من أجل إنزال العقاب. وهكذا فإن الوسائل المستخدمة في الكشف عن الجرائم ومرتكبيها ليست جميعها مباحة ، بل إن هناك حدوداً تقف عندها الشرطة القضائية ، تلك الحدود المتمثلة في حماية الحقوق الأساسية للإنسان. وهنا يظهر ضرورة التزام رجالات الشرطة القضائية بالشرعية الإجرائية ، بحسبانها الأداة التي ترسم بوضوح الدور الذي يباشرونه ، والحدود التي تفصل العمل المنوط به عن المساس بالحقوق والحريات الفردية .
وبمراجعة الشرعية النصية التي تحكم عمل الشرطة القضائية يستبين لنا أن المشرع قد أناط بعناصر الضبط القضائي مهمة القيام بأعمال الاستدلال كإجراءات تحضيرية وتمهيدية للدعوى الجنائية تهدف إلى جمع المعلومات في شأن جريمة ارتكبت كي تتخذ سلطات التحقيق بناءً عليها القرار فيما إذا كان من الملائم تحريك الدعوى الجنائية (المبحث الأول). غير أن المشرع قد منح لعناصر الضبطية القضائية بعض السلطات الاستثنائية في التحقيق الابتدائي ، وذلك إما لتوافر أحد أحوال التلبس بالجريمة ، وإما ندباً للقيام بعمل من أعمال التحقيق من السلطة القائمة به (المبحث الثاني). وفي كلا الحالتين يتوجب التزام مأمور الضبط بحدود الشرعية الإجرائية ، التي تبدو على هذا النحو ضابط لاحترام الحريات الشخصية ، سواء حال مباشرة أعمال الاستدلال ، أو حال إسناد عمل من أعمال التحقيق لعنصر من عناصر الضبط القضائي.
المبحث الأول
الشرعية الإجرائية أداة تنظيم دور الشرطة القضائية في الاستدلال
33- أولاً : التعريف بمرحلة الاستدلالات وبيان أهميتها :
مرحلة الاستدلال هى تلك المرحلة التي تسبق مرحلة التحقيق الابتدائي ، أي المرحلة السابقة علي تحريك الدعوى الجنائية. ومن ثم فهى إجراءات خارجة عن معنى الخصومة الجنائية ، فهى لا تعدو إلا أن تكون تمهيد للدعوى الجنائية ، بغية البحث عن الجرائم ومرتكبيها وجمع الاستدلالات التي تلزم للتحقيق والدعوى (م. 21 إجراءات جنائية). وهكذا يمكننا تعريف إجراءات الاستدلال بأنها "مجموعة الإجراءات السابقة علي تحريك الدعوى الجنائية ، غايتها جمع المعلومات الأولية حول وقوع الجريمة ، حتى تستطيع النيابة العامة في ضوئها اتخاذ القرارات الملائمة بشأن الدعوى الجنائية". وهذا ما تؤكد عيه محكمة النقض حين قالت "إن إجراءات الاستدلال أياً كان من يباشرها لا تعتبر من إجراءات الخصومة الجنائية ، بل هي من الإجراءات الأولية التي تسلس لها سابقة علي تحريكها" . وهذه الإجراءات تغاير بهذا المعنى إجراءات التحقيق الابتدائي ، الذي يمثل المرحلة الأولي من مراحل الدعوى الجنائية. مؤدى ذلك أن الدعوى الجنائية لا تتحرك إلا بالتحقيق ، ولا تعتبر أنها قد بدأت بأي إجراء من إجراءات الاستدلال ، كما وأن الدليل بمعناه القانوني هو ما يستمد من التحقيق ، أما أعمال الاستدلال فلا يستمد منها أدلة قانونية ، بحسبان أن التحقيق الابتدائي يباشر طبقاً لأوضاع قانونية معينة لا تتوافر في جمع الاستدلالات .
ولا يجب أن يفهم من ذلك عدم أهمية مرحلة الاستدلال ، فالحق أن لتلك المرحلة أهمية عملية لا يمكن إنكارها ، بحسبان أن الاستدلال يسمح للنيابة العامة أن تتصرف في ضوء ما ورد بمحضر جمع الاستدلالات ، إما بحفظ الأوراق في كثير من البلاغات والشكاوى التي لا تستند إلي أساس صحيح ، والتي لا يؤدي تحقيقها إلا إلي إصدار أمر بالأوجه لإقامة الدعوى أو البراءة ؛ وإما بتحريك الدعوى الجنائية مباشرة دون اللجوء إلي التحقيق في القضايا البسيطة (م. 63 إجراءات جنائية) ، الأمر الذي يتيح لسلطات التحقيق التفرغ الكامل للقضايا الهامة. ومن ثم فإن الاستدلال يقوم بدور هام في سرعة الإجراءات ، وتسهيل مهمة التحقيق الابتدائي والمحاكمة في الحالات التي يجوز فيها رفع الدعوى دون تحقيق. كما أن سلطة التحقيق لا يمكنها إصدار أمر بالقبض على الأشخاص أو تفتيشهم إلا بناءً على تحريات جدية يقوم بها رجال الضبطية القضائية وإلا وقع أمر القبض والتفتيش باطلاً . هذا فضلاً عن أن لأعمال الاستدلال أهميتها في إنهاء الدعوى الجنائية بغير محاكمة بما يوفر الوقت والمال ، وذلك في الحالات التي يسمح فيها بالصلح أو إصدار الأوامر الجنائية . هذا وقد تعول المحكمة في تكوين عقيدتها على ما جاء بمحاضر جمع الاستدلالات من معلومات باعتبارها معززة لما ساقته من أدلة ما دامت تلك التحريات قد عرضت على بساط البحث بالجلسة . كما يمكن للمحكمة أن تستند إلى اعتراف المتهم الوارد في محضر هذه الاستدلالات ولو عدل عنه بعد ذلك
ومع التقدير الكامل لتلك الأهمية ، إلا أن البعض من الفقه قد عاب على تلك المرحلة خطر المساس بحريات الأفراد (وبصفة خاصة إجراءات التحفظ علي المشتبه فيهم ، التي يتعرض فيها الأفراد إلي إهدار للضمانات المقررة). ذلك أن البحث عن الأدلة يتولاه رجال الشرطة الذين قد لا يهتمون إلا بتحقيق فعالية تدخلهم في الكشف عن المجرمين ، الأمر الذي يجعلهم لا يحرصون علي حماية حريات الأفراد. هذا فضلاً عن أن أعمال الاستدلال لا تحاط بالضمانات والشكليات التي يتطلبها القانون في إجراءات التحقيق.
ومع سلامة الحجج التي قال بها هذا الرأي ، إلا أن ذلك لا ينال من قيمة هذه المرحلة. فما يحدث أثناء القيام بأعمال الاستدلال لا يرجع إلى عيوب في أعمال تلك المرحلة بقدر ما يعود إلى إساءة استعمال السلطات الممنوحة لمأمور الضبط القضائي خلالها. فإجراءات التحقيق الابتدائي تنطوي هى الأخرى علي مساس بحريات الأفراد ، وبصفة خاصة حال تقرير حبس المتهم احتياطياً ، ومع ذلك لم يقل أحد بعدم ضرورة أعمال التحقيق. وهنا يتوجب القول بضرورة تفعيل الرقابة التي تمارسها النيابة العامة علي أعمال الاستدلال ، خاصة حال اتخاذ إجراءات التحفظ علي المشتبه فيهم ، فضلاً عن ضرورات الاهتمام بتأهيل وإعداد مأموري الضبط القضائي ، وتعميق دراسات حقوق الإنسان في مراحل الإعداد الشرطي.
34- ثانياً : المبادئ الحاكمة لأعمال الاستدلال :
نظم المشرع المصري أعمال الاستدلال في المواد 21 وما بعدها من قانون الإجراءات الجنائية. وبمطالعة الشرعية النصية الحاكمة لتلك الأعمال يبين لنا أن هناك جملة من المبادئ التي تخضع لها أعمال الاستدلال أهمها : مشروعية وسائل الاستدلال ، وعدم المساس بحريات الأفراد ، وعدم تقيد مأمور الضبط القضائي بشكليات وضمانات التحقيق الابتدائي ، وتحرير محضر الاستدلالات ، وأخيراً عدم اشتراط حضور المحامي أثناء مباشرة هذه الأعمال.
35- أ : مشروعية وسائل الاستدلال :
إذا كان المشرع لم يحدد الوسائل التي يتبعها مأمور الضبط القضائي في جمع الاستدلالات ، فذلك يعني حق اللجوء إلى كل وسيلة من شأنها الكشف عن الجريمة ومرتكبها ، شريطة أن تكون تلك الوسيلة مشروعة وتحقق غاية الاستدلال ، وإلا وصمت الأدلة المتخلفة عنها بالبطلان .
وبناء علي ذلك يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يتبع أي إجراء أو يستعمل أية وسيلة يراها مناسبة للتحري عن الجرائم بقصد اكتشافها ، ولو اتخذ في سبيل ذلك التخفي وانتحال الصفات حتى يأنس الجاني له ويأمن جانبه وليتمكن من أداء واجبه ، ما دام أن إرادة الجاني تبقي حرة غير معدومة . كما أن لمأمور الضبط القضائي أن يختار لمعاونته في مهمته المرشدين أو المخبرين السريين لجمع المعلومات التي يحتاج إليها ولو أبقى سراً مجهولاً . كما أجاز القضاء الاستعانة بالكلاب البوليسية في عملية عرض المتهم للإستعراف عليه . كما أجاز البعض تصوير المتهم من قبل الشرطة من أجل عرض صورته على المجني عليه والشهود فقط ، شريطة أن يتم ذلك في مكان عام كي لا يقع الفعل تحت طائلة المادة 309/2 عقوبات . كما أن لرجال الضبطية القضائية الاستعانة بوسائل التكنولوجيا الحديثة ، ومنها أساليب الاستعراف بطريق فحص الحامض النووي DNA ، في إتمام مهام الاستدلال التي يكلفون بها .
غير أنه لا يجوز لمأمور الضبط ارتكاب جريمة بقصد الكشف عن جريمة أخري ، مثل استراق السمع والمشاهدات التي تجري خلسة داخل المساكن . كما يحظر اللجوء إلي التحريض علي ارتكاب الجرائم من أجل ضبطها وتسهيل الاستدلال علي مرتكبيها .
36- ب : عدم جواز المساس بالحرية الفردية :
الأصل أن إجراءات الاستدلال لا تمس الأشخاص في حرياتهم ، ذلك أن السلطات القائمة بالاستدلال لا تملك أي سلطة قهر وإكراه لإلزام الأشخاص بالخضوع للأعمال التي تتضمنها الاستدلالات . وعلي ذلك يجوز للأفراد أن لا يلبوا دعوة مأمور الضبط القضائي بالحضور ، وإذا حضروا فإنه لا يستطيع إجبارهم علي الإدلاء بأقوالهم ، كما أنه لا يجوز لمأموري الضبط القضائي أن يفتش مسكنا إلا برضاء حائزه . وبناء علي ذلك قضي بأن التفتيش الذي يقوم به رجال الشرطة في أثناء البحث عن مرتكبي الجرائم وجمع الاستدلالات الموصلة إلي الحقيقة ، ولا يقتضي إجراؤه التعرض لحرمة المسكن ، إجراء غير محظور . كما أنه لا يجوز لمأمور الضبط القضائي دخول الأماكن الخاصة بدون إذن قضائي رعاية لحرمتها وفق ما تقضي به المادة 41 من الدستور. وتجيز المادة 45 من قانون إجراءات الجنائية لمأمور الضبط القضائي دخول الأماكن الخاصة بالأفراد إذا كانت هناك حالة طلب مساعدة من الداخل ، أو في حالة الحريق أو الغرق ، أو ما شابه ذلك ، تأسيساً كل ذلك على فكرة الضرورة. كما أن القضاء قد أباح لمأمور الضبط القضائي دخول الأماكن الخاصة دون إذن من أجل القبض على متهم متواجد فيه ، تنفيذاً لأمر صادر بضبطه وإحضاره ، بحسبان أن ذلك مجرد عمل مادي تقتضيه ضرورة تعقب المتهم أينما وجد .
37- ج : عدم التقيد بشكليات التحقيق الابتدائي :
لم يخضع المشرع الأعمال المتخذة في مرحلة الاستدلالات لذات الشكليات التي يستلزم القانون توافرها في التحقيق الابتدائي. فالشهود والخبراء لا يؤدون اليمين القانونية ، (م. 29/2) ، ولا يصطحب مأمور الضبط القضائي معه كاتباً وقت مباشرته إجراءات الاستدلالات ليقوم بتدوين ما يقوم به من إجراءات. كما لا يتقيد مأمور الضبط القضائي بالإجراءات التي يتطلبها القانون في الحصول علي الدليل القانوني ، ولا يلتزم بإتباع أسلوب معين في مرحلة التحري . ولعل هذا الذي أنتج فكرة عدم صلاحية الأعمال الاستدلالية التي يقوم بها مأمور الضبط القضائي لإنتاج دليل قانوني يعول عليه في تقرير الإدانة . بيد أن تلك الأعمال تصلح "نواة لدليل" ، متى محصت من قبل المحكمة .
38- د : ثبوت أعمال الاستدلال بالكتابة :
أوجبت المادة 24/2 من قانون الإجراءات الجنائية على مأمور الضبط القضائي أن يثبت جميع الإجراءات التي يقوم بها في محاضر موقع عليها منهم ، يبين بها وقت اتخاذ الإجراء ومكان حصوله. ويجب أن تشمل تلك المحاضر زيادة علي ما تقدم توقيع الشهود والخبراء الذين سمعوا ، وترسل المحاضر إلي النيابة العامة مع الأوراق والأشياء المضبوطة. وترجع عله استلزام الكتابة عن طريق تحرير محضر في إمكانية مراجعة الإجراءات كي يتسنى التحقق من اتخاذها وفق موجبات القانون ، وليتسنى بعد ذلك الاحتجاج بما تتضمنه.
ويجب أن يشتمل المحضر على عدد من البيانات منها : إثبات الإجراءات التي يتخذها مأمور الضبط القضائي ، ووقت اتخاذها ، ومكانها. ويجب أن تشمل المحاضر فضلاً عن ذلك توقيع محرر المحضر ، وتوقيع الشهود والخبراء الذين سمعوا. ويتعين القول بأن ما نص عليه القانون من تحديد للبيانات التي يجب أن يشتملها محضر جمع الاستدلالات لم يرد إلا علي سبيل التنظيم والإرشاد . على أنه قد قضي بوجوب توقيع تلك المحاضر في جميع الأحوال من مأمور الضبط القضائي .
وهنا يثور التساؤل حول مدي ترتيب البطلان كجزاء على عدم تحرير محضر الاستدلالات علي الإطلاق. هنا يتجه قضاء النقض إلى رفض تقرير البطلان حال إغفال تحرير محضر الاستدلالات. فقد قضي بأن القانون وأن كان يوجب أن يحرر مأمور الضبطية القضائية محضرا بكل ما يجربه في الدعوى من إجراءات قبل حضور النيابة إلا أن إيجابية ذلك ليس إلا لغرض تنظيم العمل وحسن سيرة .
ولدينا أنه يجب تقرير البطلان كجزاء على عدم تحرير محضر جمع الاستدلالات. ذلك أن إجراءات الاستدلالات يمكن للمحكمة الاستناد إليها ولو علي سبيل الاستئناس ، لذلك يجب أن تدون حتى تكون لها حجيتها علي الأمر والمؤتمر ، خاصة أنه قد تطول المدة بين جمع التحريات وبين الإدلاء بها أمام المحكمة . ويتصل بذلك ضرورة النص – كما هو الحال بالنسبة للنيابة العامة وقاضي التحقيق أو مأمور الضبط القضائي حال ندبه للتحقيق – على ضرورة أن يحضر مع مأمور الضبط القضائي وقت مباشرة جمع الاستدلالات المنوطة به كاتب لتحرير ما يجب تحريره من المحاضر. وبهذا الرأي أخذت محكمة النقض في بعض أحكامها .
39- هـ : حقوق الدفاع أثناء جمع الاستدلالات :
على خلاف مرحلة التحقيق الابتدائي (م. 77/3) لم يوجب القانون المصري علي مأمور الضبط القضائي السماح للمشتبه فيه باستصحاب محام معه أثناء مرحلة جمع الاستدلالات. وتكمن علة هذه التفرقة في أنه لا يتولد عن مرحلة الاستدلال دليل ، ومن ثم فلا حاجة إلي توفير الضمانات التي يقتضها نشوء الدليل ذلك أن حصيلة الاستدلال مجرد معلومات تقتصر إلي التحديد والتقييم. كما أن الحاجة إلي الدفاع وضماناته لا تنشأ إلا إذا ثبتت صفة المتهم ، وهذه الصفة لا تثبت إلا بأول إجراء من إجراءات التحقيق ، أما في مرحلة الاستدلال فإن الشخص مازال مشتبها فيه ، ومن ثم لا حاجة إلي الدفاع الذي يقتضيه أعمال التحقيق ، فلا يجوز له إذا التمسك باصطحاب محامية في هذه المرحلة. ولهذا قضي بأن دفع المتهم يبطلان محضر جمع الاستدلالات بسبب أن مأمور الضبط القضائي منع محامية من الحضور أثناء تحريره ، هذا الدفع لا يستند إلي أساس من القانون .
ويذهب البعض من الفقه إلي أن الأصل أن للمتهم الاستعانة بمحام أثناء إجراء الاستدلالات قبله لأنها تمثل جزءً من التحقيق الابتدائي بالمعني الواسع ، وللمحامي حق حضور هذه الاستدلالات فلا يجوز منعه من حضورها متى كان المتهم حاضرا بالأقل لأنه مع المتهم يمثلان شخصا وحدا. هذا وقد كان قانون المحاماة رقم 61 لسنة 1968 ينص في المادة 82 منه علي أنه للمحامين دون غيرهم حق الحضور عن ذوي الشأن أمام دوائر الشرطة ؛ غير أن القانون رقم 17 لسنة 1983 بشأن المحاماة أغفل هذا النص واكتفي بالنص في المادة 52 منه علي أنه يجب علي دوائر الشرطة أن تقدم التسهيلات التي يقتضيها القيام بواجبه وتمكنه من الإطلاع علي الأوراق والحصول علي البيانات.
وفي رأينا أن يتعين كفالة حق المشتبه فيه بالاستعانة بمحام في إجراءات الاستدلال ، على ذات النسق الذي قرره المشرع الفرنسي والألماني في هذا الصدد . فليس من المنطق والعدل أن يكفل حق الدفاع في الحالات التي يباشر فيها مأمور الضبط القضائي إجراءات التحقيق ، ويغفل هذا الحق في مواجهة ذات المأمور حين يباشر إجراء من إجراءات الاستدلال. وعلي أيا الأحوال فإن عدم وجود نص صريح يكفل حق الدفاع في تلك المرحلة لا يعني حظر إتاحة ذلك للمشتبه فيه ، غير أن الأمر يترك لمطلق السلطة التقديرية لمأمور الضبط القضائي.
40- ثالثاً : تحيد أعمال الاستدلال :
لم يحدد المشرع أعمال الاستدلال علي سبيل الحصر ، وإنما عدد بعض منها دون أن يحظر اللجوء إلى غيرها. ومن أهم أعمال الاستدلال التي جرى النص عليها : تلقي التبليغات والشكاوى ، إجراءات التحريات ، الحصول على الإيضاحات وإجراء المعاينات ، إجراءات التحفظ على الأشخاص والأشياء.
41- أ : تلقي البلاغات والشكاوى :
أوجب المشرع على مأمور الضبط القضائي في دوائر اختصاصهم أن يقبلوا التبلغيات والشكاوى التي ترد إليهم بشأن الجرائم ( المادة 24 إجراءات ). ويقصد بالتبلغيات عن الجريمة Denonciations إخبار السلطات العامة بوقوع جريمة. أما الشكاوى Plaintes فهي أيضا إخبار بالجريمة غير أنها تختلف عن التبليغات في أن مقدمها يطالب بالتعويض عما أصابه من ضرر ناشئ عن الجريمة. فإذا خلت الشكوى من الادعاء المدني فلا تعتبر سوي بلاغ لا يترتب آثاراً قانونياً في مجال دعوى التعويض. وهكذا نصت المادة 28 من قانون الإجراءات الجنائية على أن "الشكوى التي لا يدعي فيها مقدمها بحقوق مدنية تعد من قبيل التبليغات".
هذا وقد نص المشرع في المادة 25 من قانون الإجراءات الجنائية علي أن لكل من علم بوقع جريمة يجوز للنيابة العامة رفع الدعوى عنها بغير شكوى أو طلب أن يبلغ النيابة العامة أو أحد مأموري الضبط القضائي عنها. ولكن المشرع لم يرتب جزاءً على عدم التبليغ ، إذ هو محض رخصة. كما أوجبت المادة 26 إجراءات علي الموظفين العموميين أو المكلفون بخدمة عامة التبليغ عن الجرائم التي يعملون بها أثناء تأدية عملهم أو بسبب تأديته ، وهو أمر يدخل في واجبات وظائفهم مما قد يعرضهم للمسئولية التأديبية – دون المسئولية الجنائية - إذا خالفوا هذا الواجب.
إلا أنه توجد بعض الجرائم محددة على سبيل الحصر أوجب المشرع ضرورة التبليغ عنها وإلا تعرض المخالف للجزاء الجنائي. فإذا كانت الجريمة من جرائم الاعتداء علي أمن الدولة الداخلي والخارجي فقد جعل المشرع من عدم الإبلاغ عنها جريمة معاقب عليها (م. 84 ، 98 عقوبات). كما جعل المشرع من الإبلاغ سبباً معفياً من العقاب في بعض الجرائم (م. 48-أ ، 101 ، 107 مكرراً عقوبات).
وإذا قدم البلاغ والشكوى إلي مأمور الضبط القضائي وجب عليه أن يقبلها ، ولا يجوز له أن يرفض قبولها بأي حجة وإلا وجبت مسئوليته التأديبية. ويجب أن يثبت البلاغ كتابة حتى يمكن المحافظة على ما ورد فيه من معلومات. كما أوجب عليه الشارع أن يبعث بتلك التبليغات والشكاوى فوراً إلي النيابة العامة (م. 24 إجراءات جنائية). ولم يقصد الشارع بذلك سوى تمكين النيابة العامة من مراقبة مأمور الضبط القضائي أو الشروع في التحقيق في وقت مناسب. كما لم يتوخى المشرع سوى الرغبة في تنظيم العمل والمحافظة علي الدليل لعدم توهين قوته في الإثبات ، ولم يرتب علي مجرد الإهمال في ذلك أي بطلان ، إذ العبرة بما تقتنع به المحكمة في شأن صحة الواقعة ونسبتها إلي المتهم وأن تأخر التبليغ عنها . وتقيد البلاغات عادة في دفتر العرائض لدى تلقيها ، ثم يتم فحصها فإن لم تنطوي على جريمة قيدت في دفتر الشكاوى الإدارية بالقسم ، أما إذا كشف الفحص عن وجود جريمة فيتم تقييد البلاغ في دفتر أحوال القسم.
42- ب : إجراء التحريات :
ألقت المادة 21 إجراءات جنائية علي مأمور الضبط القضائي عبء البحث عن الجرائم ومرتكبيها. ويقصد بالتحريات جمع كافة القرائن والأدلة التي تفيد في التوصل إلي الحقيقة إثباتاً أو نفيا لوقوع الجريمة ونسبتها إلي فاعلها . ولا يوجب القانون أن يتولى مأمور الضبط بنفسه مهمة القيام بالتحريات ، بل له أن يستعين بمعاونيه من رجال السلطة العامة والمرشدين السريين ، أو من يتولون إبلاغه عما وقع بالفعل من جرائم مادام هو قد اقتنع شخصا بما نقلوه إليه ، وبصدق ما تلقاه عنهم من معلومات .
وللتحريات أهمية كبيرة بالنسبة لبعض إجراءات التحقيق ، ومنها التفتيش ، إذ يوجب القانون لطلب الأذن بتفتيش المنازل أو الأشخاص (م. 91 ، 94 إجراءات جنائية) وجود قرائن أو أمارات قوية تدل علي أن المراد تفتيشه حائز لأشياء تتعلق بالجريمة ، أو يخفي أشياء تفيد في كشف الحقيقة. وعلي سلطة التحقيق تقدير جدية هذه التحريات قبل إصدار إذن التفتيش ، فإذا كانت التحريات غير جدية وجب عليها رفض الأذن بالتفتيش. ولمحكمة الموضوع تقدير جدية هذه التحريات كشرط من شروط الأذن بلا معقب عليها من محكمة النقض .
على أنه يلزم كي تكون التحريات منتجة لآثارها أن تكون متعلقة بجريمة وقعت فعلا ، فلا يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يتدخل بفعله في خلق الجريمة ، أو التحريض علي مقارفتها . ومن ثم يبطل إذن التفتيش المتعلق بضبط جريمة مستقبلة ولو كانت التحريات والدلائل جدية علي أنها ستقع بالفعل .
43- ج : الحصول علي الإيضاحات وإجراء المعاينات اللازمة :
أوجبت المادة 24 من قانون الإجراءات الجنائية على مأمور الضبط القضائي وعلي مرؤوسيه أن يحصلوا علي جميع الإيضاحات ويجري المعاينات اللازمة لتسهيل تحقيق الوقائع. ويقصد بالحصول علي الإيضاحات ، جمع المعلومات من جميع الأشخاص المتصلين بالواقعة ممن لديهم معلومات عنها سواء من المبلغ أو الشهود أو المشتبه في أمرهم. وليس لمأمور الضبط القضائي إكراه أحد على الحضور أمامه للإدلاء بمعلوماته ، ولا يرتكب من امتنع عن الحضور ، أو حضر ورفض الإفضاء بمعلومات عن الجريمة ، جريمة ما. ويعلل ذلك بالطبيعة العامة لأعمال الاستدلال وتجردها من وسائل القهر .
ويجوز لمأموري الضبط القضائي أن يستعينوا بأهل الخبرة ، كالأطباء وغيرهم ، لإبداء رأيهم شفهيا أو بالكتابة (م. 29/1 إجراءات جنائية) . غير أنه لا يجوز لهم تحليف الشهود أو الخبراء اليمين ، إلا إذا خيف إلا يستطاع فيما بعد سماع الشهادة بيمين (م.29/2 إجراءات جنائية). ومن أجل الحصول على الإيضاحات تسمح المادة 29 إجراءات لمأمور الضبط القضائي بسؤال المشتبه فيه عن المتهمة المسندة إليه دون أن يستجوبه تفصيلاً. فإذا ما أعترف المتهم بما نسبه إليه فلا تثريب علي مأمور الضبط القضائي إذا ثبت هذا الاعتراف في محضره ، وللمحكمة أن تعول عليه في حكمها ما دامت قد اطمأنت إليه .
أما المعاينات فيقصد بها إثبات حالة الأشخاص والأمكنة والأشياء ذات الصلة بالجريمة ، قبل أن تنالها يد العبث والتخريب. والحق أن المعاينات لا تعدو إلا أن تكون صورة من صور الحصول علي الإيضاحات ، خصها المشرع بالذكر لما لها من أهمية في كشف الحقيقة. وإذا كان إجراء المعاينة ، الذي يوجب بحكم المنطق الانتقال إلي محل الواقعة ، يظل أمراً جوازياً لمأمور الضبط القضائي إن شاء أجراه وإن شاء أغفله ، إلا أن المادة 31 من قانون الإجراءات الجنائية قد أوجبت علي مأمور الضبط القضائي في حالة التلبس بجناية أو جنحة أن ينتقل فوراً إلي محل الواقعة ، ويعاين الآثار المادية للجريمة ويحافظ عليها ويثبت حالة الأماكن والأشخاص وكل ما يفيد في كشف الحقيقة ، ويسمع أقوال من كان حاضراً ، أومن يمكن الحصول منه علي إيضاحات في شأن الواقعة ومرتكبها . ويجب عليه أن يخطر النيابة العامة فور انتقاله.
ويجدر التنويه إلى أن المعاينات التي يقصدها نص المادة 24 إجراءات جنائية هى المعاينات التي يجريها مأمور الضبط القضائي كعمل من أعمال الاستدلال. ومن ثم وجب إجرائها في الأماكن العامة التي يباح للجمهور الدخول فيها بغير تمييز ، فإذا استطالت للمساكن بطلت ، وبطل ما نجم عنها من أدلة ، ذلك أنها تأخذ في تلك الحالة الأخيرة حكم التفتيش المحظور علي مأمور الضبط القضائي إجراءه إلا بإذن صادر من سلطة التحقيق ، أو برضاء حائز المسكن .
44- د : اتخاذ الإجراءات التحفظية على الأشخاص والأشياء :
خولت المادة 35/2 من قانون الإجراءات الجنائية لمأموري الضبط القضائي – في غير أحوال التلبس - سلطة اتخاذ الإجراءات التحفظية المناسبة ضد المتهم إذا وجدت دلائل كافية على اتهامه بارتكاب جناية أو جنحة سرقة أو نصب أو تعد شديد أو مقاومة لرجال السلطة العامة بالقوة والعنف. وله أن يطلب فوراً من النيابة العامة أن تصدر أمراً بالقبض عليه.
ويقصد بالدلائل الكافية تلك الدلائل القوية التي تحمل على الاعتقاد بوقوع الجريمة ونسبتها إلى المشتبه فيه ، فعندئذ يسوغ لمأمور الضبط القضائي أن يتحفظ على الشخص حتى تصدر النيابة العامة أمرا بالقبض عليه . وعلى ذلك فإن مجرد التبليغ عن جريمة لا يكفي للتحفظ على الشخص. وتقدير الدلائل التي تسوغ التحفظ ومبلغ كفايتها يكون بداءة لمأمور الضبط القضائي ، بشرط أن يكون ما ارتكن إليه يؤدي عقلا إلى الاعتقاد بوقوع الجريمة ونسبتها إلى المشتبه فيه ، على أن يكون تقديره هذا خاضعا لرقابة سلطة التحقيق تحت إشراف محكمة الموضوع .
ولا يعدو التحفظ إلا أن يكون محض إجراء وقائي ، لا يرقى إلى مصاف الضبط أو القبض ، ومن ثم فهو لا يخول مأمور الضبط القضائي تفتيش الشخص بناء على ذلك. وذلك استناداً إلى أنه يواجه شخصاً لا يعد متهماً ، وإنما مشتبه فيه . ونظراً لما يتضمنه التحفظ من مساس بالحرية الشخصية ، فقد حرص المشرع المصري على النص في المادة 35 إجراءات على وجوب أن يطلب فورا من النيابة العامة أن تصدر أمرا بالقبض على المشتبه فيه ، وبدون تحديد مهلة معينة لهذا التحفظ. ولذلك فإن هذه الإجراءات التحفظية تتحدد بالغرض منها ألا وهو التحفظ على المشتبه فيه لمنع هربه والمحافظة على أدلة الجريمة في حدود الوقت اللازم لعرض الأوراق على النيابة العامة لإصدار أمرها بالقبض. ومنها استيقاف المشتبه فيه أو تجريده من السلاح ، أو تعيين حراسة على مسكن الأخير لمنعه من مغادرته. وفي جميع الأحول يتعين ألا تزيد مدة التحفظ على الأشخاص عن مدة القبض المحددة بـ 24 ساعة (م.36 إجراءات جنائية) ، بحيث إذا لم يصدر أمر النيابة العامة بالقبض على المشتبه فيه خلال هذه الفترة يتعين إلغاء أمر التحفظ .
والحق أن حكم المادة 35 لا يلقى استحسان الفقه ، لذا أصابت محكمة النقض حين كشفت عن عدم دستورية هذا النص ووجوب الامتناع عن إعماله ، بما للمحاكم من إعمال رقابة الامتناع عن إعمال النصوص المخالفة للمبادئ الدستورية. ومن ثم قررت محكمة النقض في هذا الحكم "مفاد ما قضي به نص المادة 35 من قانون الإجراءات الجنائية من تخويل مأمور الضبط القضائي اتخاذ الإجراءات التحفظية المناسبة في حالة توافر الدلائل الكافية على اتهام شخص بارتكاب جناية أو جنحة سرقة أو نصب أو تعد شديد أو مقاومة لرجال السلطة العامة دون أن بصدر أمر قضائي ممن يملك سلطة إصداره أو أن تتوافر في حقه إحدى حالات التلبس بالجريمة التي حددتها المادة 30 من هذا القانون ، يخالف حكم المادة 41 من الدستور ، فإن الأحكام الواردة بالمادة 35 سالفة الذكر تعتبر منسوخة ضمناً بقوة الدستور نفسه منذ تاريخ العمل بأحكامه دون تربص صدور قانون ولا يجوز الاستناد إليها في إجراء القبض منذ ذلك التاريخ" .
وفضلاً عن اتخاذ الإجراءات التحفظية قبل الأشخاص ، فإن لمأمور الضبط القضائي سلطة اتخاذ الإجراءات المناسبة للمحافظة على آثار الجريمة وأدلتها ، والتي تمكن سلطة التحقيق من الإطلاع عليها ومعاينتها. ومن قبيل إجراءات التحفظ على الأشياء وضع الأختام على الأشياء التي بها آثار أو أشياء تفيد في كشف الحقيقة ، وله أن يقيم حراسا عليها لمنع العبث بأدلة الجريمة. ويجب على مأمور الضبط القضائي إخطار النيابة العامة بذلك في الحال ، وعلى النيابة إذا ما رأت ضرورة ذلك الإرجاء أن ترفع الأمر إلى القاضي الجزئي لإقراره (المادة 53 إجراءات). ويجوز لمأمور الضبط القضائي استدعاء خبير لرفع البصمات ، أو رفع آثار الدماء بعد إثبات أمكنتها ، وكذلك ضبط وتحريز المضبوطات ، كي ترسل فيما بعد إلى الخبير الذي يفحصها .
المبحث الثاني
الشرعية الإجرائية أداة تنظيم دور الشرطة القضائية في التحقيق
45- تمهيد وتقسيم :
أناط القانون بحسب الأصل مأموري الضبط القضائي بمهمة البحث عن الجرائم وجمع الاستدلالات التي تلزم للتحقيق في الدعوى (المادة 21 إجراءات) ، ومن ثم ينحسر عنهم الاختصاص باتخاذ أي إجراء من إجراءات التحقيق. وتكمن العلة في ذلك في أن إجراءات التحقيق لها طابع القهر والجبر وتمس بالحرية الفردية وما يتوجب للحياة الخاصة من حرمة. على أن المشرع قد ارتأى – ولضرورة وبصفة استثنائية - تخويلهم سلطة القيام ببعض إجراءات التحقيق ، إما لتوافر فرض التلبس بالجريمة ، وإما ندباً من سلطة التحقيق. وتبنى الحالتين على فكرة "الملائمة الإجرائية" ، إذ أن سلطة التحقيق قد تكون بعيدة عن موقع الجريمة ، وقد يكون انتقالها إليه مقتضياً وقتاً ، فيخشى إذا تطلب الشارع - على وجه حتمي – قيام سلطة التحقيق بجميع أعمال التحقيق ، أن تضيع المصلحة من اتخاذ بعض هذه الأعمال في وقتها الملائم .
46- أولاً : دور الشرطة القضائية في أحوال التلبس :
يوجب توافر إحدى حالات التلبس المنصوص عليها قانوناً الخروج على القواعد العامة في الإجراءات الجنائية ، بغية الإسراع في اتخاذ الإجراءات للمحافظة على أدلة الجريمة حتى لا تطمس أو يتلاعب بها ، وبغية القبض الفوري على المتهم قبل مغادرته مكان الجريمة أو قبل تمكنه من الهرب. فضبط الجريمة في حالة تلبس تنفي – إلى حد بعيد - مظنة الخطأ في التقدير ، فالجريمة واضحة وأدلتها ظاهرة شاهدة على صحة وقوعها ونسبتها إلى المتهم مما يستبعد معه احتمال الكيد أو التعسف معه من قبل مأمور الضبط القضائي . غير أن المشرع قد حصر حالات التلبس ، وأوجب له شروط معينة ، ثم رتب على توافر شروطه الصحيحة آثاراً تتصل بما يجوز لمأموري الضبط القضائي اتخاذه من أعمال التحقيق.
47- أ : التعريف بالتلبس وبيان خصائصه :
يمكننا تعريف التلبس بكونه حالة تلازم الجريمة ذاتها بصرف النظر عن شخص مرتكبها تتعلق باكتشافها دون أركانها القانونية . وقد حرص المشرع في قانون الإجراءات الجنائية على إبراز صفة التلبس وانصراف هذه الصفة للجريمة في المادة 30 حيث نصت على أن "تكون الجريمة متلبساً بها...". ويبين من هذا النص أن الجريمة المتلبس بها لا تخرج عن كونها الجريمة التي تكشف حال ارتكابها أو عقب الانتهاء من ارتكابها ، أو تلك التي تبدو بعد وقوعها بنتائجها المادية الظاهرة أمام الجميع.
وهكذا فإن التلبس إما يبني على المشاهدة الفعلية ، أي تلك الحالة التي يفاجأ فيها الجاني حال ارتكاب الجريمة ، فيؤخذ في إبان الفعل وهو يقارف إثمه ونار الجريمة مستعرة ، أو عقب ارتكابها ببرهة يسيرة ، وإما أن تكتشف عقب ارتكابها بوقت قريب وأدرك وقوعها ، بأدلتها وآثارها المادية الظاهرة أمام الجميع . ويصف الفقه الحالة الأولى بأنها حالة تلبس حقيقي La flagrance proprement dite ، أما الحالة التي تكتشف عقب ارتكابها بوقت يسير ، خلاله كان المجني عليه يتبع مرتكبها أو تبعته العامة مع الصياح أو إذا وجد مرتكبها حاملاً الأدوات المستعملة لتنفيذ الجريمة أو وجدت به آثار أو علامات تفيد أنه فاعل أو شريك فيها ، فيتعارف الفقه على تسميتها بالتلبس الاعتباري أو الحكمي Infraction réputée flagrante.
وإذا كان التلبس يقتضي بحكم المنطق عدم مرور فاصل زمني كبير بين وقوع الجريمة وبين مشاهدة مأمور الضبط القضائي لها أو لأثارها ، إلا أن المستقر عليه أنه لا ينفي قيام حالة التلبس كون رجل الضبط قد انتقل إلى محل وقوعها بعد مقارفتها بزمن ، مادام أنه قد بادر إلى الانتقال عقب علمه مباشرة ، ومادام أنه شاهد آثار الجريمة بادية .
وللتلبس خصائص ، منها أن أحواله إنما وردت على سبيل الحصر ، بما يقطع الطريق على مكنة القياس. ولا ترجع علة هذا الحصر إلا لكون التلبس يخول مأمور الضبط القضائي صلاحيات استثنائية في التحقيق ، الأمر الذي يقتضي عدم التوسع في هذه الصلاحيات خوفاً من التعسف وإساءة استعمالها ، وحتى لا تتعرض حريات وحقوق الأفراد للانتهاك دون ضوابط. وتكشف أحكام النقض بجلاء عن تلك الصفة الاستثنائية للتلبس وحصره في أضيق نطاق. فقد قضي بأنه "إذا كان المتهم قد أخرج ورقة من جيبه عند رؤيته لرجال البوليس ووضعها بسرعة في فمه ولم يكن ما حوته تلك الورقة ظاهراً حتى يستطيع رجال البوليس رؤيته فإن هذه الحالة لا تعتبر حالة تلبس بإحراز مخدر" . وكذا قضي بأن "سقوط اللفافة عرضاً من الطاعن عند إخراج بطاقته الشخصية لا يعتبر تخلياً منه عن حيازتها ، بل تظل رغم ذلك في حيازته القانونية ، وإذا كان الضابط لم يستبين محتوى اللفافة قبل فضها فإن الواقعة على هذا النحو لا تعتبر من حالات التلبس المبينة بطريق الحصر في المادة 30 إجراءات" .
ويتصف التلبس بكونه ذو طابع عيني لا شخصي ، بمعنى أنه حالة عينية تلازم الجريمة ذاتها بصرف النظر عن شخص مرتكبها. وبناء على ذلك قضي بأن "التلبس وصف ينصب على الجريمة لا على مرتكبها فيمكن أن تشاهد الجريمة دون أن يشاهد فاعلها" . ويترتب على كون التلبس حالة تلازم الجريمة ، أن الرؤية بذاتها ليست هي الوسيلة الوحيدة لكشف حالة التلبس ، بل يكفي أن يكون الضابط أو الشاهد قد حضر ارتكاب الجريمة وأدرك وقوعها بأية حاسة من حواسه ، سواء كان ذلك عن طريق السمع أو البصر أو الشم ، متى كان هذا الإدراك بطريقة يقينية لا تحتمل شكاً . كما يترتب على عينية التلبس صحة إجراءات القبض والتفتيش في حق كل من له اتصال بها سواء كان فاعلاً أو شريكا ، شوهد في مكان وقوعها أو لم يشاهد .
ولا يشترط لقيام حالة التلبس أن يؤدي التحقيق إلى ثبوت الجريمة قبل مرتكبها. ذلك أنه يكفي لتحقق حالة التلبس بالجريمة تحقق أحد عناصر الركن المادي فحسب ، سواء شاهد مأمور الضبط القضائي تحقق هذا العنصر أو أحس بوقوعه بطريقة لا تحتمل الشك ، ولا يشترط التثبت من توافر الأركان الأخرى للجريمة .
ولما كان التلبس صفة تلازم الجريمة ذاتها لا شخص مرتكبها ، فإنه من المقرر أن القول بتوافر حالة التلبس أو عدم توافرها هو من المسائل الموضوعية التي تستقل بها محكمة الموضوع بغير معقب عليها ما دامت قد أقامت قضاءها على أسباب سائغة .
48- ب : أحوال التلبس :
أبانت المادة 30 إجراءات جنائية أربع حالات للتلبس بالجريمة : إما مشاهدة الجريمة حال ارتكابها ، وإما مشاهدة الجريمة عقب ارتكابها ببرهة يسيرة ، وإما تتبع الجاني مع الصياح في أثر وقوعها ، وإما مشاهدة الجاني بعد وقوع الجريمة بوقت قريب حاملاً أشياء أو به آُثار يستدل منهما على أنه فاعل أو شريك في الجريمة.
49- مشاهدة الجريمة حال ارتكابها :
يمثل تلبساً حقيقياً مشاهدة الجريمة حال ارتكابها ، أي في ذات اللحظة التي يرتكب الفعل أو الأفعال التي يتكون فيها الركن المادي للجريمة. وتتميز هذه الحالة بالتعاصر الزمني بين مقارفة الفعل ومشاهدة الجاني أثناء ارتكابه لهذا الفعل ، حيث يفاجأ بالمجني عليه أو بالشهود أو برجال السلطة العامة أثناء ارتكابه الجريمة.
وتعني المشاهدة في هذه الحالة إدراك الأفعال المادية المكونة للركن المادي للجريمة أو أي منها. غير أن المشاهدة وإن كانت أغلب ما تكون عن طريق الرؤية البصرية ، إلا أنها ليست الوسيلة الوحيدة لكشف الجريمة المتلبس بها ، بل يكفي أن يدرك وقوعها بإحدى الحواس كالشم والسمع. ومن ثم قضي بأنه "ليس في القانون ما يمنع المحكمة - في حدود سلطتها في تقدير أدلة الدعوى - من الاستدلال بحالة التلبس بناء على ما استخلصته من أقوال الشهود من شم رائحة المخدر منبعثة من السيارة التي في حوزة المتهمين" . وبأنه "إذا كان الضابط قد شاهد جريمة إحراز المخدر متلبساً بها عندما اشتم رائحة الحشيش تتصاعد من المقهى ، فإن من حقه أن يفتش المقهى ويقبض على كل متهم يرى أن له اتصالاً بالجريمة" .
على أنه ينبغي أن يكون هذا الإدراك بطريقة يقينية بطريقة لا تحتمل شكاً. فإّذا كان هناك شك من قبل مأمور الضبط في وقوع الجريمة فلا يمكن أن تتوافر حالة التلبس. لذلك قضي بأن "رؤية المتهم وهو يناول شخصاً آخر شيئاً لم يتحقق الرائي من كنهه بل ظنه مخدراً استنتاجا من الملابسات ، ذلك لا يعتبر من حالات التلبس كما هو معرف به في القانون" . غير أنه لا يؤثر في اعتبار الجريمة متلبساً بها حال ارتكابها إذا كانت قد بدأت فعلاً في تاريخ سابق على اكتشافها ، إذا كانت الجريمة متتابعة الأفعال يقتضي المضي فيها تدخل إرادة الجاني في الفعل المعاقب عليه كلما أقدم على ارتكابه .
وقد توسعت محكمة النقض في مدلول مشاهدة الجريمة حال ارتكابها فلم تشترط مشاهدة الركن المادي للجريمة ، بل استقر قضائها على أنه يكفي لقيام التلبس وجود مظاهر خارجية تنبئ بذاتها عن وقوع الجريمة ، وأن تقدير كفاية هذه المظاهر أمر موكول لمحكمة الموضوع. وتطبيقاً لذلك قضي بأنه "لا يشترط في التلبس بإحراز المخدر أن يكون من شاهد هذه المظاهر قد تبين ماهية المادة التي شاهدها ، بل يكفي في ذلك تحقق المظاهر الخارجية بأي حاسة من الحواس متى كان هذا التحقق بطريقة يقينية لا تحتمل شكاً، يستوي في ذلك أن يكون المخدر ظاهراً أو غير ظاهر" .
والحق أنه لا يمكن مسايرة محكمة النقض فيما انتهت إليه من أن التلبس يقوم بمجرد المظاهر الخارجية التي تنبئ عن وقوع الجريمة ، إنما يتعين أن تكون تلك المظاهر جزء من الركن المادي للجريمة حتى يمكن القول بوقوع الجريمة. أما المظاهر التي تنبئ عن وقوع الجريمة فهي لا تعدو أن تكون مجرد دلائل كافية على ارتكاب الجريمة. وهذه الدلائل الكافية لا تخول مأمور الضبط القضائي سوى التحفظ على المتهم ، وأن يطلب فوراً من النيابة العامة أن تصدر أمرا بالقبض عليه ، وذلك في الأحوال الواردة في المادة 35 من قانون الإجراءات الجنائية .
50- مشاهدة الجريمة عقب ارتكابها ببرهة يسيرة :
يتحقق التلبس ولو لم تنصرف المشاهدة إلى الأفعال المادية للجريمة ، متى انصبت على ما تخلف عن الجريمة من آثار وأدلة تفيد أنه لم يمض على ارتكاب الجريمة غير وقت قصير. مثال مشاهدة جثة القتيل تقطر دما ، أو مشاهدة المجني عليه متأثراً ما وقع عليه من إكراه في السرقة بالإكراه ، أو مشاهدة الجاني يجري مسرعا عقب وقوع الجريمة مباشرة.
ولدينا أن حالة التلبس تلك لا تقوم إن لم يشهد مأمور الضبط القضائي أثراً من آثار الجريمة ومظهراً من مظاهرها يكشف عن وقوعها منذ برهة يسيرة ، ومن ثم فإنه لا يكفي لقيام حالة التلبس الادعاء بوقوع سرقة أو شروع في قتل ما لم يكن هناك أثر يشاهده مأمور الضبط بنفسه أو يدركه بإحدى حواسه ، كأن يشاهد الجاني وهو يخرج مسرعاً من مكان الجريمة ، أو سماع العيارات النارية من الجهة التي شوهد المتهم قادماُ يجري منها عقب ذلك مباشرة.
وإذا كان القانون لم يحدد الزمن الفاصل بين ارتكاب الجريمة ومشاهدتها ، إلا أن عبارة "عقب ارتكابها ببرهة يسيرة" تدل على وجوب أن يكون المشاهدة في الزمن التالي لوقوع الجريمة مباشرة. وتقدير الفترة الزمنية بين وقوع الجريمة وبين كشف أمرها بمعرفة رجال الضبط القضائي أمر لا يمكن وضع معيار زمني محدد له ، ولذلك فإن لمحكمة الموضوع تقدير هذا الزمن دون معقب عليها من محكمة النقض ما دام استخلاصها سائغاً ومنطقياً .
51- تتبع الجاني إثر وقوع الجريمة :
نصت المادة 30 إجراءات جنائية على أن تكون الجريمة في حالة تلبس " إذا تبع المجني عليه مرتكبها أو تبعته العامة مع الصياح إثر وقوعها". ويقصد بعامة الناس هنا أي فرد ولو كان واحداً حيث لا يستلزم التعدد ، فقد يشاهد شخص الجاني يرتكب الجريمة ثم تابعه وحده بصياحه ، فهذا يكفي لجعل الجريمة في حالة تلبس.
ولا يعتد بالتتبع والملاحقة إذا لم يصحبهما صياح , لأن هذا الصياح أو الصراخ هو الذي يعبر عن إيجاد علاقة بين الجاني والجريمة. فلا يكفي إذا التتبع مجرداً من الصياح حتى ولو كان على إثر إشاعة عامة بأن أحد الأشخاص هو مرتكب الجريمة. فالإشاعة العامة لا تقوم بها حالة التلبس ، وإن كان من شأنها تنبيه السلطات إلى وقوع الجريمة فتدفعها إلى الاستدلال والتحري . ولا يلزم في المتابعة مطاردة الجاني والجري وراءه ، بل تكفي المطاردة بالصياح والإشارة بالأيدي دون الأجسام. على أنه يلزم أن يكون التتبع والصياح ذا مدلول يفهم منه توجيه الاتهام إلى المتهم بارتكاب الجريمة. كما يلزم أن يكون التتبع والصياح على أثر وقوع الجريمة وليس في فترة لاحقة على وقوعها ، وتقدير هذه الفورية يستقل بتقديرها محكمة الموضوع .
52- مشاهدة الجاني حاملاً أدلة الجريمة :
عبرت المادة 30 إجراءات عن تلك الحالة بقولها "تعتبر الجريمة متلبساً بها...إذا وجد مرتكبها بعد وقوعها بوقت قريب حاملاً آلات أو أسلحة أو أمتعة أو أشياء أخرى يستدل منها على أنه فاعل الجريمة أو شريك فيها ، أو إذا وجدت به في هذا الوقت آثار أو علامات تفيد ذلك. وعلى ذلك تفترض هذه الحالة مشاهدة أدلة الجريمة التي يستدل منها على أن المتهم فاعل أو شريك في الجريمة. وهذه الأدلة إما أن تكون الأِشياء التي استعملت في ارتكاب الجريمة كالسلاح المستخدم في القتل أو الشروع فيه ، وإما أن تكون أشياء تحصلت من الجريمة كالمسروقات أو وثائق أو مستندات. والتمثيل الذي أورده المشرع لتلك الأشياء لم يأت على سبيل الحصر ، وآية ذلك ما تضمنه النص من عبارة "أو أشياْء أخرى" وقد تكون هذه الأدلة في صورة آثار أو علامات توجد على جسم المتهم أو ملابسه ، كالخدوش والجروح والدماء على ملابس الجاني ، والتي قد تنشأ من مقاومة المجني عليه أو تلتصق بملابسه من دماء المجني عليه ذاته. وقد يوجد به آثار مقذوف ناري حديث أو يعلق بملابسه خصلات شعر المجني عليه.
ونرى ضرورة دمج الحالتين الثانية والرابعة في فقرة واحدة فكلاهما يعالج مشاهدة الجريمة من خلال أدلة ارتكابها. غير أن الفارق بينهما أنه في هذه الحالة يجب أن توجد الآلات أو الأدوات مع فاعل الجريمة أو الشريك فيها ، وكذلك الآثار يجب أن توجد على جسمه أو ملابسه أو أية أمتعة منقولة يحملها ؛ بينما في الحالة الثانية توجد هذه الآثار مجردة عن شخص الجاني فقد توجد على المجني عليه أو على مسرح الجريمة ، وهذا كله أمر غير ذي بال نظراً لأن التلبس حالة عينية فيجب تقديرها بغض النظر عن مشاهدة مرتكبها وقت الجريمة أو عقب ارتكابها .
أما بالنسبة لفترة الوقت الفاصلة بين وقوع الجريمة وضبط المتهم ومعه الأدوات أو عليه الآثار والعلامات فقد نص عليها القانون بأنها "الوقت القريب" ، دون أن يحدد نهاية هذا الوقت القريب. ويرى الفقه أنه يكفي ألا يكون قد مضى على وقوع الجريمة مدة من الزمن ينتفي معها القول أن هناك صلة بين وجود هذه الأشياء معه وبين وقوع الجريمة . والمسألة في مجملها تقدرها محكمة الموضوع دون رقابة محكمة النقض مادام استخلاصها سائغاً وفق العقل والمنطق.
53- ج : شروط صحة التلبس :
يلزم كي يكون التلبس صحيحاً منتجا آثاره القانونية في تخويل مأمور الضبط القضائي سلطة اتخاذ إجراءات التحقيق ، فضلاً عن توافر حالة من الحالات السابقة ، أن يكون مأمور الضبط القضائي قد شاهد حالة التلبس بنفسه ، وأن تكون هذه المشاهدة قد تحققت عن طريق مشروع.
54- مشاهدة التلبس من قبل مأمور الضبط القضائي :
لما كانت حالات التلبس مذكورة على سبيل الحصر ، وكونها تمنح مأمور الضبط القضائي سلطات استثنائية ، وبالجملة من أجل تأكيد ضمانات لأفراد في صيانة حرياتهم الشخصية ، استقر قضاء النقض على أنه يجب أن يكون مأمور الضبط القضائي قد شاهد بنفسه الجريمة لا أن يتلقى نبأها عن الغير. وعلى ذلك فقد قضي بأن "حالة التلبس تستوجب أن يتحقق مأمور الضبط من قيام الجريمة بمشاهدتها بنفسه أو إدراكها بإحدى حواسه ولا يغنيه عن ذلك أن يتلقى نبأها عن طريق الرواية أو النقل عن الشهود طالما أن تلك الحالة قد انتهت بتماحي آثار الجريمة والشواهد التي تدل عليها" .
وإذا شوهدت الجريمة حال ارتكابها من قبل أحد رجال السلطة العامة أو أحد الأفراد العاديين ، فيجب إبلاغ مأمور الضبط القضائي بوقوع الجريمة فوراً ، حتى يتمكن من الانتقال لموقع الجريمة في الحال لاتخاذ الإجراءات اللازمة. ولا تعتبر الجريمة في حالة تلبس ما لم يشاهد مأمور الضبط إحدى الحالات التي تكفي لاعتبار الجريمة متلبسا بها. وبناء عليه قضي بأنه "إذا كان الثابت أن الذي شاهد المتهم وهو في حالة التلبس بالجريمة - وهي جريمة بيع المواد المخدرة - هو المرشد الذي أرسله الضابط لشراء المادة المخدرة، فلما حضر الضابط إلى المنزل لم يكن به من الآثار الظاهرة لتلك الجريمة ما يستطيع ضابط البوليس مشاهدته والاستدلال به على قيام حالة التلبس ، فلا يمكن عند حضور الضابط اعتبار هذا المتهم في حالة التلبس ، ولا يمكن اعتبار ورقة المادة المخدرة التي حملها المرشد إلى الضابط عقب البيع أثراً من آثار الجريمة يكفي لجعل حالة التلبس قائمة فعلا وقت انتقال الضابط ، لأن الآثار التي يمكن اتخاذها أمارة على قيام حالة التلبس إنما هي الآثار التي تنبئ بنفسها عن أنها من مخلفات الجريمة والتي لا تحتاج في الإنباء عن ذلك إلى شهادة شاهد" .
والواقع فإن اتجاه محكمة النقض اتجاه محمود ذلك أن ممارسة السلطات الواسعة في التحقيق التي خولها القانون لمأمور الضبط القضائي مرهون بمشاهدة حالة التلبس بنفسه ، حتى ولو أخطر بها من الغير ، وإذا قيل بغير ذلك لأدى الأمر إلى ثبوت التلبس عن طريق الرواية في كل جريمة ممن شاهدها ، وفتح باب الكيد والاختلاق والاستنتاج الخاطئ المتسرع. ولا يمكن التعلل لنقد هذا القضاء بالقول بأن بعض الجرائم لا تترك آثاراً حتى يشاهدها مأمور الضبط القضائي عند انتقاله بعد تلقى البلاغ عن وقوع الجريمة ، أو أن القانون لم يستلزم المشاهدة الشخصية ، ذلك أن المشاهدة كما استبان لنا من قبل كما تعني مشاهدة مأمور الضبط القضائي للركن المادي للجريمة وقت مباشرته بنفسه ، فإنها تعني أيضا مشاهدة الجريمة من خلال أدلة ارتكابها سواء كانت هذه الأدلة مجردة عن شخص مرتكب الجريمة أم مقترنة به ، هذا إذا كان قد تلقى نبأها ممن شاهد الجريمة سواء من رجال السلطة العامة أو أحد الأفراد.
55- مشاهدة حالة التلبس بطريق مشروع :
يتعين لقيام حالة التلبس ، فضلاً عن مشاهدة مأمور الضبط القضائي الجريمة بنفسه ، أن تكون المشاهدة قد تمت من خلال طريق مشروع. وتتأتي هذه المشروعية إذا شاهد مأمور الضبط القضائي الجريمة عرضاً أثناء تأدية واجبه ؛ أو شاهدها عرضاً أثناء استيقافه المشروع للمتهم الذي وضع نفسه بإرادته واختياره موضع الريب والشبهات ؛ أو شاهدها بناء على حقه في دخول الأماكن العامة لمراقبة تنفيذ القوانين ؛ أو إذا شاهدها عند دخوله أحد المساكن بناء على رضا حائزه بالتفتيش .
وترجع علة اشتراط مشروعية المشاهدة إلى أن حالة التلبس تبيح لمأمور الضبط القضائي مباشرة السلطات الواسعة في التحقيق التي خولها له القانون في هذه الحالة ، والمشروعية شرط عام في ممارسة كل سلطة ، لذلك فإنه يتعين أن يكون أساس مباشرة هذه السلطات إجراءات مشروعة. ومن ناحية أخرى أن هذه السلطات المخولة لمأمور الضبط القضائي تنطوي على افتئات على حقوق الأفراد ، لذلك يجب أن يكون هذا الافتئات بناء على سند من القانون. فإذا أتى مأمور الضبط القضائي بفعل إيجابي يتصف بعدم المشروعية أو المساس بحقوق الأفراد فإن ما يسفر عنه من قيام حالة التلبس يعتبر باطلا، وتبطل الإجراءات التي اتخذها استناداً إلى ما أوجده لنفسه بغير الطريق القانوني ، ولا يترتب على ذلك الآثار القانونية للتلبس.
ويمكن أن يمثل لذلك بالمشاهدات التي يختلسها مأمور الضبط القضائي أو أعوانه من خلال ثقوب أبواب المساكن ، لما في ذلك من المساس بحرمة المساكن. ومن ثم قضي بأنه "إذا كان الثابت هو أن مشاهدة الخفير للمتهمين وهم يتعاطون الأفيون كانت وسيلته التجسس من ثقب الباب ، وأن أحد الشهود احتال عليهم لفتح الغرفة التي كانوا فيها على هذه الحالة حتى اقتحمها الخفير وضبط المتهمين وفتشهم فعثر معهم على المخدر ، فإن حالة التلبس لا تكون ثابتة ، ويكون القبض والتفتيش باطلين" . ومثال المشاهدة غير المشروعة أيضاً مشاهدة مأمور الضبط القضائي لجريمة ترتكب داخل منزل عن طريق دخوله إلى هذا المنزل بوجه غير قانوني .
كما تكون مشاهدة غير مشروعة إذا كانت وليدة قبض في غير الأحوال الجائز القبض فيها قانوناً. ولذلك قضي بأنه "إذا كانت الواقعة الثابتة بالحكم هي أن المتهم لم يتخل عما معه من القماش المسروق إلا عندما هم الضابط بتفتيشه دون أن يكون مأموراً من سلطة التحقيق بهذا الإجراء ، فإنه لا يصح الاعتداد بالتخلي ويكون الدليل المستمد منه باطلاً". ذلك أنه "يشترط في التخلي الذي ينبني عليه قيام حالة التلبس بالجريمة أن يكون قد وقع عن إرادة وطواعية واختيار، فإذا كان وليد إجراء غير مشروع فإن الدليل المستمد منه يكون باطلا لا أثر له" .
وكذا لا يقوم التلبس إذا كان الكشف عنه نتيجة تعسف مأمور الضبط القضائي في تنفيذ إذن التفتيش أو تجاوز حدود الغرض منه. وهكذا قضي بأنه "إذا أذن مأمور الضبط بتفتيش مسكن للبحث عن أسلحة غير مرخص بها فهذا لا يخوله تفتيش محفظة من الجلد عثر عليها بين طيات فراش المتهم ، فإذا عثر فيها على ورقة فضها فعثر فيها على مادة مخدرة فإن حالة التلبس لا تكون قائمة، إذ أن البحث عن الأسلحة لا يستلزم تفتيش المحفظة لا يعقل أن تحتوي على شيء مما يجري البحث عنه" .
كما يكون التلبس غير مشروع إذا كان نتيجة لتدخل رجال الشرطة في خلق فكرة الجريمة (التحريض الصوري) لدى الجاني بطريق الغش والخداع أو التحريض على مقارفتها. لأن مثل هذا السلوك من شأنه التأثير في إرادة الجاني تأثيراً يعيبها. مثال تحريض المتهم على بيع المخدرات لضبطه أثناء البيع. ولكن ذلك لا يحول دون اتخاذ الحيل من أجل ضبط الجريمة في الحدود التي تترك مهالا إرادة الجاني حرة . وهكذا قضي بأن " مهمة مأمور الضبط القضائي بمقتضى المادة 21 من قانون الإجراءات الجنائية الكشف عن الجرائم والتوصل إلى معاقبة مرتكبيها ، فكل إجراء يقوم به في هذا السبيل يعتبر صحيحاً منتجاً لأثره ما لم يتدخل بفعله في خلق الجريمة أو التحريض على مقارفتها ، وطالما بقيت إرادة الجاني حرة غير معدومة ، فلا تثريب على مأمور الضبط أن يصطنع في تلك الحدود من الوسائل البارعة ما يسلس لمقصوده في الكشف عن الجريمة ولا يتصادم مع أخلاق الجماعة" .
56- ج : آثار التلبس :
إذا ما توافرت حالة من حالات التلبس حق لمأمور الضبط القضائي سلطة اتخاذ بعض الإجراءات. تلك الأخيرة قد تكون مجرد أعمال استدلال لا تتحرك بها الدعوى الجنائية ، وقد تكون على النقيض محض أعمال تحقيق ماسة بالحرية منحت سلطة اتخاذها لمأمور الضبط القضائي بصفة استثنائية بناء على الملائمة الإجرائية.
57- إجراءات الاستدلال في أحوال التلبس :
نصت المادة 31 إجراءات جنائية على أنه "يجب على مأمور الضبط القضائي في حالة التلبس بجناية أو جنحة أن ينتقل فوراً إلى محل الواقعة. ويعاين الآثار المادية للجريمة و يحافظ عليها ، ويثبت حالة الأماكن والأشخاص ، وكل ما يفيد في كشف الحقيقة ، ويسمع أقوال من كان حاضرا أو من يمكن الحصول منه على إيضاحات في شأن الواقعة ومرتكبها. ويجب عليه أن يخطر النيابة العامة فورا بانتقاله. ويقصد بانتقال مأمور الضبط القضائي المبادرة إلى التوجه لمكان الجريمة بمجرد إبلاغه بحدوثها دون اعتبار للوقت الذي يكون قد مضى بين وصوله وبين وقت ارتكاب الجريمة . وهذا الانتقال واجب مفروض على مأمور الضبط القضائي حتى في الأحوال العادية , إلا أن المشرع نص عليه صراحة بصدد حالة التلبس ، نظرا لأهميته في إثبات آثار الجريمة ، وهو أمر قد يتوقف عليه كشف حقيقة الجريمة وتحديد المسئول عنها. والالتزام بالانتقال الفوري قاصر على الجنايات والجنح دون المخالفات. ويشترط ألا يكون مكان الجريمة مما يعتبر قانوناً مسكناً ، ذلك أن المساكن تتمتع بحرمة خاصة لا تبرر حالة التلبس الخروج عليها.
ويقصد بإثبات حالة مكان الجريمة أن يقوم مأمور الضبط القضائي بوصف مكان الجريمة ، وبيان ما إذا كان هذا المكان داخل مساكن البلد أو في مكان خارجها ، وطبيعة الأرض التي ارتكبت عليها الجريمة. أما إثبات حالة الأشياء المتخلفة عن الجريمة فيقصد بها السلاح المستعمل في الجريمة ، والأدوات التي استخدمت في كسر الأبواب. أما إثبات حالة الأشخاص فيعني قيام مأمور الضبط القضائي بوصف حالة المجني عليه ، حياً أو ميتاً ، درجة الوعي لدية ، الإصابات التي في جسده ، أوصاف الجثة إن كان المجني عليه ميتاً ، وتقدير سن صاحبها علة وجه التقريب ، وموضعها الجغرافي بالنسبة للرأس والأقدام وما إذا كانت مسجاة على بطنها أو ظهرها أو جنبها ، وما إذا كانت هناك دماء في موقع الحادث.
وعلى مأمور الضبط القضائي واجب المحافظة على آثار الجريمة ، بأن يمنع كل شخص من الاقتراب من المكان ، أو يمنع رفع أو تحريك أي شيء من مكانه ، وله حق تعين حارس على المكان ، كما له حق وضع الأختام على الأماكن التي بها أثار أو أشياء تفيد في كشف الحقيقة.
وقد خولت المادة 32 إجراءات مأمور الضبط القضائي عند الانتقال إلى مكان الواقعة ، فضلاً عما سبق ، سلطة منع الحاضرين من مبارحة محل الواقعة أو الابتعاد عنه حتى يتم تحرير المحضر ، وحق استحضار من يمكن الحصول منه على إيضاحات في شأن الواقعة.
والأمر الذي يصدره مأمور الضبط القضائي بمنع الحاضرين من مبارحة مكان الواقعة أو الابتعاد عنه ، لا يعد قبضاً أو استيقافاً ، فهو مجرد إجراء تنظيمي قصد به أن يستقر النظام في هذا المكان حتى تتم المهمة التي حضر من أجلها ، على اعتبار أن هذا الإجراء هو من قبيل الإجراءات التنظيمية التي تقتضيها ظروف الحال تمكينا له من أداء المأمورية المنوط بها.
وقد مال البعض إلى القول بأنه يجوز لمأمور الضبط القضائي استخدام القوة أو القهر لحمل الحاضرين على عدم مبارحة مكان الواقعة أو الابتعاد عنه. وذلك استنادا إلى أن هذا الإجراء ليس من جنس أعمال الاستدلال العامة التي يجوز لمأمور الضبط القضائي القيام بها ، وأن لهذا الإجراء طابع الإكراه ، لاحتمال وجود أهم الشهود أو وجود المتهم نفسه بين الحاضرين .
ولدينا أنه لا يجوز لمأمور الضبط القضائي استخدام القوة أو القهر لإلزام الحاضرين بالبقاء في مكان الواقعة ، فذلك ليس مما أجازه النص ، وكل ما لمأمور الضبط القضائي عند مخالفة الأمر الذي يصدره أن يحرر محضراً بذلك يثبت فيه المخالفة ، ويحكم على المخالف بغرامة لا تزيد على ثلاثين جنيها (م.33/1 إجراءات جنائية).
وإذا كان المشرع قد خول مأمور الضبط القضائي في حالة التلبس سلطة الاستحضار في الحال لمن يمكن الحصول منه على إيضاحات في شأن الواقعة ، إلا أنه لا يملك أي وسيلة لحمل الأفراد على الاستجابة لدعوته بالحضور ، فذلك يتم دون استخدام أية وسيلة من وسائل القهر والإكراه طواعية من قبل الأفراد. فإذا امتنع أحد مما دعاهم بالحضور ، عد ذلك مخالفة ، وجاز أن تحكم فيها المحكمة الجزئية بغرامة لا تزيد على ثلاثين جنيها (م.33 إجراءات جنائية).
58- إجراءات التحقيق (الماسة بالحرية) في أحوال التلبس :
منح المشرع مأمور الضبط القضائي في حالة التلبس سلطة مباشرة بعض إجراءات التحقيق ما كانت تتم في الظروف العادية إلا بمعرفة سلطة التحقيق أو بناء على إذن منها ، وذلك استجابة لاعتبارات الملائمة الإجرائية وللضرورات العملية ولانتفاء مظنة الكيد والتعسف قبل المتهم. وهذه الإجراءات بينها قانون الإجراءات الجنائية في المواد 34 ، 35 فيما يتعلق بالقبض على الأشخاص والتحفظ عليهم ، والمواد 45 ، 46 فيما يتعلق بتفتيش الأشخاص والأماكن ، والمادة 55 فيما يتعلق بضبط الأشياء.
وفي الخلاف حول طبيعة الإجراءات الماسة بالحرية التي يباشرها مأمور الضبط في حالة التلبس ، مال البعض إلى القول بأن تلك الإجراءات تعد أعمال تحقيق بالمعنى الفني الدقيق ، حيث تتماثل الإجراءات الماسة بالحرية (القبض والتفتيش) التي يباشرها مأمور الضبط القضائي في حالة التلبس مع ذات الإجراءات التي تباشرها سلطة التحقيق. نعم ، أنه من الناحية الشكلية تعتبر هذه الإجراءات من أعمال الضبط القضائي ، ولكن العبرة دائماً هى بجوهر الإجراءات لا بشخص من باشرها. يؤيد ذلك أن المادة 34 إجراءات جنائية حين خولت مأمور الضبط القضائي سلطة القبض اشترطت فضلاً عن حالة التلبس توافر دلائل كافية على اتهام المقبوض عليه. فهذه الدلائل ، بالإضافة إلى التلبس تشير بوضوح إلى أن المقبوض عليه أصبح في مركز المتهم بالمعنى القانوني.
ولدينا أن هذه الإجراءات التي خولها المشرع لمأمور الضبط القضائي في تحقيق الجرائم المتلبس بها وإن كانت أعمال تحقيق ، إلا أنها ليست أعمال تحقيق حقيقية ، وإنما أعمال تحقيق متميزة خولت استثناء لمأمور الضبط القضائي ، فهى تظل إجراءات سابقة على الدعوى الجنائية. وبناء على ذلك فإنه لا يترتب عليها الآثار التي يرتبها القانون على أعمال التحقيق الحقيقية ، ومن أهمها تحريك الدعوى الجنائية ، إلا بعد إقرارها من سلطة التحقيق الأصلية سواء كانت النيابة العامة أو قاضي التحقيق . وما يؤكد ذلك أن القانون لم يخول تحريكا لدعوى الجنائية إلا للنيابة العامة ، ومن منح هذه السلطة استثناء ، وليس من بين هؤلاء مأمور الضبط القضائي ، لذلك لا يمكن اعتبار أعمال مأمور الضبط القضائي في جرائم التلبس تحريكاً لدعوى الجنائية. يدل على ذلك أنه إذا لم تقر سلطة التحقيق هذه الأعمال ، ورأت عدم السير في الدعوى ، فإنها تصدر أمراً بالحفظ وليس بعدم وجود وجه لإقامة الدعوى الجنائية .
59- القبض بناءً على التلبس :
القبض Arrestation من الإجراءات الخطيرة الماسة بالحرية الشخصية ، ويأتي على رأس إجراءات التحقيق. وبالنظر لتلك الخطورة حرصت كافة التشريعات على إحاطته بالضمانات الكافية صيانة لحقوق الإنسان ومحافظة على حرماته وحرياته. ومن أهم هذه الضمانات أنه لا يجوز اتخاذه إلا بمعرفة سلطة التحقيق أو بأمر منها. كما لا يجوز لمأمور الضبط القضائي القيام بهذا الإجراء إلا في الحالات الاستثنائية ، ومنها حالة التلبس. وهذا ما اتجه إليه المشرع الدستوري المصري حين قرر في المادة 41 من الدستور الحالي لعام 1971 على أن "الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مصونة لا تمس ، وفيما عدا حالة التلبس لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حرسته بأي قيد أو منعه من التنقل إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع ويصدر هذا الأمر من القاضي المختص أو النيابة العامة ، وذلك وفقاً لأحكام القانون". وتأكيدا لذلك نصت المادة 40 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه" لا يجوز القبض على أي إنسان أو حبسه إلا بأمر من السلطات المختصة قانوناً ، كما تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامة الإنسان ولا يجوز إيذاؤه بدنيا أو معنوياً" .
وقد عرفت محكمة النقض القبض على الأشخاص بأنه "إمساكه من جسمه وتقييد حركته وحرمانه من حريته في التجول كما يريد دون أن يتعلق الأمر بقضاء فترة زمنية معينة" . على أن الإكراه أو القوة ليس من مستلزمات القبض ، فقد يمتثل الشخص لمأمور الضبط القضائي طواعية دون حاجة لاستخدام القوة. فالعنصر الجوهري في القبض هو تقييد حرية المقبوض عليه وحرمانه من الحركة أو التنقل كما يشاء ، ولو لفترة قصيرة.
ولعل العنصر الأخير يوقع الخلط بين القبض وبين بعض الإجراءات التي تقتضي المساس بالحرية ، ولكنها ليست قبضاً بالمعنى الفني الدقيق ، ومنها : الاستيقاف ، والتعرض المادي .
60- التمييز بين القبض والاستيقاف :
الاستيقاف غفل المشرع المصري عن تنظيمه ، وإن استخلص ضمناً من مجمل ما يقوم به مأمور الضبط القضائي في جمع الاستدلالات والتحري عن الجرائم عملاً بالمادة 24 من قانون الإجراءات الجنائية. وقد أخذت محكمة النقض على كاهلها عبء التعريف به بقولها أنه "إجراء يقوم به رجل السلطة العامة في سبيل التحري عن الجرائم وكشف مرتكبيها ، يسوغه اشتباه تبرره الظروف ، وهو أمر مباح لرجال السلطة العامة إذا ما وضع الشخص نفسه طواعية واختيارا في مواضع الريب والظن ، وكان هذا الوضع ينبئ عن ضرورة تستلزم تدخل المستوقف للتحري والكشف عن حقيقته عملاً بالمادة 24 إجراءات" .
ويختلف القبض عن الاستيقاف من عدة وجوه : فالقبض إجراء من إجراءات التحقيق لا يجوز مباشرته إلا من مأموري الضبط القضائي في حالة التلبس وبشروط محددة ، وذلك بخلاف الاستيقاف فإنه إجراء إداري جائز دائما لرجال السلطة العامة ولو لم يكونوا من مأموري الضبط القضائي. ويجوز اتخاذه إذا موضع الشخص نفسه طواعية منه واختيارا في موضع الريب والشبهات بما يبرر استيقافه للكشف عن حقيقة أمره. كما أن القبض بمعرفة مأمور الضبط القضائي يستلزم توافر حالة التلبس بالجريمة ، بينما الاستيقاف يجوز لمجرد الاشتباه أو الريبة حتى ولو لم تكن هناك جريمة. فغاية الاستيقاف هي مجرد إزالة أسباب الريبة والشك التي وضع الشخص نفسه فيها طوعا واختياراً . كما أن القبض يتضمن تقييداً لحرية المقبوض عليه وحرمانه من الحركة أو التنقل ، ولو تطلب الأمر استعمال القوة معه عند اللزوم ، بينما الاستيقاف لا ينطوي على تعطيل لحرية الشخص ، ولا يبيح في ذاته استعمال القوة معه ، وإنما ينحصر في مجرد إيقافه في الطريق لسؤاله عن اسمه وصنعته وعنوانه ووجهته ، أو طلب تقديم بطاقته الشخصية لاستكناه أمره . فضلاً عن ذلك فإن القبض يترتب عليه أثر إجرائي هو جواز تفتيش شخص المتهم ، بخلاف الاستيقاف فلا يجيز لرجل السلطة العامة تفتيش الشخص . وأخيراً فإن القبض يبيح احتجاز المتهم لمدة لا تتجاوز 24 ساعة بمعرفة مأمور الضبط القضائي ، بينما الاستيقاف لا يبيح سوى الوقت اللازم للتعرف على شخصية المشتبه فيه ثم يترك وشأنه. وقد سمحت محكمة النقض في بعض أحكامها لرجال البوليس ورجال الضبط باصطحاب المتهم الذي وضع نفسه مواضع الريبة والظن اختيارا إلى قسم البوليس لاستيضاحه والتحري عن أمره ، وأن ذلك لا يعد قبضا وإنما استيقافاً .
وفي رأينا أنه إذا لم تتوافر حالة من حالات التلبس ، فإن استيقاف الشخص لا يبرر تعطيل حرية الأخير إلا بالقدر المعقول الذي يسمح لرجل الضبط بسؤال المشتبه فيه عن اسمه وعنوانه ومقر إقامته والاستيضاح عن الأمور التي أوقعته في مدار الشبهات ، على أن لا يتجاوز ذلك إلى اقتياده إلى قسم الشرطة ، فمثل هذا الإجراء يعتبر باطلاً ، ذلك أنه قبض في معناه القانوني .
61- التمييز بين القبض والتعرض المادي :
أجاز المشرع للأفراد ولرجال السلطة العامة - ولو من غير رجال الضبط القضائي - في الجنح المتلبس بها أن يحضروا المتهم ويسلموه إلى أقرب مأمور من مأموري الضبط القضائي. فقد نص المشرع في المادة 37 إجراءات على أن "لكل من شاهد الجاني متلبسا بجناية أو جنحة يجوز فيها قانونا الحبس الاحتياطي ، أن يسلمه إلى أقرب رجل من رجال السلطة العامة دون احتياج إلى أمر بضبطه". كما نص في المادة 38 إجراءات على أن "لرجال السلطة العامة ، في الجنح المتلبس بها التي يجوز فيها الحكم بالحبس ، أن يحضروا المتهم ويسلموه إلى أقرب مأمور من مأموري الضبط القضائي ، ولهم ذلك أيضا في الجرائم الأخرى المتلبس بها إذا لم يمكن معرفة شخصية المتهم".
ويبين من قراءة المادتين 37 ، 38 إجراءات جنائية أن ما تقرر للأفراد العاديين ولرجال السلطة العامة بناء عليهما يتجاوز حد الاستيقاف ، وكنه لا يرقى إلى مرتبة القبض من الناحية القانونية ، فهو ليس مجرد إيقاف إنسان وضع نفسه موضع الريب في سبيل التعرف على شخصيته ، ولا هو تقييد لحريته والتعرض له وحجزه ولو لفترة بسيطة تمهيدا لاتخاذ بعض الإجراءات ضده ؛ بل هو مجرد التحفظ على المتهم واقتياده إلى أحد مأموري الضبط القضائي للحصول منه على الإيضاحات اللازمة في شأن الواقعة المنسوبة إليه. ومن ثم فهو مجرد تعرض مادي فحسب. وعلى هذا الأساس فلا يجوز احتجاز المتهم لفترة أطول مما يقتضيه التسليم ، وإلا عد ذلك قبضاً ، كما لا يجوز تفتيش المتهم ، ما لم يكن هذا التفتيش وقائي يهدف إلى مجرد تجريد المتهم من الأسلحة أو الآلات التي قد يستعملها في الاعتداء على من قاموا بضبطه .
ويفترق التعرض المادي للأفراد عن ذلك المقرر لرجال السلطة العامة من حيث النطاق. فبالنسبة للأفراد ، يكون التعرض المادي مقصوراً على حالة التلبس الحقيقي ، دون أحوال التلبس الحكمي ، أي يجب ضبط الجاني أثناء ارتكاب الجريمة في حالة تلبس ثم البحث عن المتهم. أما بالنسبة لرجال السلطة العامة فيكفي أن تكون الجريمة في حالة تلبس ولو لم يشاهد الجاني متلبساً بها. وكذلك اشترط القانون بالنسبة للتعرض المادي من جانب الأفراد أن تكون الجريمة جناية أو جنحة يجوز فيها الحبس الاحتياطي ، وهي الجنح التي يعاقب عليها القانون بالحبس لمدة تزيد على ثلاثة أشهر. أي أن القانون خول الأفراد حق التعرض المادي في ذات الأحوال التي يجوز فيها لمأمور الضبط القضائي القبض على الأشخاص ، وإن كان في حدود معينة. أما بالنسبة لرجال السلطة العامة فقد توسع في السلطة المخولة لهم ، فلم يقتصر الأمر على الأحوال التي يجوز فيها لمأمور الضبط القضائي القبض على الأشخاص ، وهي الجنح التي يعاقب عليها بالحبس لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر ، بل توسع في ذلك بحيث أجاز التعرض المادي في الجنح التي يجوز فيها الحكم بالحبس مطلقاً ، وأجاز لهم ذلك في الجرائم الأخرى ، سواء جنحة أم مخالفة ، ولو لم يعاقب عليها بالحبس ، إذا لم يمكن معرفة شخصية المتهم .
62- شروط القبض في أحوال التلبس :
نظراً لكون سلطة مأمور الضبط القضائي في أحوال التلبس سلطات استثنائية تنطوي على المساس بحريات الأفراد ، لذا قيد المشرع سلطة القبض على المتهم في أحوال التلبس بشروط معينة. منح المشرع لمأمور الضبط القضائي سلطة القبض على المتهم في أحوال التلبس بشروط معينة. فقد نصت المادة 34 من قانون الإجراءات الجنائية ، المعدلة بالقانون رقم 37 لسنة 1972 ، على أن "لمأمور الضبط القضائي في أحوال التلبس بالجنايات أو الجنح التي يعاقب عليها بالحبس لمدة تزيد على ثلاثة أشهر أن يأمر بالقبض على المتهم الحاضر الذي توجد دلائل كافية على اتهامه".
يفهم من ذلك أن المشرع قد أجاز لمأمور الضبط القضائي الحق في إصدار أمر بالقبض على المتهم الحاضر في أحوال التلبس ، دون إذن بذلك من النيابة العامة . ولما كان التلبس صفة تلازم الجريمة ذاتها لا شخص مرتكبها ، فإن توافره يسمح للمأمور الذي شاهد وقوعها أن يقبض على كل من يقوم دليل على مساهمته فيها سواء أكان فاعلا أصليا أم شريكا.
ويشترط لتوافر تلك السلطة لمأمور الضبط القضائي ، فضلاً عن استلزام قيام حالة من حالات التلبس ، أن تكون الجريمة محل التلبس جناية أو جنحة عقوبتها الحبس مدة لا تزيد عن ثلاثة أشهر ، والعبرة في تقدير العقوبة بما يرد به النص عليها في القانون لا بما ينطق به القاضي في الحكم. وعلة اشتراط أن تكون الجنحة معاقبا عليها بتلك العقوبة هو التوفيق بين إباحة القبض وبين جواز الحبس الاحتياطي الذي لا يكون طبقا للمادة 34 إجراءات إلا في الجنايات أو الجنح المعاقب عليها بالحبس لمدة تزيد على ثلاثة أشهر.
كما يجب أن تتوافر الدلائل الكافية على اتهام الشخص بالجريمة ، أي على ارتكابه لها أو مشاركته فيها. ولا يشترط أن ترقى تلك الدلائل إلى مرتبة الأدلة ، لأنها تستنتج من وقائع لا تؤدي بالضرورة وبحكم اللزوم العقلي إلى ثبوت الجريمة. وتقدير الدلائل التي تسوغ لمأمور الضبط القضائي القبض ، ومبلغ كفايتها ، يكون بداءة لرجل الضبط القضائي ، خاضعاً غي ذلك لرقابة سلطة التحقيق تحت إشراف محكمة الموضوع التي لها أن تقضي بعدم كفاية الدلائل أو بعدم توافرها, وإبطال القبض يترتب عليه إهدار كل دليل انكشف نتيجة القبض الباطل وعدم الاعتداد به في إدانة الشخص .
هذا كله إذا كان المتهم حاضراً ، فإذا لم يكن حاضراً ، وتوافرت شروط القبض المتعلقة بالجريمة وبالدلائل الكافية على الاتهام ، جاز لمأمور الضبط القضائي إصدار أمر بضبطه وإحضاره (المادة 35/1 إجراءات). وينفذ هذا الأمر بواسطة أحد المحضرين أو بواسطة رجال السلطة العامة (المادة 35/3 إجراءات). ويظل هذا الأمر نافذاً مدة ستة اشهر قياساً على ما ورد بشأن أمر الضبط والإحضار الذي يصدر عن سلطة التحقيق في المادتين 139 ، 201 إجراءات جنائية.
63- واجبات مأمور الضبط القضائي حال القبض على المتهم :
أوجبت المادة 36 إجراءات جنائية على مأمور الضبط القضائي أن يسمع فورا أقوال المتهم المقبوض عليه ، وإذا لم يأت بما يبرئه ، يرسله في مدى أربع وعشرين ساعة إلى النيابة العامة المختصة. ويعد هذا النص تطبيق لما ورد النص عليه في المادة 71 من الدستور التي تقضي بان يبلغ كل من يقبض عليه أو يعتقل بأسباب القبض عليه أو اعتقاله فوراً ، ويكون له حق الاتصال بمن يرى إبلاغه بما وقع أو الاستعانة به على الوجه الذي ينظمه القانون ، ويجب إعلانه على وجه السرعة بالتهم الموجهة إليه ، وله ولغيره التظلم أمام القضاء من الإجراء الذي قيد حريته الشخصية ، وينظم القانون حق التظلم بما يكفل الفصل فيه خلال مدة محددة ، وإلا وجب الإفراج حتماً. كما أوجبت المادة 139 من قانون الإجراءات الجنائية في فقرتها الأولى على أن "يبلغ فوراً كل من يقبض عليه أو يحبس احتياطيا بأسباب القبض عليه أو حبسه ، ويكون له حق الاتصال بمن يرى إبلاغه بما وقع والاستعانة بمحام ، ويجب إعلانه على وجه السرعة بالتهم الموجهة إليه".
ويقصد بسماع الأقوال ، سؤال المتهم عن التهمة المسندة إليه وإجابته عنها دون مناقشة تفصيلية في أدلة الاتهام بغية الإيقاع به وتقوية الأدلة القائمة ضده ، هذا الذي يعد استجواباً لا تملكه سوى سلطة التحقيق الأصلية. وإذا لم يأت المتهم بما يبرئه وجب على مأمور الضبط القضائي أن يرسله في مدى أربع وعشرين ساعة إلى النيابة المختصة. ولا يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يستبقي المتهم لديه مدة أطول من ذلك ، وإلا ترتب على ذلك مؤاخذته جنائياً وتأديبياً. وإذا أرسل للنيابة العامة بعد هذا الموعد القانوني تعين الإفراج عنه فوراً ، نظرا لكون القبض وقت عرضه عليها يعتبر باطلاً ، فلا يجوز لها أن تصدر أمراً بالحبس الاحتياطي بناء على الإجراء الباطل. كما لا يجوز احتجاز المتهم لمدة أطول من أربع وعشرين ساعة من تاريخ عرضه على النيابة ، بل يتعين الإفراج عنه فوراً ، ما لم يستجوب في ظرف 24 ساعة من تاريخ عرضه عليها وتقرر حبسه احتياطيا.
64- التفتيش بناءً على التلبس :
التفتيش إجراء من إجراءات التحقيق ، لا يجوز تقريره إلا للبحث عن الأشياء الخاصة بالجريمة الجاري جمع الاستدلالات أو حصول التحقيق بشأنها (المادة 50/1 إجراءات جنائية). ومن ثم فلا يجوز إجراء التفتيش للتوصل إلى ضبط جريمة لم تقع أو يخشى وقوعها. والتفتيش بطبيعته بحثاً عن الشيء في مستودع السر ، ويتمثل هذا المستودع إما في شخص المتهم أو في المكان الذي يقيم فيه أو يعمل به.
ويتميز التفتيش عن عدة إجراءات أخرى ماسة بحرمة الحياة الخاصة ، تتشابه معه من حيث الشكل المادي أو كيفية القيام بها ولكنها لا ترقى إلى مستواه كإجراء من إجراءات التحقيق. ومن هذه الإجراءات التفتيش الوقائي ، والتفتيش الإداري ، والتفتيش برضاء المتهم ، وأخيراً دخول المنازل والأماكن لغير التفتيش.
65- التفتيش الوقائي :
التفتيش الوقائي هو الذي يهدف إلى تجريد الشخص مما يحتمل أن يكون بحوزته من أسلحة وأدوات أخرى قد يستعين بها في الاعتداء على غيره أو في الإضرار بنفسه. ويتم اتخاذ هذا التفتيش عند القيام بأي إجراء يتضمن التعرض القانوني للحريات الفردية سواء أكان بمناسبة قبض قانوني أم التعرض المادي. ولذا قضي بأن هذا التفتيش "أمر لازم لأنه من وسائل التوقي والتحوط من شر ما قبض عليه إذا ما سولت له نفسه التماسا للفرار أن يتعدى على غيره بما قد يكون محرزا له من سراح أو نحوه" . ويجب على مأمور الضبط القضائي التزام غاية هذا التفتيش ، أي يقتصر على التفتيش الخارجي ، فإذا ما ثبت أن المتهم لا يحمل شيئا خطراً لا يجوز البحث فيما هو أبعد من ذلك وإلا كان عملاً غير مشروع .
66- التفتيش الإداري :
التفتيش الإداري – ويسمى أيضاً التفتيش بناءً على تعاقد - إجراء يقوم به بعض الموظفين العموميين أو من في حكمهم ، وذلك بقصد تحقيق أهداف إدارية أو وقائية عامة للتحقق من تنفيذ ما تأمر به القوانين واللوائح وما تنهى عنه. فهو لا يجري أصلا للبحث عن أدلة جريمة معينة ، وإنما للتحقق من سلامة تطبيق القوانين واللوائح. ومن أمثلة التفتيش الإداري تفتيش عمال المصانع والمتاجر ، والتي تقضي لوائحها بتفتيش العاملين بها ، ويفترض بالتالي رضاء الشخص أو العامل بهذا الإجراء مسبقا بمجرد موافقته على العمل بالمصنع . ومن قبيل ذلك التفتيش الذي تقضي به قوانين السجون ولوائحه من تفتيش الزائرين والسجانين والمسجونين .
ومثال ذلك أيضا ما يسمح به قانون الجمارك من تفتيش للقادمين من الخارج والمغادرين داخل الدائرة الجمركية ، حيث أسبغ المشرع على بعض موظفي الجمارك صفة مأمور الضبط القضائي ، وخولهم بذلك حق تفتيش الأماكن والأشخاص والبضائع ووسائل النقل داخل الدائرة الجمركية ،(مادة 25 من القانون رقم 66 لسنة 1963).
وهنا يتعين الإشارة إلى أن القانون لم يتطلب توافر شروط القبض والتفتيش المقررة بقانون الإجراءات الجنائية ، وإنما خول موظفي الجمارك – دون بقية مأموري الضبط القضائي - سلطة التفتيش داخل الدائرة الجمركية لمجرد قيام حالة تنم عن شبهة في توافر تهريب جمركي (المادة 28 من قانون الجمارك) . والواقع أن النصوص القانونية التي تبيح التفتيش داخل الدائرة الجمركية تتنافى والمادة 41 من الدستور المصري لعام 1971 والتي تحظر القبض على أحد وتفتيشه إلا في حالة التلبس أو بأمر القاضي المختص أو النيابة العامة ، فالدستور أضفى بذلك حماية ضد التفتيش كإجراء من إجراءات التحقيق ، ويتعين أن تمتد هذه الحماية من باب أولى إلى كل انتهاك لحقوق الأشخاص في السرية . هذا إلا إذا اعتبر قانون الجمارك هذا التفتيش شرطاً لدخول الدائرة الجمركية ، وفي هذه الحالة يجد سنده في رضاء صاحب الشأن بالتفتيش الذي وضعه قانون الجمارك ، فإذا ما أسفر هذا التفتيش عن قيام جريمة في حالة تلبس ، فإن الدليل المستمد منه يكون صحيحاً.
67- الرضاء بالتفتيش :
لما كانت ضمانات الحرية الشخصية وحرمة المساكن ، من الحقوق العامة ، فرضت لحماية أسرار الحياة الخاصة للأفراد ، فإنه يجوز لمن تقررت له هذه الحماية أن ينزل عنها ويقبل تفتيش منزله أو شخصه في غير الأحوال التي يجيزها القانون . ويلاحظ أن الرضاء في هذه الحالة لا يصحح تفتيشاً وقع باطلاً من عيبه إذا لم يدفع صاحب الشأن ببطلانه ، أو إذا تراخى في التمسك بهذا البطلان. فالتفتيش هنا لا يعد من قبيل الذي قرره ونظمه قانون الإجراءات الجنائية كإجراء من إجراءات التحقيق شابه بطلان صححه رضاء المتهم ، لأن ثمة بطلان لم يقع أصلاً ، بل أن هذا الرضاء قد غير من طبيعة التفتيش الإجرائي ، بحيث أصبح إجراء آخر هو "الإطلاع على الأشياء والمعاينة" ، فلا محل إذا لوصف هذا التفتيش بالبطلان صححه رضاء المتهم أو عدم تمسكه بهذا البطلان .
على أنه يشترط أن يصدر الرضاء من الشخص المراد تفتيشه ، وأن يكون سابقاً على إجراء التفتيش. وأن يكون الرضاء صريحاً لا لبس فيه. ومن ثم فلا يعتبر مجرد السكوت وعدم الاعتراض رضاء بالتفتيش ، إذ من الجائز أن يكون ذلك منبعثا عن الخوف والاستسلام. لذلك يتعين أن يكون الرضا حراً لا إكراه فيه لا يشوبه غلط أو تدلس ، بأن يكون صادرا عن علم بالإجراء المطلوب وغايته منه ، وبأن من يقوم بتنفيذ التفتيش ليس له الحق في إجرائه قانوناً . على أنه لا يشترط أن يكون هذا الرضاء ثابتا بكتابة صادرة ممن حصل تفتيشه ، بل يكفي أن تستبين المحكمة ثبوته من وقائع الدعوى وظروفها. وإذا أسفر هذا التفتيش عن قيام جريمة في حالة التلبس ، فإنه يجوز لمأمور الضبط القضائي من تلقاء نفسه ضبط ما يعتبر حيازته جريمة.
وإذا كان ما يجرى تفتيشه مسكناً ، فقد استقر قضاء النقض على أن الرضاء قد يصدر من صاحبه أو حائزه أو من يقوم مقامه في غيبته . على أن محكمة النقض قد اشترطت لاعتبار الشخص حائزاً حق الرضاء بالتفتيش أن تكون إقامته بصورة مستمرة مع صاحب المكان ، فمجرد توافر الصلة فحسب لا يكفي لاعتباره حائزاً ، ويكون الرضا بالتفتيش في هذه الحالة قد صدر ممن لا يملكه ، ويضحى التفتيش باطلا ويبطل ما يترتب عليه من آثار . على أنه إذا أسفر تفتيش المنزل برضاء صاحبه عن قيام جريمة في حالة تلبس فإنها لا تجيز لمأمور الضبط القضائي سوى القبض على الشخص وتفتيشه (المادة 41 من الدستور) ، ولا يجوز له إجراء التفتيش الإجرائي للبحث عن الأشياء الخاصة بالجريمة المتلبس بها إلا إذا صدر له أمر قضائي مسبب ممن يملك سلطة التحقيق (المادة 44 من الدستور).
68- دخول المنازل لغير التفتيش :
حرص الدستور المصري في المادة 44 منه على النص على أن "للمساكن حرمة فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بأمر قضائي مسبب وفقا لأحكام القانون". وإعمالاً لهذا النص أكدت المادة 45 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه"لا يجوز لرجال السلطة الدخول في أي محل مسكون إلا في الأحوال المبينة في القانون ، أو في حالة طلب المساعدة من الداخل أو في حالة الحريق أو الغرق أو ما شابه ذلك".
وهكذا سمح المشرع لرجال السلطة العامة بدخول المساكن – في غير الأحوال المقررة قانوناً - لمجرد القيام بعمل مادي تقتضيه الضرورة. وقد مثلت المادة 45 سالفة الذكر لهذه الأعمال بحالة طلب المساعدة من الداخل أو في حالة الحريق أو الغرق. وقد أضافت
محكمة النقض إلى تلك الأحوال حالة تعقب المتهم بقصد تنفيذ أمر القبض عليه. إذ اعتبر ذلك مجرد عمل مادي تقتضيه ضرورة تعقب المتهم أينما وجد لتنفيذ الأمر بضبطه وتفتشيه. وعلى كل حال فإن الضرورة تقدر بقدرها ، بحيث لا يجوز لمأمور الضبط القضائي سوى تحقيق الغرض الذي استدعته تلك الضرورة ، فالدخول مقيد بالغاية التي من أجلها منح مأمور الضبط القضائي هذه السلطة. لذلك إذا أسفر دخول المنزل في هذه الحالة عن ضبط جريمة في حالة تلبس بطل تفتيش المسكن المترتب على هذه الحالة. على أنه يجوز لمأمور الضبط في تلك الحالة القبض على المتهم وتفتيشه بشخصه .
69- تفتيش الأشخاص في أحوال التلبس :
أجاز له تفتيش الأشخاص في الحالات التي يجوز فيها القبض عليهم (المادة 46/1 إجراءات) ، كما أجاز له هذا التفتيش تبعا لتفتيش المنزل إذا ما توافرت شروط معينة (المادة 49 إجراءات).
فقد نصت المادة 46 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه "في الأحوال التي يجوز فيها القبض قانونا على المتهم يجوز لمأمور الضبط أن يفتشه". وهذا النص يقرر مبدأ استقر في قضاء النقض مؤداه أنه "كلما كان القبض صحيحاً كان التفتيش الذي يرى من خول إجراءه على المقبوض عليه صحيحا" . فالتفتيش من توابع القبض ومستلزماته . على أنه لا يجب أن يفهم من ذلك أنه يشترط لصحة التفتيش أن يكون قد سبقه قبض على المتهم. فعلى حد قول محكمة النقض أن الشارع لم يشترط لإيقاع هذين الإجراءين ترتيبا معينا ، ومن ثم فإن ما تنعاه الطاعنة من بطلان إجراءات الضبط وفساد دليل الكشف على المخدر المستمد منها ، استنادا إلى أن القبض عليها كان تاليا لتفتيش عباءتها ، لا يستند إلى أساس صحيح في القانون .
والسائد فقهاً أن التفتيش المقصود في المادة 46/1 إجراءات جنائية لا يقتصر على التفتيش الوقائي ، وإنما هو حق عام ينطبق على جميع الأحوال التي يجوز فيها القبض على المتهم بحثاً عن أدلة الجريمة التي في حيازته وضبطها (التفتيش بالمعنى الفني). وفي ذلك تقول محكمة النقض "القول بأن التفتيش المشار إليه في هذه المادة قصد به التفتيش الوقائي هو خروج بالنص من مجال التعميم الذي تدل عليه عبارته إلى نطاق التخصيص الذي لا موقع له من موضع النص ولا من صيغته التي أحال فيها بصورة مطلقة على الأحوال التي تجيز القبض قانونا على المتهم" .
هذا وقد أباح المشرع ، بموجب نص المادة 49 إجراءات جنائية ، تفتيش الشخص الموجود في المنزل سواء أكان متهما أم غير متهم ، إذا قامت قرائن قوية على أنه يخفي شيئاً يفيد في كشف الحقيقة. وهذا التفتيش لا يرتبط بحالات القبض على المتهم ، بل أنه مرتبط بتفتيش منزل المتهم. ومن ثم وجب أن يكون تفتيش المنزل جائزاً قانوناً ، بأن يكون بأمر قضائي مسبب وفقا لأحكام القانون ؛ فضلاً عن ضرورة توافر قرائن قوية على أن المتهم أو شخص سواه يخفي شيئاً يفيد في كشف الحقيقة . وتقدير هذه القرائن ومبلغ كفايتها لمأمور الضبط القضائي ، ويكون تقديره خاضعا لرقابة سلطة التحقيق ومحكمة الموضوع.
ويظهر من تلك الشروط أن هذا الحق المقرر لمأموري الضبط القضائي إنما هو أمر استثنائي لا يجب التوسع فيه. وعلى هذا فلا يجوز لمأمور الضبط القضائي تفتيش شخص خارج المنزل ولو وجدت قرائن قوية على أنه يخفي شيئا يفيد في كشف الحقيقة ، إلا إذا قام في حق هذا الشخص حالة من الحالات التي تجيز القبض عليه ، كما لو كانت الجريمة في حالة تلبس ، فتفتيشه في هذه الحالة يكون مستندا إلى توافر حالة من حالات القبض وليس أثرا لتفتيش المسكن.
ولدينا أن تقرير الحق في تفتيش الشخص الموجود بالمنزل سواء كان متهما أو غير متهم بناء على نص المادة 49 فيه توسع يتعارض مع أحكام المادة 41 من الدستور ، طالما لم يتوافر بشأن الأشياء التي يخفيها المتهم أو غيره حالة من حالات التلبس. وهذا الرأي هو ما أيده قضاء النقض حين قال أن "مفاد ما قضى به المادة 49 من قانون الإجراءات الجنائية من تخويل مأمور الضبط القضائي الحق في تفتيش الشخص إذا قامت ضده أثناء تفتيش منزل المتهم قرائن قوية على أنه يخفي معه شيئا يفيد في كشف الحقيقة دون أن يصدر أمر قضائي ممن يملك سلطة إصداره ، أو أن تتوافر في حقه حالة التلبس يخالف حكم المادة 41 من الدستور ، لذلك فإن المادة 49 من قانون الإجراءات الجنائية تعتبر منسوخة ضمنا بقوة الدستور نفسه منذ تاريخ العمل بأحكامه دون تربص صدور قانون أدنى ، ولا يجوز الاستناد إليها في إجراء القبض والتفتيش منذ ذلك التاريخ" .
ويجب أن يخضع تفتيش الأشخاص في جميع الأحوال للضمانات القانونية المقررة. فيشترط أن يجري بمعرفة أحد مأموري الضبط القضائي دون غيره ، بحيث لا يجوز له أن يندب أحد رجال السلطة العامة لإجرائه. على أنه يجوز له أن يستعين في إجراء التفتيش بمن يرى مساعدته فيه من معاونيه ولو لم يكونوا من رجال الضبط ما داموا يعملون تحت إشرافه. كما يجب أن يراعى في تفتيش شخص المتهم ألا يكون فيه مساس بشرفه أو كرامته أو منافاة للآداب العامة. فإذا أخفى المتهم شيئاً في موضع عورة منه لا يجوز المساس بهذه العورة ، لما يتضمنه ذلك من هتك عرض المتهم ، وهو ما لا يجيزه القانون حماية للآداب العامة. كما لا يجوز أن يتضمن التفتيش مساساً بسلامة جسم المتهم أو إيذاء بدنياً أو معنوياً.
وإذا كان المراد تفتيشه أنثى ، فيجب أن يكون التفتيش بمعرفة أنثى يندبها لذلك مأمور الضبط القضائي (المادة 46/2 إجراءات). وهذا الندب يسري على كل تفتيش يكون محله أنثى ، ولذلك فهو واجب التطبيق بالنسبة إلى الحالة التي ترتبط بتفتيش المسكن (المادة 49). وهي قاعدة ذات اتصال بالنظام العام بحيث لو أجرى رجل الضبط القضائي هذا التفتيش بنفسه يعد باطلاً ، ولو رضيت به الأنثى رضاء صريحاً ، شريطة أن يكون التفتيش أن يجري في مواضع تخدش حياء الأنثى إن أجراه رجلاً. ولدينا أنه لا يجوز ندب طبيب من الرجال لتفتيش الأنثى ، بمقوله أن له حق توقيع الكشف الطبي عليها بحسبانه خبيراً ، فالقانون حين أجاز للطبيب الكشف على الأنثى ، إنما قرره لمصلحتها بقصد العلاج وبرضاء مسبق منها. هذا كله ما لم يتخذ التفتيش صورة عمل طبي يحتاج إلى خبرة خاصة لا تتوافر إلا في طبيب.
70- تفتيش المنازل في أحوال التلبس :
لما كان تفتيش المنازل – بحسبانها مستودع للسر وموضع سكينة الشخص - انتهاك خطير لحرمتها ، لذا فقد حرص دستور 1971 على تقرير بعض الضمانات بغية صيانة تلك الحرمة. وهكذا نصت المادة 44 منه على أن "للمساكن حرمة فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بأمر قضائي مسبب وقفا لأحكام القانون". وبغية التوفيق بين نصوص قانون الإجراءات الجنائية وهذا النص الدستوري تدخل المشرع بموجب القانون رقم 37 لسنة 1972 بشأن الحريات العامة ، من أجل تعديل بعض نصوص قانون الإجراءات الجنائية. وهكذا تم تعديل المادة 91 من قانون الإجراءات الجنائية بحيث اشترطت لدخول المسكن وتفتيشه صدور أمر من قاضي التحقيق ، وأن يكون هذا الأمر مسبباً ، كما عدلت المادة 206 من ذات القانون ، واستلزمت لتفتيش غير المتهم أو منزل غير منزله أن تحصل النيابة العامة على أمر مسبب بذلك من القاضي الجزئي بعد إطلاعه على الأوراق. ومن ناحية أخرى ألغى نص المادة 48 إجراءات التي كانت تخول مأمور الضبط القضائي سلطة تفتيش منازل الأشخاص الموضوعين تحت مراقبة البوليس إذا وجدت أوجه قوية للاشتباه في أنهم ارتكبوا جناية أو جنحة.
غير أن المشرع قد غفل عن تعديل المادة 47 إجراءات جنائية التي تخول مأمور الضبط القضائي في حالة التلبس بجناية أو جنحة أن حق تفتيش منزل المتهم. وقد ترتب على هذا الغفل أن طرح الفقه التساؤل حول جواز إعمال حكم هذه المادة.
المستقر عليه فقهاً أن هناك ثمة تعارض بين المادة 47 إجراءات والمادة 44 من الدستور . وأنه لما كان الدستور هو القانون الأعلى مرتبة ، فإنه إذا ما تعارض نص لقانون مع نص الدستور وجب إعمال هذا النص الأخير وإهدار ما سواه. ولما كان ذلك وكان ما قضى به الدستور في المادة 44 من حظر دخول المساكن أو تفتيشها إلا بناء على أمر قضائي مسبب ولم يستثني من ذلك حالة التلبس ، بخلاف الحال في تفتيش الأشخاص فقد أجازته المادة 41 من الدستور في حالة التلبس دون استلزام أمر قضائي. لذلك لا يجوز إهدار هاتين الضمانتين اللتين قررهما الدستور لصون حرمة المسكن. ولا يجوز القول باستثناء حالة التلبس من حكم هاتين الضمانتين قياساً على استثناء هذه الحالة من ضمانة صدور الأمر القضائي في حالة تفتيش الشخص أو القبض عليه ، ذلك أن هذا الاستثناء لا يقاس عليه. ولا يمكن التعلل لرفض هذا الرأي بمقوله أن حالة التلبس تقتضي سرعة القيام بالإجراءات وإلا أهدرت الغاية المرجوة منها ، ذلك أن مأمور الضبط القضائي يملك الحق في اتخاذ التدابير التحفظية للمحافظة على الأدلة (م.24 إجراءات جنائية). ومن ثم فإن ما تقرر بالمادة 47 إجراءات الجنائية من تخويل مأمور الضبط القضائي الحق في إجراء تفتيش المسكن في حالة التلبس دون أن يصدر له أمر قضائي مسبب ، يكون قد تضمن حكماً مخالفا للمادة 44 من الدستور ، ويكون قد نسخ ضمناً بقوة الدستور ، ويكون صدور أمر قضائي ومسبب لدخول المسكن أو تفتيشه لابد منه بعد العمل بأحكام الدستور دون حاجة لتعديل أو إلغاء المادة 47 من قانون الإجراءات الجنائية.
وهذا ما انتهت إليه المحكمة الدستورية العليا حين عرض عليه الأمر . فقد جاء في حكمها الأشهر حول المادة 47 من قانون الإجراءات الجنائية أن "المشرع الدستوري قد فرق في الحكم بين تفتيش الأشخاص وتفتيش المساكن فيما يتعلق بضرورة أن يتم التفتيش في الحالتين بأمر قضائي ممن له سلطة التحقيق أو من القاضي المختص كضمانة أساسية لحصول التفتيش تحت إشراف مسبق من القضاء ، فقد استثنت المادة 41 من الدستور من هذه الضمانة حالة التلبس بالجريمة بالنسبة للقبض على الشخص وتفتيشه ، فضلا عن عدم اشتراطها تسبيب أمر القاضي المختص أو النيابة العامة بالتفتيش ، في حين أن المادة 44 من الدستور لم تستثني حالة التلبس من ضرورة صدور أمر قضائي مسبب ممن له سلطة التحقيق أو من القاضي المختص بتفتيش المسكن سواء قام به الآمر بنفسه أم أذن لمأمور الضبط القضائي بإجرائه ، فجاء نص المادة 44 من الدستور المشار إليه عاما مطلقاً لم يرد عليه ما يخصصه أو يقيده ، مما مؤداه أن هذا النص الدستوري يستلزم في جميع أحوال تفتيش المساكن صدور الأمر القضائي المسبب...ولا يحق القول باستثناء حالة التلبس من حكم هاتين الضمانتين – أي صدور الأمر القضائي وأن يكون الأمر مسبباً -قياسا على إخراجها من ضمانة صدور الأمر القضائي في حالة تفتيش الشخص أو القبض عليه ، ذلك بأن الاستثناء لا يقاس عليه كما أنه لا محل للقياس عند وجود النص الدستوري الواضح الدلالة. ولا يغير من ذلك ما جاء بعجز المادة 44 من الدستور بعد إيرادها هاتين الضمانتين أن ذلك"وفقا لأحكام القانون" لأن هذه العبارة لا تعني تفويض المشرع العادي في إخراج حالة التلبس بالجريمة من الخضوع للضمانتين اللتين اشترطهما الدستور في المادة 44 سالفة الذكر ، وإنما تشير عبارة "وفقا لأحكام القانون" إلى الإحالة إلى القانون العادي في تحديد الجرائم التي يجوز فيها صدور الأمر بالتفتيش وبيان كيفية صدوره وتسبيبه إلى غير ذلك من الإجراءات التي يتم بها هذا التفتيش.
وهكذا أصبح تفتيش المساكن غير جائز لمأمور الضبط القضائي ولو في حالة التلبس إلا بناء على أمر قضائي مسبب ، سواء في ذلك منزل المتهم أو منزل غير المتهم. بل ولا تستطيع النيابة العامة أن تندب مأمور الضبط لتفتيش مسكن غير المتهم ، ذلك أن النيابة العامة لا تملك ذاتها إجراء هذا التفتيش إلا بناء على أمر مسبب بذلك من القاضي الجزئي بعد إطلاعه على الأوراق (المادة 206 إجراءات). كما لا يجوز للقاضي الجزئي – حال الرغبة في تفتيش مسكن غير المتهم - أن يصدر الأمر إلى مأمور الضبط القضائي مباشرة ، كما لا يجوز لهذا الأخير أن يطلب هذا الأمر من القاضي الجزئي.
وبزوال سلطة مأمور الضبط القضائي في تفتيش المساكن إلا بأمر قضائي مسبب ، يظل له فقط اتخاذ جميع الوسائل التحفظية اللازمة للمحافظة على أدلة الجريمة (المادة 24/1 إجراءات) ، وله أن يضع الأختام على الأماكن التي بها آثار أو أشياء تفيد في كشف الحقيقة وله أن يقيم حراساً عليها (المادة 53 إجراءات).
71- حكم تفتيش المتاجر والسيارات :
في الواقع لقد تضاربت الأحكام حول حكم تفتيش المساكن. فبعض الأحكام ذهبت في إلى أن "حرمة محل التجارة مستمدة من اتصاله بشخص صاحبه" . وفي أحكام أخرى ذهبت إلى أن "للمتجر حرمة مستمدة من اتصاله بشخص صاحبه أو بمسكنه" . وفي حكم آخر أضفت حكم المسكن على المتجر عند غياب صاحبه نفسه ، حتى ولو كان بابه مفتوحا أثناء النهار . ثم عادت في حكم آخر وأضفت على المتجر حكم الشخص حيث قضت بأن "المشرع بما نص عليه في المادة 44 من الدستور والمادة 91 من قانون الإجراءات لم يتطلب تسبيب أمر التفتيش إلا حين ينصب على المسكن ، والحال في الدعوى الماثلة أن أمر النيابة العامة بالتفتيش انصب على شخص الطاعن ومتجره دون مسكنه فلا موجب لتسبيبه" .
والحق أن المحال التجارية قد ترتبط بالشخص ، وقد ترتبط بالمسكن. فالمتجر يكون مرتبطا بالشخص عند وجوده فيه ، ومن الممكن أن يرتبط بمسكنه إذا كان من ملحقات هذا المسكن أو في حالة غياب صاحبه نفسه سواء كان المتجر مغلقاً أم مفتوحاً أثناء النهار. وعلى ذلك فإنه يجوز لمأمور الضبط القضائي تفتيش المتجر كلما كان جائزا تفتيش شخص حائزه عند وجوده فيه إذا توافرت حالة التلبس دون استصدار أمر قضائي ، أما إذا ارتبط المتجر بمسكن الشخص كما لو كان من ملحقاته أو في حالة غياب صاحبه عنه فلا يجوز تفتيش المتجر ، ولو في حالة التلبس ، إلا بصدور أمر قضائي مسبب.
هذا الخلاف لا نلمسه بشأن تفتيش السيارات. فالمتفق عليه فقهاً وقضاءً أن السيارة ليست مسكناً ، ولذلك فإن تفتيش السيارات لا يخضع إلى الضمانات والقواعد المقررة للمساكن. وبناء على ذلك قضي بأن "حرمة السيارة الخاصة مستمدة من اتصالها بشخص صاحبها أو حائزها" . ومن ثم يسري على تفتيشها أحكام تفتيش الأشخاص طالما هي في حيازة صاحبها أو حائزها ، أو برضائه متى كان متواجداً بها وقت التفتيش . أما إذا كانت السيارة الخاصة داخل أحد ملحقات المسكن ، فإن تفتيشها يأخذ حكم المكان المسكون فلابد من استصدار أمر قضائي مسبب قبل التفتيش .
ونعتقد أن ما يسري على السيارات الخاصة يسري بدوره على السيارات الأجرة. ومن ثم فإن تفتيش تلك الأخيرة يرتبط بتفتيش شخص حائزها أو ركابها إذا توافرت حالة التلبس. وإذا كان لمأمور الضبط القضائي إصدار أمر بوقف مركبات السير الخاصة والأجرة على السواء ، بغية التأكد من مراعاة قواعد التراخيص وأمن الطرق ، أو بغية البحث عن مجرم هارب أو التأكد من شخصية ركابها...الخ ، فإن هذا الإيقاف لا يخول لمأمور الضبط القضائي سلطة تفتيش السيارة ، متى لم تتوافر أحد حالات التلبس التي تبيح تفتيش السيارة وما بها من ركاب.
أما بالنسبة للسيارات العامة وسائر المواصلات العامة فإن تفتيشها يسري عليه ما يسري على تفتيش الأماكن العامة . ومن ثم يجوز تفتيشها ولو في غير حالة التلبس. غير أن هذا التفتيش لا ينصرف إلى الركاب أو أمتعتهم إلا إذا توافرت حالة التلبس أو بإذن من سلطة التحقيق.
72- ثانياً : دور الشرطة القضائية في أحوال الندب للتحقيق :
73- أ : التعريف بالندب وبيان مبرراته :
سبق لنا التأكيد على أن اختصاص مأمور الضبط القضائي يقتصر على الاستدلال ، دون أعمال التحقيق الابتدائي ، فهي من اختصاص سلطات التحقيق سواء كانت النيابة العامة أم قاضي التحقيق. ومع ذلك فقد أجاز المشرع لسلطات التحقيق أن تندب أحد مأموري الضبط القضائي ، لمباشرة بعض إجراءات التحقيق. فقد نصت المادة 70 إجراءات جنائية على أنه "لقاضي التحقيق أن يكلف أحد أعضاء النيابة العامة أو أحد مأموري الضبط القضائي القيام بعمل معين أو أكثر من أعمال التحقيق عدا استجواب المتهم ، ويكون للمندوب في حدود ندبه كل السلطة التي لقاضي التحقيق. وله إذا دعت الحال لاتخاذ أي إجراء من الإجراءات خارج دائرة اختصاصه أن يكلف به قاضي محكمة الجهة أو أحد أعضاء النيابة أو أحد مأموري الضبط القضائي بها". كما نصت المادة 200 إجراءات جنائية على أن "لكل من أعضاء النيابة العامة في حالة إجراء التحقيق بنفسه أن يكلف أي مأمور من مأموري الضبط القضائي ببعض الأعمال التي من خصائصه".
والندب – المسمى في العمل الأذن - بذاته إجراء من إجراءات التحقيق ، ومن ثم تتحرك به الدعوى الجنائية ، كما تنقطع به مدة التقادم ، ولو لم يقم المندوب بتنفيذ هذا الانتداب . ويترتب على الانتداب ، تمتع مأمور الضبط القضائي المنتدب للتحقيق ، بكافة السلطات التي تتمتع بها السلطة الآمرة ، ويتقيد بذات الشروط التي تتقيد بها في حدود الإجراء أو الإجراءات المنتدب لمباشرتها.
ويجد الندب عادة مبرره في بعض الاعتبارات العملية ، التي قد تنشأ نتيجة كثرة أعمال التحقيق مما لا يتسع الوقت لمباشرتها جميعا من قبل سلطة التحقيق الأصلية. بل يكمن أن تنشأ اعتبارات إجرائية توجب الندب ، كأن يكون العمل المراد إجراؤه في خارج دائرة اختصاص سلطة التحقيق المحلي ، أو حينما تقتضي سرعة الكشف عن الحقيقة مباشرة عدة إجراءات في أكثر من مكان وفي نفس الوقت ، مما يصعب على سلطة التحقيق أن تقوم بهذه الإجراءات. هذا كله فضلاً عن أن بعض أعمال التحقيق ، كالقبض والتفتيش ، تقتضي مكنات جسمانية ، عادة لا تتوافر إلا بالنسبة لمأمور الضبط القضائي بحكم تأهيلهم المهني.
74- ب : شروط الندب للتحقيق :
أوجب المشرع لصحة الندب نوعان من الشروط : بعضها موضوعي تتصل بصفة الآمر بالندب ، وصفة المندوب ، ومحل الندب ؛ وبعضها ذات طبيعة شكلية تتصل بالشكل اللازم في أمر الندب ذاته.
75- الشروط الموضوعية للندب :
بقراءة المواد 70 ، 200 من قانون الإجراءات الجنائية يتبين أن أمر الندب يجب أن يصدر من سلطة خصها القانون بالتحقيق ، وأجاز لها ندب غيرها. وعلى ذلك فإن لقاضي التحقيق (م70) وللنيابة العامة (م.200) سلطة ندب غيرهم من جهات التحقيق أو أحد مأموري الضبط القضائي. وعلى ذلك فلا يجوز لمأمور الضبط القضائي عند مباشرته بعض إجراءات التحقيق أن ينتدب غيره من مأموري الضبطية القضائية لاتخاذ أي من هذه الإجراءات ، ذلك أن القانون لم يخوله سلطة الندب .
وفوق ذلك يتعين أن يكون الآمر بالندب مختصاً نوعياً باتخاذ الإجراء الذي يندب له مأمور الضبط القضائي ، لأن الانتداب تفويض لا اختصاص ، فلا يجوز للسلطة الآمرة أن تندب مأمور الضبط القضائي لمباشرة إجراء لا تملكه. مثال ذلك الندب الصادر من وكيل النيابة لتفتيش منزل غير المتهم ، فهذا الإجراء لا يملكه وكيل النيابة إلا بعد استصدار إذن من القاضي الجزئي ، وبالتالي فهو لا يملك ندب غيره طالما أنه خارج عن حدود اختصاصه . وكذلك لا يجوز للقاضي الجزئي أن ينتدب مأمور الضبط القضائي لتفتيش منزل غير المتهم أو لمراقبة المكالمات التليفونية ، ذلك أنه لا يملك مباشرة هذا الإجراء ، بل تنحصر سلطته في الإذن للنيابة العامة باتخاذ الإجراء ، وللنيابة العامة سلطة ندب من تراه من مأموري الضبط لتنفيذ الإجراء . كما يشترط ألا توجد عقبة قانونية تحول بين الآمر بالندب وأن يقوم بنفسه بالإجراء محل الندب ، كأن تكون الدعوى الجنائية معلقة رفعها على شكوى أو طلب أو إذن .
وعلاوة على الاختصاص النوعي يتعين أن يكون الآمر بالندب مختصاً مكانياً بما يندب إليه من أعمال التحقيق ، فلا يكون الندب صحيحا إذا صدر من وكيل نيابة لاتخاذ إجراء في جريمة غير داخلة في دائرة اختصاصه. والاختصاص المكاني يتحدد بمكان ارتكاب الجريمة أو مكان إقامة المتهم أو مكان ضبطه ، فإذا لم تدخل الجريمة في دائرة اختصاص وكيل النيابة بأحد هذه المعايير ، فلا يكون مختصاً بالتحقيق مكانياً ، فلا يجوز له بالتالي أن يندب مأمور الضبط القضائي لمباشرة أي من إجراءاتها .
ويجب أن يظل اختصاص سلطة التحقيق قائماً ، وعلى ذلك فلا يجوز إصدار ندب لمأمور الضبط القضائي لمباشرة إجراء من إجراءات التحقيق في جريمة مستقبلة محتملة الوقوع لكونها لم تدخل في اختصاصه بعد . ولا يجوز أيضا أن يصدر عضو النيابة العامة ندباً لمأمور الضبط القضائي في شأن دعوى أصدر فيها أمراً بعدم وجود وجه لإقامة الدعوى الجنائية. ولا يجوز من باب أولى أن ينفذ مأمور الضبط القضائي أمراً كان قد صدر إليه ولم ينفذ حتى صدر أمر بالأوجه لإقامة الدعوى ، فإن الندب ينتهي سريانه بصدور الأمر بالأوجه ، كما ينتهي بطرح الدعوى على قضاء الحكم.
ويجب أن يصدر أمر الندب إلى أحد مأموري الضبط القضائي المختصين مكانياً ونوعياً ، فلا يجوز ندب غيرهم من مرؤوسيهم أو معاونيهم ، ومن باب أولى لا يجوز ندب غيرهم من مأموري الضبط القضائي غير المختصين بالجريمة. على أن هذا لا يمنع من أن يستعين مأمور الضبط الصادر إليه أمر الندب بمساعديه في تنفيذه ما دام ذلك تحت بصره وإشرافه وعلى مرأى منه . ويتعين تحديد مأمور الضبط القضائي في أمر الندب ، ولا يشترط أن يكون هذا التحديد بالاسم بل يكفي التحديد بالاختصاص الوظيفي. وفي هذه الحالة يمكن أن يباشر الإجراء أي مأمور ضبط قضائي ممن يشغلون هذه الوظيفة ، ولو كان غير الذي طلب الإذن به. أما إذا تحدد الندب باسم واحد معين لم يكن لهذا المنتدب أن يندب غيره ما لم يخول ذلك في الأمر . وإذا صدر أمر الندب لأكثر من مأمور ضبط قضائي لتنفيذ الإجراء ، جاز لأحدهم أن يقوم به منفرداً. أما إذا كان أمر الندب استلزم أن يباشر الإجراء بمعرفة جميع من حددوا فيه ، فإنه لا يجوز أن ينفرد أحدهم بمباشرة الإجراء دون اشتراك الباقين معه ، كما لا يجوز من باب أولى أن يندب غيره من مأموري الضبط دون اشتراكه معهم.
ووفقاً لقضاء النقض يلزم أن يكون مأمور الضبط المنتدب للتحقيق عالماً عالما بالإذن قبل إجراء التحقيق ، ومتى توافر له العلم فإن مجرد سهوه عن الإشارة في محضر التحقيق إلى الإذن الصادر إليه لا يكفي للقول بأنه لم يكن عالما به. وهذا القضاء موفق على أساس أن إجراءات التحقيق ليست من الاختصاصات الذاتية لمأمور الضبط القضائي ، بل هي من اختصاص سلطة التحقيق ، وأحاطها المشرع بضمانات معينة حماية لحريات الأفراد ومنعا لاحتمال التعسف معهم.
ويلزم فوق ذلك أن يكون محل أمر الندب أمراً مشروعاً ، وهو لا يكون كذلك إلا إذا انصب أمر الندب على إجراء بعينه يحدد في الأمر. فقد ألزم المشرع قاضي التحقيق "ببيان المسائل المطلوب تحقيقها والإجراءات المطلوب اتخاذها". وتحديد نطاق الندب ومداه قد ورد في القانون "مطلقا يسري على كافة إجراءات التحقيق وينتج أثره بشرط أن يصدر صريحاً ممن يملكه وأن ينصب على عمل معين أو أكثر من أعمال التحقيق" . ومن ثم فإنه يجوز الندب لإجراء الضبط أو التفتيش أو المعاينة أو سماع الشهود. كما يصح ندب مأمور الضبط القضائي لتنفيذ إذن القاضي الجزئي بمراقبة تليفون أو تفريغ التسجيلات الصوتية .
غير أنه يحظر أن ينتدب مأمور الضبط القضائي من أجل تحقيق قضية برمتها. ففي ذلك معنى تخلي جهة التحقيق عن السلطة التي قصد المشرع أن يخصها بها توفيراً لضمانات للمتهمين لا تتوافر في مأمور الضبط القضائي . ولا يستثنى من هذا الحظر سوى معاون النيابة الذي أجاز قانون السلطة القضائية عند الضرورة تكليفه لتحقيق قضية بأكملها (المادة 22/2) .
هذا وقد استثنى المشرع من الإجراءات التي تكون موضوعا للندب الاستجواب ، وذلك بصريح نص المادة 70 إجراءات جنائية حيث أجاز الندب لأعمال التحقيق "عدا استجواب المتهم" فهذا الإجراء يلزم فيه أن يباشره المحقق بنفسه. وحكمة هذا الاستثناء أن الاستجواب إجراء خطير ، لأنه قد يؤدي إلى اعتراف المتهم ، لذلك أحاطه المشرع بضمانات كافية تمنع التعسف والإكراه وإساءة استعمال السلطة ، وهذه الضمانات لا تتوافر إلا في سلطة التحقيق. وإذا كان الندب للاستجواب غير جائز ، فإن ذلك يستتبع عدم جواز الندب في الحبس الاحتياطي ، إذ يشترط للأمر به أن يكون مسبوقا باستجواب المتهم وهو ما لا يملكه مأمور الضبط القضائي. هذا فضلا عن أن الحبس الاحتياطي ليس من الإجراءات العاجلة التي تتوفر فيها العلة التي استوجبت تقرير الندب. كما لا يجوز الندب في إصدار أوامر التحقيق ، فلا يجوز للمحقق أن يندب غيره لإصدار أمر القبض أو الإفراج عن المتهم ، لأن الندب تقرر للتخفيف عن المحقق في تنفيذ أوامر التحقيق لا في إصدارها .
وتجدر الإشارة إلى أن المشرع قد حظر الندب للتحقيق تجاه بعض الأشخاص أو بغية تفتيش بعض الأماكن. من قبيل ذلك ما قررته المادة 51 من قانون المحاماة رقم 17 لسنة 1983 من أنه "لا يجوز التحقيق مع محام أو تفتيش مكتبه إلا بمعرفة أحد أعضاء النيابة العامة. ويجب على النيابة أن تخطر مجلس النقابة أو مجلس النقابة الفرعية قبل الشروع في تحقيق أي شكوى ضد محام بوقت مناسب". كما تنص المادة 224 من ذات القانون على أنه "لا يجوز تفتيش مقار نقابة المحامين ونقاباتها الفرعية...أو وضع أختام عليها إلا بمعرفة أحد أعضاء النيابة العامة وبحضور نقيب المحامين أو نقيب النقابة الفرعية أو من يمثلها". كما نصت المادة 43/1 من قانون تنظيم الصحافة رقم 96 لسنة 1996 على أنه "لا يجوز التحقيق مع الصحفي بسبب جريمة من الجرائم التي تقع بواسطة الصحف أو تفتيش مقر عمله لهذا السبب إلا بواسطة أحد أعضاء النيابة العامة. وهذه الأحكام ليست من قبيل الإرشاد والتوجيه ، بل يترتب البطلان على مخالفتها. ولا يغير من ذلك عدم ترتيب النص البطلان على مخالفة حكمه ، ذلك أن القانون المصري لا يأخذ بمذهب البطلان التشريعي ، بل يأخذ بمذهب البطلان الذاتي الذي يترك للقاضي تقرير البطلان عند مخالفة إجراء جوهري (م. 231 إجراءات جنائية) ، وليس من شك أن الإشراف القضائي على الإجراءات الجنائية من الإجراءات الجوهرية المتعلقة بالنظام العام .
76- الشروط الشكلية للندب :
استلزم المشرع عدداً من الشروط الشكلية في أمر الندب الصادر إلى مأمور الضبط القضائي ، منه أن يكون الأمر صريحاً. فالانتداب الضمني لا يعتبر انتدابا للتحقيق. ولذلك قضي بأن "مجرد إحالة الأوراق من النيابة إلى البوليس لا يعد انتداباً منها لأحد أعضاء الضبط القضائي لإجراء التحقيق" . ولا يشترط أن يفرغ أمر الندب في صيغة معينة ، فيكفي فيه أن يكون واضح الدلالة على الندب. كما يلزم أن يكون أمر الندب ثابتاً بالكتابة ، بحسبانه بذاته إجراء من إجراءات التحقيق. وعلى ذلك فإنه لا يكفي في الندب للتحقيق مجرد الترخيص الشفوي ، بل يجب أن يكون له أصل مكتوب موقع عليه ممن أصدره إقرارا بما حصل منه . ولا يغني عن شرط الكتابة الانتداب التليفوني حتى ولو كان ثابتاً بدفتر الإشارات التليفونية ، هذا إلا إذا كان للأمر أصل ثابت بالكتابة في الأوراق إلا أنه أبلغ تليفونياً إلى مأمور الضبط القضائي ، إذ لا يشترط أن يكون أمر الندب بيد المندوب حين تنفيذه .
وعلاوة على ذلك يجب أن يكون أمر الندب مؤرخاً ، غير أنه لا يؤثر في صحة الأمر عدم اشتماله على ساعة صدوره ، إلا إذا حدد الأمر مدة سريانه فإن إثبات الساعة لازم في تلك الحالة لتقدير ما إذا كان التنفيذ قد تم في الأجل المقرر أم لا . كما يجب اشتمال أمر الندب على تحديد مصدره ، ومن صدر له ، والمسائل المطلوب تحقيقها والإجراءات المطلوب اتخاذها ، والأشخاص الذين تباشر هذه الإجراءات بصددهم. فإذا جاء أمر الندب مغفلا هذه البيانات كان باطلاً. غير أنه لا ينال من صحة أمر الندب خلوه من بيان صفة المأذون بتفتيشه أو صناعته أو محل إقامتهم ، طالما أنه الشخص المقصود بالأمر . وفي النهاية يلزم أن تتوافر لدى السلطة الآمرة بالندب تحريات جدية وكافية قبل إصداره. فالأصل في القانون أن أمر الندب هو إجراء من إجراءات التحقيق لا يصح إصداره إلا لضبط جريمة جناية أو جنحة واقعة بالفعل وترجحت نسبتها إلى متهم معين ، وأن هناك من الدلائل ما يكفي لأن يتخذ الإجراء محل الندب. وعلى هذا فلا يجوز إصدار أمر الندب لضبط جريمة مستقبلة لم تقع بعد . وتقدير جدية التحريات وكفايتها لإصدار الأمر بالندب هو من المسائل الموضوعية التي يوكل الأمر فيها إلى سلطة التحقيق تحت إشراف محكمة الموضوع .
77- تنفيذ أمر الندب للتحقيق :
إذا ما صدر أمر الندب لمأموري الضبط القضائي للقيام بعمل من أعمال التحقيق فعلى هؤلاء مراعاة القواعد التي يجب على المحقق إتباعها في مباشرة أعمال التحقيق ، سواء كان الآمر بالندب هو قاضي التحقيق أم النيابة العامة. فيتعين من ثم تحرير محضر بمعرفة كاتب مختص ، وإلا ظل محضرة من قبيل محاضر الاستدلالات . إذا ندب مأمور الضبط القضائي لسماع شاهد معين كان عليه أن يحلفه اليمين ، كما هو الشأن بالنسبة للشهادة التي يجريها المحقق لو أنه باشر الإجراء بنفسه، فإن لم يفعل مأمور الضبط القضائي ذلك فإن الإجراء لا يعد إجراء من إجراءات التحقيق ، بل مجرد إجراء من إجراءات الاستدلال. وإذا ندب لتفتيش منزل فإنه يلتزم بمراعاة نص المادة 92 إجراءات بشأن التحقيق الذي يجريه قاضي التحقيق والتي تنص على إجراء التفتيش بحضور المتهم أو من ينيبه عنه إن أمكن ذلك. وإذا كانت هناك ضرورة ألجأته إلى استجواب المتهم فعليه مراعاة كافة الضمانات المقررة في هذا الشأن (م. 123-125 إجراءات جنائية).
ومتى التزم القائم بتنفيذ أمر الندب هذه الضوابط ، فقد ترك له القانون مساحة تقدير في أن يتخذ ما يراه كفيلاً بتنفيذ ما جاء بأمر الندب ، فالقانون لم يلزمه في ذلك بإتباع طريقة معينة. فإذا كان الأمر بالندب يتعلق بالتفتيش فلمأمور الضبط القضائي أن يتخذ من وسائل التحوط ما يمكنه من تحقيق الغرض من التفتيش المأذون له به ، وأن يستعين في ذلك بأعوانه من رجال الضبط القضائي أو بغيرهم من رجال السلطة العامة ، شريطة أن يكونوا تحت سمعة وبصره. كما أن له أن يدخل المكان مت الباب الرئيس له أو من شرفة من شرفاته أو من فوق أسطحه ، حسبما تمليه ظروف التنفيذ . ولمأمور الضبط القضائي المندوب للتحقيق مباشرة الإجراء المندوب له في أي وقت يراه مناسباً ، نهاراً أو ليلاً ، متى لم يحدد له أمر الندب وقتاً معيناً للتنفيذ أو يحظر عليه ذلك في وقت معين .
على أن سلطة مأمور الضبط القضائي في تنفيذ أمر الندب ليست مطلقة ، بل أن هناك قيود عدة ترد على سلطته عند تنفيذ أمر الندب. وأهم تلك القيود وجوب عدم تجاوز حدود الندب ولا الغرض منه. فإذا استنفذ الشخص المنتدب أمر الندب فليس له أن يتخذ أي إجراء أخر وإلا وقع هذا الإجراء باطل ، وبطل ما يتولد عنه من أدلة . ولا يستثنى من تلك القاعدة إلا ما جاء بنص المادة 71/2 إجراءات جنائية التي قررت أن "للمندوب أن يجري أي عمل آخر من أعمال التحقيق ، أو أن يستجوب المتهم في الأحوال التي يخشى فيها فوات الوقت متى كان متصلاً بالعمل المندوب له ولازما في كشف الحقيقة".
يفهم من ذلك أن للمنتدب للقيام بعمل من أعمال التحقيق حق تجاوز حدود هذا الندب إذا قامت حالة ضرورة ، مبنية على خشية فوات الوقت ، ومن ثم استحالة مباشرة إجراء معين مستقبلاً ، أو عدم امكان مباشرته على الوجه الذي يحقق مصلحة التحقيق. مثال ذلك مرض المتهم مرضاً خطيراً أو إصابته في حادث قبل استجوابه ويخشى عدم امكان ذلك فيما بعد. على أن تجاوز مأمور الضبط القضائي لحدود الندب وفق لنص سالف الذكر يظل مقيد بقيدين ، أولهما ضرورة أن يكون الإجراء الذي تجاوز به المندوب حدود ندبه متصلاً بالعمل المندوب له ولازماً في كشف الحقيقة بالنسبة للدعوى التي يجري تحقيقها. كأن يندب مأمور الضبط لسماع شاهد إثبات ، فتقضي الضرورة سماع شاهد آخر مشرف على الهلاك أو على وشك السفر خارج البلاد ؛ فضلاً عن وجوب أن يكون الإجراء الذي تجاوز به مأمور الضبط القضائي المندوب حدود ندبه يدخل أصلا في اختصاص السلطة الآمرة بالندب ، فإذا لم يكن داخلاً في اختصاص هذه السلطة فلا يجوز للمندوب مباشرته لو توافرت حالة الضرورة. مثال ذلك أن يندب مأمور الضبط القضائي من النيابة العامة لتفتيش المتهم ومنزله ، فلا يجوز له أن يفتش منزل غير المتهم ولو اقتضت ذلك حالة الضرورة ، كما لا يجوز له مراقبة المحادثات السلكية واللاسلكية أو إجراء تسجيلات لأحاديث جرت في منزل المتهم ، ذلك أن النيابة العامة الآمرة بالندب لا تملك اتخاذ أيا من هذين الإجرائين إلا بإذن من القاضي الجزئي.
ومن بين القيود التي تحد من سلطة مأمور الضبط القضائي في تنفيذ أمر الندب ، وجوب تقيده بالمدة المحددة للتنفيذ والواردة في أمر الندب. والأصل أن القانون لم يوجب على السلطة التي أمرت بالندب أن تحدد أجلاً لتنفيذ أمر الندب. وليس في القانون ما يوجب تنفيذ الأمر فور صدوره. وإذا لم يتحدد لتنفيذ الندب أجلاً ، فإن أجله يتحدد بقوة القانون ، بولاية السلطة الآمرة بالندب. فإذا زالت ولاية تلك السلطة ، بإحالة الدعوى إلى المحكمة أو بإصدار أمر بالأوجه لإقامة الدعوى الجنائية ، فإن ذلك يحول دون تنفيذ أمر الندب إذا لم يكن قد بوشر الإجراء بعد. أما إذا كان الإجراء قد تم تنفيذه ، فإن الندب ينقضي باستنفاذ غرضه ، ذلك أنه لا يجوز تنفيذ الأذن أكثر من مرة واحدة. فإذا كان الندب صادراً بالتفتيش فيستوي أن يكون قد عثر على الأشياء المراد ضبطها أو لم يعثر عليها ، وسواء نص في أمر الندب على ذلك أو لم ينص . فإذا طرأ ما يسوغ التفتيش للمرة الثانية وجب استصدار أمر جديد .
ولما كان عدم إلزام سلطة التحقيق بتحديد أجلاً لتنفيذ أمر الندب يتضمن في طياته تهديداً للحريات الفردية وحرمة الحياة الخاصة لمدة قد تطول كثيراً طويلة ، لذا فقد توخى المشرع الحظر وأوجب في بعض الحالات تحديد أجلاً لتنفيذ أمر الندب. من ذلك ما قرره المشرع بالنسبة لضبط الخطابات والرسائل والجرائد والمطبوعات والطرود لدى مكاتب البريد ، وجميع البرقيات لدى مكتب البرق ، ومراقبة المحادثات السلكية واللاسلكية أو إجراء تسجيلات لأحاديث جرت في مكان خاص (م.95 ، 206 إجراءات) ، وكذلك تفتيش غير المتهم أو منزل غير منزله (م.206 إجراءات جنائية). حيث أوجب أن يكون الأمر في هذه الحالات لمدة لا تزيد عن ثلاثين يوما قابلة للتجديد لمدة أو مدد أخرى مماثلة. كما تحددت بالنسبة لأوامر الضبط والإحضار حداً أقصى للتنفيذ ، إذ قرر المشرع عدم جواز تنفيذها بعد مضي ستة أشهر من تاريخ صدورها ، ما لم تجدد لمدة أخرى (م.139/2 إجراءات جنائية) .
وإذا ما تحدد أجلاً لتنفيذ أمر الندب فإن هذا الميعاد لا يدخل في احتسابه اليوم الذي صدر فيه الإذن ، وذلك تطبيقاً للقواعد العامة التي قررتها المادة 15/1 من قانون المرافعات. على أن العبرة في حساب بداية المدة التي حددها أمر الندب تكون بيوم وصول الأمر إلى الجهة المنتدبة لا بيوم وصوله لمن أحيل إليه من هذه الجهة من رجال الضبطية القضائية لتنفيذه .
خــاتــمــة
لعل تلك الرحلة القصيرة في رحاب مبدأ أصل البراءة ، ورحاب تلك الصلة الشائكة بين الشرطة حال أدائها لمهمة الضبطية القضائية وبين الحقوق والحريات المعترف بها للأفراد ، قد كشفت عن بعض النواقص التي يتعين على المشرع المصري تداركها ، تدعيماً منه للبراءة المفترضة فيمن وجه له الاتهام بارتكاب جرم ، وتنقية منه لتلك النظرة المريبة التي يوليها أفراد المجتمع المصري للوظيفة الشرطية كأحد عناصر الضبط القضائي ، أسوة منه بما اتجه إليه المشرع الفرنسي في قانون 15 يونيو 2000 المسمى بقانون بتدعيم قرينة البراءة وحقوق المجني عليه ، ومن قبيل ذلك نذكر :
*- تقرير حق المتهم الذي أعتدي على البراءة المفترضة فيه في طلب وقف الاعتداء والتعويض عن الضرر الذي أصابه. كما أن لسلطة التحقيق وللقاضي حق طلب وقف الاعتداء على نفقة المعتدي.
*- ضرورة اتخاذ المشرع الخطوات الجادة نحو تجريم الأفعال التي تشكل عدواناً على البراءة المفترضة في الإنسان ، وبصفة خاصة نشر وقائع جنائية ونسبتها لأشخاص لم يصدر بشأنهم حكماً نهائياً بالإدانة ، مصحوباً ذلك في بعض الأحيان بصور للمتهمين ، الأمر الذي يغيب الضوابط الحاكمة بين حق المجتمع في الإعلام وحق المتهم في صون براءته المفترضة.
*- وجوب النص صراحة على حق المشتبه فيه في الاستعانة بمحام منذ اللحظة الأولى لبدء احتجاز الشخص من قبل عناصر الشرطة القضائية. مع تخويله الحق في طلب ندب محام له إذا لم يكن قادراً على ذلك. مع ضرورة النص على إلزام الضبطية القضائية بإعلام المشتبه فيه بهذا الحق .
*- التقرير الصريح لحق المشتبه فيه ، وكذا المتهم ، في عدم الإجابة على أسئلة المحققين ، وتبصيره بهذا الحق أثناء جمع الاستدلالات أو حال البدء في إجراءات التحقيق الابتدائي.
*- وجوب تقرير حق الأفراد في التعويض عن الحبس الاحتياطي التعسفي ، متى صدر قرار نهائي بألا وجه للإقامة الدعوى الجنائية أو حكم بالبراءة. مع ضرورة عدم تقييد هذا الحق بحصول ضرر ما من تقرير الحبس الاحتياطي ، وكذا عدم إخضاع منح هذا التعويض لتقدير القضاة.
*- تدعيماً للحق في الدفاع ، يجب جعل سلطة تفتيش مكتب المحامي من اختصاص قاض يندب لذلك ، مع ضرورة النص على حضور نقيب المحامين أو من ينيبه في ذلك عند تنفيذ التفتيش ، وإعطاء الحق للقاضي وللنقيب فقط في الإطلاع على الأوراق والمستندات قبل ضبطها. وهنا يجب التأكيد على تفعيل المادة 51 من قانون المحاماة الذي يوجب إخطار النقابة الفرعية قبل الشروع في تحقيق أي شكوى ضد المحامي بوقت مناسب.
*- ضرورة إلزام النيابة العامة بزيارة أماكن الاحتجاز والسجون في مواعيد محددة.
*- مراجعة حالات التلبس وقصرها فقط على حالات التلبس الحقيقي تقيداً لسلطة مأمور الضبط القضائي.
*- في ضوء أحكام النقض التي أشرنا إليها ، ووفقاً لما جاء بنص المادة 41 من الدستور ، يجب إلغاء نص المادة 35 إجراءات جنائية التي تجيز لمأمور الضبط القضائي اتخاذ الإجراءات التحفظية دون أمر قضائي بذلك وفي غير حالات التلبس إذا وجدت دلائل كافية على اتهام شخص بارتكاب جناية أو جنحة سرقة أو نصب أو تعد شديد أو مقاومة لرجال السلطة لعامة بالقوة والعنف.
*- بالنظر لما اعتاد القضاء عليه من الاعتداد بالمعلومات الخاصة بالتحريات والاستدلالات التي يجمعها مأمور الضبط القضائي في تكوين عقيدة القاضي ، بل والاعتداد أحياناُ بالإقرار الصادر من المتهم أمام الشرطة القضائية حتى ولو عدل عنه أمام النيابة ، فيجب النص على تقرير البطلان كجزاء على عدم تحرير مأمور الضبط القضائي بكل إجراء يتخذه ، أو إغفال أحد البيان الجوهرية الواجبة فيه (الجهة التي حررته ، وأسم وصفة محرره ، تاريخ اتخاذ الإجراء وتحرير المحضر...الخ).
*- الحرص على تقيد أعمال الاستدلال والتحقيق بمدد محددة تنتهي فيها ، ما لم تمدد الآجال بمعرفة قاضي يختص أو يندب لذلك ، دون ترك الأمر في يد سلطة التحقيق المطلقة.
*- ضرورة النص على حظر التفتيش في المواعيد الليلة إلا لضرورة أو في جرائم معينة ، أسوة بالمادة 59/1 إجراءات جنائية فرنسي التي تحظر التفتيش قبل الساعة السادسة صباحاً وبعد التاسعة مساءً. علماً بأنه يجوز تطبيق القاعدة العامة الواردة في المادة السابعة من قانون المرافعات ، والتي لا تتعارض مع طبيعة الإجراءات في الدعوى الجنائية .
*- وجوب تقييد أمر الحبس الاحتياطي بتوافر دلائل خطيرة ومتطابقة دون الاكتفاء بفكرة الدلائل الكافية ، وتقيد هذا الأمر كذلك بأسباب محددة ، أو تقرير بدائل له (راجع م.129/2 من مشروع قانون الإجراءات الجنائية لعام 1997).
*- جعل سلطة الأمر بالحبس الاحتياطي من اختصاص القضاء وفصلها عن الجهة القائمة بالتحقيق.
*- ضرورة النص على حظر مع جرى عليه العمل من إلزام المتهم بتمثيل كيفية ارتكابه للجريمة ، لما في ذلك من عدوان على البراءة المفترضة فيه .
*- أخذاً بالتوجهات الحديثة في كفالة حق كل محكوم عليه في أن يعاد النظر في إدانته بواسطة جهة قضائية أعلى ، يجب إعادة النظر في مبدأ عدم جواز الطعن على الأحكام الصادرة من محكمة الجنايات. وهنا يمكن تلمس خطى المشرع الفرنسي وفق قانون 15 يونيو 2000 حين أوجب الطعن على الحكم الصادر من محكمة الجنايات أمام محكمة جنايات أخرى تختارها الدائرة الجنائية بمحكمة النقض.
أحمد لطفي السيد
كلية الحقوق – جامعة المنصورة
مقدمة
1- الإجراءات الجنائية وحقوق الإنسان : إشكالية الصراع :
إن تلاقي الإجراءات الجنائية بفكرة حقوق الإنسان ليس بالأمر المستغرب ، ذلك أن الهدف الأسمى لما نسميه بالإجراءات الجنائية هو صيانة جملة الحقوق التي تعترف بها القوانين الوطنية والمواثيق الدولية للإنسان من حيث كونه إنساناً. فمنذ أن حرم الأفراد سلطة إقامة قضاء خاص ، وحرم المجني عليه من حقه في الانتقام الفردي ، أخذت الدولة على عاتقها الالتزام بإقامة العدالة في المجتمع وحسن توزيعها على المواطنين ، وهو التزام ليس للدولة مكنة الوفاء به إذا لم تعمل على إعطاء الحقوق المقررة قانوناً للأفراد الفاعلية والنفاذ عملاً.
والحق أن التلاقي بين الإجراءات الجنائية - كأحد أدوات دولة القانون Etat de droit – وبين حقوق الإنسان قد يخلف وجه من أوجه التصادم أو التعارض ، بحسبان أن جل الإجراءات الجنائية قد تعطل ممارسة الحقوق الأساسية للفرد بغية الحفاظ على كيان المجتمع وتوقيه خطر الجريمة. فالقبض والحبس الاحتياطي ، والتفتيش ، والتحفظ على الأشياء وضبطها ، وكذا مراقبة المراسلات والاتصالات التليفونية ، جميعها إجراءات تمس بطائفة من الحقوق المستقرة للإنسان ، كحقه في التنقل ، وحقه في الملكية ، وحقه في الحياة الخاصة...الخ. فعنصر الدفاع عن حرية الفرد يقف متعارضاً ، منذ بدء الإجراءات الجنائية ، مع حق المجتمع في ملاحقة المجرمين للنيل منهم . فمهما كانت مناصرة المرء للحرية الشخصية وحقوق الإنسان ، فلا مندوحة من الاعتراف بأن هذه الحرية وتلك الحقوق لا يمكن أن تكون مطلقة في الحياة الاجتماعية. فمصلحة المجتمع تتطلب – في مجال إدارة العدالة الجنائية – بعض المساس بحرية الأفراد الشخصية وتقييد حقوقهم الإنسانية ، وخاصة من كان منهم متهماً بارتكاب جريمة.
بيد أن المجتمع كما يهمه عقاب المتهم والقصاص منه حال ثبوت الجرم في حقه ، يهمه أيضاً ألا يطول العقاب بريئاً ، لذا فقد توجب حال تنظيم الإجراءات الجنائية - في دولة القانون - مراعاة التنسيق بين مصالح المجتمع في صونه من الإجرام والحد من تفاقمه ، وبين حقوق وحريات الأفراد. وحال بلوغ هذا التوازن يمكن القول بأن التنازع بين حق الدولة في العقاب وحق المتهم في الحرية الفردية أصبح تنازعاً ظاهرياً يعبر عن وجهين لعملة واحدة ، بحسبان أن عقاب الجاني هو تأكيد للحرية الفردية للشخص البرئ . فالجماعة لا صالح لها إلا في التعرف على الحقيقة المجردة ، فهى لا تبغي توقيع العقاب على برئ ، الأمر الذي يوجب عليها حال ملاحقة المتهم ضماناً لأمنها واستقرارها التثبت من صحة الاتهام أو بطلانه .
فإذا كان الدور التقليدي لقانون الإجراءات الجنائية يتمثل في إدخال قانون العقوبات - فيما يتضمنه من نصوص تجريم وعقاب - حيز التطبيق ، إلا أنه يظل الهدف الأسمى لذاك القانون هو تقرير حماية للبرئ من إدانة ظالمة ، وكذا توكيد حماية للمتهم من إدانة تتأتى وفق إجراءات تمتهن فيها آدميته وكرامته الإنسانية . والثابت أنه لا يتيسر السبيل إلى ذلك إلا بتبني نظام إجرائي مركب القواعد يرسم من خلاله المشرع الحدود التي تقف عندها سلطة الدولة كي يبدأ مجال ما نسميه في الآونة المعاصرة "حقوق الإنسان" ؛ هذا السياج الذي لا يجب على الدولة انتهاكه بدعوى الحفاظ على مصالح مجتمعية معينة ضد خطر الجريمة (حال ممارسة الدولة لوظيفتها للضبط الإداري) ، أو بدعوى الرغبة في الكشف عن الجرائم ومرتكبيها (حال ممارسة الدولة لوظيفتها في الضبط القضائي). ففاعلية المكافحة ، وكذا حسن إدارة العدالة ، لا يجب أن تتأتى على حساب التضحية بالحريات الشخصية وسائر حقوق الإنسان المرتبطة بها .
2- الشرعية الإجرائية أداة لإدارة الصراع :
لا شك أن لتنظيم الإجراءات الجنائية مفترضات ومرتكزات لا يتسنى دونها وصف الهيكل القانوني للدولة بالمشروعية ، إذ هو يهوي حال إنكارها أو حال عدم تفعيلها نحو دكتاتورية الدولة والنيل من سيادة القانون. ويأتي احترام الشرعية الإجرائية Légalité procédurale – التي تقابل في أهميتها قاعدة شرعية الجرائم والعقوبات - كأحد أهم ما يجب أن تحرص عليه الدولة حال تنظيمها للإجراءات الجنائية. ولا يعلل هذا الأمر – على حد قول البعض – إلا لكون الشرعية الإجرائية أداة تنظيم الحريات وحماية حقوق الإنسان ، ولكونها ضمان للتوفيق بين فاعلية العدالة الجنائية واحترام الحرية الشخصية ، الأمر الذي يمكن من صياغة قانون إجرائي لحقوق الإٌنسان يمثل نموذجاً لما يجب أن يكون عليه قانون الإجراءات الجنائية في دولة القانون.
ورغم أن الشرعية الإجرائية أحد حلقات ثلاث تكون معاً مبدأ الشرعية الذي يسود القانون الجنائي عامة ، وهى بالأحرى حلقة تتوسط شرعية الجرائم والعقوبات Légalité des délits et des peines ، وشرعية التنفيذ العقابي أو شرعية تنفيذ الجزاء الجنائي Légalité de l’exécution des sanctions pénales ، إلا أنها تظل الترمومتر الذي يكشف عما إذا كان نشاط السلطة العامة إزاء حقوق وحريات الأفراد يباعد أم لا بينها وبين مفهوم الدولة البوليسية L’Etat de police .
وتبنى الشرعية الإجرائية على افترض براءة المتهم Présomption d’innocence في كل إجراء من الإجراءات التي تتخذ قبله منذ البدء في جمع الاستدلالات وحتى استنفاذ طرق الطعن في الأحكام ، وذلك من أجل ضمان الحرية الشخصية . ولم يكن هذا المعني ليغيب عن المشرع الدستوري المصري الذي نص في المادة 67 من الدستور الحالي لعام 1971 على أن " المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه". وهكذا فإنه إذا كانت الشرعية الإجرائية هى عماد البنيان الإجرائي على المستوى الجنائي ، فإن أصل البراءة المقرر للإنسان هو الركن الركين لتلك الشرعية ، ومن ثم وجبت لهذا الأخير الصدارة حال معالجتنا للعلاقة بين الإجراءات الجنائية وحقوق الإنسان (الفصل الأول).
على أنه لا تتكشف لنا حقيقة الصلة بين الإجراءات الجنائية وحقوق الإنسان إلا عند تحليل الضمانات القانونية المقررة للأفراد حال اتخاذ إجراءات جنائية ماسة أو مقيدة للحرية قبلهم. وهنا يتجلى لنا مقوم آخر من مقومات الشرعية الجنائية والمتمثل في ضرورة استناد الإجراءات الجنائية إلى نص قانون. فإذا كانت المصلحة الاجتماعية تقتضي الحد من حريات الأفراد من أجل المساهمة في كشف الحقيقة بشأن جريمة ما من الجرائم ، ومن أجل تسهيل ممارسة الدولة لحقها في العقاب ، إلا أن خطر المساس بتلك الحريات يجب أن يتعين له سياج من الضوابط ، يتاح للفرد العلم بها من خلال نصوص قانونية تقوم على سنها الهيئة التشريعية صاحبة الحق في التعبير عن إرادة المجموع. فالمشرع وحده – على حد قول محكمة النقض الفرنسية – هو الذي يملك تحديد الأحوال والشروط التي يجوز فيها المساس بالحريات الشخصية للأفراد .
وهذا الخطاب التشريعي الذي تعبر عنه نصوص قانون الإجراءات الجنائية لا شك يخاطب كافة سلطات الدولة ، على أنه عند الحديث عن ضمانات الحرية الشخصية يأتي مرفق الضبط القضائي على رأس المخاطبين باحترام الشرعية الإجرائية ، بما يوجب عليه التيقن من أن الإجراء الجنائي الماس بحريات الأفراد - والمزمع اتخاذه قبل أحدهم - قد توافرت بشأنه الشروط والضوابط التي تقررها القواعد القانونية. وهكذا يمكننا القول أن التنظيم الدقيق لعمل مرفق الضبط القضائي – وعلى رأسهم رجال الشرطة - في علاقته بالحريات الشخصية للأفراد هو استكمال لهيكل دولة القانون التي ينظر فيها للإجراءات الجنائية كأحد آليات حماية حقوق الإنسان ، ويلتزم فيها مرفق الشرطة حال ممارسته لمهمة الضبط القضائي بكافة عناصر وأركان الشرعية الإجرائية ، وعلى رأسها أصل البراءة في الإنسان ولو كان متهما ، وقاعدة أن القانون مصدر للإجراءات الجنائية (الفصل الثاني).
وعلى هذا فإن دراستنا للعلاقة بين الإجراءات الجنائية وحقوق الإنسان سوف تتوزع إلى فصلين على النحو التالي :
الفصل الأول : افتراض البراءة والشرعية الإجرائية
الفصل الثاني : الشرطة والشرعية الإجرائية
الفصل الأول
افتراض البراءة والشرعية الإجرائية
3- تمهيد وتقسيم :
سبق لنا القول أن افتراض البراءة في الإنسان ، حال اتخاذ إجراءات ماسة بحريته الشخصية أو حال خضوعه للاتهام من قبل سلطات التحقيق ، هو المرتكز الذي تقوم عليه دعائم الشرعية الجنائية في شقها الإجرائي ، بل لقد قيل أن قاعدة شرعية الجرائم والعقوبات التي تسود حال تطبيق القواعد الجنائية الموضوعية إن هى إلا تعبير عن ضمان افتراض البراءة في الإنسان ولو كان متهماً . فحماية الحرية الشخصية التي كفلتها الدساتير والمواثيق لا يتسنى بلوغها إلا إذا افترضت براءة من خضع لاتهام جنائي إلى أن تثبت إدانته في محاكمة عادلة تتوافر فيها كافة ضمانات القضاء العادل.
والحق أن افتراض البراءة "مبدأ سيادي" يهيمن على كافة مراحل الإجراءات الجنائية أياً كانت المرحلة التي تتخذ فيها ، بدءاً بمرحلة جمع الاستدلالات ، ومروراً بمرحلة التحقيق ، وانتهاءً بمرحلة المحاكمة. ولا يتسنى لنا التأكد من "سيادية" هذا المبدأ إلا بتتبع بناءه ، وذلك بالكشف عن التيار الفقهي الذي ناصره حتى جعله واقع ملموس في كافة التشريعات الجنائية المعاصرة (المبحث الأول) ، وكذا بتتبع أثاره وخاصة فيما يتعلق بعبء إثبات الاتهام وتقييم أدلة الإدانة ، وضرورة السماح للمتهم بالمساهمة في تدعيم براءته المفترضة (المبحث الثاني).
المبحث الأول
أصل البراءة في مرحلة البناء
4- أولاً : الظهور الوضعي للمبدأ :
يقصد بأصل البراءة كمبدأ عام من مبادئ الإجراءات الجنائية المعاصرة ضرورة معاملة من وجه له اتهام بارتكاب جريمة من الجرائم المنصوص عليها قانوناً باعتباره بريئاً حتى تثبت سلطة الاتهام بالدليل القانوني إدانته أمام محكمة مستقلة ومحايدة . فالجريمة تظل أمر استثنائي وخارق للناموس الطبيعي في حياة الفرد والمجتمع ، ومن ثم وجب على من يدعي وقوعها ونسبتها إلى شخص معين أن يثبت ذلك ، فإذا لم ينجح في إثبات ادعائه إثباتا قاطعاً ، تعين الإبقاء على الأصل. وينتج عن ذلك أنه لا يجوز بحال أن يكلف المتهم بإثبات براءته ، ذلك أنها أصل فيه.
والمؤكد أن مبدأ أصل البراءة ما نشأ إلا ثمرة كفاح طويل عاشته الإنسانية عبر رحلتها الطويلة. ففي وقت أن كانت الإنسانية تعيش عصورها الأولى سيطرت الأساطير والمعتقدات الدينية على طرق الإثبات الجنائي ، فأوجبت إخضاع الأفراد حال اتهامهم بارتكاب جريمة ما إلى عدد من الاختبارات القاسية (كالإمساك بالحديد المحمي ، أو وضع الأيدي في ماء مغلي...الخ) ، والتي تحمل في طياتها معنى افتراض الإدانة وأن المتهم هو المتحمل لعب إثبات براءته . ولم يكن يبرر اللجوء إلى تلك الوسائل البدائية في إثبات البراءة إلا اعتقاد الأولين أن تلك الاختبارات هى حكم الله Judicium Die ، وأن الآلهة لن تتخلى عن البرئ ، بل أنها سوف تتدخل لحماية جسده من تلك العذابات . وبمعنى آخر لم يكن هناك ما يشير في المحاكمات القديمة إلى وجود نظرة متسامحة مع المتهم ، بل الثابت أنه كان يقاسي صنوف العذاب التي تسد أمامه كل أمل في البراءة.
ولا مرية في أن قاعدة افتراض البراءة – خاصة في شقها المتعلق بالإثبات - تعود في مبتدئها الوضعي إلى الأصول الفقهية الرومانية التي سطرها شراح القانون الروماني ، ويدعم ذلك جملة القواعد التي جاءت بها مدونة جوستنيان فيما يتعلق بالإثبات الجنائي : ومنها قاعدة أن البينة على من ادعى ، وأن في المواد الجنائية يجب التأويل بالأرحم ، وأن المنكر لا يطلب منه الدليل ، وأن الأصل عدم اعتبار أحد مسيئاً ، وأن الدفاع عن المتهم مباح ، وأنه إذا عجز المدعي عن البينة برئت ساحة المدعى عليه .
وإذا كان تتبع تاريخ أصل البراءة في القانون الوضعي يكشف عن أن انجلترا تعد البلد الأم لهذا المبدأ بحسبانها مهد النظام الاتهامي ، إلا أن المؤكد أن تلك البلد لم تعرفه إلا في بدايات القرن التاسع عشر. فكما يكشف بعض الفقهاء الإنجليز أنه قبل تلك الفترة كان القانون الجنائي يمثل تناقضاً غريباً ، وأنه بدراسة الدعاوى الجنائية أو دعاوى الحق العام Pleas of the crowin يستبين لنا أنها كانت تحتوي على ما يمكن تسميته بتفاهات البراءة Platitudes of innocence ، والتي تبدو في ظهور براءة العديد من المتهمين بعدما يكون قد نفذت أحكام صادرة بالإعدام في حقهم أو بعد فوات مدد طويلة من سلب الحرية.
والمؤكد أنه طيلة حقبة القرن الثاني عشر سيطر نظام المسئولية المشتركة Frankpledge system على تنظيم الإثبات الجنائي في إنجلترا. ويبنى هذا النظام على فكرة الاتهام الفردي الذي كان يتولاه جيران المتهم بناء على معلوماتهم الشخصية مع إخضاع المتهم لعدد من الاختبارات والمحن الجسدية من أجل إثبات براءته. ومع مطلع القرن الثالث عشر بدأ التفكير في تشكيل جهة تتولى الإثبات الجنائي ، الأمر الذي كرسه قانون ونشستر Winchester عام 1285 ، الذي بموجبه يتولى مئة شخص عب ملاحقة المجرمين واثبات إدانتهم ، بحيث إذا ما فشلوا في ذلك تحملوا عبء تعويض الضرر الناشئ عن الجريمة (وعلى الأخص في جرائم السرقات) ، بل عدوا شركاء في الجرم إذا ما أهملوا واجبهم في إثبات الاتهام . ولما كان هذا القانون يفتح الباب أمام إثراء الأفراد على حساب الغير ويحمل أفراداً عبء المسئولية عن جرم لم يشاركوا حقاً فيه ، فقد رؤى التخفيف منه عام 1749 (أي بعد قرابة الخمسمائة عام) بأن تحدد مبلغ التعويض الذي يتحمل به هؤلاء المئة في حد أقصى لا يجوز بحال تجاوزه. وفي ذات الآونة تم اللجوء في إثبات الوقائع إلى هيئتين من المحلفين ، أحدهما كبري Grand Jury ويتولى الاتهام فيها قضاة ، والأخرى صغرى ، Petty Jury ويتولى شأن الاتهام فيها أفراد من الشعب. وفي ذلك وتلك لم تكن تفترض براءة المتهم ، وليس أدل على ذلك من حرمان المتهم من الاستعانة بمحام حتى في الجرائم الخطيرة ، وعدم أحقيته في العلم بتفاصيل التهمة الموجهة ضده ، وعدم أحقيته في الاستعانة بشهود نفي ، بحسبان أن هيئات المحلفين كانت تعمل باسم التاج ، وفي الاستعانة بشهود نفي ما يبرز عدم ولائهم لهذا الأخير. وعلى حد فقهاء ذلك العصر ، فإن التاج يعد حارساً للجماعة وأمنها ، وفي سبيل ذلك ليس بوسعه أن يقدم أية تنازلات للمتهم .
وبحلول منتصف القرن التاسع عشر بدأت أقلام الفقهاء الإنجليز تكرس هذا المبدأ ، حتى لقد صار المبدأ من قبيل "الحكمة" التي طالما واظب القضاة على ترديدها بقولهم أنه "خير للعدالة إطلاق سراح عشرة مذنبين من إدانة واحد قد يكون بريئاً"
It is a maxim of English Law that ten guilty men should escape rather than that one innocent man should suffer.
ويكفينا دليلاً على استقرار أصل البراءة كمبدأ من مبادئ القانون الإنجليزي في تلك الفترة أن نقارن بين التعبيرات التي كان يستخدمها القضاة فيما يتعلق بالإثبات حتى مطلع القرن التاسع عشر ، وبين ما بدأ التعارف عليه أواسط هذا القرن. فالملاحظ أنه وإلى حين بلوغ القرن التاسع عشر كان تفترض إدانة المتهم في بعض الأحوال. فها هو القاضي بست Best يقول في قضية R. v. Burdett عام 1820 : يجب ألا يفترض بدون دليل ، ويجب ألا نتخيل افتراض ذنب ضد المتهم عندما لا توجد أية بينة تشير إلى صحة الافتراض ، ولكن هناك أموراً دلت التجربة على أنه عند ثبوتها لابد أن أمراً آخر – ولو لم يثبت – يجب افتراض حدوثه. وكذا يؤكد القاضي هولرويد Holroyed في ذات الدعوى أنه وفقاً للقانون الإنجليزي يجب ألا يدان أي شخص بناءً على مجرد قرينة عارية Mere Naked Presumption ، غير أن أكثر الجرائم خطورة يمكن إثباتها بناءً على قرائن الإثبات فقط حتى لا يفلت مجرم من العقاب ، ومن المقرر كقاعدة عامة في الإثبات أن عبء الإثبات يقع على عاتق الشخص الذي يرغب في أن يدعم قضيته بناءً على واقعة معينة هو على علم بها على وجه الخصوص. ويؤمن على ذلك القاضي بيلي Bayley بقوله : أن الافتراضات يمكن أن يؤخذ بها في القضايا الجنائية ، وأن التجربة المستمرة تؤكد صحة الاعتماد عليها ، بل أن أكثر من نصف المتهمين تتم إدانتهم استناداً إلى قرائن الإثبات ، بحيث يقع على عاتق المتهم عبء إثبات براءته.
كل تلك الأقوال تكشف عن التوجه المتشكك للقضاء الإنجليزي من مبدأ اصل البراءة ، هذا التوجه الذي سرعان ما لبث أن تبدل منتصف القرن التاسع عشر ، وعلى الأخص عام 1865 ، في قضية R. v. White والتي خاطب فيها القاضي مارتن Martin هيئة المحلفين بقوله "إذا كانت هيئة المحلفين تريد أن تصل إلى قرار بالإدانة ، فإنه يجب عليها ألا تقرر الإدانة حتى تثبت إدانة المتهم وراء أي شك معقول ، وإذا كان كل ما يعتمد عليه في إدانة المتهم يقوم على مجرد الاحتمال ، فإن من واجبهم تبرئة المتهم". بتلك العبارات القليلة يكون قد ثبت من ذلك التاريخ رسوخ أصل البراءة في القانون الإنجليزي على وجه اليقين .
ولقد تبع القانون الأمريكي شقيقه الإنجليزي في رحلته التاريخية حول أصل البراءة. فكما يؤكد العديد من الفقهاء فإن غموضاً ظل يكتنف هذا المبدأ في القانون الأمريكي إلى أن ترسخ في عام 1803 مع بدء جلسات قضية Despard’s Case والتي خاطب فيها النائب العام المحلفين بقوله : "أن بشاعة الجريمة المرتكبة يجب ألا تخلق في أذهانكم أي نوع من الكراهية ضد المتهم ، بل على العكس ، يجب أن يكون ذلك حافزاً لكم لإعطائه أكبر قسط من العدالة يسمح به قانوننا ممثلاً في ذلك المبدأ المتسامح والمفيد ، وهو مبدأ افتراض براءة المتهم...وإنني لجد متأكد من أنكم...لن تقرروا إدانته ما لم تقنعكم البينات المقدمة إقناعاً جازماً بأنه مذنب".
ولم يكن القرن التاسع عشر يلفظ سنواته الأخيرة حتى تأكد هذا المبدأ في القضاء الأمريكي مرة أخرى في قضية William Plamer’s Case حين وجه القاضي اللورد كامبل نظر المحلفين إلى أنه : في تلك البلاد يجب أن تفترض براءة المتهم حتى تثبت إدانته ، وهى لا تثبت إلا بناءً على بينات مباشرة من قبل الاتهام ، وإذا لم تكن بينة الاتهام مقنعة إلى درجة تؤدي إلى الإدانة ، فإنه يجب أن تبرئ ساحة المتهم ، فيجب ألا تتقرر إدانته بناءً على الشبهات مهما كانت قوية...فإذا ثار أدنى شك معقول فإن من الواجب أن يعطى المتهم فائدة ذلك الشك.
ويكشف عن رسوخ هذا المبدأ في القضاء الأمريكي الحكم الذي أصدرته المحكمة الاتحادية العليا الأمريكية عام 1895 في قضية كوفن Coffin’s Case والذي قررت فيه برأي جماعي Dissenting opinion : أن افتراض البراءة هو مبدأ بديهي وأولي ، وأنه يجد سنداً له في الأساس الذي يقوم عليه إدارة القانون الجنائي. وفي ضوء ذلك فلا يمكن أن تتقرر الإدانة إلا بناءً على بينات واضحة تكاد تصل إلى درجة اليقين .
وقد يقال أن اعتناق القانون الفرنسي - ومن سار في فلكه - للنظام التنقيبي Système inquisitoire في الإجراءات الجنائية قد لا يدعم مبدأ أصل البراءة الذي تفتخر بلدان النظام الاتهامي Système accusatoire بأنها التي احتضنته في مهده حتى استقام على عوده في التشريعات المعاصرة. والحق أنه أياً ما كانت الفوارق بين النظامين السابقين من حيث كيفية تنظيم الإجراءات الجنائية فإن الدول التي أقرت النظام التنقيبي – ومنها فرنسا – قد ساندت مبدأ البراءة في الإنسان ، وكل ما يتحصل من فارق فيما يخص هذا المبدأ هو ظهورها في النظام الاتهامي كقاعدة تباشر أثرها في نقل عبء الإثبات إلى عاتق الاتهام ، وكذا في حماية الحرية الشخصية في المرحلة السابقة على المحاكمة : يفترض براءة المتهم فيما يتعلق بالإجراءات الماسة بالحرية الشخصية ، وكذلك يفترض براءته فيما يتعلق بعبء الإثبات. هذا التوسع في مجال أصل البراءة قد لا نراه بذات الحجم في دول النظام التنقيبي ، إذ لا يقام وزناً كبيراً للحرية الشخصية في مرحلة التحقيق السابقة على المحاكمة ، وذلك حين يسمح القانون باتخاذ بعض الإجراءات الماسة بحرية المتهم الشخصية وتغلب افتراض الجرم في الأخير . وقد لا يعلل النيل من مبدأ أصل البراءة في المرحلة السابقة على المحاكمة في دول النظام التنقيبي إلا لتغليب هذا النظام لمصلحة المجتمع فوق مصلحة المتهم. وهكذا لا يمكن القول بأن اعتماد النظام التنقيبي من شأنه التغاضي التام عن الأخذ بمبدأ أصل البراءة المفترض في الإنسان ، فها هى مرحلة المحاكمة تجمع من جديد جناحا النظم الإجرائية المعتمدة في العالم (النظام الاتهامي والنظام التنقيبي) في مسار إجرائي واحد بحيث لا يظهر فارق بين النظم ، اللهم إلا من حيث دور القاضي الجنائي ، الذي هو سلبي ومحايد في النظام الاتهامي وايجابي هو في النظام التنقيبي . فالنظم الإجرائية مهما توزعت أصبحت تعتمد عدة مبادئ تمثل ركيزة وعماد المحاكمة الجنائية ومنها : مبدأ افتراض البراءة في المتهم ، وشفوية المرافعة ، وكفالة حق المتهم في الدفاع ، وعدم إجبار المتهم على الكلام...الخ.
والحق أنه من الناحية التاريخية فإن القانون الفرنسي القديم والذي اعتمد النظام التنقيبي - والذي اعتنقته فرنسا منذ القرن الثالث عشر وتكرس في نظامها القانوني بموجب القار الصادر في عام 1670 - لم يكن يركز إلا على الوصول للحقيقة بأي ثمن كان ولو تأتى ذلك على حساب حرية المتهم وحقوقه ، ومن ثم سمح باتخاذ كافة الإجراءات التي من شأنها إثبات الذنب على المتهم ، الأمر الذي يتسنى معه القول بأنه قد افترض إذناب المتهم في كافة إجراءات التحري والتحقيق. فكان يسمح باستخدام التعذيب للحصول على الاعتراف بالتهمة ، وكان الاستجواب يتخذ كوسيلة للإرباك المتهم والتأثير عليه ، وسمح بأن يتولى القاضي بنفسه مهمة الاستجواب خروجاً على ما توجبه العدالة من فصل بين سلطتي التحقيق والحكم ، وكان المتهم يكلف بأداء القسم خروجاً كذلك على مقتضيات الحق في الدفاع. وكان الإثبات يتقيد بأدلة قانونية محصورة لا سبيل للقاضي حيالها أن يقيم اقتناع ذاتي. وفي ظل نظام هذا شأنه لم يكن هناك مجال لإعمال قاعدة تفسير الشك في صالح المتهم طالما أن القاضي ملزم بأن يقضي بالإدانة طالما توافرت أدلة قانونية معينة ، خروجاً كل ذلك على ما يجب للقاضي من حرية في تقدير الدليل . وبالجملة لم يكن يعرف القانون الفرنسي القديم افتراض براءة المتهم فيما يتعلق بالإجراءات الماسة بالحرية الشخصية ، فالأصل فيما يسبق المحاكمة كان افتراض الإدانة في المتهم. ولم يكن ينبع ذلك في حقيقته من نص قانوني بقدر ما يستنبط من طبيعة الوسائل المسموح باتخاذها في سبيل الوصول للحقيقة حول الواقعة الإجرامية ومرتكبيها.
ولم يكن لهذا النظام التعسفي أن يحيا كثيراً وقد بدأ فلاسفة القرن الثامن عشر - من أمثال فولتير (1689-1755) ومونتيسكيو (1686-1755) وروسو (1712-1778) - ينددون به ويدعون لاحترام كل مظهر من مظاهر الحرية الشخصية. وأمام هذه الحركة التنويرية التي قادها على المستوى الجنائي الماركيز الإيطالي سيزار دي بيكاريا (1738-1794) في مؤلفه العمدة "عن الجرائم والعقوبات" Die delitti e delle pene(1767) - والتي تبعتها ثورة فرنسية الموطن ، عالمية الصدى ، حفظت ودعمت للإنسان الكثير من حقوقه ، وأهمها حق الإنسان في افتراض براءته - صدر إعلان حقوق الإنسان والمواطن في 27 أغطس عام 1789 مقرراً في مادته التاسعة أن كل إنسان تفترض براءته إلى أن تثبت إدانته Tout homme étant présumé innocent jusqu'à ce qu’il ait été déclaré coupable. وامتثالاً لما تقرر في هذا الإعلان صدر قانون في 18 أكتوبر عام 1789 ملغياً كل ما كان مسموحاً به من قبل من انتهاكات جرى عليها العمل من قبل وفق النظام التنقيبي في مرحلتي التحري والتحقيق ، لولا الأحكام الدموية التي صدرت في 10 يونيو 1794 من المحاكم الثورية التي جعلت مما جاء بهذا القانون وما جاء بإعلان حقوق الإنسان والمواطن حبراً على ورق.
غير أنه يظل لهذا الإعلان قيمته القانونية ، ذلك أن قانونا الإجراءات الجنائية الفرنسي لعامي 1808 ، 1958 قد أغفلا النص على مبدأ أصل البراءة ، بما سمح بنشوء جدل قانوني حول قيمة هذا المبدأ في النظام القانوني الفرنسي . وقد انتهى هذا الجدل إلى وضع هذا المبدأ في مصاف المبادئ الدستورية ، ذلك بأن دستور الجمهورية الخامسة لعام 1958 قد تضمن في ديباجته النص على ما جاء من مبادئ في إعلان حقوق الإنسان والمواطن ، الأمر الذي يزيل كل شك حول استقرار مبدأ أصل البراءة في القانون الفرنسي ، بحسبانه دعامة النظامي الإجرائي التنقيبي.
5- ثانياً : التكريس الإسلامي لمبدأ :
آيا ما بدا من نشأة وضعية غربية لأصل البراءة ، إلا أنه من الثابت أن هذا الأخير مبدأ إسلامي النسب. فالقاعدة الشرعية توجب أن الأصل براءة الذمة ، تلك القاعدة التي يتسع مجال تطبيقها ليشمل ليس فقط المجال الجنائي ، بل كافة فروع القانون المختلفة . وفي مقام الاتهام تفترض براءة من توافرت في حقه دلائل على ارتكاب جريمة ، ذلك أنه إن لم تفترض تلك البراءة ، فسوف يكون المتهم مطالباً بإثبات موقف سلبي يتمثل في عدم ارتكابه للجريمة ، وهو أمر يتعذر في كثير من الأحول تحقيقه ، ويوصل إلى انعقاد المسئولية في حق شخص على أساس الظن ، بما يعارض قول ربنا عز وجل "وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ " ، وقوله عز من قائل "وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا" . ويتفرع عن ذلك أن البراءة شرعاً لا تزول بالشك ولا عقاب عند الظن ، مصداقاً لقول الرسول الكريم "ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجاً فخلوا سبيله فإن الإمام يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة" .
ولقد أسس الفقه الإسلامي أصل البراءة على قاعدة استصحاب الحال ، أي بقاء كل شيء على ما كان حتى يوجد ما يغيره أو يثبت خلافه . فالأصل إذاً استدامة إثبات ما كان منفياً أو نفي ما كان منفياً ، أي بقاء الحكم إثباتا ونفياً حتى ينهض الدليل المغير . وفي ذلك يقول العلامة الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله "الاستصحاب يؤخذ به في قانون العقوبات ، وهو أصل فيه ، لأن الأمور على الإباحة ما لم يقم نص يثبت التجريم والعقوبة ، وأن قضية المتهم برئ حتى يقوم دليل على ثبوت التهمة...هى مبنية على الاستصحاب ، وهو استصحاب البراءة الأصلية". واعتماداً على هذا التأسيس استنبط الفقه الإسلامي قاعدة أن ما يثبت باليقين لا يزول إلا بيقين مثله ، ولا يزول بالشك .
ويتسنى لنا هنا القول أن النبع الحقيقي لمبدأ افتراض البراءة هو القانون الطبيعي الذي جبلت عليه فطرة الإنسان قبل هبوط الرسالات والعمل بالشرائع. هذه الفطرة التي نسجت وشكلت قاعد أن الأصل في الأشياء الإباحة ، وأن الاستثناء هو التجريم والعقاب ، واستنتاجاً من هذا يتعين النظر إلى الإنسان بوصفه بريئاً ، إلى أن يخرج من دائرة الإباحة إلى دائرة التجريم بحكم القضاء. فالإنسان بفطرته يدرك أن فاعلية إدارة العدالة الجنائية وصون الحرية الشخصية للأفراد لا يتأتيان إلا باستصحاب البراءة التي تقررت للفرد منذ ميلاده خلال كافة مراحل عمره وحتى ولو خضع خلالها إلى اتهام جنائي. ولعلنا نلمح صدق هذا التحليل في عبارات المحكمة الدستورية العليا حين قالت أن : "أصل البراءة قاعدة أولية توجبها الفطرة التي جبل الإنسان عليها ، وتقتضيها الشرعية الإجرائية ، ويتطلبها الدستور لصون الحرية الشخصية في مجالاتها الحيوية ، وبوصفها مفترضاً أولياً لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة ، ليوفر بها لكل فرد الأمن في مواجهة التحكم والتسلط والتحامل ، وكان افتراض البراءة لا يقتصر على الحالة التي يوجد الشخص فيها عند ميلاده ، بل يمتد إلى مراحل حياته حتى نهايتها ، ليقارن الأفعال التي يأتيها ، فلا ينفصل عنها باتهام جنائي أياً كان أو الأدلة التي يؤسس عليها...هذا الأصل كامناً في كل فرد سواء كان مشتبهاً فيه أم متهماً".
6- ثالثاً : التكريس المعاصر للمبدأ :
رغم ما يبدو لمبدأ افتراض البراءة في الإنسان - وإن صار متهماً - من بداهة تتسق والفطرة الطبيعية إلا أنه قد تعرض لنقد شديد من قبل العديد من الفقهاء ، بيد أن هذا النقد لم يفلح في النيل من سلامة هذا المبدأ ومن التوجه نحو تكريسه على المستوى التشريعي ، سواء في المواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان ، أو في الدساتير الوطنية على تنوعها. على أن هذه المقبولية يجب أن يتزاوج معها غطاء حمائي وتدعيم يفرضه المشرع كي لا يفرع مبدأ أصل البراءة من قيمته.
7- أ : المقبولية الفقهية للمبدأ :
لم يلقى مبدأ أصل البراءة مقبولية لدى البعض من الفقه ، ويأتي على رأس هؤلاء أنصار المدرسة الوضعية ، ويشاركهم البعض من الفقهاء المعاصرين توجهم الرافض.
8- أصل البراءة في فكر المدرسة الوضعية :
لاقى مبدأ افتراض البراءة نقداً شديداً من قبل أنصار المدرسة الوضعية ، لما رأوه من تعارض بين هذا المبدأ وبين فلسفتهم المعتمدة في تصنيف المجرمين ، والتي تبنى على الاهتمام بشخص المجرم أكثر مما تهتم بالواقعة الإجرامية ذاتها. فنفر من أنصار تلك المدرسة قد قال بفكرة المجرم بالميلاد ، وهم أولئك الأشخاص الذين يعود إجرامهم إلى تكوينهم الطبيعي أو البيولوجي ، كما ميزوا بين المجرمين بالعادة ، والمجرمين المجانين ، وآخرين بالصدفة ، والمجرمين بالعاطفة ، وأمام هذا التنوع قالوا بعدم إمكانية الأخذ بمبدأ افتراض البراءة إلا بالنسبة للمجرمين بالصدفة أو بالعاطفة دون بقية الطوائف ، الأمر الذي يتعارض مع عمومية انطباق المبدأ على كافة مرتكبي الجرائم كما يرى أنصار المدرسة التقليدية. وكما يرى أنريكو فيري (1856-1928) ، أحد أقطاب المدرسة الوضعية ، أن تعميم مبدأ أصل البراءة على كافة المجرمين من شأنه أن يؤدي إلى نتائج مبالغ فيها ، وعلى الأخص فيما يتعلق بمنحه حصانة غير مرغوب فيها لمرتكبي الجرائم وفيما يتعلق بالمغالاة في حماية المصلحة الشخصية للمجرم على حساب مصلحة المجتمع . كما قيل أنه لو فرض وسلمنا بافتراض البراءة فإن هذا لا يتصور إلا في مرحلة التحقيق الابتدائي ، حيث لم تثبت الأدلة بعد في حق المتهم على وجه اليقين ، وحيث لا تمثل تلك الأدلة إلا مجرد احتمالات أو ادعاءات ما زالت تعتريها الشبهة . هذا فضلاً عن أن قيمة هذا المبدأ لا تظهر – في رأي أنصار تلك المدرسة – إلا حينما تكون الأدلة ضد المتهم ضعيفة وافتراضية ، أما حين تكون الجريمة متلبس بها ، أو حينما يدلي المتهم باعتراف تفصيلي ، فإن قيمة هذا المبدأ تبدأ في التلاشي. فإذا أضيف إلى كل ذلك ما يكشف عنه الواقع العملي من أن الكثير من المتهمين تتقرر إدانتهم ، لثبتت المبالغة التي يقيمها الفقه لمثل هذا المبدأ .
والواقع أن الانتقادات التي قال بها أنصار المدرسة الوضعية تبدو مغالى فيها. فقولهم أن هذا المبدأ يعيبه أنه يسري على كافة المجرمين دون تمييز بين طوائفهم ، قول مردود عليه بأن التصنيف الذي اعتمدته تلك المدرسة إنما هو تقسم فقهي أكثر منه تقسيم علمي يستند إلى أسس علمية سليمة. وإذا فرض وقيل أن لهذا التصنيف سند من العلوم التجريبية ، فإنه لن يكون له قيمة إلا في مرحلة التفريد القضائي للجزاء وفي أعقاب ثبوت الإدانة ، أما بالنسبة للإثبات الإدانة ذاتها فإن مقتضى مبدأ أصل البراءة يفرض وجوب تطبيقه على كافة المتهمين دون تمييز. وفي ذلك مراعاة لمبدأ المساواة النابع مما تقتضيه قاعدة القانون من اتصافها بالعمومية والتجريد.
حقاً قد يستفيد بعض المذنبين من هذا الافتراض للبراءة ، ولكن العدالة تأبى أن يكون هناك أنموذجين في تطبيق القاعدة القانونية ، أحدهما يفترض براءة طائفة من المجرمين ، وأخرى تفترض إدانة طائفة أخرى ، ذلك أن مجال تطبيق كل من الأنموذجين لا يمكن تحديده إلا بعد صدور حكم قضائي نهائي يحدد من كان مذنباً ومن كان بريئاً. أما قبل صدور حكم قضائي يحدد مراكز المتهمين فيتعين أن تتوحد المراكز القانونية للجميع دون تمييز. وبهذا الفهم لا يصدق القول بأن مبدأ افتراض البراءة يمنح المجرمين نوعاً من الحصانة غير المرغوب فيها ، فالحق أنه يمنح الجميع حصانة ضد التعسف والحيف والاتهامات التي تنال من الحرية الفردية .
كما لا يصح الادعاء بأن هذا المبدأ لا يجد له قيمة حين تكون الجريمة في حالة تلبس ، أو عندما يدلي المتهم باعتراف تفصيلي ، ذلك أن مبدأ أصل البراءة لا يقتصر أثره على إلزام هيئة الاتهام بإثبات وقوع الجريمة ونسبتها إلى فاعلها فقط ، وإنما يفرض عليها ، إلى جانب ذلك ، معاملته على أساس أنه برئ طوال فترة الاتهام حتى تثبت إدانته ثبوتاً قطعياً لا شك فيه. وبدلالة أخرى ، فإن هذا المبدأ لا يهيمن فقط على مشكلة توزيع عبئ الإثبات ، وإنما يهيمن أيضاً على مشكلة أخرى ، لها النصيب الأكبر في مقام الإجراءات الجنائية ، ألا وهى مشكلة ضمان الحرية الفردية لمن تعرض لاتهام.
حقاُ إن ضبط المتهم في حالة تلبس يشكك في براءة المتهم ، الأمر الذي يبرر الخروج على بعض الأصول الكلية للإجراءات الجنائية فيما يتعلق بعمل مأموري الضبط القضائي كي يتمكنوا من الحفاظ على أدلة الجريمة وهى ساخنة ، غير أن ذلك لا يمكن له أن يدحض أصل البراءة المفترض ، الذي يظل محتفظاً بقيمته كاملة ، سواء من حيث دوره في صيانة الحرية الشخصية ، أو من حيث إلقاء عبء الإثبات على عاتق سلطة الاتهام. فلا يعدو التلبس إلا أن يكون قرينة بسيطة على صحة الأمر المدعى به من قبل تلك الأخيرة ، الذي قد يدحضها وجود سبب من أسباب الإباحة في حق من زعم نحوه بحالة التلبس ، أو تأكيد الأخير أن سبب ضبطه في تلك الحالة إنما محاولته إنقاذ الجني عليه الذي استغاث به ، أو مجرد تصادف وجوده في مكان الحادث .
وإذا كنا لا نجادل في أن اعتراف المتهم يمثل رأس الأدلة في مقام الإثبات الجنائي متى صدر عن إرادة حرة ، ومن شخص كامل الأهلية ، وكان واضح الدلالة على ارتكاب الجريمة أو المساهمة فيها ، إلا أن ذلك لا ينال من قيمة أصل البراءة المفترض في المتهم ، إذ تظل سلطة الاتهام مكلفة بعبء إثبات أن الاعتراف قد صدر مستكملاً عناصر مشروعيته كدليل للإدانة ، فضلاً عن تمتع المتهم بكامل الحماية التي يضفيها عليه افتراض براءته. وهذا كله لا يدعمه إلا لأن الاعتراف – مع سيادة مذهب الإثبات الحر - صار كغيره من الأدلة يخضع لتقدير محكمة الموضوع التي لها مطلق الحرية في تقدير صحته وقيمته القانونية ، بحيث يكون لها أن تطرحه كدليل مقدرة براءة المتهم .
ويكفينا رداً على قول أنصار المدرسة الوضعية أن الواقع العملي يكشف عن أن معظم من يتقرر اتهامهم تتأكد إدانتهم ، أن هذا القول بذاته حجة عليهم ، إذ هم يقرون هكذا أن بعض من يتقرر اتهامهم يقضى ببراءتهم ، الأمر الذي يؤكد ضرورة تمتع كافة المتهمين بأصل البراءة منذ توجيه الاتهام. فما دام أن العمل قد أثبت أن كثيرين قد ثبتت براءتهم بعض أن تعرضوا للاتهام وللحبس الاحتياطي ، فإنه من الأحوط ، إن لم يكن من الضرورة ، معاملة جميع المتهمين على أساس أنهم أبرياء إلى أن يقضى نحوهم بإدانة قاطعة . ولا يخشى حال ذلك أن يفلت بعض المذنبين من قبضة العدالة ، فتلك الأخيرة لا يؤذيها هذا الإفلات بقدر ما يؤذيها إدانة ظالمة لبرئ واحد . والقول بغير ذلك يدفع بالمجتمع نحو التضحية بالأبرياء في سبيل إدانة المذنبين ، الأمر الذي يمثل انتهاك للحرية وامتهان لكرامة الإنسان ، وفرض طابع تسلطي على مجمل الإجراءات الجنائية بحجة ، هى في مبدأها ومبناها واهية ، تسمى الدفاع عن المجتمع ضد الإجرام.
9- أصل البراءة في الفقه المعاصر :
وجه بعض الفقهاء المعاصرين سهام النقد لمبدأ اصل البراءة ، حتى أنهم وصفوه بالمبدأ ذو الطبيعة الخيالية أو المثالية utopique Caractère fictif ou فلدى هؤلاء أنه إذا كان هناك ما يدعم هذا المبدأ في الماضي ، إلا أنه ليس هناك ما يدعمه في الوقت الحاضر ، فميزان العدالة كان يميل في الماضي إلى جانب سلطة الاتهام على حساب مصلحة المتهم ، إلى أن تحسن مركز الأخير ونال الكثير من حقوقه ، حتى غدت مدونات الإجراءات الجنائية تنهض على أساس محاباة المتهم على حساب حقوق المجني عليه والمضرور من الجريمة ، الأمر الذي أخل في النهاية بالتوازن الواجب بين حقوق المتهم وما يتوجب للمجني عليه من حقوق . وينتهي هؤلاء للقول بضرورة أن يفسر الشك لصالح المجني عليه أو المضرور من الجريمة لا لصالح المتهم ، فمن الخيال ، بل من السخرية ، القول ببراءة هذا الأخير ثم إحالته للمحاكمة ، فأي برئ هذا الذي تجري محاكمته!؟ ولا يخشى – في رأي هؤلاء – التعسف نحو المتهم ، طالما أن الاتهام لا يسعى إلى الإدانة بل يسعى إلى الحقيقية سواء جاءت في صالح المتهم أم ضده ، وطالما تقرر حق الطعن في أحكام المحاكم الدنيا لدى رجات قضائية أعلى تسمح بتجنب الإدانة الظالمة.
والواقع أننا نجد لهذا النقد صدى في الفقه المصري ، وذلك حين قال البعض بعدم دقة افتراض البراءة لتعارضه مع واقعة الاتهام ذاتها ومع الإجراءات الماسة بالحرية كالقبض والتفتيش والأمر بالحبس الاحتياطي ، وهى إجراءات لا يتسنى اتخاذها إلا قبل من توافرت دلائل قوية في حقه على الاتهام بارتكاب الجريمة ، فإذا قيل بافتراض البراءة لأصبحت تلك الإجراءات بغير أساس قانوني سليم. هذا فضلاً عن أن الضمانات التي تقررت للمتهم في كافة مراحل الدعوى الجنائية لم تتقرر لكونه برئ وإنما لمجرد كونه متهم. كما أن تفسير الشك لمصلحة المتهم لا يعود لكونه بريئاً ، بل لأن القاعدة أن الإدانة الجنائية تبنى على الجزم واليقين. وأن قاعدة أن عبء الإثبات يقع على عاتق الاتهام فهى الأخرى ليست تطبيقاً لقاعدة افتراض البراءة ، وإنما نابعة من طبيعة الخصومة الجنائية ذاتها. وينهى هذا الرأي بضرورة استبدال عبارة افتراض البراءة بالعبارة التي تبناها الدستور الإيطالي القائلة بأن "المتهم لا يعد مذنباً حتى صدور الحكم النهائي بإدانته" (م.27/2) ، أو بالنص على اعتبار المتهم مجرد مشتبه فيه Simplement suspect بدلاً من اعتباره بريئاً Innocent.
والحق أن تلك الحجج ليس من شأنها الإقناع بعدم مقبولية مبدأ أصل البراءة. فليس صحيحاً أنه لا يوجد في الحاضر ما يبرر هذا المبدأ ، إذ أن افتراض البراءة لا يتوجه بالخطاب فقط لرجال السلطة العامة ، بل يتوجه للقضاء كذلك في مرحلة المحاكمة. فالواقع أن هذا المبدأ يبدو في كثير من الأحيان كمكمل لعدد من المبادئ التي تلزم لوصف المحاكمة الجنائية بالمحاكمة العادلة ، وعى رأسها مبدأ حياد القاضي الجنائي. فلو فرض وقام شاهد بالتعبير عن رأي يضير بالمتهم ، أو أطلق العنان للسانه لسب المتهم ولم تنه المحكمة عن ذلك ، فإن الأخيرة تكون قد فقدت حيادها بأن شاركت الشاهد عداوته للمتهم ، وافتأتت من ثم على مبدأ أصل البراءة ، الذي يظهر كمكمل لمبدأ حياد القاضي .
بل إننا لا نشطت في الحديث إذا قلنا أن النص على هذا المبدأ في صلب الوثائق الدستورية يعني توجهه بالخطاب كذلك للسلطة القائمة على أمر التشريع الجنائي ، بما يضع على عاتقها قيداً يوجب مراعاة قيم هذا المبدأ ونتائجه حال تنظيم الإجراءات الجنائية التي يمكن اتخاذها إذا تم توجيه الاتهام للأحد الأفراد. ولعل كل ذلك يؤكد ضرورة الإبقاء على قيم هذا المبدأ في وقتنا الحاضر ، هذا الوقت الذي تتوجه فيه الأنظار نحو تعزيز واحترام حقوق الإنسان.
كما أن هذا الرأي يتغافل عن الخصوصية التي تتمتع بها الدعوى العمومية ، وكونها دعوى تهم المجتمع بأسره ، ومن ثم فإن تحديد مواقف الخصوم تمليه المصلحة العامة لا مصلحة الجني عليه. والمجتمع كما تهمه معاقبة المتهم حال ثبوت الجرم في حقه ، تهمه أيضاً براءة من وجه إليه اتهام ظالم. وهكذا فإن المجني عليه لا يظهر بحسبانه خصماً في الدعوى العمومية ، ولا تبدو الأخيرة – على خلاف الدعوى المدنية – أنها تستهدف الوصول إلى تسوية عادلة بين المتهم والمجني عليه ، ولا يمكن والحال كذلك القول بأن المجتمع يرى خيره في أن يسارع بإدانة شخص قد تظهر براءته فيما بعد. فالحرية ليست منحة من المجتمع ، بل هى حق طبيعي يتقرر لكل فرد ، ومصلحة الفرد في الدفاع عن حريته تعلو على مصلحة الجماعة في مواجهة الجريمة ، وذلك لما يترتب على الجزاء الجنائي من مخاطر يتعذر في كثير من الأحيان تجاوزها.
يضاف إلى ذلك أن مبدأ أصل البراءة لا يتعارض بحال مع الإجراءات الماسة بالحرية التي يمكن اتخاذها قبل المتهم في مرحلة التحقيق الابتدائي أو في مرحلة المحاكمة ، فكما سبق القول أن عنصر الدفاع عن حرية الفرد يتصادم منذ البداية مع مصلحة المجتمع في الدفاع عن نفسه ضد خطر الجريمة ، وللتنسيق بين المصلحتين يتوجب السماح – بموجب غطاء شرعي من نص دستوري أو قانوني – بالمساس بالحرية الفردية بما يمكن من الوصول للحقيقة حول جريمة ما ، مع وجوب افتراض براءة من خضع لتلك الإجراءات ، بحيث لا تتقرر إدانته في النهاية إلا بأدلة قاطعة تبرر في النهاية ما عساه يكون اتخذ قبله من إجراءات ماسة بشخصه. ولم يكن يمكن التوصل إلى قدر من التوازن بين مصلحة المتهم ومصلحة المجتمع إلا بتقرير ضمانات وحقوق للمتهم ، لا بحسبانه متهماً ، ولكن بحسبان أن ما يتخذ قبله من إجراءات ماسة بالحرية إنما يزيل البراءة المفترضة فيه. ولو قيل أن تلك الضمانات تعود فقط لكونه متهماً ، فلنا أن نتساءل ، لماذا لم تتضمن التشريعات القديمة مثل تلك الضمانات حماية لحقوق المتهم الذي كانت تفترض فيه الإدانة وقتئذ ؟ ولا شك أن المبرر في ذلك يعود إلى أن الإنسانية لم تكن إلى ذاك الوقت لم تكن قد تلمست فكرة افتراض البراءة بعد ، فالمبدأ آنذاك أن يسمح بالمساس بحرية الفرد ، قبضاً وتفتيشاً وحبساً احتياطياً دون أن يكون لذلك أي مبرر من ضرورات تحقيقي أو أمن مجتمع . أما حين عرف مبدأ أصل البراءة مع تعاظم صيحات الفلاسفة والمفكرين منتصف القرن الثامن عشر ، وحين تم تسجيل هذا المبدأ كأصل دستوري وإنساني ، فقد جاءت التشريعات مقررة لضمانات حال خضوع شخص لاتهام بارتكاب جريمة.
وإلى جانب ضمانة تفسير الشك لمصلحة المتهم استصحاباً للبراءة فيه ، فإن إلقاء عبء الإثبات على عاتق سلطة الاتهام تظل أهم نتائج مبدأ أصل البراءة. فهذه القاعدة لا يبررها – على حد قول المعارضين - طبيعة الخصومة الجنائية ، إذ لو صح قول هؤلاء أن من طبيعة الخصومة الجنائية أن يقع عبء الإثبات على عاتق الاتهام ، فكذلك يصح القول بأن من طبيعة الخصومة المدنية أن عبء الإثبات يقع على عاتق المدعي. بيد أن عبء الإثبات يختلف كثيراً في كلتا الخصومتين. ففي الخصومة الجنائية يظل عبء الإثبات دائماً على عاتق الاتهام وسلطة الادعاء ، ولا يرتفع عن كاهلها إلا إذا نص القانون على ذلك صراحة ، فإذا فشلت تلك الأخيرة في هدم قرينة البراءة بإقامة الدليل القاطع على ذلك ، ظل المتهم على براءته ، ولا يكفي أن يبنى الاتهام على قول دون دليل ، ولا يكلف المتهم بإثبات براءته. أما في الخصومة المدنية ، فإن عبء الإثبات يمكن أن ينتقل إلى عاتق المدعي عليه الذي يصبح مدعياً يقع عليه عبء إثبات ما يدعيه إذا ما أثار دفعاً ، ولم يقتصر موقفه على مجر الإنكار. هذا كله لا يسري بحال في المجال الجنائي ، فالمدعى عليه لا ينقلب بمرافعته أو بدفعه مدعياً ، وذلك استبقاءً للبراءة التي تهيمن على كافة إجراءات الدعوى الجنائية ، بما فيها توزيع عبء الإثبات الجنائي .
10- ب : المقبولية التشريعية للمبدأ :
مع ضعف الحجج التي أرادت النيل من مبدأ أصل البراءة تأكدت حظوة هذا المبدأ على المستوى الفقهي ، غير أن تلك المقبولية الفقهية لم تتحدد قيمتها إلا حال لاقى هذا المبدأ قبولاً تشريعياً ، سواء من قبل المواثيق الدولية ، أو من قبل التشريعات الوطنية الداخلية.
11- مقبولية المبدأ في المواثيق الدولية :
هاهو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرارها رقم 217 ألف (د-3) في العاشر من ديسمبر عام 1948 يطالعنا في مادته الحادية عشر بقوله "كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئاً إلى أن يثبت ارتكابه لها قانوناً في محاكمة علنية تكون قد وفرت له فيها جميع الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه". وهذا ما عاود العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر عن الأمم المتحدة بقرارها رقم 2200 (د-21) في السادس عشر من ديسمبر عام 1966 النص عليه في المادة 14/2 بقوله "من حق كل متهم بارتكاب جريمة أن يعتبر بريئاً إلى أن يثبت عليه الجرم قانوناً" .
وإذا انتقلنا إلى المستوى الإقليمي ، فإن الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية La Convention européenne de sauvegarde des droits de l’homme et des libertés fondamentales ، الصادرة عن المجلس الأوروبي ، والموقعة في روما في الرابع من شهر نوفمبر عام 1950 ، تحتل موقع الصدارة في النص على مبدأ أصل البراءة ، إذ خصصت له فقرة مستقلة ، في حين جمعت بقية الحقوق الأخرى للمتهم في فقرة واحدة أخرى ، دلالة منه على أن تلك الأخيرة إنما هى حقوق متفرعة عن أصل البراءة التي تهيمن كمبدأ على تنظيم الإجراءات الجنائية في كافة مراحلها . فقد جاء في الفقرة الثانية من المادة السادسة منها أن "كل شخص يتهم بارتكاب جريمة يعتبر بريئاً إلى أن تثبت إدانته قانوناً"
Toute personne accusée d'une infraction est présumée innocente jusqu'à ce que sa culpabilité ait été légalement établie.
وتضطلع المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان La Cour européenne des droits de l’homme بحق رقابة احترام الدول الأطراف لتعهداتهم المتولدة عن الاتفاقية وبروتوكولاتها (م.19). وقد جاء في قضاء تلك المحكمة تفسير لما جاء بالفقرة الثانية من المادة السادسة حول أصل البراءة في قضية Pfunders ، إذ تأكد أن "ذلك النص الخاص بافتراض براءة المتهم إلى أن تثبت إدانته قانوناً يتطلب أن قضاة المحكمة في أدائهم لواجبهم يجب ألا يبدأوا بالإدانة أو افتراض أن المتهم ارتكب الجريمة التي يحاكم من أجلها. بمعنى أخر فإن مسئولية إثبات الجرم تقع على عاتق سلطة الاتهام ، وأي شلك في إقامة الدليل على ذلك يكون في صالح المتهم. وعلاوة على ذلك يجب أن يسمح قضاة المحكمة للمتهم بتقديم شهود النفي Témoins à décharge ، وليس لقضاة الحكم بإدانة المتهم إلا إذا وجدت أدلة مباشرة أو غير مباشرة قوية في نظر القانون بالدرجة التي يمكن معها نسبة الفعل يقيناً إلى المتهم . كما أكدت المحكمة ذات الأمر في حكم Minelli بقولها أن الحكم القضائي الذي يعكس الإحساس بإذناب المتهم دون أن يقوم بإثبات إدانته ، أو لا يمنح المتهم الفرصة الكافية لممارسة حقه في الدفاع عن نفسه ، يعتبر متجاهلاً لافتراض البراءة .
ويتجاوز مبدأ أصل البراءة الحدود الأوروبية كي ينتشر في المحيط الأرضي الرحب بقاراته المختلفة. فها هى الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان ، الصادرة في 22 نوفمبر 1969 ، تعتمده بأن نصت في الفقرة الثانية من المادة الثامنة منها على أن "لكل متهم بجريمة الحق في أن يعتبر بريئاً طالما لم تثبت إدانته وفقاً للقانون". وبعد ذلك بسنوات قليلة يصدر الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان عن منظمة الوحدة الأفريقية (الاتحاد الأفريقي حالياً) عام 1981 متضمناً المادة 7/1 (ب) التي تقضي في صراحة أن "الإنسان برئ حتى تثبت إدانته أمام محكمة مختصة" ، تلك الصيغة التي تبناها بعد عدة أعوام الميثاق العربي لحقوق الإنسان الصادر عن جامعة الدول العربية في 15 سبتمبر 1994.
ولعل أهم ما تكشف عنه تلك النصوص ذات الصيغ المتقاربة ، هو مدى ارتباط مبدأ أصل البراءة بمفهوم حقوق الإنسان في المجتمع الدولي المعاصر ، وأنه لا بناء لعالم تتدعم فيه حقوق الإنسان إلا إذا حرص المشرع الداخلي عند سن القوانين الجزائية والإجرائية باحترام ما يوجبه هذا المبدأ من نتائج ، خاصة حال تنظيم القواعد الماسة بالحرية الشخصية . فالحرية الشخصية – على حد قول محكمة القضاء الإداري – "هى ملاك الإنسانية كلها ، لا تخلقها الشرائع ، بل تنظمها ، ولا توجدها القوانين ، بل توفق بين شتى مناحيها ومختلف توجهاتها ، تحقيقاً للخير المشترك للجماعة ورعاية للصالح العام ، فهى لا تقبل من القيود إلا ما كان هادفاً إلى هذه الغاية مستوحياً تلك الأغراض" .
12- مقبولية المبدأ في التشريعات الوطنية :
إذا كان مبدأ أصل البراءة قد لاقى تكريساً في جل التشريعات الداخلية على صعيد كافة الأنظمة القانونية ، إلا أن الدول قد تباينت في تحديد الرافد الذي ينبع منه هذا المبدأ. فالبعض من التشريعات قد اقتصرت على النص عليه في قانون الإجراءات الجنائية ، والبعض الأخر أعطت له قيمة دستورية ، في حين جمعت تشريعات أخرى بين القيمة الدستورية والقانونية لهذا المبدأ.
ونلحظ أن غالبية الدول قد أولت هذا المبدأ قيمة دستورية بأن نصت عليه في صلب الوثيقة الدستورية . ونذكر من ذلك نص المادة 27 من الدستور الإيطالي التي تقضي بأن "لا يع المتهم مذنباً قبل الحكم النهائي عليه". ونذكر كذلك نص المادة 11/د من الميثاق الكندي للحقوق والحريات التي تقرر أن "كل متهم له الحق في أن يفترض بريئاً طالما لم تعلن إدانته طبقاً للقانون بواسطة محكمة مستقلة ومحايدة وفي محاكمة علنية وعادلة". وقد تبع ذات النهج المشرع المصري حين اعترف للمبدأ بقيمته الدستورية منذ دستور عام 1971 بأن قرر في المادة 67 من الدستور أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها جميع الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه. وعلى ذات النهج – وفي صيغ متقاربة - سارت دساتير كل من ليبيا (م.15) ، وتونس (الفصل الثاني عشر) ، والكويت (م. 34) ، ودستور العراق السابق (م. 23) ، وسوريا (م.28).
ومن الدول من أراد تدعيم هذا المبدأ بأن عاود النص عليه في قانون الإجراءات الجنائية بعد أن جاء النص عليه في الدستور. من تلك التشريعات نذكر التشريع السوداني الذي نص في المادة 69 من دستور عام 1973 على المبدأ بقوله "أي شخص يلقى القبض عليه متهماً في جريمة ما يجب ألا تفترض إدانته ، ولا يجب أن يطلب منه الدليل على براءة نفسه ، بل المتهم برئ إلى أن تثبت إدانته دون ما شك معقول" ، وهو ذات النص الذي اعتمدته المادة الثالثة من قانون الإجراءات الجنائية السوداني .
وهذا النهج في رأينا نهج محمود ، ففي ازدواجية النص على مبدأ أصل البراءة ، دستوراً وقانوناً ، ما يؤكد متانة المبدأ وهيمنته على التشريع الجنائي ككل. فضلاً عن أن معاودة النص على هذا المبدأ في قانون الإجراءات الجنائية من بعد الدستور هو من قبيل التحوط إذ أن معظم رجال الضبط القضائي ، وأعضاء سلطة الاتهام ، والقضاة ، يعتادون التصرف وفقاً لما يتقرر بمدونة الإجراءات الجنائية أكثر مما يرد بالدستور . ولعل ذلك يدعونا إلى أن نهيب بالمشرع المصري أن يسارع إلى النص على هذا المبدأ في صدر مدونة الإجراءات الجنائية.
والقليل من الدول ، كالتشيك (م.2) وبولندا (م.3) ، قد اقتصرت على النص على مبدأ أصل البراءة في قانون الإجراءات الجنائية. وقد تبع المشرع الفرنسي مؤخراً هذا النهج بناءً على توصية من لجنة العدالة الجنائية وحقوق الإنسان ، وذلك بأن أضاف مادة تمهيدية لقانون الإجراءات الجنائية ، بالقانون رقم 516-2000 الصادر في 15 يونيو 2000 (المسمى قانون تدعيم قرينة البراءة وحقوق المجني عليهم)، جاء في فقرتها الثالثة أن "كل مشتبه فيه ، أو ملاحق جنائياً برئ حتى تثبت إدانته. وتحظر الاعتداءات على قرينة البراءة ، ويجري التعويض عنها والعقاب عليها وفق الشروط المنصوص عليها قانوناً". (م.9-1 من القانون المدني)
Toute personne suspectée ou poursuivie est présumée innocente tant que sa culpabilité n’a pas été établie. Les atteintes à sa présomption d’innocence sont prévenues, réparées et réprimées dans les conditions prévues par la loi.
ولا شك أن هذا النهج يغاير ما يقتضيه المنطق السليم ، ذلك أن المكان الصحيح لتلك الضمانة التي يبنى عليها بقية ما يتقرر للمتهم من حقوق بصدد الخصومة الجنائية هو الدستور ، باعتباره القانون الأسمى الذي يقيد كافة سلطات الدولة ، بحيث لا يتسنى للمشرع أن يصدر قانوناً يخالف به أصل البراءة المفترض ، ولا يحق لرجال السلطة التنفيذية اتخاذ إجراءات ماسة بالحرية الفردية بعيداً عن رقابة القضاء ، كما لا يحق للقضاء ذاته أن يخرج عن موجبات البراءة المفترضة ، بأن يلقي عبء الإثبات على عاتق المتهم ، أو يقضي بالإدانة بناءً على أدلة غير جازمة ، أو يفسر الشك في غير صالح المتهم.
13- ج : مقبولية المبدأ وضرورات الحماية والتدعيم :
إن المقبولية الفقهية والتشريعية لمبدأ أصل البراءة لا تجدي في الحقيقية شيء إذا لم ينتهج المشرع نهجاً حمائياً لهذا المبدأ ؛ وذلك بأن يضع من الأجزية والقيود ما يضمن به حظر وحصر الانتهاكات الماسة بالبراءة المفترضة في الإنسان قبل أن يصدر حكماً قضائياً نهائياً ، يمثل عنوان الحقيقة حول الجرم المرتكب وسلامة الأدلة على نسبته إلى شخص معين. فالحقيقة لا يمكن توافرها إلا باليقين التام لا بمجرد الظن والاحتمال ، والإدانة بناء على مجرد الشك في صحة الدفاع تتنافى مع ما يجب من عدم إقامة الإدانة إلا على أساس يقيني .
وهكذا فإنه يتعين تدعيم قرينة البراءة وإلى حين صدور الحكم النهائي بالإدانة ، وهنا تتوزع التشريعات في كفالة هذا التدعيم. فالقانون الأمريكي يقرر حق المتهم في طلب إبطال حكم الإدانة إذا لم يقم القاضي بتوجيه المحلفين نحو احترام أصل البراءة فيمن تجري محاكمته . كما اتجه القانون الفرنسي نحو حماية البراءة المفترضة في المتهم بموجب قانون 4 يناير 1993 والمعدل بقانون 24 أغسطس 1993 حين قرر استبدال كلمة "متهم" الواردة بمفرداتها الثلاثة : Accusé – Inculpé – Prévenu ، بكلمة "الشخص الموضوع تحت الملاحظة" La personne mise en examen. وقد يتخيل أن هذا التعديل تعديل لفظي ليس له من أثر في الحماية ، غير أن عبارات وأسلوب التشريع تدل على روحه ، واستعمال جمل محددة تهدف إلى تجنب كل تقييم ذاتي يصدر من قبل العامة قبل صدور حكم فاصل في الدعوى .
واستكمالاً من المشرع الفرنسي لغطاء الحماية الواجبة لمبدأ أصل البراءة أكد القانون رقم 2-93 الصادر في 4 يناير لعام 1993 على تعديل المادة التاسعة من القانون المدني الفرنسي بأن جعل من حماية افتراض البراءة حقاً ذاتياً يجيز لكل فرد انتهكت براءته اللجوء للقضاء للمطالبة بوقف انتهاك افتراض البراءة . كما نص في الفقرة الثانية من المادة التاسعة سالفة البيان إلى حق القاضي بأن يطلب فوراً بإدخال تصحيح للأخبار التي نشرت في حق شخص أو وقائع ما زالت محلاً لتحقيق قضائي وذلك بغية إيقاف انتهاك افتراض البراءة وذلك على نفقة المسئول عن هذا الانتهاك .
وبموجب التعديلات التي أدخلت على القانون سالف الذكر بالقانون 24 أغسطس 1993 أضيفت أحكام أخرى لتدعيم الحقوق والحريات الفردية ، ومنها قرينة البراءة . فقد تقرر وللأول مرة حق المحتجز بمعرفة الشرطة القضائية Personne placée en garde à vue في الاتصال بمحامية بعد انقضاء ثماني ساعات من بداية الاحتجاز. كما تقرر إسناد أمر الحبس الاحتياطي فضلاً عن كافة إجراءات التحقيق لقاضي التحقيق Juge d’instruction ، وتدعم حق المحامي في الإطلاع على ملف التحقيق. ثم أتى القانون الصادر في 23 يونيو 1999 ليضيف ضمانات أخرى في المرحلة السابقة على المحاكمة بأن ألغى حالات التلبس الحكمي Flagrance par assimilation (م.53/2 إجراءات جنائية فرنسي) ، وتحديد المدة التي يسمح فيها بمباشرة الإجراءات المرتبطة بحالات التلبس لتصبح ثمانية أيام كحد أقصى ، وكذا الحد من المدة التي يباشر في التحقيق الابتدائي.
ولقد توج المشرع الفرنسي جهوده الحمائية لأصل البراءة المفترض بأن قرر في عجز الفقرة الثالثة من المادة التمهيدية المضافة لقانون الإجراءات الجنائية والمضافة بالقانون 516-2000 الصادر في 15 يونيو 2000 إمكانية التعويض المدني – فضلاً عن الجزاء الجنائي - عن الانتهاكات التي تمثل عدواناً على قرينة البراءة . كما عدل من المادة التاسعة من القانون المدني ، كي يكون أكثر تحديداً للحماية ، بأن قرر أن "لكل إنسان الحق في احترام قرينة البراءة. وإذا عرض الشخص على الجمهور قبل صدور حكم بإدانته ، بحيث يظهر كما لو كان قد ارتكب الأفعال محل الاستدلالات أو التحقيقات القضائية كان للقاضي أن يأمر ولو بصور مستعجلة ، ودون الإخلال بالحق في التعويض عن الأضرار ، باتخاذ الإجراءات لوضع حد للاعتداء على قرينة البراءة ، كنشر تصحيح أو إصدار بيان ، وذلك على حساب الشخص الطبيعي أو المعنوي المسئول عن هذا الاعتداء".
وبالنظر إلى أن انتهاك قرينة البراءة يتأتى كثيراً من جانب الجهات الإعلامية التي تباشر رسالتها في إعلام المجتمع ، لذا فقد أضاف القانون رقم 516 لسنة 2000 نصاً (م.35-3) إلى قانون حرية الصحافة جرم به النشر ، بأي وسيلة كانت ، وعلى أي دعامة ، لصورة شخص معروف أو قابل للتعريف ، مقيد بالأغلال أو الأثقال إذا كان محلاً لإجراء جنائي لم يصدر فيه حكم بالإدانة دون موافقته. كما جرم ذات النص إعداد أو نشر استطلاع للرأي أو التعليق عليه بشأن اتهام شخص كان محلاً لإجراء جنائي أو بشأن العقوبة التي يمكن تطبيقها أو نشر إشارات تمكن من الإطلاع على استطلاعات الرأي المشار إليها سلفاً . والحق أنه ما أحوجنا إلى تبني مثل هذا النص في التشريع المصري أمام تزايد البرامج المتلفزة (من أمثال برنامج خلف الأسوار ) التي تعرض على الجمهور من يشتبه بارتكابهم لجرائم قبل أن يقول القضاء كلمته النهائية بالإدانة ، ضاربة بأصل البراءة المفترضة عرض الحائط.
وكانت المادة 803 من قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي ، وفق نموذجها الذي أتى به قانون 4 يناير 1993 ، تنص على أنه لا يجوز أن يحمل الشخص أغلالاً أو أثقالاً إلا إذا كان يمثل خطورة على الغير أو على نفسه أو كان من المتصور هروبه ، إلا أن القانون رقم 516 لسنة 2000 قد أضاف إليها فقرة جديدة تنص على أنه في الفرضين السابقين يجب اتخاذ الإجراءات اللازمة التي تتفق والمقتضيات الأمنية للحيلولة دون تصوير الشخص أو إجراء تسجيل بالصوت والصورة وهو يحمل الأغلال أو الأثقال .
ولأغراض تفعيل الحماية الداعمة لحقوق المتهم في المرحلة السابقة على المحاكمة والمتصلة بقرينة البراءة قرر قانون 15 يونيو 2000 عدد من الضمانات منها : إلزام مدعي الجمهورية بتحديد أجل حال تكليف أحد مأموري الضبط القضائي بالقيام بأعمال استدلال (م.75-1 إجراءات جنائية) ، كما أن على مأمور الضبط القضائي أن يقدم تقريراً إلى مدعي الجمهورية إذا كان قد باشر أعمال استدلال من تلقاء نفسه قبل مضي ستة أشهر على بدئها. كما يلتزم مأمور الضبط القضائي بإخطار مدعي الجمهورية بأمر الاحتجاز الصادر قبل شخص وذلك منذ بدء الاحتجاز (كان قانون 4 يناير 1993 يكتفي بالإخطار في أنسب وقت). وكذا تم حظر احتجاز أي شخص لا توجد شبهات على تورطه في الجريمة (م.62-2) ، الأمر الذي يحول دون احتجاز الشهود للإدلاء بشهادتهم كما كان يجري من قبل. وحظر القانون البحث الداخلي الذي يباشر على جسم الإنسان في مرحلة الاستدلالات إلا بمعرفة طبيب يندب لذلك (م. 63-5). كما أوجب قانون 15 يونيو 2000 على مدعي الجمهورية زيارة أماكن الاحتجاز حال الضرورة ، وكذا مرة كل ثلاثة أشهر على الأقل (م.41) . كما سمح هذا القانون للشخص المحتجز بأن يستفسر من مدعي الجمهورية عما سوف يتم بشأنه إذا مضت ستة أشهر منذ بدء الاحتجاز ولم تقام الدعوى الجنائية ضده أو يتخذ إجراء من الإجراءات البديلة لها أو لم يخطر بحفظ الدعوى أو عرض الأوراق على قاضي الحبس والحريات Juge des libertés et de la détention لطلب الاستمرار في الاستدلالات (م.77-2 ، 77-3).
كما فرض هذا القانون على سلطة جمع الاستدلالات عدة التزامات ، توجب حال إغفالها بطلان الإجراءات المتخذة في تلك المرحلة. من ذلك الالتزام بإثبات إعلام المشتبه فيه بحقوقه في محضر جمع الاستدلالات ، وذلك بلغة يفهمها (م.63-1) ، والالتزام بإعلام المشتبه فيه بطبيعة الجريمة المتهم بارتكابها (م.63-1) ، وإعلامه بحقه في الاتصال بأقاربه دون تأخير délais Sans ، وإخطار مدعي الجمهورية "دون تأخير" بأمر الاحتجاز ، والالتزام بإعلام المشتبه فيه بحقه في الاتصال بمحاميه منذ بدء الاحتجاز وكذا بعد مرور 20 ساعة من بدء الاحتجاز ، وبعد 12 ساعة حال كل مد للاحتجاز (م.63-1 ، 63-4) ، وإعلامه بحقه في عدم الإجابة على أسئلة المحققين ، أي حقه في الصمت (م.63-1). كما أوجب القانون ضرورة تضمين محضر جمع الاستدلالات جميع الأسئلة التي تمت الإجابة عليها (م.429-2) .
ودعماً لقرينة البراءة في مرحلة التحقيق الابتدائي ، حرص المشرع الفرنسي على وضع مزيد من القيود على الاتهام بواسطة قاضي La mise en examen. فالمعلوم أنه قبل قانون 15 يونيو لعام 2000 كان يمكن لقاضي التحقيق أن يوجهه الاتهام لكل شخص تقوم دلائل Des indices تدعو لافتراض أنه ساهم كفاعل أو كشريك في الوقائع المحالة إليه (م. 8-1 إجراءات جنائية قبل التعديل). وتجنباً للآثار الضارة للاتهام ألزم التعديل الجديد قاضي التحقيق صراحة بعدم اتهام شخص إلا إذا وجدت ضده دلائل خطيرة أو متطابقة Des indices graves ou concordants تجعل من مساهمته في الجريمة كفاعل أو شريك قريبة الاحتمال Vraisemblable ، ويقع البطلان كجزاء على مخالفة هذا الشرط (م.80-1/1). كما لم يعد جائزاً اتهام شخص قبل سماع أقوالة أمام قاضي التحقيق ، بعد أن كان تلك الصفة يمكن أن تسبغ على الشخص لمجرد صدور أمر بضبطه وإحضاره أو بالقبض عليه أو بإرسال كتاب مسجل إليه بالاتهام. وكذا فقد حرص المشرع في تعديلاته على تقيد المدة التي يباشر فيها التحقيق الابتدائي. فألزمت المادة 116-6 من قانون الإجراءات الجنائية والمضافة بقانون 15 يونيو لسنة 2000 قاضي التحقيق بإخطار المتهم (وكذلك المدعي بالحقوق المدنية) بالفترة التي يتوقع أن تنتهي فيها إجراءات التحقيق حالة ما إذا كانت الفترة أقل من سنة في مواد الجنح أو أقل من 18 شهراً في مواد الجنايات. فإذا ذادت المدة التي يتوقع أن يستغرقها التحقيق عن هذه الفترات ، فإن قاضي التحقيق يلتزم بإبلاغ الأطراف المعنية بحقهم في طلب إنهاء التحقيق بالشروط المنصوص عليها في المادة 175-1.
ودعماً لمبدأ أصل البراءة فقد حرص المشرع الفرنسي – بموجب المادة 137 من قانون الإجراءات الجنائية في صياغتها الجديدة - على تأكيد مبدأ استثنائية الحبس الاحتياطي كأجراء احتياطي Subsidiaire . فقرر أن الشخص محل الاتهام ، المفترض براءته ، يظل حراً. ويجوز لضرورات التحقيق أو كتدبير احترازي إلزام المتهم بواحد أو أكثر من التزامات الرقابة القضائية. وحينما لا تكفي تلك الأخيرة في تحقيق أهدافها ، يكمن بصفة استثنائية إخضاعه للحبس المؤقت . وعلاوة على ذلك فقد حرص المشرع على الحد من حالات الحبس الاحتياطي ، وقصره على الجرائم ذات الجسامة (م.143-145).
وتطبيقاً للمادة التمهيدية لقانون الإجراءات الجنائية الفرنسي ، التي توجب التعويض عن الاعتداءات على قرينة البراءة ، خطى المشرع خطوات واضحة نحو تفعيل مبدأ التعويض عن الحبس الاحتياطي ، بأن رفع مبدأ التعويض من مصاف المكنة للجهة القضائية التي تفصل في الطلب ، إلى مصاف الوجوب إذا توافرت شروط التعويض (م.149) . وقد أوجب قانون 15 يونيو 2000 إخطار الشخص ، فور صدور أمر بألا وجه في مواجهته أو حكم بالبراءة ، بحقه في طلب التعويض (م.149 ، 149-1). كما سمح القانون سالف الذكر بفحص طلب التعويض على درجتين .
المبحث الثاني
أثار أصل البراءة
14- تمهيد وتقسيم
يترتب على أصل البراءة المفترضة عدة أثار فيما يتعلق بالإثبات تتوزع على شقين : الأول تتعلق بتقديم دليل الإثبات ؛ حيث تلزم تلك القاعدة السلطة القائمة على شأن الاتهام بتقديم دليل الإدانة. أما الشق الثاني فيتعلق بتقييم دليل الإدانة الذي قدمته سلطة الاتهام ؛ إذ يجب أن تبنى الإدانة على اليقين التام مما يستتبع القول أن كل شك يجب أن يفسر في مصلحة المتهم ؛ عودة لأصل البراءة المفترض.
15- أولاً : أثار المبدأ حال تقديم أدلة الإثبات :
سبق القول أن افتراض البراءة يعني أن من خضع للاتهام يظل بريئاً مما اسند إليه وعلى من يدعى عكس ذلك أن يثبت هذا الادعاء، وهو ما يحتم إلقاء عبء إثبات الاتهام على عاتق سلطة الاتهام ، كأحد المبادئ الأساسية التي تحكم الإثبات الجنائي. بيد أن من التشريعات الإجرائية ما يخرج عن تلك القاعدة كي تقرر أن المتهم يكون مسئولاً عن الجرم المسند إليه إلى أن يثبت بذاته براءته ، وذلك ما يسمى قرائن الاتهام القانونية. وهنا يثور التساؤل حول اتفاق تلك القرائن مع أصل البراءة المفترضة في المتهم.
16- أ : سلطة الاتهام وعبء الإثبات :
يوجب افتراض براءة المتهم إلقاء عبء إثبات الاتهام على عاتق النيابة العامة بوصفها سلطة الاتهام ؛ ذلك أن المتهم غير مطالب بإثبات براءته المفترضة فيه بنص الدستور ، وتطبيقاً لمبدأ عام ، يسري على كافة فروع القانون ، القائل بأن "البينة على من ادعى" Actori incumbit probatio ، والمشار إليه في المادة الأولى من قانون الإثبات في قولها "يجب على الدائن إثبات الالتزام" . ومن ثم وجب على السلطة الأخيرة تقديم الدليل اليقيني على وجود الجريمة ، وصحة نسبتها إلى المتهم. يفهم من ذلك أنه إذا عجزت تلك السلطة عن إثبات ما تدعيه فإنه يتعين على المحكمة أن تقضى بالبراءة. وتكلف النيابة العامة في هذا الشأن بإثبات جميع الأركان المكونة للجريمة ومسئولية المتهم عنها ، غير أن خلافاً قد نشأ حول تحديد من يقع عليه عبء إثبات الدفوع التي قد يدفع بها المتهم.
17- إثبات أركان الجريمة :
يقع على عاتق النيابة العامة عبء إثبات جميع الأركان المكونة للجريمة ومسئولية المتهم عنها ، ومن ثم وجب عليها إثبات توافر الركن الشرعي – عند من يقولون بوجوبه كمكون من مكونات الجريمة – فضلاً عن قيامها بإثبات الركنين المادي المعنوي.
فقد مال البعض من الفقه إلى القول بأن على النيابة العامة إثبات النص القانوني الواجب التطبيق على الجريمة المسندة إلى المتهم والمقامة عنها الدعوى العمومية ، وكذلك إثبات عدم انتفاء الركن الشرعي بالعفو العام ، أو تقادم الدعوى الجنائية. والحق أن القاعدة القانونية لا تكون محلا للإثبات ؛ ومن ثم فليس من الضروري إثبات النص القانوني الذي قدم المتهم على أساسه للمحاكمة ، فنصوص القانون لا تعتبر ركنً في الجرائم التي تنشأ ، وأن عدم المشروعية هو حكم على الواقعة يتم خارج نطاق الفرد ، ولا يتوقف على علمه بأن هذه الواقعة تخالف نصاً من نصوص التجريم ، وبناء على ذلك لا يشترط إثبات هذا النص من قبل سلطة الاتهام ؛ فالقاضي هو المكلف بتطبيق القانون على الواقعة المعروضة عليه ، وليس بحاجة إلى من يبين له القاعدة واجبة الإعمال ، ولا أن يبين له مضمونها .
أما عن إثبات عدم انتفاء الركن الشرعي بالعفو العام أو بتقادم الدعوى الجنائية ، فهو قائم على كاهل النيابة العامة بحجة أن تلك الأخيرة يقع على عاتقها إثبات انتفاء سبب يرفع عما ارتكبه المتهم الصفة التجريمية. ومن ثم تلتزم النيابة العامة بإثبات انتفاء أسباب الإباحة ، هذا الأخير الذي يعد في الحقيقة إثباتاً لتوافر الركن الشرعي للجريمة ، فيدخل في نطاق التزام الاتهام بإثبات أركان الجريمة كافة .
وإذا لم يكن هناك من خلاف حول تكليف النيابة العامة بعبء إثبات الركن المادي للجريمة بعناصره الثلاثة من سلوك ، ونتيجة ، وعلاقة سببية ، واثبات البدء في التنفيذ إذا وقفت الجريمة عند حد الشروع ؛ غير أن مشكلة قد تثور بشأن إثبات السلوك الإجرامي ذو الطابع السلبي. فقد رأى بعض الفقه أن سلطة الاتهام سيستحيل عليها أن تقدم الدليل على الوقائع السلبية المحضة ، بما يوجب تحميل المتهم عبء إثبات الوقائع الإيجابية التي تنفى النشاط السلبي محل الاتهام. كما هو الشأن في جريمة التشرد التي يقع على المتهم عبء نفيها بإثبات وجود محل إقامة معين له وسبل رزق يتكسب منها . ولدينا أن هذا الرأي يجافي أصل البراءة المفترضة في المتهم ؛ ومن ثم فإن عبء إثبات الوقائع يقع على عاتق النيابة العامة ، سواء أكانت تلك الوقائع إيجابية أم سلبية. ويكفي في إثبات الوقائع السلبية أن تقيم النيابة العامة الدليل على وقائع إيجابية تتضمن السلوك السلبي بطريق المخالفة .
وفوق ذلك فإن سلطة الاتهام عليها عبء إثبات الركن المعنوي ، وعلى الأخص فيما و كانت الجريمة عمدية. ففي تلك الحالة الأخيرة يتعين على النيابة العامة إثبات توافر القصد الجنائي لدى الفاعل الأصلي للجريمة ، وفى حالة المساهمة التبعية تلتزم تلك الأخيرة بإثبات توافر قصد المشاركة في تحقيق الجريمة لدى من كان شريكاً في الجريمة. أما إذا كانت الجريمة المسندة للمتهم غير عمدية ، فيتعين على سلطة الاتهام أن تقوم بإثبات خطأ المتهم ، سواء في صورة الإهمال أو الرعونة أو عدم الاحتياط أو الاحتراز. ، أما إذا كان الخطأ في صورة عدم مراعاة القوانين واللوائح والأنظمة ، فإنه يكفى أن تثبت سلطة الاتهام الواقعة المادية المكونة للمخالفة. وفى جميع الحالات يجب على سلطة الاتهام أن تثبت علاقة السببية بين السلوك الخاطئ والنتيجة الإجرامية الناجمة عنه.
ويذهب نفر في الفقه إلى أن التزام النيابة العامة بإثبات توافر القصد الجنائي يكون بمعزل عن نوعه أو درجته . بيد أن هذا الرأي وإن صدق بشأن القصد المحدود والقصد غير المحدود ، أو بشأن القصد البسيط والقصد المصحوب بسبق الإصرار ، إلا أنه لا يصدق بالنسبة للقصد الخاص ؛ ذلك أن هذا النوع من القصد الجنائي قد يكون لازماً لقيام الجريمة ، كما هو الحال بصدد جريمة التزوير والسرقة والنصب والبلاغ الكاذب...الخ ، بحيث تنتفي الجريمة تبعا لانتفائه. وبناء عليه يجب على النيابة العامة إثبات توافر هذا القصد الخاص.
18- عبء إثبات وسائل الدفاع :
يثور التساؤل حول من يقع عليه عبء إثبات وسائل الدفاع التي قد يدفع بها المتهم ، ومنها أن يدفع بوجود سبب من أسبابه الإباحة ، أو بتوافر مانع من موانع المسئولية الجنائية مثل الجنون أو الإكراه ، أو يدعى المتهم استفادته بعذر من الأعذار المعفية من العقاب كاعتراف الراشي أو الوسيط في جريمة الرشوة (م. 107 عقوبات).
ذهب البعض إلى أن المتهم الذي يتمسك بوجود سبب من أسباب الإباحة ، أو مانع من موانع المسئولية، أو عذر من الأعذار المعفية أو المخففة للعقاب عليه أن يثبت ذلك طبقا لما تقرره للقاعدة اللاتينية القائلة بأن المدعى عليه يصبح مدعياً بالدفع resue in .excipiendo fit actor وهذه القاعدة وإن كانت تجد تطبيقها الصريح في مجال القانون المدني إلا أنها صالحة بذاتها للتطبيق في المواد الجنائية . وعلة ذلك في رأي البعض أنه لما كان الأصل في الإنسان أنه مسئول عن أفعاله ، فإن نفي هذا الأصل يقع من يدعي به .
على حين ذهب البعض الأخر إلى أن قاعدة المدعى عليه يصبح مدعياً بالدفع لا تصلح للتطبيق في الإجراءات الجنائية لما للأخيرة من أوجه خصوصية ، ولكونها قاعدة تتجاهل افتراض البراءة في المتهم ، ذلك المبدأ الركين الذي يوجب ألا ينحصر دور سلطة الاتهام في إثبات أركان الجريمة في حق المتهم ، ولكن أيضا إثبات عدم توافر أي سبب قابل لهدم تلك الأركان ويوجب من ثم البراءة. فالإدانة تفترض عدم وجود سبب من أسباب الإباحة ، أو سبب من أسباب انعدام المسئولية ، أو مانع من موانع العقاب ، أو سبب من أسباب انقضاء الدعوى الجنائية . وهكذا يكفي في نظر أصحاب هذا الرأي أن يتمسك المتهم بالدفع ، حتى يقع على عاتق النيابة العامة إثبات عدم صحة هذا الدفع ؛ فتلك الأخيرة تملك من الوسائل والصلاحيات مالا يقدر عليها المتهم ، فهى أقدر منه في كشف حقيقة هذه الدفوع للقاضي. كما أن القاضي الجنائي عليه عبء التحري عن الحقيقة بنفسه لدوره الإيجابي في الدعوى الجنائية ، وله أن يكلف النيابة العامة في معاونته على ذلك ، كأن يطلب منها استظهار وسائل الدفاع التي دفع بها المتهم لنفي التهمة أو المسئولية عنه .
ويكشف تحري موقف القضاء الفرنسي في هذا الشأن عن بعض الغموض. فقد ذهبت بعض الأحكام إلى أن عبء إثبات قيام الركن الشرعي يقع على عاتق النيابة العامة وأن هذا الركن لم يزول بالتقادم أو بالعفو . وعلى النقيض ذهبت بعض الأحكام إلى أنه بالنسبة للأسباب الإباحة ، ومنها الدفاع الشرعي ، يقع على عاتق المتهم عبء إثبات هذا الدفع ، فيما عدا الحالات التي يقرر القانون فيها قيام قرينة على الدفاع الشرعي . أما بخصوص موانع المسئولية ، كالإكراه أو عاهة العقل ، فإن القضاء الفرنسي يلقي بعبء الإثبات على عاتق المتهم على أساس توافر قرينة عامة على سلامة العقل وحرية الإرادة. ويظهر ذلك جلياً بصفة خاصة تجاه الإكراه Contrainte ، حيث تسود النظرية المدنية للقوة القاهرة في مجال الإجراءات الجنائية .
أما القضاء المصري فيتخذ موقفا واضحاً بالنسبة لعبء إثبات وسائل الدفاع ، إذ يستقر قضاء النقض على أنه يكفى أن يتمسك المتهم بالدفع ، دون أن يكون ملزما بإثبات صحته ، وعلى النيابة والمحكمة التحقق من مدى صحة هذا الدفع وترد عليه إيراداً ورداً ، وإلا كان حكمها مشوبا بالقصور في التسبيب ، والإخلال بحق الدفاع لإخلال المحكمة في واجبها نحو إثبات الإدانة ، بحسبانه دفاعاً جوهريا ظاهر التعلق بموضوع الدعوى ، وقد يترتب على صحته نفى وقوع الجريمة أو امتناع المسئولية أو العقاب أو انقضاء الدعوى الجنائية .
هذا الاتجاه بذاته تبنته المحكمة أيضاً فيما يتعلق بالدفاع الشرعي ، إذ ذهب النقض في قضاءه إلى عدم اشتراط تمسك المتهم به ؛ ذلك أن القانون يوجب على المحكمة أن تبحث ظروف الدعوى والأدلة القائمة فيها ، فإذا اتضح لها أن المتهم كان في حالة دفاع شرعي تعين عليها أن تعامله على هذا الأساس . وكذا إذا دفع بالجنون فلا يجوز للمحكمة أن تستند في إثبات عدم وجود هذا الجنون إلى أن المتهم لم يقدم دليلا عليه ، بل من واجبها في هذه الحالة أن تثبت بنفسها أن المتهم وقت ارتكابه الجريمة لم يكن مجنوناً ، دون أن تكلفه عبء تقديم الدليل على ادعاءه . وهذا الأمر بذاته أخذ به بشأن الدف بانقضاء الدعوى الجنائية بالتقادم ، أو بسابقة الفصل في الموضوع .
بيد أن قضاء النقض قد غاير موقفه هذا فيما يتعلق بأسباب التخفيف من العقاب ، حيث جاء في قضاءه أنه "لما كانت المادة 38 من قانون المخدرات لا تشترط أن يكون الإجراء المنصوص عليه فيها مقصوداً به الاتجار ، فكل إحراز يعاقب عليه بموجبها إلا إذا ثبت أمه كان يقصد التعاطي أو الاستعمال الشخصي. ففي هذه الحالة يكون للمتهم أن ينتفع بالعقاب المخفف الورد بالمادة 37 ، وعبء الإثبات غي تخصيص القصد من الإحراز يقع دائماً على عاتق المتهم" .
19- ب : المتهم وعبء الإثبات :
استبان لنا مما سبق أن الأصل أن المتهم يظل برئ من التهمة المسندة إليه ، ما لم يقم دليل قاطع تقدمه سلطة الاتهام على ارتكابه الجريمة محل الدعوى. غير أن التشريعات قد تخرج عن هذه القاعدة ، وتقرر قلب عبء الإثبات بالنص على قرائن قانونية لإثبات التهمة بقصد تسهيل مهمة سلطة الاتهام في إثبات الجريمة. فما مضمون تلك القرائن ؟ وهل من تعارض بينها وبين أصل البراءة موضع حديثنا. ومن ناحية أخرى فإنه إذا كان المتهم غير مكلف بإثبات براءته ، إلا أن التشريعات يجب أن تسمح له بالمشاركة في هذا الإثبات ، سواء تم ذلك بشكل إيجابي أو بشكل سلبي(حق المتهم في الصمت).
20- 1- إشكالية قرائن الإثبات القانونية :
في الواقع أن قرائن الإثبات القانونية قد تتعلق بالركن المادي لجريمة ، وقد تتصل بالركن المعنوي فيها.
21- القرائن المتصلة بالركن المادي :
إذا ما توافرت قرينة إثبات قانونية نتج عن ذلك إعفاء سلطة الاتهام من إثبات الركن المادي للجريمة ، إذ أن هذه القرينة تبنى على وقائع تثبت في حق المتهم ، وهذه الوقائع هى التي تنشأ بها قرائن الاتهام التي تدل على عكس افتراض البراءة ومن ثم ينقلب عبء الإثبات ، ويقع على عاتق المتهم إثبات أن القرينة الموضوعة بواسطة القانون لا تطابق الواقع. وهكذا فالقرينة بسيطة لا تحول بين المتهم واثبات براءته عن طريق نقض القرينة وإثبات عكسها.
ويمكن أن يمثل لذلك النوع من القرائن بما جاء في نص المادة 225/6 عقوبات فرنسي جديد ، من أنه يعد قواداً من اعتاد العيش مع عاهرة وعجز عن إثبات مصادر دخله التي تناسب طريقة معيشته. ومن ذلك أيضاً ما تنص عليه المادة 418 من قانون الجمارك الفرنسي التي تفترض قرينة التهريب والغش لدى كل من يضبط داخل الدائرة الجمركية ومعه بضائع لا توجد عليها العلامات الجمركية التي تسمح بدخولها على الإقليم الفرنسي. وفي تلك الحالة الأخيرة لا تلتزم سلطة الاتهام بإثبات واقعة التهرب والغش ، لأنها مفترضة افتراضاً لا يقبل العكس إلا في حالة القوة القاهرة .
ويعرف القانون الإنجليزي هذا النوع من القرائن إذ تقرر المادة 30 من قانون الجرائم الجنسية sexual offences Act حكماً شبيهاً بما جاء في المادة 225/6 عقوبات فرنسي سالفة الذكر. كما أن قانون الوقاية من الرشوة Prevention of Corruption Act لعام 1916 يقرر أن الموظف الذي تلقى أية مبالغ مالية أو عطايا يجب عليه أن يثبت أن هذا التلقي لم يكن على سبيل الرشوة. وبصفة عامة يقرر القانون الإنجليزي في إطار المحاكمات الموجزة Summary Trial ، والقابل للتطبيق على المخالفات ، أنه عندما يمنع القانون فعل ما ، ويقرر إباحته استثناء في بعض الأحوال ، فإنه يجب على المتهم أن يثبت أن فعله يدخل في دائرة الاستثناء .
ولا يغفل المشرع المصري الاستعانة بهذا النوع من القرائن. ومن ذلك ما تنص عليه المادة 276 عقوبات من أن "الأدلة التي تقبل وتكون حجة على المتهم بالزنا هى... "وجوده في منزل مسلم في المحل المخصص للحريم". ويستفاد من هذا النص أن قرينة الاشتراك في الزنا تتحقق من مجرد واقعة ضبط المتهم في منزل مسلم ، وفي المكان المخصص للحريم ، والتي إذا ثبتت تلك الواقعة افترض في حقه الاشتراك في الزنا.
22- القرائن المتصلة بالركن المعنوي :
يغلب على الكثير من قرائن الإثبات القانونية اتصالها بالركن المعنوي للجريمة. وهى في هذا الصدد لا تخص الجرائم التقليدية التي تمس القيم والمصالح الأساسية للمجتمع والتي قرر لها القانون عقاباً يتفق وجسامة المصلحة المحمية (الجرائم الطبيعية) ، وإنما تتصل في العادة بالجرائم المصطنعة التي هى من صنع المشرع كي يحمى بها مصلحة ما يراها جديرة بالحماية. مثال ذلك المخالفات الخاصة بالطرق والبيئة والتلوث والجرائم الضريبية والجمركية...الخ.
ويمكن أن نمثل لتلك القرائن بما جاء في المادة 399 من قانون الجمارك الفرنسي بشأن افتراض المصلحة في الغش. وكذا ما تقرره المادة 369/3 من القانون سالف الذكر من قرينة سوء النية. ومنها أيضاً قرينة المادة 21/1 من قانون الطرق التي تفترض مسئولية سائق السيارة عن مخالفات الوقوف في الممنوع.
وقد اشتهرت تلك القرائن في التشريع المصري ، ومنها ما كانت تقرره المادة 121/2 من قانون الجمارك من افتراض العلم بالتهريب إذا لم يقدم من وجدت في حيازته البضائع بقصد الاتجار المستندات الدالة على أنها قد سددت الرسوم الجمركية المقررة. وكذلك ما تقرره المادة 195 من قانون العقوبات من افتراض مسئولية رئيس التحرير عن الجرائم التي ترتكب بواسطة صحيفته تأسيساً على افتراض العلم بما تنشره جريدته . ومن قبيل ذلك أيضاً ما كان يقرره القانون رقم 48 لسنة 1941 في شأن قمع الغش والتدليس وتعديلاته ، قبل تعديله النهائي بالقانون رقم 281 لسنة 1994 ، من افتراض علم المتهم بالغش في حالة اشتغال المخالف بالتجارة أو كان من الباعة الجائلين ، ما لم يثبت حسن النية.
23- تعارض قرائن الإثبات مع أصل البراءة :
حاول البعض من الفقه تبرير اللجوء إلى قرائن الإثبات على سند من الصعوبات التي تكتنف الإثبات في بعض أنواع الجرائم ، والتي ينصب الإثبات فيها على بعض الوقائع السلبية. والحق أن هذه الاعتبارات لا يمكن قبولها ذلك أن معالجة هذه الصعوبات لا يتأتى بالافتئات على الشرعية الإجرائية أو الإخلال بافتراض البراءة الذي يعد أحد مكتسبات حقوق الإنسان في الفكر القانوني المعاصر.
على أن مراجعة أحكام القضاء على الصعيد الدولي والداخلي يكشف عن تشكك حول التعارض المطلق بين قرائن الإثبات ومبدأ أصل البراءة. فها هي المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان تحاول أن تجد مسعى للتوفيق بين الأمرين ، في الوقت الذي يقف القضاء الداخلي لبعض الدول ، وعلى رأسه المحكمة الدستورية العليا المصرية ، موقف العداء لهذا النوع من القرائن بحجة مناقضته لقرينة لبراءة.
فلقد اتيحت الفرصة لكل من اللجنة والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في عدة مناسبات للكشف عن مدى تطابق بعض النصوص التشريعية المتضمنة لقرائن الإثبات مع مبدأ افتراض البراءة المنصوص عليه في المادة 6/2 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. وفي البدء قررت اللجنة الأوروبية لحقوق الإنسان في قرارها الصادر بتاريخ 19 يوليه 1972 المتعلق بتجارة البغاء أو الدفع بأشخاص إلى هذه الممارسة أن نص المادة 6/2 من الاتفاقية – المتعلق بأصل البراءة - لا يضع حاجزاً أمام القرائن الفعلية أو القانونية المخصصة في المواد الجنائية. ولقد اعتبرت اللجنة أن قرينة الإثبات – المنصوص عليها في القانونين الفرنسي والإنجليزي – مقبولة وغير مخالفة لافتراض البراءة نظرا لطابعها العقلاني والغير قابل للدحض . كما سبق وأعلنت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان عن موقفها تجاه قرائن الإثبات عندما طرح عليها الأمر تجاه المادة 392/1 من قانون الجمارك الفرنسي المتضمنة لقرينة الغش في حق حائز البضاعة المغشوشة ، حيث قررت المحكمة أن "كل نظام قانوني يعرف قرائن الإثبات الواقعية والقانونية وأن الاتفاقية لا تمنعها من حيث المبدأ. غير أنه في هذا المجال تلتزم الدول الأعضاء بعدم تجاوز الحدود المعقولة ، آخذة بعين الاعتبار خطورة الموضوع مع الحفاظ على حقوق الدفاع" .
Toute système juridique connaît des présomptions de preuve de fait et de droit et que la convention n’y met pas obstacle en principe, mais en matière pénale oblige les Etats contractants à ne pas dépasser des limites raisonnables prenant en compte la gravité de l’enjeu et préservant les droit de la défense.
وهكذا فإن قضاء المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان يكشف عن الاعتراف بكل وضوح بقبول قرائن الإثبات ، مع تقييد تلك الأخيرة حتى لا تؤدي إلى انتهاك مبدأ افتراض البراءة ، ومن تلك القيود قابلية القرينة لإثبات العكس ، وعدم تجاوز هذه القرائن للحدود المعقولة ، أي تجاوزها للمبادئ الأساسية للمحاكمة العادلة وافتراض البراءة ، وأخيراً ضرورة الحفاظ على حقوق الدفاع.
وعلى النقيض من ذلك فقد اتخذت المحكمة الدستورية العليا في مصر موقفاً رافضاً تجاه قرائن الإثبات القانونية حيث قضت بعدم دستوريتها لأنها تتنافى مع مبدأ افتراض البراءة والذي يمثل أصلاً ثابتا يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها ويشمل الدعوى الجنائية في جميع مراحلها وعلى امتداد إجراءاتها ولا يجوز نقض هذا الافتراض بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها المحكمة وتتكون من جماعها عقيدتها . وهكذا جاء في قضائها أن "اختصاص السلطة التشريعية في مجال إنشاء الجرائم وتحديد عقوباتها لا يخولها التدخل في المجال الجنائي لفرض قرائن قانونية تنفصل عن واقعها ، ولا تربطها علاقة منطقية بالنتائج التي رتبتها عليها" . ولقد أكدت المحكمة على أن افتراض البراءة يقتضي أن تقوم النيابة العامة بإثبات أركان الجريمة بما في ذلك القصد الجنائي بنوعيه إذا كان متطلبا فيها وأنه لا يجوز أن تعتبر الواقعة ثابتة بغير دليل وهو لا يأتي معه أن يفترض المشرع ثبوت الجريمة بقرينه ينشئها ومن ثم فلا يجوز افتراض الركن المادي أو الركن المعنوي . وفي ضوء ذلك قضت المحكمة الدستورية بعدم دستورية نص المادة 121 من قانون الجمارك الصادر بقرار رئيس الجمهورية بقانون رقم 66 لسنة 1963 . كما قضت بعدم دستورية نص المادة 5 من المرسوم بقانون رقم 98 لسنة 1945 بشأن المتشردين والمشتبه فيهم وبسقوط أحكام المواد المرتبطة بها (م.6 ، 13 ، 15) وذلك على أساس عدم دستورية إدانة الشخص على أساس الاشتهار بارتكاب جرائم من نوع معين بما يخالف قرينة البراءة . وكذا قضي بعدم دستورية ما قرره القانون رقم 48 لسنة 41 في شان قمع التدليس والغش قبل تعديله بالقانون رقم 281 لسنة 1994 من افتراض العلم بغش المادة موضوع الجريمة أو فسادها في جانب المشتغلين بالتجارة ما لم يثبت حس النية ، بما يخالف الأصول العامة في الإثبات الجنائي .
وفي ذات الاتجاه قضي بعدم دستورية نص الفقرة الثانية من المادة 15 من قانون الأحزاب السياسية الصادر بالقانون رقم 40 لسنة 1977 والمعدل بالقرار بقانون رقم 36 لسنة 1979 فيما تضمنته من افتراض مسئولية رئيس الحزب مع رئيس تحرير صحيفة الحزب عما ينشر فيها عدواناً على قرينة البراءة . ولذات الأمر قضي بعدم دستورية الفقرة الأولى من المادة 195 من قانون العقوبات التي كانت تنشأ قرينة على العلم بما نشر بالجريدة في حق رئيس تحرير الجريدة أو المحرر المسئول إذا لم يكن ثمة رئيس تحرير .
ولدينا أن اتجاه المحكمة الدستورية العليا توجه محمود لما تمثله قرائن الإثبات القانونية من انتهاك واضح لمبدأ افتراض البراءة ، ولكونها تؤدي إلى بناء الإدانة على مجرد عجز المتهم عن إثبات ما يناقض القرينة ، وهى إدانة تبنى من ثم على الشك.
24- 2- مساهمة المتهم في تدعيم أصل البراءة :
إذا كان مبدأ افتراض البراءة في المتهم يعفي المتهم من الالتزام بإثبات براءته ؛ ، إلا أنه إذا أراد المتهم أن يساهم في الإثبات ، فإنه ينبغي أن يسمح له بذلك ؛ لأن هذه المشاركة تشكل ضمانة هامة لتأكيد البراءة المفترضة فيه. وهكذا أوصى المشاركون في المؤتمر الدولي الأول لحماية حقوق الإنسان وتحقيق العدالة في النظام القضائي الإسلامي – الذي انعقد بمقر المعهد الدولي العالي للعلوم الجنائية بسيراكوزا في الفترة من 28 على 31 مايو 1979 – بضرورة أن يكون للمتهم الحق في تقديم أدلة الإثبات وطلب سماع الشهود دفاعاً عن نفسه.
وتتخذ تلك المساهمة المتهم في الإثبات مظهرين : أولهما إيجابي يتمثل في الحق في الإثبات ، والثاني سلبي ويتمثل في حق المتهم في الصمت.
25- حق المتهم في الإثبات :
26- مضمون حق المتهم في الإثبات :
لا شك أن فكرة حق المتهم في الإثبات تعتبر من الأفكار الحديثة نسبياً. فمن الناحية التاريخية ظل دور المتهم في الإثبات معتبراً بمثابة الواجب لسنوات طويلة. ففي المجتمعات القديمة كان المتهم هو المكلف بإثبات براءته من الاتهام المنسوب إليه نظرا لسيادة قرينة الذنب أو الإثم ، وكان مجرد الاتهام يثير افتراضاً قويا بأن المتهم مذنب، وكان يفرض على المتهم أن يثبت براءته بتقديم شهود يحلفون اليمين على صدق قسمة بأنه برئ، وكان اليمين يؤيد ببعض التعاويذ الدينية ، وفى كثير من الأحيان كان العقاب يعتمد على التحكيم الإلهي ، والذي يتمثل في اتخاذ بعض الإجراءات الماسة بالحرية مثل التعذيب والمبارزة . وفى القانون الروماني ، ما أن حلت الإجراءات المكتوبة محل الإجراءات الشفوية أصبح من سلطة القاضي أن يطلب من المتهم تقديم إيضاح عن موقفه ، ومن ثم انقلب عبء الإثبات ليقع على عاتق المتهم، وأصبح الجرم مفترضا في حقه.
على أنه بتكريس مبدأ أصل البراءة في القانون الوضعي والمواثيق الدولية ذات الصلة بحقوق الإنسان ، تدعم حق المتهم في الإثبات برغبته الحرة في تقديم ما يقنع القاضي على عدم صحة الاتهام المنسوب له ، وانتفى عنه من ثم وصف الواجب. هذا الأخير الذي يقع على سلطة الاتهام.
والحق في الإثبات Droit à la preuve "مكنه تخول للخصم أن يقيم الدليل أمام القضاء بالطرق التي حددها القانون". وهو في مقام المحاكمات الجنائية مكنه تخول للمتهم - المفترض براءته - أن يقيم الدليل على عدم صحة الاتهام المنسوب إليه ؛ ومن ثم يجب الترخيص له بكافة التسهيلات، والوسائل اللازمة لإقناع القاضي بعدم سلامة الأدلة المقدمة ضده من سلطة الاتهام.
وحق المتهم في الإثبات بقية من بقايا النظام الاتهامي على المستوى الإجرائي ، هذا الذي تسود فيه المساواة بين المتهم وسلطة الاتهام ؛ والذي لا يمنح فيه أي امتياز لخصم على آخر ، بحيث يكفل لكل خصم الحق في أن يجمع الأدلة لكي يواجه بها خصمه في محاكمة علنية تدور فيها المناقشات شفاهة وبحضور الخصوم. ففي القانون الإنجليزي يتقرر للمتهم بواسطة محامية حق الاستعانة بمخبر خاص Privet detective كي يجرى تحريات موازية لتحريات الشرطة ، وفى الجلسة يقوم المحامى باستجواب الشهود تحت إشراف ورقابة القاضي الذي لا يملك - من حيث المبدأ – أية سلطة في بحث وإدارة الدليل .
هذا الحق بدأ يغزو بلدان النظام التنقيبي. فها هى إيطاليا تسير على نهج مقارب للقانون الإنجليزي منذ تطبيق قانون الإجراءات الجنائية الجديد عام 1989. فبعد سنوات من تبنى النظام الإجرائي التنقيبي في مرحلة التحقيق ، وتبنى النظام المختلط في مرحلة المحاكمة ، قلبت إيطاليا نظامها الإجرائي واتجهت صراحة صوب النظام الاتهامي. وهكذا نظم القانون الجديد ، المسمى قانون Vassalli مبدأ المساواة في الأسلحة بين النيابة العامة والمتهم ، وذلك بتقريره الحق لكل خصم في دليل الإثبات (م 190 إجراءات)، وتنظيمه لكيفية مباشرة هذا الحق بواسطة الدفاع عن المتهم، فالأخير له إمكانية القيام ببحث مواز عن الأدلة مع النيابة العامة .
وتقرير حق المتهم في الإثبات يهدف إلى جعل الأخير خصماً نشطاً في الدعوى الجنائية ، ومن هذه الزاوية فهو يضمن فعالية أصل البراءة ، والأخير يقترن دائما بوسائل إجرائية إلزامية من بينها - حسب تعبير المحكمة الدستورية العليا - حق المتهم في مواجهة الأدلة التي طرحتها النيابة العامة إثباتاً للجريمة ، وكذلك الحق في هدمها بأدلة النفي التي يقدمها ؛ ولذلك يتمثل هذا الحق في ضحد الأدلة القائمة ، وأيضا البحث عن أدلة النفي وتقديمها للمحكمة.
وننوه إلى أن هذا الحق لا يتعارض مطلقاً مع الدور الإيجابي للقاضي الجنائي في مجال الإثبات. لذ فإنه حتى في ظل التشريعات التي تنتمى إلى أنظمة العرف الإنجليزي ، وعلى الرغم من تمتع المتهم بالحق في دليل الإثبات ، فإن القاضي يمارس دوراً إيجابياً. ففي القانون الإنجليزي ، يستطيع القاضي أن يسمع شاهداً لم يذكره الخصوم ، عندما يرى أن سماعه ضروري لتحقيق العدالة ، أو عندما يكون لدى هذا الشاهد أقوال أو معلومات تفيد في كشف الحقيقة . وفى القانون الإيطالي يستطيع القاضي - وفقاً لنص المادة 507 إجراءات - في حالة الضرورة أن يقرر من تلقاء نفسه البحث عن أدلة جديدة .
27- نطاق ومظاهر حق المتهم في الإثبات :
في تحديد نطاق حق المتهم في الإثبات يثور التساؤل حول جواز حرمان المتهم من الحق في تقديم الدليل إذا لم يمارسه خلال فترة زمنية معنية. ولدينا أن حق المتهم في تقديم الدليل يظل قائما طالما بقى الاتهام ، ومتى لم يصدر حكم فاصل في موضوع الدعوى. وهنا يرى البعض أن الحق في تقديم الدليل يظل قائما طوال فترة المحاكمة ، ويعتبر هذا الحق وقاعدة البينة على من ادعى وجهان لعملة واحدة. وبالتالي فإن دليل الاتهام لا يهدم أصل البراءة إلا إذا وضع المتهم في ذات المستوى الخاص بالاتهام فيما يتعلق بالإثبات . ولعل هذا ما كشفت عنه المحكمة الدستورية العليا حين قضت بعدم دستورية المادة 123 فيما تضمنته من إلزام المتهم بأن يقدم خلال الخمسة أيام التالية لإعلان تكليفه بالحضور بياناً بالأدلة على صحة كل فعل أسنده إلى موظف عام. وفي هذا القضاء قالت المحكمة أن "سقوط الحق في تقديم الدليل عند الفصل في اتهام جنائي يصادم المفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارة فعالة، ويناقض بالتالي القواعد المبدئية التي لا تقوم المحاكمة المنصفة بدونها" .
وهنا يثور التساؤل أيضاً عن جواز تقديم المتهم لدليل غير مشروع كي يثبت براءته. وفي معرض الإجابة على هذا التساؤل ذهب البعض إلى تطلب مشروعية الدليل سواء في حالة الإدانة أو في حالة البراءة ، استناداً إلى نص المادة 336 من قانون الإجراءات التي تنص على أنه ، إذا تقرر بطلان أي إجراء فإنه يتناول جميع الآثار التي ترتب عليه مباشرة ؛ ذلك أن هذا النص لم يفرق بين دليل الإدانة ودليل البراءة. هذا فضلاً عن أن الطرق المشروعة تكفل إثبات البراءة ، ولا يجوز اقتضاء تلك البراءة على حساب إهدار مبدأ الشرعية ، وإلا أصبغنا المشروعية على البراءة التي تتأتى بالتزوير أو الشهادة الزور.
على حين ذهب جانب أخر من الفقه إلى وجوب التفرقة بين ما إذا كانت عدم مشروعية الدليل ترجع إلى أن وسيلة الحصول عليه تخالف قواعد الإجراءات الجنائية ، وبين ما إذا كانت هذه الوسيلة تعد جريمة جنائية ؛ وهنا يقبل الدليل غير المشروع فقط في الحالة الأولى لإثبات البراءة ، استنادا إلى أن البطلان الذي شاب وسيلة التوصل إلى الدليل إنما يرجع إلى فعل من قام بالإجراء الباطل ؛ ومن ثم لا يجوز للمتهم أن يضار من فعل لا يد له فيه. أما في الحالة الثانية والتي تنتج فيها الأدلة عن وسائل تعد جريمة جنائية - كالتزوير أو الشهادة الزور - فإنه يتعين إهدار هذا الدليل ، وعدم التعويل عليه ، استنادا إلى أن الوسيلة يجب أن تأخذ حكم الغاية. فإذا كانت الغاية مشروعة تعين أن تكون الوسيلة المؤدية إليها أيضا مشروعة. والقول بغير ذلك يحفر على ارتكاب الجرائم توسلاً لإثبات البراءة.
وبتفحص اتجاهات القضاء في هذا الصدد يستبين لنا أن محكمة النقض قد دعمت الرأي الأول ، بما مؤداه عدم اشتراط المشروعية في دليل البراءة ؛ ذلك أن هذه الأخيرة أصل في الإنسان. هذا فضلاً عن أن عدم التعويل على الدليل الغير مشروع إنما شرع لضمان حرية المتهم ، فلا يجوز أن ينقلب هذا الضمان ضده. فالمتهم له الحرية الكاملة في اختيار وسائل دفاعه بقدر ما يسعفه مركزه في الدعوى وما تحيط به نفسه من عوامل الخوف والحرص والحذر وغيرها من العوارض الطبيعية لضعف النفوس البشرية. وأن حق المتهم في الدفاع عن نفسه يعلو على حق الهيئة الاجتماعية التي لا يضيرها تبرئة مذنب بقدر ما يؤذيها إدانة برئ .
أما بصدد مظاهر حق المتهم في الإثبات ، فلنا أن نستبين وجود مظاهر لهذا الحق في المرحلة السابقة على المحاكمة ، إذ يجوز للمتهم أن يقدم طلباته ودفوعه إلى قاضى التحقيق ، ويفصل الأخير في هذه الطلبات والدفوع في خلال أربع وعشرين ساعة مبينا الأسباب التي استند إليها. كما يجوز للمتهم أن يستعين بخبير استشاري ، كما يجوز له أن يطلب سماع شاهد (م. 81 ، 82 ، 87 ، 110 ، 115 إجراءات جنائية). أما في مرحلة المحاكمة ، حيث تسود مبادئ النظام الاتهامي ، فإن للمتهم حق المشاركة في التحقيق بالجلسة من أجل دحض أدلة الاتهام ، كما أن له بصفة خاصة الاستعانة بشهود نفى ، وكذا الاستعانة بخبير استشاري.
ويجري تكليف شهود النفي بالحضور أمام محكمة الجنح بواسطة المتهم أو المسئول عن الحقوق المدنية وبذلك قبل الجلسة بأربع وعشرين ساعة غير مواعيد المسافة ، ويجوز حضور الشهود في الجلسة بناء على طلب المتهم ، وبغير إعلان سابق. وعند حضور الشهود يسألون بمعرفة المتهم أولا ، ثم بمعرفة المسئول عن الحقوق المدنية. ويجوز للمتهم أن يطلب إعادة سماعهم لإيضاح أو تحقيق الوقائع التي أدوا الشهادة عنها ، كما يجوز للمحكمة أن توجه لهم أية أسئلة تراها لازمة لظهور الحقيقة ، وتلتزم المحكمة بسماع شهود النفي المعلنين ، أما الشهود الذين يحضرون الجلسة بدون إعلان فتملك المحكمة سلطة تقديرية كاملة في قبول أو رفض سماع شهادتهم .
ولا يجوز للمحكمة أن ترفض سماع شهود النفي تأسيسا على أن أدلة الثبوت في الدعوى كافية ؛ لأنه لا يجوز الحكم مسبقاً على شهادة الشاهد ؛ إذ بناء على سماع هذه الشهادة قد يتغير وجه الرأي في الدعوى. على أنه يشترط في طلب سماع شهود النفي أن يكون ظاهر التعلق بموضوع الدعوى ، أي أن يكون هذا الطلب لازماً للفصل في موضوعها ، وإلا فيجوز للمحكمة أن ترفض هذا الطلب ، ولا تلتزم بالرد عليه صراحة ، كما إذا كان الغرض من طلب سماع شهود النفي المماطلة في إجراءات الدعوى. وللمحكمة مطلق السلطة في تقدير الشهادة بعد سماعها ، بما مؤداه أنه لا يجوز للمحكمة أن تقدر شهادة أحد الشهود قبل سماعها .
ومن بين مظاهر حق المتهم في الإثبات تقرير أحقيته – كما هو حق لباقي الخصوم - في الاستعانة بخبير استشاري من أجل مناقضة الرأي الفني للخبير المعين بواسطة المحكمة (م. 88 ، 292 إجراءات جنائية). وهنا يحق للخبير الاستشاري أن يطلب من المحكمة تمكينه من الإطلاع على أوراق ومفردات الدعوى ، والإطلاع على التقرير المقدم من الخبير المعين بواسطة المحكمة. ويحق للمتهم طلب حضور الخبير المعين لمناقشته بواسطة الخبير الاستشاري. على أن المحكمة تظل هى الخبير الأعلى في الدعوى ، ومن ثم تملك السلطة التقديرية الكاملة في المفاضلة بين تقارير الخبراء سواء المعينين أو الاستشاريين ، فالخبرة لا تخرج عن كونها دليل في الدعوى يخضع لتمحيص وقناعة محكمة الموضوع.
28- حق المتهم في الصمت :
إذا كان للمتهم حق المساهمة الإيجابية في الإثبات عن طريق الحق في تقديم الأدلة التي تدحض الاتهام المنسوب إليه فإنه يستطيع أيضاً أن يلتزم الصمت دون أن يفسر هذا الصمت على إنه اعتراف بالتهمة ، ومن ثم دليل على الإدانة. فحق المتهم في الصمت Droit au silence حق أصيل من حقوق المتهم ، الذي يجب أن يسمح له بمساحة حرة في تنظيم دفاعه كيفما يريد ، ولو بالصمت ، دون أن يستنج من هذا الصمت دليل على سلامة ما ينسب إليه من اتهام.
ولا شك أن حق المتهم في الصمت حق حديث النشأة ، ذلك أنه لم يكن مقرراً في العصور القديمة ؛ إذ كان إجبار المتهم على الكلام من الأمور المباحة قانوناً ولو تأتى ذلك باستخدام القسوة والتعذيب . كما أن صمت المتهم قد مر تاريخياً من اعتباره واجبا عليه إلى اعتباره حقا له ؛ إذ أن واجب الصمت كان معروفا في إنجلترا حتى سنة 1898. وفى جلسات المحاكمة كان المتهم لا يستطيع الإدلاء بأية أقوال لصالحه ، كما كان لا يجوز له أن يترافع كمتهم منذ البداية ولم يكن مسموحا له بالكلام ؛ إذ أن محامية كان هو الناطق بلسانه. ولكن اعتبار من عام 1898 كرس في القانون الإنجليزي حق المتهم في الصمت، وأصبح من حق المتهم أن يختار بين الشهادة بالنفي أو البقاء صامتاً .
على أن تقرير هذا الحق حين غزا القوانين والمواثيق الدولية قد تم بدلالات لفظية مختلفة ، ففي القانون الأمريكي ، وطبقا للتعديل الخامس للدستور الأمريكي عام 1791 ، يكون للمتهم الحق في البقاء صامتاً (قضية ميراندا عام 1966) ، وفى القوانين الإنجليزي والكندي يعبر عن هذا الحق "بالحق في أن لا يكره المتهم على الشهادة ضد نفسه". وفى القانون الإيطالي تم التعبير عن هذا الحق بأن "يكون لكل متهم الحق في السكوت ولا يساهم مطلقاً فيما يخص تجريمه". وفى القانون البرتغالي يكون للمتهم "الحق في عدم الإجابة على الأسئلة". وفي القانون الفرنسي للمتهم الحق في "عدم القيام أو الإدلاء بأي إقرار" (م. 114-1) ، "وعدم جواز سؤال المشتبه فيه إلا بموافقته" (م. 116-3 إجراءات فرنسي). وفى القانون المصري "لا يجوز استجواب المتهم إلا إذا قبل ذلك" (م 274 إجراءات مصري).
وهنا يثور التساؤل حول الطبيعة القانونية للصمت ، أي ما إذا كان صمت المتهم يمثل حقاً ، أم حرية ، أم رخصة. الواقع أن الصمت امتياز أساسي يمنح للمتهم في مواجهة المجتمع والسلطات القضائية ، يقف على ذات المستوى مع افتراض البراءة ، والحق في الاستعانة بمحام ، بحسبان أن الصمت يدخل ضمن دائرة حقوق الدفاع. وأياً ما كان المدلول الحقيقي لعبارات حق ، حرية ، رخصة ، فإن الصمت يمثل حقاً ، بحسبان أنه ينسب لشخص طبيعي كان أو معنوي ، وبحسبان أن من التشريعات ما كفل حمايته ضد خطر العدوان ، وبحسبان أنه لا يحتاج إلى تبرير من صاحب الحق فيه حال ممارسته ، شانه في ذلك شأن سائر الحقوق .
فالصمت – أياً كانت دوافعه - حق للمتهم ، يمنحه إمكانية اتخاذ موقف سلبي. ويتخذ الموقف السلبي شكل الامتناع عن الإجابة على الأسئلة الموجهة إليه من سلطة التحقيق ، وكذلك الامتناع عن المشاركة في المناقشات ، والتحقيق بالجلسة. فالقانون لا يجبر الشخص على اتهام نفسه بنفسه ، ولكن يكلف النيابة العامة بتقديم دليل الاتهام ، والقول بغير ذلك يهدر كل قيمة لأصل البراءة.
ولما كان الصمت حق ، فإنه يمنح المتهم ميزة الحق في الكذب Droit de mentir. هذا الأخير الذي يعد أحد مظاهر حرية المتهم في الدفاع عن نفسه ، تلك الحرية المقررة للمتهم سواء كان دفاعه صادقاً أم مشتملاً على أكاذيب. وهنا يأخذ الكذب أحد سبيلين : إما يتمثل في إدلاء المتهم بأقوال مناقضة للحقيقة ، وذلك على سبيل الخداع والتضليل ، أو إنكار واقعة حقيقة ، أو إنكار المساهمة في ارتكاب الجريمة بل وتحويل دفة الاتهام إلى شخص آخر. وإما يتمثل في الكذب نتيجة النسيان ، أو تعمد إخفاء واقعة جوهرية تتعلق بظروف الجريمة.
فالكذب يأخذ بالنسب للمتهم – خلافاً للشاهد - نفس أهمية الصمت من حيث اعتباره وسيلة للدفاع. فللمتهم أن يكذب متى كان ذلك سبيله إلى تقرير براءته ، ولا يكلف باتخاذ موقف معين تجاه الأدلة والشبهات القائمة ضده . والاعتراف للمتهم بالكذب يكون باعتباره حقاً ، وليس رخصة كما ذهب البعض ؛ لأنه يتقرر في وقت يكون فيه المتهم معتصماً بأصل البراءة، والقاضي يعلم جيدا أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته، وأنه لا يمكن الاعتماد على الكذب لتأسيس الإدانة. والقول بغير ذلك يهدر حق المتهم في أن يتخفى وراء أقوال كاذبة، وبالتالي حقه في الدفاع كما يريد، بالإضافة إلى أنه بوسع القاضي أن يطرح الأقوال الكاذبة إذا لم يقتنع بها. وما يؤكد أنه حق أن بعض التشريعات قد نصت صراحة على عدم عقاب المتهم إذا أدلى بأقوال كاذبة (م. 180/2 من قانون المحاكمات الجزائية العراقي ، م. 158 من قانون المحاكمات الجزائية الكويتي). وهو ما أكدته محكمة النقض المصرية بقولها إن "مسلك المتهم في الدفاع عن نفسه بكل السبل لا يصح اتخاذه دليلا على قيام موجب المسئولية ى حقه" .
وإذا كان تقرير حق المتهم في الصمت يجد قبولاً في مرحلة المحاكمة ، إلا أن بعض التشريعات قد دعمت هذا الحق كذلك في المرحلة السابقة على المحاكمة. ففي القانون الإنجليزي يجب على الشرطة وجهة التحري إحاطة المتهم بالحقوق التي يتمتع بها قانونا ، وليس لهذا الأخبار شكل محدد ، إذ قد يكون شفويا أو كتابياً. ويلتزم رجل الشرطة بإحاطة المتهم بأنه غير مكره على الإجابة على الأسئلة التي توجه إليه ، وأن كل قول له يمكن الاستناد إليه قضائياً . وكذا تقرر في القانون الأمريكي هذا الحق في المرحلة الشرطية. ففي عام 1966 كرست المحكمة العليا القواعد التي تطبق على استجواب الشرطة وذلك في قضية ميراندا Miranda ، ومنها وجوب إعلان المتهم بعبارات واضحة وغير غامضة في أن له الحق في البقاء صامتا ، وأن كل ما يقوله أو يدلى به يمكن أن يستخدم ضده أمام المحكمة ، وإذا فضل المتهم البقاء صامتاً تعين وقف الاستجواب على الفور .
هذا الأمر بذاته قد تقرر في قانون الإجراءات الجنائية الإيطالي الجديد المطبق منذ عام 1989 ، حيث وضع هذا القانون تصوراً جديداً لاستجواب المتهم بمعرفة الشرطة وذلك تحت تأثير تحول هذا القانون من النظام التنقيبي إلى النظام الاتهامي على غرار النظام الإنجليزي. ووفقاً للمادة 350 من هذا القانون لا يجوز استجواب المتهم بواسطة الشرطة القضائية إلا بتوافر شرطين : الأول احترام الضمانات المنصوص عليها في المادة 64 من قانون الإجراءات والتي تقضي بتأكيد حق كل شخص يستجوب في عدم الإجابة على الأسئلة ، أي صمته وحقه أن يخبر مقدماً بهذه الميزة. وتستلزم المادة 64 ضرورة إخبار المتهم بحقه في البقاء صامتاً ولو كانت الجريمة في حالة تلبس. وتلتزم أيضاً بهذا الإخبار النيابة العامة. ومخالفة ذلك يترتب عليه بطلان ويكون إخبار المتهم بالحق في الصمت والمحامي خلال كل استجواب وليس الاستجواب الأول فقط وذلك من أجل تحقيق فعالية الحق في الصمت واحترام إرادة المتهم .
وقد اعترف المشرع الفرنسي بحق المتهم في الصمت في مرحلة جمع الاستدلالات بنص صريح بعد تعديل المادة 63/1 من قانون الإجراءات الجنائية بموجب القانون رقم 516 لسنة 2000 الصادر في 15 يونيو 2000 حيث نص التعديل الجديد على أنه يتعين إخبار الشخص المحتجز بوليسياً بحقه في عدم الإجابة على الأسئلة التي توجه إليه من المحققين. وكذا يطبق الحق في الصمت في مرحلة التحقيق الابتدائي وفقا للمادة 116/3 والمتعلقة بالحضور الأول أمام قاضي التحقيق ، حيث تنص هذه المادة على عدم جواز استجواب محل الملاحظة (المتهم) إلا برضاه.
أما على مستوى القانون المصري فليس هناك من نص يقرر حق المتهم في الصمت في مرحلة ما قبل المحاكمة. وإذا كانت المواد 29 ، 35 إجراءات جنائية تعطي الحق لمأمور الضبط القضائي في سؤال المشتبه فيه وكل من لديه معلومات عن الجريمة ، وتجيز له أن يستدعي الأشخاص المشتبه فيهم فإن رفضوا الحضور جاز له أن يستصدر أمرا من النيابة العامة بضبطهم وإحضارهم ، إلا أنه ينعقد الاتفاق على أنه يجب عند سماع أقوال المقبوض عليه أن يسمح له مأمور الضبط بالإدلاء بما يشاء من أقوال بحرية تامة ودون تأثير عليه ، بحيث إذا رفض المشتبه فيه الإجابة على الأسئلة فلا يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يكرهه على الإجابة لأن له الحرية الكاملة في الإجابة أو عدم الإجابة ، فهو غير ملزم بالكلام . هذا الأمر بذاته ينطبق في مرحلة التحقيق الابتدائي- رغم عدم وجود نص صريح - ، تأسيساً على حظر المشرع تحليف المتهم اليمين ، وحمايته من الإكراه حال إدلائه بأقواله (م.302/2 إجراءات).
وتكاد تجمع التشريعات على عدم جواز استخلاص القاضي من صمت المتهم شيئاً في غير صالحة. وبدلالة أخرى ، لا يجوز للمحكمة أن تعتبر الصمت دليلاً على الاعتراف بالذنب أو صحة الاتهام. ففي القانون الكندي لا تستطيع سلطة الاتهام ولا المحكمة التعليق على صمت المتهم أمام هيئة المحلفين ونفس الأمر في القانون الأمريكي ومع ذلك يجوز للمتهم أو مدافعه توجيه المحلفين بأن صمته يجب ألا يؤدي إلى قرينة سلبية ضده. ويقضي القانون البرتغالي بهذا الحكم في صراحة إذ تنص المادة 343/1 من قانون الإجراءات الجنائية على أن صمت المتهم لا يمكن أن يضر به. وهذا ما استقر عليه قضاء النقض المصري حيث قضي بأن "سكوت المتهم لا يصح أن يتخذ قرينة على ثبوت التهمة ضده" .
ويقرر البعض بحق أنه وإن كانت القاعدة تقضي بأن القاضي لا يستطيع أن يتخذ من صمت المتهم قرينة على ثبوت التهمة ضده ، إلا أن مبدأ حرية القاضي الجنائي في الاقتناع يحد من فاعلية مباشرة الحق في الصمت ، ذلك أن القاضي يستطيع أن يحتفظ داخلياً بدلالة عكسية من هذا الصمت دون أن يفصح عنها ويكون لها أثر بلا شك على قراره .
29- ثانياً : أثار المبدأ حال تقييم أدلة الإثبات :
استقر حديثنا على أن افتراض البراءة يعفي المتهم من عبء إثبات براءته ، بحيث تتحمل النيابة العامة بعبء إثبات الاتهام عن طريق تقديم الأدلة على الإدانة. على أن هذه الأخيرة لا تتأتى لمجرد تقديم الدليل ، بل تعلق على قناعة القاضي قناعة يقينية بها ، بحيث إذا ثار شك حول دلالتها أو قوتها الاقناعية تعين القضاء بالبراءة. فالأحكام الجنائية يجب أن تبنى على الجزم واليقين لا على الظن والاحتمال. وهكذا فإن أصل البراءة يوجب اعتماد اليقين القضائي كأساس للحكم بالإدانة ، كما يوجب اعتماد الشك في الاتهام سنداً للبراءة.
30- أ : اليقين القضائي أساس الإدانة :
البراءة أصل مفترض في المتهم ، وهذا الأصل لا يجوز نقضه بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها المحكمة وتتكون من جماعها عقيدتها ، بما يقطع بأن اليقين القضائي هو المعول عليه حال تقرير الإدانة. وهذا اليقين هو سبيل المحكمة في تكوين عقيدتها. تلك العقيدة التي يكونها القاضي الجنائي بحرية الكاملة من أي دليل يطمئن إليه ضميره ، طالما أن له أصل في الأوراق. وللقاضي وحده يرجع تقدير قيمة الدليل ، بحيث لا يحق مطالبته بالأخذ بدليل دون الآخر ، وهو ما يعني في النهاية أن القاضي يعتمد في قضائه على صوت ضميره ويلبي نداء إحساسه وشعوره وتقدير لأدلة الدعوى. وهذا ما كرسته المادة302/1 من قانون الإجراءات الجنائية حيت نصت على أنه "يحكم القاضي في الدعوى حسب العقيدة التي تكونت لدية بكامل حريته" ، كما كرسته المادة 304 إجراءات جنائية حين قررت أنه "إذا كانت الواقعة غير ثابتة...تحكم المحكمة ببراءة المتهم". فالمبدأ إذا هو حرية القاضي في الإثبات الجنائي وحريته في تكوين عقيدته L’intime conviction du juge ، الأمر الذي يعد هجر لنظام الأدلة القانونية Preuve légale ، الذي تحدد فيه للقاضي سلفاً الأدلة التي يمكنه بمساعدتها معرفة الحقيقة مع تقدير قيمة كل منها في الإثبات .
ولكن حرية المحكمة في الاقتناع لا تعني التحكم ولا تنبي على الفوضى في التقدير فلابد أن يكون الاقتناع مبنياً على حجج قطعية الثبوت وتفيد الجزم ، أي مبنياً على اليقين . ويقصد باليقين هنا ليس اليقين الشخصي للقاضي فقط ، وإنما هو اليقين القضائي الذي يتفق مع العقل والمنطق والذي يمكن أن يصل إليه الكافة من خلال أدلة الدعوى. فلليقين جانبين ، أحدهما شخصي والأخر موضوعي. واليقين الشخصي هو ما استقر في وجدان القاضي وارتاح إليه ضميره ، أما الجانب الموضوعي فهو اليقين القضائي المستمد من الأدلة التي أقنعت القاضي والتي يمكن أن تفرض نفسها على الكافة ، حتى لا يكون عمل القاضي ابتداعاً للوقائع وانتزاعا من الخيال . يفهم من جماع ذلك أن القاضي يسعى للوصول للحقيقة القضائية دون الحقيقة المطلقة ، تلك التي لا يعلمها إلا لله عز وجل ، ذلك أن الإثبات في المواد الجنائية ير على وقائع مادية ونفسية وليس على تصرفات قانونية كما هو الحال في المواد المدنية .
وإذا كانت حرية القاضي في الاقتناع لا تعني التحكم أو الفوضى في التقدير ، فكان من الواجب أن يتقيد القاضي بمجموعة من الضوابط ، الأمر الذي يكفل توافر فكرة المحاكمة القانونية التي أوجبها الدستور كأداة لهدم قرينة البراءة المفترضة في المتهم. ومن بين تلك الضوابط ضرورة أن تكون الأدلة التي استقى منها القاضي اقتناعه مقبولة في العقل والمنطق ، وأن تكون هذه الأدلة قد طرحت على بساط البحث والمناقشة في الجلسة بحيث يتمكن الخصوم من الرد عليها ، وأن يكون المتهم قد تم سماعه وتحقيق طلباته المنتجة في الدعوى وذلك على قدم المساواة التامة مع الاتهام وأن تكفل المحكمة للمتهم الحق في الدفاع. هذا ويجب أن يكون الحكم الصادر بالإدانة قد تكونت عقيدة القاضي فيه بناء علي دليل مشروع ، لأن الحرية التي يمارسها القاضي في تكوين اقتناعه يجب أن تتم في إطار المشروعية وتحت مظلة القانون. وفي النهاية يلتزم القاضي بتسبيب حكمه حتى يكون مرآة لمنطق قضائي سليم ، وحتى يكمن إعمال الرقابة على الشق الموضوعي لليقين القضائي .
31- 2- : الشك في الاتهام سند للبراءة :
النتيجة الطبيعية لتطلب اليقين القضائي في الإدانة ، هى وجوب تفسير الشك لصالح المتهم In dublio pro reo ، ذلك أن هذا رجوع للأصل العام في الإنسان ، ألا وهو البراءة. وتعني قاعدة الشك يفسر لمصلحة المتهم أنه عندما لا يقتنع القاضي اقتناعاً يقينياً تاماً بإدانة المتهم ، وكذلك عندما يقتنع بأن الأدلة التي قدمتها النيابة العامة غير كافية للإدانة ، فإنه يتعين عليه أن يقضي ببراءة المتهم إذ لا يستطيع أن يحكم بالإدانة إلا إذا كانت أدلة الاتهام أكيدة ومقنعة على سبيل الجزم واليقين. فكل شك في الاقتناع يجعل الحكم بالإدانة على غير أساس لأن إمكانية العكس مازالت محتملة.
وقاعدة تفسير الشك لصالح المتهم ترد على الشك الذي يكتنف الوقائع ، كما ترد على الشك الذي يتعلق بتفسير وتطبيق القواعد القانونية. ويترتب على ذلك أنه لا يشترط أن يبنى القاضي حكمه بالبراءة على أدلة ن بل يكفي أم يتشكك القاضي في أدلة الإثبات المقدمة إليه ، أو حتى في أدلة النفي . وهكذا يختلف الحكم بالإدانة عن الحكم بالبراءة فيما يتعلق ببيان الأدلة التي بني عليها ، فالحكم بالإدانة يجب أن يشتمل على بيان الواقعة المستوجبة للعقوبة ، والظروف التي وقعت فيها ، وأن يشير إلى نص القانون الذي حكم بموجبه (م 310 إجراءات). ففي جميع الأحوال يتعين على قاضي الموضوع أن يبين في حكمه بالإدانة الأدلة التي استمد منها اقتناعه اليقيني ؛ أما حكم البراءة فإنه يكفي فيه مجرد إبداء الرأي حول أدلة الإثبات دون أن تلتزم المحكمة بالتدليل القاطع على البراءة ، لأنها عودة للأصل في الإنسان .
غير أن تطبيق تلك القاعدة يظل مشروطاً بوجوب اشتمال الحكم الصادر بالبراءة على ما يفيد أن المحكمة قد محصت الدعوى ، وأحاطت بظروفها وملابساتها ، وبالأدلة التي قام عليها الاتهام ، كل ذلك عن بصر وبصيرة ، ووازنت بين هذه الأدلة وأدلة النفي ورجحت لديها دفاع المتهم أو ساورها الشك في صحة أدلة الإثبات .
الفصل الثاني
الشرطة والشرعية الإجرائية
32- تمهيد وتقسيم :
الشرطة برجالاتها تشكل – فوق دورها في القيام بالضبطية الإدارية (ومثالها الدوريات التي تسيرها الشرطة لحفظ الأمن ، وإجراءات التحقق من شخصية الأفراد أو ما يقال له الاستيقاف) - ركناً ركيناً من عناصر الضبطية القضائية Police judiciaire ، وذلك بحسب ما يستبين لنا من قراءة نص المادة 23 من قانون الإجراءات الجنائية ، التي تولت تعداد مأموري الضبط القضائي ، سواء في دوائر اختصاصهم ، أو في جميع أنحاء الجمهورية .
فما أن تقع الجريمة حتى تبدأ الدولة في مباشرة مهمتها في الكشف عن مرتكبيها وجمع التحريات والاستدلالات التي تلزم لتحقيق الدعوى الجنائية الناشئة عنها ، وتلك هى مهمة الضبطية القضائية. وهكذا نصت المادة 21 من قانون الإجراءات الجنائية على أن "يقوم مأمورو الضبط القضائي بالبحث عن الجرائم ومرتكبيها وجمع الاستدلالات التي تلزم للتحقيق في الدعوى.
والشرطة بحسبانها عنصر في الضبط القضائي لا تباشر مهمتها خارج سياج القانون ، بل يرتبط عملها ارتباطاً عضوياً مع الأهداف العامة للإجراءات الجنائية في كشف الحقيقة من أجل إنزال العقاب. وهكذا فإن الوسائل المستخدمة في الكشف عن الجرائم ومرتكبيها ليست جميعها مباحة ، بل إن هناك حدوداً تقف عندها الشرطة القضائية ، تلك الحدود المتمثلة في حماية الحقوق الأساسية للإنسان. وهنا يظهر ضرورة التزام رجالات الشرطة القضائية بالشرعية الإجرائية ، بحسبانها الأداة التي ترسم بوضوح الدور الذي يباشرونه ، والحدود التي تفصل العمل المنوط به عن المساس بالحقوق والحريات الفردية .
وبمراجعة الشرعية النصية التي تحكم عمل الشرطة القضائية يستبين لنا أن المشرع قد أناط بعناصر الضبط القضائي مهمة القيام بأعمال الاستدلال كإجراءات تحضيرية وتمهيدية للدعوى الجنائية تهدف إلى جمع المعلومات في شأن جريمة ارتكبت كي تتخذ سلطات التحقيق بناءً عليها القرار فيما إذا كان من الملائم تحريك الدعوى الجنائية (المبحث الأول). غير أن المشرع قد منح لعناصر الضبطية القضائية بعض السلطات الاستثنائية في التحقيق الابتدائي ، وذلك إما لتوافر أحد أحوال التلبس بالجريمة ، وإما ندباً للقيام بعمل من أعمال التحقيق من السلطة القائمة به (المبحث الثاني). وفي كلا الحالتين يتوجب التزام مأمور الضبط بحدود الشرعية الإجرائية ، التي تبدو على هذا النحو ضابط لاحترام الحريات الشخصية ، سواء حال مباشرة أعمال الاستدلال ، أو حال إسناد عمل من أعمال التحقيق لعنصر من عناصر الضبط القضائي.
المبحث الأول
الشرعية الإجرائية أداة تنظيم دور الشرطة القضائية في الاستدلال
33- أولاً : التعريف بمرحلة الاستدلالات وبيان أهميتها :
مرحلة الاستدلال هى تلك المرحلة التي تسبق مرحلة التحقيق الابتدائي ، أي المرحلة السابقة علي تحريك الدعوى الجنائية. ومن ثم فهى إجراءات خارجة عن معنى الخصومة الجنائية ، فهى لا تعدو إلا أن تكون تمهيد للدعوى الجنائية ، بغية البحث عن الجرائم ومرتكبيها وجمع الاستدلالات التي تلزم للتحقيق والدعوى (م. 21 إجراءات جنائية). وهكذا يمكننا تعريف إجراءات الاستدلال بأنها "مجموعة الإجراءات السابقة علي تحريك الدعوى الجنائية ، غايتها جمع المعلومات الأولية حول وقوع الجريمة ، حتى تستطيع النيابة العامة في ضوئها اتخاذ القرارات الملائمة بشأن الدعوى الجنائية". وهذا ما تؤكد عيه محكمة النقض حين قالت "إن إجراءات الاستدلال أياً كان من يباشرها لا تعتبر من إجراءات الخصومة الجنائية ، بل هي من الإجراءات الأولية التي تسلس لها سابقة علي تحريكها" . وهذه الإجراءات تغاير بهذا المعنى إجراءات التحقيق الابتدائي ، الذي يمثل المرحلة الأولي من مراحل الدعوى الجنائية. مؤدى ذلك أن الدعوى الجنائية لا تتحرك إلا بالتحقيق ، ولا تعتبر أنها قد بدأت بأي إجراء من إجراءات الاستدلال ، كما وأن الدليل بمعناه القانوني هو ما يستمد من التحقيق ، أما أعمال الاستدلال فلا يستمد منها أدلة قانونية ، بحسبان أن التحقيق الابتدائي يباشر طبقاً لأوضاع قانونية معينة لا تتوافر في جمع الاستدلالات .
ولا يجب أن يفهم من ذلك عدم أهمية مرحلة الاستدلال ، فالحق أن لتلك المرحلة أهمية عملية لا يمكن إنكارها ، بحسبان أن الاستدلال يسمح للنيابة العامة أن تتصرف في ضوء ما ورد بمحضر جمع الاستدلالات ، إما بحفظ الأوراق في كثير من البلاغات والشكاوى التي لا تستند إلي أساس صحيح ، والتي لا يؤدي تحقيقها إلا إلي إصدار أمر بالأوجه لإقامة الدعوى أو البراءة ؛ وإما بتحريك الدعوى الجنائية مباشرة دون اللجوء إلي التحقيق في القضايا البسيطة (م. 63 إجراءات جنائية) ، الأمر الذي يتيح لسلطات التحقيق التفرغ الكامل للقضايا الهامة. ومن ثم فإن الاستدلال يقوم بدور هام في سرعة الإجراءات ، وتسهيل مهمة التحقيق الابتدائي والمحاكمة في الحالات التي يجوز فيها رفع الدعوى دون تحقيق. كما أن سلطة التحقيق لا يمكنها إصدار أمر بالقبض على الأشخاص أو تفتيشهم إلا بناءً على تحريات جدية يقوم بها رجال الضبطية القضائية وإلا وقع أمر القبض والتفتيش باطلاً . هذا فضلاً عن أن لأعمال الاستدلال أهميتها في إنهاء الدعوى الجنائية بغير محاكمة بما يوفر الوقت والمال ، وذلك في الحالات التي يسمح فيها بالصلح أو إصدار الأوامر الجنائية . هذا وقد تعول المحكمة في تكوين عقيدتها على ما جاء بمحاضر جمع الاستدلالات من معلومات باعتبارها معززة لما ساقته من أدلة ما دامت تلك التحريات قد عرضت على بساط البحث بالجلسة . كما يمكن للمحكمة أن تستند إلى اعتراف المتهم الوارد في محضر هذه الاستدلالات ولو عدل عنه بعد ذلك
ومع التقدير الكامل لتلك الأهمية ، إلا أن البعض من الفقه قد عاب على تلك المرحلة خطر المساس بحريات الأفراد (وبصفة خاصة إجراءات التحفظ علي المشتبه فيهم ، التي يتعرض فيها الأفراد إلي إهدار للضمانات المقررة). ذلك أن البحث عن الأدلة يتولاه رجال الشرطة الذين قد لا يهتمون إلا بتحقيق فعالية تدخلهم في الكشف عن المجرمين ، الأمر الذي يجعلهم لا يحرصون علي حماية حريات الأفراد. هذا فضلاً عن أن أعمال الاستدلال لا تحاط بالضمانات والشكليات التي يتطلبها القانون في إجراءات التحقيق.
ومع سلامة الحجج التي قال بها هذا الرأي ، إلا أن ذلك لا ينال من قيمة هذه المرحلة. فما يحدث أثناء القيام بأعمال الاستدلال لا يرجع إلى عيوب في أعمال تلك المرحلة بقدر ما يعود إلى إساءة استعمال السلطات الممنوحة لمأمور الضبط القضائي خلالها. فإجراءات التحقيق الابتدائي تنطوي هى الأخرى علي مساس بحريات الأفراد ، وبصفة خاصة حال تقرير حبس المتهم احتياطياً ، ومع ذلك لم يقل أحد بعدم ضرورة أعمال التحقيق. وهنا يتوجب القول بضرورة تفعيل الرقابة التي تمارسها النيابة العامة علي أعمال الاستدلال ، خاصة حال اتخاذ إجراءات التحفظ علي المشتبه فيهم ، فضلاً عن ضرورات الاهتمام بتأهيل وإعداد مأموري الضبط القضائي ، وتعميق دراسات حقوق الإنسان في مراحل الإعداد الشرطي.
34- ثانياً : المبادئ الحاكمة لأعمال الاستدلال :
نظم المشرع المصري أعمال الاستدلال في المواد 21 وما بعدها من قانون الإجراءات الجنائية. وبمطالعة الشرعية النصية الحاكمة لتلك الأعمال يبين لنا أن هناك جملة من المبادئ التي تخضع لها أعمال الاستدلال أهمها : مشروعية وسائل الاستدلال ، وعدم المساس بحريات الأفراد ، وعدم تقيد مأمور الضبط القضائي بشكليات وضمانات التحقيق الابتدائي ، وتحرير محضر الاستدلالات ، وأخيراً عدم اشتراط حضور المحامي أثناء مباشرة هذه الأعمال.
35- أ : مشروعية وسائل الاستدلال :
إذا كان المشرع لم يحدد الوسائل التي يتبعها مأمور الضبط القضائي في جمع الاستدلالات ، فذلك يعني حق اللجوء إلى كل وسيلة من شأنها الكشف عن الجريمة ومرتكبها ، شريطة أن تكون تلك الوسيلة مشروعة وتحقق غاية الاستدلال ، وإلا وصمت الأدلة المتخلفة عنها بالبطلان .
وبناء علي ذلك يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يتبع أي إجراء أو يستعمل أية وسيلة يراها مناسبة للتحري عن الجرائم بقصد اكتشافها ، ولو اتخذ في سبيل ذلك التخفي وانتحال الصفات حتى يأنس الجاني له ويأمن جانبه وليتمكن من أداء واجبه ، ما دام أن إرادة الجاني تبقي حرة غير معدومة . كما أن لمأمور الضبط القضائي أن يختار لمعاونته في مهمته المرشدين أو المخبرين السريين لجمع المعلومات التي يحتاج إليها ولو أبقى سراً مجهولاً . كما أجاز القضاء الاستعانة بالكلاب البوليسية في عملية عرض المتهم للإستعراف عليه . كما أجاز البعض تصوير المتهم من قبل الشرطة من أجل عرض صورته على المجني عليه والشهود فقط ، شريطة أن يتم ذلك في مكان عام كي لا يقع الفعل تحت طائلة المادة 309/2 عقوبات . كما أن لرجال الضبطية القضائية الاستعانة بوسائل التكنولوجيا الحديثة ، ومنها أساليب الاستعراف بطريق فحص الحامض النووي DNA ، في إتمام مهام الاستدلال التي يكلفون بها .
غير أنه لا يجوز لمأمور الضبط ارتكاب جريمة بقصد الكشف عن جريمة أخري ، مثل استراق السمع والمشاهدات التي تجري خلسة داخل المساكن . كما يحظر اللجوء إلي التحريض علي ارتكاب الجرائم من أجل ضبطها وتسهيل الاستدلال علي مرتكبيها .
36- ب : عدم جواز المساس بالحرية الفردية :
الأصل أن إجراءات الاستدلال لا تمس الأشخاص في حرياتهم ، ذلك أن السلطات القائمة بالاستدلال لا تملك أي سلطة قهر وإكراه لإلزام الأشخاص بالخضوع للأعمال التي تتضمنها الاستدلالات . وعلي ذلك يجوز للأفراد أن لا يلبوا دعوة مأمور الضبط القضائي بالحضور ، وإذا حضروا فإنه لا يستطيع إجبارهم علي الإدلاء بأقوالهم ، كما أنه لا يجوز لمأموري الضبط القضائي أن يفتش مسكنا إلا برضاء حائزه . وبناء علي ذلك قضي بأن التفتيش الذي يقوم به رجال الشرطة في أثناء البحث عن مرتكبي الجرائم وجمع الاستدلالات الموصلة إلي الحقيقة ، ولا يقتضي إجراؤه التعرض لحرمة المسكن ، إجراء غير محظور . كما أنه لا يجوز لمأمور الضبط القضائي دخول الأماكن الخاصة بدون إذن قضائي رعاية لحرمتها وفق ما تقضي به المادة 41 من الدستور. وتجيز المادة 45 من قانون إجراءات الجنائية لمأمور الضبط القضائي دخول الأماكن الخاصة بالأفراد إذا كانت هناك حالة طلب مساعدة من الداخل ، أو في حالة الحريق أو الغرق ، أو ما شابه ذلك ، تأسيساً كل ذلك على فكرة الضرورة. كما أن القضاء قد أباح لمأمور الضبط القضائي دخول الأماكن الخاصة دون إذن من أجل القبض على متهم متواجد فيه ، تنفيذاً لأمر صادر بضبطه وإحضاره ، بحسبان أن ذلك مجرد عمل مادي تقتضيه ضرورة تعقب المتهم أينما وجد .
37- ج : عدم التقيد بشكليات التحقيق الابتدائي :
لم يخضع المشرع الأعمال المتخذة في مرحلة الاستدلالات لذات الشكليات التي يستلزم القانون توافرها في التحقيق الابتدائي. فالشهود والخبراء لا يؤدون اليمين القانونية ، (م. 29/2) ، ولا يصطحب مأمور الضبط القضائي معه كاتباً وقت مباشرته إجراءات الاستدلالات ليقوم بتدوين ما يقوم به من إجراءات. كما لا يتقيد مأمور الضبط القضائي بالإجراءات التي يتطلبها القانون في الحصول علي الدليل القانوني ، ولا يلتزم بإتباع أسلوب معين في مرحلة التحري . ولعل هذا الذي أنتج فكرة عدم صلاحية الأعمال الاستدلالية التي يقوم بها مأمور الضبط القضائي لإنتاج دليل قانوني يعول عليه في تقرير الإدانة . بيد أن تلك الأعمال تصلح "نواة لدليل" ، متى محصت من قبل المحكمة .
38- د : ثبوت أعمال الاستدلال بالكتابة :
أوجبت المادة 24/2 من قانون الإجراءات الجنائية على مأمور الضبط القضائي أن يثبت جميع الإجراءات التي يقوم بها في محاضر موقع عليها منهم ، يبين بها وقت اتخاذ الإجراء ومكان حصوله. ويجب أن تشمل تلك المحاضر زيادة علي ما تقدم توقيع الشهود والخبراء الذين سمعوا ، وترسل المحاضر إلي النيابة العامة مع الأوراق والأشياء المضبوطة. وترجع عله استلزام الكتابة عن طريق تحرير محضر في إمكانية مراجعة الإجراءات كي يتسنى التحقق من اتخاذها وفق موجبات القانون ، وليتسنى بعد ذلك الاحتجاج بما تتضمنه.
ويجب أن يشتمل المحضر على عدد من البيانات منها : إثبات الإجراءات التي يتخذها مأمور الضبط القضائي ، ووقت اتخاذها ، ومكانها. ويجب أن تشمل المحاضر فضلاً عن ذلك توقيع محرر المحضر ، وتوقيع الشهود والخبراء الذين سمعوا. ويتعين القول بأن ما نص عليه القانون من تحديد للبيانات التي يجب أن يشتملها محضر جمع الاستدلالات لم يرد إلا علي سبيل التنظيم والإرشاد . على أنه قد قضي بوجوب توقيع تلك المحاضر في جميع الأحوال من مأمور الضبط القضائي .
وهنا يثور التساؤل حول مدي ترتيب البطلان كجزاء على عدم تحرير محضر الاستدلالات علي الإطلاق. هنا يتجه قضاء النقض إلى رفض تقرير البطلان حال إغفال تحرير محضر الاستدلالات. فقد قضي بأن القانون وأن كان يوجب أن يحرر مأمور الضبطية القضائية محضرا بكل ما يجربه في الدعوى من إجراءات قبل حضور النيابة إلا أن إيجابية ذلك ليس إلا لغرض تنظيم العمل وحسن سيرة .
ولدينا أنه يجب تقرير البطلان كجزاء على عدم تحرير محضر جمع الاستدلالات. ذلك أن إجراءات الاستدلالات يمكن للمحكمة الاستناد إليها ولو علي سبيل الاستئناس ، لذلك يجب أن تدون حتى تكون لها حجيتها علي الأمر والمؤتمر ، خاصة أنه قد تطول المدة بين جمع التحريات وبين الإدلاء بها أمام المحكمة . ويتصل بذلك ضرورة النص – كما هو الحال بالنسبة للنيابة العامة وقاضي التحقيق أو مأمور الضبط القضائي حال ندبه للتحقيق – على ضرورة أن يحضر مع مأمور الضبط القضائي وقت مباشرة جمع الاستدلالات المنوطة به كاتب لتحرير ما يجب تحريره من المحاضر. وبهذا الرأي أخذت محكمة النقض في بعض أحكامها .
39- هـ : حقوق الدفاع أثناء جمع الاستدلالات :
على خلاف مرحلة التحقيق الابتدائي (م. 77/3) لم يوجب القانون المصري علي مأمور الضبط القضائي السماح للمشتبه فيه باستصحاب محام معه أثناء مرحلة جمع الاستدلالات. وتكمن علة هذه التفرقة في أنه لا يتولد عن مرحلة الاستدلال دليل ، ومن ثم فلا حاجة إلي توفير الضمانات التي يقتضها نشوء الدليل ذلك أن حصيلة الاستدلال مجرد معلومات تقتصر إلي التحديد والتقييم. كما أن الحاجة إلي الدفاع وضماناته لا تنشأ إلا إذا ثبتت صفة المتهم ، وهذه الصفة لا تثبت إلا بأول إجراء من إجراءات التحقيق ، أما في مرحلة الاستدلال فإن الشخص مازال مشتبها فيه ، ومن ثم لا حاجة إلي الدفاع الذي يقتضيه أعمال التحقيق ، فلا يجوز له إذا التمسك باصطحاب محامية في هذه المرحلة. ولهذا قضي بأن دفع المتهم يبطلان محضر جمع الاستدلالات بسبب أن مأمور الضبط القضائي منع محامية من الحضور أثناء تحريره ، هذا الدفع لا يستند إلي أساس من القانون .
ويذهب البعض من الفقه إلي أن الأصل أن للمتهم الاستعانة بمحام أثناء إجراء الاستدلالات قبله لأنها تمثل جزءً من التحقيق الابتدائي بالمعني الواسع ، وللمحامي حق حضور هذه الاستدلالات فلا يجوز منعه من حضورها متى كان المتهم حاضرا بالأقل لأنه مع المتهم يمثلان شخصا وحدا. هذا وقد كان قانون المحاماة رقم 61 لسنة 1968 ينص في المادة 82 منه علي أنه للمحامين دون غيرهم حق الحضور عن ذوي الشأن أمام دوائر الشرطة ؛ غير أن القانون رقم 17 لسنة 1983 بشأن المحاماة أغفل هذا النص واكتفي بالنص في المادة 52 منه علي أنه يجب علي دوائر الشرطة أن تقدم التسهيلات التي يقتضيها القيام بواجبه وتمكنه من الإطلاع علي الأوراق والحصول علي البيانات.
وفي رأينا أن يتعين كفالة حق المشتبه فيه بالاستعانة بمحام في إجراءات الاستدلال ، على ذات النسق الذي قرره المشرع الفرنسي والألماني في هذا الصدد . فليس من المنطق والعدل أن يكفل حق الدفاع في الحالات التي يباشر فيها مأمور الضبط القضائي إجراءات التحقيق ، ويغفل هذا الحق في مواجهة ذات المأمور حين يباشر إجراء من إجراءات الاستدلال. وعلي أيا الأحوال فإن عدم وجود نص صريح يكفل حق الدفاع في تلك المرحلة لا يعني حظر إتاحة ذلك للمشتبه فيه ، غير أن الأمر يترك لمطلق السلطة التقديرية لمأمور الضبط القضائي.
40- ثالثاً : تحيد أعمال الاستدلال :
لم يحدد المشرع أعمال الاستدلال علي سبيل الحصر ، وإنما عدد بعض منها دون أن يحظر اللجوء إلى غيرها. ومن أهم أعمال الاستدلال التي جرى النص عليها : تلقي التبليغات والشكاوى ، إجراءات التحريات ، الحصول على الإيضاحات وإجراء المعاينات ، إجراءات التحفظ على الأشخاص والأشياء.
41- أ : تلقي البلاغات والشكاوى :
أوجب المشرع على مأمور الضبط القضائي في دوائر اختصاصهم أن يقبلوا التبلغيات والشكاوى التي ترد إليهم بشأن الجرائم ( المادة 24 إجراءات ). ويقصد بالتبلغيات عن الجريمة Denonciations إخبار السلطات العامة بوقوع جريمة. أما الشكاوى Plaintes فهي أيضا إخبار بالجريمة غير أنها تختلف عن التبليغات في أن مقدمها يطالب بالتعويض عما أصابه من ضرر ناشئ عن الجريمة. فإذا خلت الشكوى من الادعاء المدني فلا تعتبر سوي بلاغ لا يترتب آثاراً قانونياً في مجال دعوى التعويض. وهكذا نصت المادة 28 من قانون الإجراءات الجنائية على أن "الشكوى التي لا يدعي فيها مقدمها بحقوق مدنية تعد من قبيل التبليغات".
هذا وقد نص المشرع في المادة 25 من قانون الإجراءات الجنائية علي أن لكل من علم بوقع جريمة يجوز للنيابة العامة رفع الدعوى عنها بغير شكوى أو طلب أن يبلغ النيابة العامة أو أحد مأموري الضبط القضائي عنها. ولكن المشرع لم يرتب جزاءً على عدم التبليغ ، إذ هو محض رخصة. كما أوجبت المادة 26 إجراءات علي الموظفين العموميين أو المكلفون بخدمة عامة التبليغ عن الجرائم التي يعملون بها أثناء تأدية عملهم أو بسبب تأديته ، وهو أمر يدخل في واجبات وظائفهم مما قد يعرضهم للمسئولية التأديبية – دون المسئولية الجنائية - إذا خالفوا هذا الواجب.
إلا أنه توجد بعض الجرائم محددة على سبيل الحصر أوجب المشرع ضرورة التبليغ عنها وإلا تعرض المخالف للجزاء الجنائي. فإذا كانت الجريمة من جرائم الاعتداء علي أمن الدولة الداخلي والخارجي فقد جعل المشرع من عدم الإبلاغ عنها جريمة معاقب عليها (م. 84 ، 98 عقوبات). كما جعل المشرع من الإبلاغ سبباً معفياً من العقاب في بعض الجرائم (م. 48-أ ، 101 ، 107 مكرراً عقوبات).
وإذا قدم البلاغ والشكوى إلي مأمور الضبط القضائي وجب عليه أن يقبلها ، ولا يجوز له أن يرفض قبولها بأي حجة وإلا وجبت مسئوليته التأديبية. ويجب أن يثبت البلاغ كتابة حتى يمكن المحافظة على ما ورد فيه من معلومات. كما أوجب عليه الشارع أن يبعث بتلك التبليغات والشكاوى فوراً إلي النيابة العامة (م. 24 إجراءات جنائية). ولم يقصد الشارع بذلك سوى تمكين النيابة العامة من مراقبة مأمور الضبط القضائي أو الشروع في التحقيق في وقت مناسب. كما لم يتوخى المشرع سوى الرغبة في تنظيم العمل والمحافظة علي الدليل لعدم توهين قوته في الإثبات ، ولم يرتب علي مجرد الإهمال في ذلك أي بطلان ، إذ العبرة بما تقتنع به المحكمة في شأن صحة الواقعة ونسبتها إلي المتهم وأن تأخر التبليغ عنها . وتقيد البلاغات عادة في دفتر العرائض لدى تلقيها ، ثم يتم فحصها فإن لم تنطوي على جريمة قيدت في دفتر الشكاوى الإدارية بالقسم ، أما إذا كشف الفحص عن وجود جريمة فيتم تقييد البلاغ في دفتر أحوال القسم.
42- ب : إجراء التحريات :
ألقت المادة 21 إجراءات جنائية علي مأمور الضبط القضائي عبء البحث عن الجرائم ومرتكبيها. ويقصد بالتحريات جمع كافة القرائن والأدلة التي تفيد في التوصل إلي الحقيقة إثباتاً أو نفيا لوقوع الجريمة ونسبتها إلي فاعلها . ولا يوجب القانون أن يتولى مأمور الضبط بنفسه مهمة القيام بالتحريات ، بل له أن يستعين بمعاونيه من رجال السلطة العامة والمرشدين السريين ، أو من يتولون إبلاغه عما وقع بالفعل من جرائم مادام هو قد اقتنع شخصا بما نقلوه إليه ، وبصدق ما تلقاه عنهم من معلومات .
وللتحريات أهمية كبيرة بالنسبة لبعض إجراءات التحقيق ، ومنها التفتيش ، إذ يوجب القانون لطلب الأذن بتفتيش المنازل أو الأشخاص (م. 91 ، 94 إجراءات جنائية) وجود قرائن أو أمارات قوية تدل علي أن المراد تفتيشه حائز لأشياء تتعلق بالجريمة ، أو يخفي أشياء تفيد في كشف الحقيقة. وعلي سلطة التحقيق تقدير جدية هذه التحريات قبل إصدار إذن التفتيش ، فإذا كانت التحريات غير جدية وجب عليها رفض الأذن بالتفتيش. ولمحكمة الموضوع تقدير جدية هذه التحريات كشرط من شروط الأذن بلا معقب عليها من محكمة النقض .
على أنه يلزم كي تكون التحريات منتجة لآثارها أن تكون متعلقة بجريمة وقعت فعلا ، فلا يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يتدخل بفعله في خلق الجريمة ، أو التحريض علي مقارفتها . ومن ثم يبطل إذن التفتيش المتعلق بضبط جريمة مستقبلة ولو كانت التحريات والدلائل جدية علي أنها ستقع بالفعل .
43- ج : الحصول علي الإيضاحات وإجراء المعاينات اللازمة :
أوجبت المادة 24 من قانون الإجراءات الجنائية على مأمور الضبط القضائي وعلي مرؤوسيه أن يحصلوا علي جميع الإيضاحات ويجري المعاينات اللازمة لتسهيل تحقيق الوقائع. ويقصد بالحصول علي الإيضاحات ، جمع المعلومات من جميع الأشخاص المتصلين بالواقعة ممن لديهم معلومات عنها سواء من المبلغ أو الشهود أو المشتبه في أمرهم. وليس لمأمور الضبط القضائي إكراه أحد على الحضور أمامه للإدلاء بمعلوماته ، ولا يرتكب من امتنع عن الحضور ، أو حضر ورفض الإفضاء بمعلومات عن الجريمة ، جريمة ما. ويعلل ذلك بالطبيعة العامة لأعمال الاستدلال وتجردها من وسائل القهر .
ويجوز لمأموري الضبط القضائي أن يستعينوا بأهل الخبرة ، كالأطباء وغيرهم ، لإبداء رأيهم شفهيا أو بالكتابة (م. 29/1 إجراءات جنائية) . غير أنه لا يجوز لهم تحليف الشهود أو الخبراء اليمين ، إلا إذا خيف إلا يستطاع فيما بعد سماع الشهادة بيمين (م.29/2 إجراءات جنائية). ومن أجل الحصول على الإيضاحات تسمح المادة 29 إجراءات لمأمور الضبط القضائي بسؤال المشتبه فيه عن المتهمة المسندة إليه دون أن يستجوبه تفصيلاً. فإذا ما أعترف المتهم بما نسبه إليه فلا تثريب علي مأمور الضبط القضائي إذا ثبت هذا الاعتراف في محضره ، وللمحكمة أن تعول عليه في حكمها ما دامت قد اطمأنت إليه .
أما المعاينات فيقصد بها إثبات حالة الأشخاص والأمكنة والأشياء ذات الصلة بالجريمة ، قبل أن تنالها يد العبث والتخريب. والحق أن المعاينات لا تعدو إلا أن تكون صورة من صور الحصول علي الإيضاحات ، خصها المشرع بالذكر لما لها من أهمية في كشف الحقيقة. وإذا كان إجراء المعاينة ، الذي يوجب بحكم المنطق الانتقال إلي محل الواقعة ، يظل أمراً جوازياً لمأمور الضبط القضائي إن شاء أجراه وإن شاء أغفله ، إلا أن المادة 31 من قانون الإجراءات الجنائية قد أوجبت علي مأمور الضبط القضائي في حالة التلبس بجناية أو جنحة أن ينتقل فوراً إلي محل الواقعة ، ويعاين الآثار المادية للجريمة ويحافظ عليها ويثبت حالة الأماكن والأشخاص وكل ما يفيد في كشف الحقيقة ، ويسمع أقوال من كان حاضراً ، أومن يمكن الحصول منه علي إيضاحات في شأن الواقعة ومرتكبها . ويجب عليه أن يخطر النيابة العامة فور انتقاله.
ويجدر التنويه إلى أن المعاينات التي يقصدها نص المادة 24 إجراءات جنائية هى المعاينات التي يجريها مأمور الضبط القضائي كعمل من أعمال الاستدلال. ومن ثم وجب إجرائها في الأماكن العامة التي يباح للجمهور الدخول فيها بغير تمييز ، فإذا استطالت للمساكن بطلت ، وبطل ما نجم عنها من أدلة ، ذلك أنها تأخذ في تلك الحالة الأخيرة حكم التفتيش المحظور علي مأمور الضبط القضائي إجراءه إلا بإذن صادر من سلطة التحقيق ، أو برضاء حائز المسكن .
44- د : اتخاذ الإجراءات التحفظية على الأشخاص والأشياء :
خولت المادة 35/2 من قانون الإجراءات الجنائية لمأموري الضبط القضائي – في غير أحوال التلبس - سلطة اتخاذ الإجراءات التحفظية المناسبة ضد المتهم إذا وجدت دلائل كافية على اتهامه بارتكاب جناية أو جنحة سرقة أو نصب أو تعد شديد أو مقاومة لرجال السلطة العامة بالقوة والعنف. وله أن يطلب فوراً من النيابة العامة أن تصدر أمراً بالقبض عليه.
ويقصد بالدلائل الكافية تلك الدلائل القوية التي تحمل على الاعتقاد بوقوع الجريمة ونسبتها إلى المشتبه فيه ، فعندئذ يسوغ لمأمور الضبط القضائي أن يتحفظ على الشخص حتى تصدر النيابة العامة أمرا بالقبض عليه . وعلى ذلك فإن مجرد التبليغ عن جريمة لا يكفي للتحفظ على الشخص. وتقدير الدلائل التي تسوغ التحفظ ومبلغ كفايتها يكون بداءة لمأمور الضبط القضائي ، بشرط أن يكون ما ارتكن إليه يؤدي عقلا إلى الاعتقاد بوقوع الجريمة ونسبتها إلى المشتبه فيه ، على أن يكون تقديره هذا خاضعا لرقابة سلطة التحقيق تحت إشراف محكمة الموضوع .
ولا يعدو التحفظ إلا أن يكون محض إجراء وقائي ، لا يرقى إلى مصاف الضبط أو القبض ، ومن ثم فهو لا يخول مأمور الضبط القضائي تفتيش الشخص بناء على ذلك. وذلك استناداً إلى أنه يواجه شخصاً لا يعد متهماً ، وإنما مشتبه فيه . ونظراً لما يتضمنه التحفظ من مساس بالحرية الشخصية ، فقد حرص المشرع المصري على النص في المادة 35 إجراءات على وجوب أن يطلب فورا من النيابة العامة أن تصدر أمرا بالقبض على المشتبه فيه ، وبدون تحديد مهلة معينة لهذا التحفظ. ولذلك فإن هذه الإجراءات التحفظية تتحدد بالغرض منها ألا وهو التحفظ على المشتبه فيه لمنع هربه والمحافظة على أدلة الجريمة في حدود الوقت اللازم لعرض الأوراق على النيابة العامة لإصدار أمرها بالقبض. ومنها استيقاف المشتبه فيه أو تجريده من السلاح ، أو تعيين حراسة على مسكن الأخير لمنعه من مغادرته. وفي جميع الأحول يتعين ألا تزيد مدة التحفظ على الأشخاص عن مدة القبض المحددة بـ 24 ساعة (م.36 إجراءات جنائية) ، بحيث إذا لم يصدر أمر النيابة العامة بالقبض على المشتبه فيه خلال هذه الفترة يتعين إلغاء أمر التحفظ .
والحق أن حكم المادة 35 لا يلقى استحسان الفقه ، لذا أصابت محكمة النقض حين كشفت عن عدم دستورية هذا النص ووجوب الامتناع عن إعماله ، بما للمحاكم من إعمال رقابة الامتناع عن إعمال النصوص المخالفة للمبادئ الدستورية. ومن ثم قررت محكمة النقض في هذا الحكم "مفاد ما قضي به نص المادة 35 من قانون الإجراءات الجنائية من تخويل مأمور الضبط القضائي اتخاذ الإجراءات التحفظية المناسبة في حالة توافر الدلائل الكافية على اتهام شخص بارتكاب جناية أو جنحة سرقة أو نصب أو تعد شديد أو مقاومة لرجال السلطة العامة دون أن بصدر أمر قضائي ممن يملك سلطة إصداره أو أن تتوافر في حقه إحدى حالات التلبس بالجريمة التي حددتها المادة 30 من هذا القانون ، يخالف حكم المادة 41 من الدستور ، فإن الأحكام الواردة بالمادة 35 سالفة الذكر تعتبر منسوخة ضمناً بقوة الدستور نفسه منذ تاريخ العمل بأحكامه دون تربص صدور قانون ولا يجوز الاستناد إليها في إجراء القبض منذ ذلك التاريخ" .
وفضلاً عن اتخاذ الإجراءات التحفظية قبل الأشخاص ، فإن لمأمور الضبط القضائي سلطة اتخاذ الإجراءات المناسبة للمحافظة على آثار الجريمة وأدلتها ، والتي تمكن سلطة التحقيق من الإطلاع عليها ومعاينتها. ومن قبيل إجراءات التحفظ على الأشياء وضع الأختام على الأشياء التي بها آثار أو أشياء تفيد في كشف الحقيقة ، وله أن يقيم حراسا عليها لمنع العبث بأدلة الجريمة. ويجب على مأمور الضبط القضائي إخطار النيابة العامة بذلك في الحال ، وعلى النيابة إذا ما رأت ضرورة ذلك الإرجاء أن ترفع الأمر إلى القاضي الجزئي لإقراره (المادة 53 إجراءات). ويجوز لمأمور الضبط القضائي استدعاء خبير لرفع البصمات ، أو رفع آثار الدماء بعد إثبات أمكنتها ، وكذلك ضبط وتحريز المضبوطات ، كي ترسل فيما بعد إلى الخبير الذي يفحصها .
المبحث الثاني
الشرعية الإجرائية أداة تنظيم دور الشرطة القضائية في التحقيق
45- تمهيد وتقسيم :
أناط القانون بحسب الأصل مأموري الضبط القضائي بمهمة البحث عن الجرائم وجمع الاستدلالات التي تلزم للتحقيق في الدعوى (المادة 21 إجراءات) ، ومن ثم ينحسر عنهم الاختصاص باتخاذ أي إجراء من إجراءات التحقيق. وتكمن العلة في ذلك في أن إجراءات التحقيق لها طابع القهر والجبر وتمس بالحرية الفردية وما يتوجب للحياة الخاصة من حرمة. على أن المشرع قد ارتأى – ولضرورة وبصفة استثنائية - تخويلهم سلطة القيام ببعض إجراءات التحقيق ، إما لتوافر فرض التلبس بالجريمة ، وإما ندباً من سلطة التحقيق. وتبنى الحالتين على فكرة "الملائمة الإجرائية" ، إذ أن سلطة التحقيق قد تكون بعيدة عن موقع الجريمة ، وقد يكون انتقالها إليه مقتضياً وقتاً ، فيخشى إذا تطلب الشارع - على وجه حتمي – قيام سلطة التحقيق بجميع أعمال التحقيق ، أن تضيع المصلحة من اتخاذ بعض هذه الأعمال في وقتها الملائم .
46- أولاً : دور الشرطة القضائية في أحوال التلبس :
يوجب توافر إحدى حالات التلبس المنصوص عليها قانوناً الخروج على القواعد العامة في الإجراءات الجنائية ، بغية الإسراع في اتخاذ الإجراءات للمحافظة على أدلة الجريمة حتى لا تطمس أو يتلاعب بها ، وبغية القبض الفوري على المتهم قبل مغادرته مكان الجريمة أو قبل تمكنه من الهرب. فضبط الجريمة في حالة تلبس تنفي – إلى حد بعيد - مظنة الخطأ في التقدير ، فالجريمة واضحة وأدلتها ظاهرة شاهدة على صحة وقوعها ونسبتها إلى المتهم مما يستبعد معه احتمال الكيد أو التعسف معه من قبل مأمور الضبط القضائي . غير أن المشرع قد حصر حالات التلبس ، وأوجب له شروط معينة ، ثم رتب على توافر شروطه الصحيحة آثاراً تتصل بما يجوز لمأموري الضبط القضائي اتخاذه من أعمال التحقيق.
47- أ : التعريف بالتلبس وبيان خصائصه :
يمكننا تعريف التلبس بكونه حالة تلازم الجريمة ذاتها بصرف النظر عن شخص مرتكبها تتعلق باكتشافها دون أركانها القانونية . وقد حرص المشرع في قانون الإجراءات الجنائية على إبراز صفة التلبس وانصراف هذه الصفة للجريمة في المادة 30 حيث نصت على أن "تكون الجريمة متلبساً بها...". ويبين من هذا النص أن الجريمة المتلبس بها لا تخرج عن كونها الجريمة التي تكشف حال ارتكابها أو عقب الانتهاء من ارتكابها ، أو تلك التي تبدو بعد وقوعها بنتائجها المادية الظاهرة أمام الجميع.
وهكذا فإن التلبس إما يبني على المشاهدة الفعلية ، أي تلك الحالة التي يفاجأ فيها الجاني حال ارتكاب الجريمة ، فيؤخذ في إبان الفعل وهو يقارف إثمه ونار الجريمة مستعرة ، أو عقب ارتكابها ببرهة يسيرة ، وإما أن تكتشف عقب ارتكابها بوقت قريب وأدرك وقوعها ، بأدلتها وآثارها المادية الظاهرة أمام الجميع . ويصف الفقه الحالة الأولى بأنها حالة تلبس حقيقي La flagrance proprement dite ، أما الحالة التي تكتشف عقب ارتكابها بوقت يسير ، خلاله كان المجني عليه يتبع مرتكبها أو تبعته العامة مع الصياح أو إذا وجد مرتكبها حاملاً الأدوات المستعملة لتنفيذ الجريمة أو وجدت به آثار أو علامات تفيد أنه فاعل أو شريك فيها ، فيتعارف الفقه على تسميتها بالتلبس الاعتباري أو الحكمي Infraction réputée flagrante.
وإذا كان التلبس يقتضي بحكم المنطق عدم مرور فاصل زمني كبير بين وقوع الجريمة وبين مشاهدة مأمور الضبط القضائي لها أو لأثارها ، إلا أن المستقر عليه أنه لا ينفي قيام حالة التلبس كون رجل الضبط قد انتقل إلى محل وقوعها بعد مقارفتها بزمن ، مادام أنه قد بادر إلى الانتقال عقب علمه مباشرة ، ومادام أنه شاهد آثار الجريمة بادية .
وللتلبس خصائص ، منها أن أحواله إنما وردت على سبيل الحصر ، بما يقطع الطريق على مكنة القياس. ولا ترجع علة هذا الحصر إلا لكون التلبس يخول مأمور الضبط القضائي صلاحيات استثنائية في التحقيق ، الأمر الذي يقتضي عدم التوسع في هذه الصلاحيات خوفاً من التعسف وإساءة استعمالها ، وحتى لا تتعرض حريات وحقوق الأفراد للانتهاك دون ضوابط. وتكشف أحكام النقض بجلاء عن تلك الصفة الاستثنائية للتلبس وحصره في أضيق نطاق. فقد قضي بأنه "إذا كان المتهم قد أخرج ورقة من جيبه عند رؤيته لرجال البوليس ووضعها بسرعة في فمه ولم يكن ما حوته تلك الورقة ظاهراً حتى يستطيع رجال البوليس رؤيته فإن هذه الحالة لا تعتبر حالة تلبس بإحراز مخدر" . وكذا قضي بأن "سقوط اللفافة عرضاً من الطاعن عند إخراج بطاقته الشخصية لا يعتبر تخلياً منه عن حيازتها ، بل تظل رغم ذلك في حيازته القانونية ، وإذا كان الضابط لم يستبين محتوى اللفافة قبل فضها فإن الواقعة على هذا النحو لا تعتبر من حالات التلبس المبينة بطريق الحصر في المادة 30 إجراءات" .
ويتصف التلبس بكونه ذو طابع عيني لا شخصي ، بمعنى أنه حالة عينية تلازم الجريمة ذاتها بصرف النظر عن شخص مرتكبها. وبناء على ذلك قضي بأن "التلبس وصف ينصب على الجريمة لا على مرتكبها فيمكن أن تشاهد الجريمة دون أن يشاهد فاعلها" . ويترتب على كون التلبس حالة تلازم الجريمة ، أن الرؤية بذاتها ليست هي الوسيلة الوحيدة لكشف حالة التلبس ، بل يكفي أن يكون الضابط أو الشاهد قد حضر ارتكاب الجريمة وأدرك وقوعها بأية حاسة من حواسه ، سواء كان ذلك عن طريق السمع أو البصر أو الشم ، متى كان هذا الإدراك بطريقة يقينية لا تحتمل شكاً . كما يترتب على عينية التلبس صحة إجراءات القبض والتفتيش في حق كل من له اتصال بها سواء كان فاعلاً أو شريكا ، شوهد في مكان وقوعها أو لم يشاهد .
ولا يشترط لقيام حالة التلبس أن يؤدي التحقيق إلى ثبوت الجريمة قبل مرتكبها. ذلك أنه يكفي لتحقق حالة التلبس بالجريمة تحقق أحد عناصر الركن المادي فحسب ، سواء شاهد مأمور الضبط القضائي تحقق هذا العنصر أو أحس بوقوعه بطريقة لا تحتمل الشك ، ولا يشترط التثبت من توافر الأركان الأخرى للجريمة .
ولما كان التلبس صفة تلازم الجريمة ذاتها لا شخص مرتكبها ، فإنه من المقرر أن القول بتوافر حالة التلبس أو عدم توافرها هو من المسائل الموضوعية التي تستقل بها محكمة الموضوع بغير معقب عليها ما دامت قد أقامت قضاءها على أسباب سائغة .
48- ب : أحوال التلبس :
أبانت المادة 30 إجراءات جنائية أربع حالات للتلبس بالجريمة : إما مشاهدة الجريمة حال ارتكابها ، وإما مشاهدة الجريمة عقب ارتكابها ببرهة يسيرة ، وإما تتبع الجاني مع الصياح في أثر وقوعها ، وإما مشاهدة الجاني بعد وقوع الجريمة بوقت قريب حاملاً أشياء أو به آُثار يستدل منهما على أنه فاعل أو شريك في الجريمة.
49- مشاهدة الجريمة حال ارتكابها :
يمثل تلبساً حقيقياً مشاهدة الجريمة حال ارتكابها ، أي في ذات اللحظة التي يرتكب الفعل أو الأفعال التي يتكون فيها الركن المادي للجريمة. وتتميز هذه الحالة بالتعاصر الزمني بين مقارفة الفعل ومشاهدة الجاني أثناء ارتكابه لهذا الفعل ، حيث يفاجأ بالمجني عليه أو بالشهود أو برجال السلطة العامة أثناء ارتكابه الجريمة.
وتعني المشاهدة في هذه الحالة إدراك الأفعال المادية المكونة للركن المادي للجريمة أو أي منها. غير أن المشاهدة وإن كانت أغلب ما تكون عن طريق الرؤية البصرية ، إلا أنها ليست الوسيلة الوحيدة لكشف الجريمة المتلبس بها ، بل يكفي أن يدرك وقوعها بإحدى الحواس كالشم والسمع. ومن ثم قضي بأنه "ليس في القانون ما يمنع المحكمة - في حدود سلطتها في تقدير أدلة الدعوى - من الاستدلال بحالة التلبس بناء على ما استخلصته من أقوال الشهود من شم رائحة المخدر منبعثة من السيارة التي في حوزة المتهمين" . وبأنه "إذا كان الضابط قد شاهد جريمة إحراز المخدر متلبساً بها عندما اشتم رائحة الحشيش تتصاعد من المقهى ، فإن من حقه أن يفتش المقهى ويقبض على كل متهم يرى أن له اتصالاً بالجريمة" .
على أنه ينبغي أن يكون هذا الإدراك بطريقة يقينية بطريقة لا تحتمل شكاً. فإّذا كان هناك شك من قبل مأمور الضبط في وقوع الجريمة فلا يمكن أن تتوافر حالة التلبس. لذلك قضي بأن "رؤية المتهم وهو يناول شخصاً آخر شيئاً لم يتحقق الرائي من كنهه بل ظنه مخدراً استنتاجا من الملابسات ، ذلك لا يعتبر من حالات التلبس كما هو معرف به في القانون" . غير أنه لا يؤثر في اعتبار الجريمة متلبساً بها حال ارتكابها إذا كانت قد بدأت فعلاً في تاريخ سابق على اكتشافها ، إذا كانت الجريمة متتابعة الأفعال يقتضي المضي فيها تدخل إرادة الجاني في الفعل المعاقب عليه كلما أقدم على ارتكابه .
وقد توسعت محكمة النقض في مدلول مشاهدة الجريمة حال ارتكابها فلم تشترط مشاهدة الركن المادي للجريمة ، بل استقر قضائها على أنه يكفي لقيام التلبس وجود مظاهر خارجية تنبئ بذاتها عن وقوع الجريمة ، وأن تقدير كفاية هذه المظاهر أمر موكول لمحكمة الموضوع. وتطبيقاً لذلك قضي بأنه "لا يشترط في التلبس بإحراز المخدر أن يكون من شاهد هذه المظاهر قد تبين ماهية المادة التي شاهدها ، بل يكفي في ذلك تحقق المظاهر الخارجية بأي حاسة من الحواس متى كان هذا التحقق بطريقة يقينية لا تحتمل شكاً، يستوي في ذلك أن يكون المخدر ظاهراً أو غير ظاهر" .
والحق أنه لا يمكن مسايرة محكمة النقض فيما انتهت إليه من أن التلبس يقوم بمجرد المظاهر الخارجية التي تنبئ عن وقوع الجريمة ، إنما يتعين أن تكون تلك المظاهر جزء من الركن المادي للجريمة حتى يمكن القول بوقوع الجريمة. أما المظاهر التي تنبئ عن وقوع الجريمة فهي لا تعدو أن تكون مجرد دلائل كافية على ارتكاب الجريمة. وهذه الدلائل الكافية لا تخول مأمور الضبط القضائي سوى التحفظ على المتهم ، وأن يطلب فوراً من النيابة العامة أن تصدر أمرا بالقبض عليه ، وذلك في الأحوال الواردة في المادة 35 من قانون الإجراءات الجنائية .
50- مشاهدة الجريمة عقب ارتكابها ببرهة يسيرة :
يتحقق التلبس ولو لم تنصرف المشاهدة إلى الأفعال المادية للجريمة ، متى انصبت على ما تخلف عن الجريمة من آثار وأدلة تفيد أنه لم يمض على ارتكاب الجريمة غير وقت قصير. مثال مشاهدة جثة القتيل تقطر دما ، أو مشاهدة المجني عليه متأثراً ما وقع عليه من إكراه في السرقة بالإكراه ، أو مشاهدة الجاني يجري مسرعا عقب وقوع الجريمة مباشرة.
ولدينا أن حالة التلبس تلك لا تقوم إن لم يشهد مأمور الضبط القضائي أثراً من آثار الجريمة ومظهراً من مظاهرها يكشف عن وقوعها منذ برهة يسيرة ، ومن ثم فإنه لا يكفي لقيام حالة التلبس الادعاء بوقوع سرقة أو شروع في قتل ما لم يكن هناك أثر يشاهده مأمور الضبط بنفسه أو يدركه بإحدى حواسه ، كأن يشاهد الجاني وهو يخرج مسرعاً من مكان الجريمة ، أو سماع العيارات النارية من الجهة التي شوهد المتهم قادماُ يجري منها عقب ذلك مباشرة.
وإذا كان القانون لم يحدد الزمن الفاصل بين ارتكاب الجريمة ومشاهدتها ، إلا أن عبارة "عقب ارتكابها ببرهة يسيرة" تدل على وجوب أن يكون المشاهدة في الزمن التالي لوقوع الجريمة مباشرة. وتقدير الفترة الزمنية بين وقوع الجريمة وبين كشف أمرها بمعرفة رجال الضبط القضائي أمر لا يمكن وضع معيار زمني محدد له ، ولذلك فإن لمحكمة الموضوع تقدير هذا الزمن دون معقب عليها من محكمة النقض ما دام استخلاصها سائغاً ومنطقياً .
51- تتبع الجاني إثر وقوع الجريمة :
نصت المادة 30 إجراءات جنائية على أن تكون الجريمة في حالة تلبس " إذا تبع المجني عليه مرتكبها أو تبعته العامة مع الصياح إثر وقوعها". ويقصد بعامة الناس هنا أي فرد ولو كان واحداً حيث لا يستلزم التعدد ، فقد يشاهد شخص الجاني يرتكب الجريمة ثم تابعه وحده بصياحه ، فهذا يكفي لجعل الجريمة في حالة تلبس.
ولا يعتد بالتتبع والملاحقة إذا لم يصحبهما صياح , لأن هذا الصياح أو الصراخ هو الذي يعبر عن إيجاد علاقة بين الجاني والجريمة. فلا يكفي إذا التتبع مجرداً من الصياح حتى ولو كان على إثر إشاعة عامة بأن أحد الأشخاص هو مرتكب الجريمة. فالإشاعة العامة لا تقوم بها حالة التلبس ، وإن كان من شأنها تنبيه السلطات إلى وقوع الجريمة فتدفعها إلى الاستدلال والتحري . ولا يلزم في المتابعة مطاردة الجاني والجري وراءه ، بل تكفي المطاردة بالصياح والإشارة بالأيدي دون الأجسام. على أنه يلزم أن يكون التتبع والصياح ذا مدلول يفهم منه توجيه الاتهام إلى المتهم بارتكاب الجريمة. كما يلزم أن يكون التتبع والصياح على أثر وقوع الجريمة وليس في فترة لاحقة على وقوعها ، وتقدير هذه الفورية يستقل بتقديرها محكمة الموضوع .
52- مشاهدة الجاني حاملاً أدلة الجريمة :
عبرت المادة 30 إجراءات عن تلك الحالة بقولها "تعتبر الجريمة متلبساً بها...إذا وجد مرتكبها بعد وقوعها بوقت قريب حاملاً آلات أو أسلحة أو أمتعة أو أشياء أخرى يستدل منها على أنه فاعل الجريمة أو شريك فيها ، أو إذا وجدت به في هذا الوقت آثار أو علامات تفيد ذلك. وعلى ذلك تفترض هذه الحالة مشاهدة أدلة الجريمة التي يستدل منها على أن المتهم فاعل أو شريك في الجريمة. وهذه الأدلة إما أن تكون الأِشياء التي استعملت في ارتكاب الجريمة كالسلاح المستخدم في القتل أو الشروع فيه ، وإما أن تكون أشياء تحصلت من الجريمة كالمسروقات أو وثائق أو مستندات. والتمثيل الذي أورده المشرع لتلك الأشياء لم يأت على سبيل الحصر ، وآية ذلك ما تضمنه النص من عبارة "أو أشياْء أخرى" وقد تكون هذه الأدلة في صورة آثار أو علامات توجد على جسم المتهم أو ملابسه ، كالخدوش والجروح والدماء على ملابس الجاني ، والتي قد تنشأ من مقاومة المجني عليه أو تلتصق بملابسه من دماء المجني عليه ذاته. وقد يوجد به آثار مقذوف ناري حديث أو يعلق بملابسه خصلات شعر المجني عليه.
ونرى ضرورة دمج الحالتين الثانية والرابعة في فقرة واحدة فكلاهما يعالج مشاهدة الجريمة من خلال أدلة ارتكابها. غير أن الفارق بينهما أنه في هذه الحالة يجب أن توجد الآلات أو الأدوات مع فاعل الجريمة أو الشريك فيها ، وكذلك الآثار يجب أن توجد على جسمه أو ملابسه أو أية أمتعة منقولة يحملها ؛ بينما في الحالة الثانية توجد هذه الآثار مجردة عن شخص الجاني فقد توجد على المجني عليه أو على مسرح الجريمة ، وهذا كله أمر غير ذي بال نظراً لأن التلبس حالة عينية فيجب تقديرها بغض النظر عن مشاهدة مرتكبها وقت الجريمة أو عقب ارتكابها .
أما بالنسبة لفترة الوقت الفاصلة بين وقوع الجريمة وضبط المتهم ومعه الأدوات أو عليه الآثار والعلامات فقد نص عليها القانون بأنها "الوقت القريب" ، دون أن يحدد نهاية هذا الوقت القريب. ويرى الفقه أنه يكفي ألا يكون قد مضى على وقوع الجريمة مدة من الزمن ينتفي معها القول أن هناك صلة بين وجود هذه الأشياء معه وبين وقوع الجريمة . والمسألة في مجملها تقدرها محكمة الموضوع دون رقابة محكمة النقض مادام استخلاصها سائغاً وفق العقل والمنطق.
53- ج : شروط صحة التلبس :
يلزم كي يكون التلبس صحيحاً منتجا آثاره القانونية في تخويل مأمور الضبط القضائي سلطة اتخاذ إجراءات التحقيق ، فضلاً عن توافر حالة من الحالات السابقة ، أن يكون مأمور الضبط القضائي قد شاهد حالة التلبس بنفسه ، وأن تكون هذه المشاهدة قد تحققت عن طريق مشروع.
54- مشاهدة التلبس من قبل مأمور الضبط القضائي :
لما كانت حالات التلبس مذكورة على سبيل الحصر ، وكونها تمنح مأمور الضبط القضائي سلطات استثنائية ، وبالجملة من أجل تأكيد ضمانات لأفراد في صيانة حرياتهم الشخصية ، استقر قضاء النقض على أنه يجب أن يكون مأمور الضبط القضائي قد شاهد بنفسه الجريمة لا أن يتلقى نبأها عن الغير. وعلى ذلك فقد قضي بأن "حالة التلبس تستوجب أن يتحقق مأمور الضبط من قيام الجريمة بمشاهدتها بنفسه أو إدراكها بإحدى حواسه ولا يغنيه عن ذلك أن يتلقى نبأها عن طريق الرواية أو النقل عن الشهود طالما أن تلك الحالة قد انتهت بتماحي آثار الجريمة والشواهد التي تدل عليها" .
وإذا شوهدت الجريمة حال ارتكابها من قبل أحد رجال السلطة العامة أو أحد الأفراد العاديين ، فيجب إبلاغ مأمور الضبط القضائي بوقوع الجريمة فوراً ، حتى يتمكن من الانتقال لموقع الجريمة في الحال لاتخاذ الإجراءات اللازمة. ولا تعتبر الجريمة في حالة تلبس ما لم يشاهد مأمور الضبط إحدى الحالات التي تكفي لاعتبار الجريمة متلبسا بها. وبناء عليه قضي بأنه "إذا كان الثابت أن الذي شاهد المتهم وهو في حالة التلبس بالجريمة - وهي جريمة بيع المواد المخدرة - هو المرشد الذي أرسله الضابط لشراء المادة المخدرة، فلما حضر الضابط إلى المنزل لم يكن به من الآثار الظاهرة لتلك الجريمة ما يستطيع ضابط البوليس مشاهدته والاستدلال به على قيام حالة التلبس ، فلا يمكن عند حضور الضابط اعتبار هذا المتهم في حالة التلبس ، ولا يمكن اعتبار ورقة المادة المخدرة التي حملها المرشد إلى الضابط عقب البيع أثراً من آثار الجريمة يكفي لجعل حالة التلبس قائمة فعلا وقت انتقال الضابط ، لأن الآثار التي يمكن اتخاذها أمارة على قيام حالة التلبس إنما هي الآثار التي تنبئ بنفسها عن أنها من مخلفات الجريمة والتي لا تحتاج في الإنباء عن ذلك إلى شهادة شاهد" .
والواقع فإن اتجاه محكمة النقض اتجاه محمود ذلك أن ممارسة السلطات الواسعة في التحقيق التي خولها القانون لمأمور الضبط القضائي مرهون بمشاهدة حالة التلبس بنفسه ، حتى ولو أخطر بها من الغير ، وإذا قيل بغير ذلك لأدى الأمر إلى ثبوت التلبس عن طريق الرواية في كل جريمة ممن شاهدها ، وفتح باب الكيد والاختلاق والاستنتاج الخاطئ المتسرع. ولا يمكن التعلل لنقد هذا القضاء بالقول بأن بعض الجرائم لا تترك آثاراً حتى يشاهدها مأمور الضبط القضائي عند انتقاله بعد تلقى البلاغ عن وقوع الجريمة ، أو أن القانون لم يستلزم المشاهدة الشخصية ، ذلك أن المشاهدة كما استبان لنا من قبل كما تعني مشاهدة مأمور الضبط القضائي للركن المادي للجريمة وقت مباشرته بنفسه ، فإنها تعني أيضا مشاهدة الجريمة من خلال أدلة ارتكابها سواء كانت هذه الأدلة مجردة عن شخص مرتكب الجريمة أم مقترنة به ، هذا إذا كان قد تلقى نبأها ممن شاهد الجريمة سواء من رجال السلطة العامة أو أحد الأفراد.
55- مشاهدة حالة التلبس بطريق مشروع :
يتعين لقيام حالة التلبس ، فضلاً عن مشاهدة مأمور الضبط القضائي الجريمة بنفسه ، أن تكون المشاهدة قد تمت من خلال طريق مشروع. وتتأتي هذه المشروعية إذا شاهد مأمور الضبط القضائي الجريمة عرضاً أثناء تأدية واجبه ؛ أو شاهدها عرضاً أثناء استيقافه المشروع للمتهم الذي وضع نفسه بإرادته واختياره موضع الريب والشبهات ؛ أو شاهدها بناء على حقه في دخول الأماكن العامة لمراقبة تنفيذ القوانين ؛ أو إذا شاهدها عند دخوله أحد المساكن بناء على رضا حائزه بالتفتيش .
وترجع علة اشتراط مشروعية المشاهدة إلى أن حالة التلبس تبيح لمأمور الضبط القضائي مباشرة السلطات الواسعة في التحقيق التي خولها له القانون في هذه الحالة ، والمشروعية شرط عام في ممارسة كل سلطة ، لذلك فإنه يتعين أن يكون أساس مباشرة هذه السلطات إجراءات مشروعة. ومن ناحية أخرى أن هذه السلطات المخولة لمأمور الضبط القضائي تنطوي على افتئات على حقوق الأفراد ، لذلك يجب أن يكون هذا الافتئات بناء على سند من القانون. فإذا أتى مأمور الضبط القضائي بفعل إيجابي يتصف بعدم المشروعية أو المساس بحقوق الأفراد فإن ما يسفر عنه من قيام حالة التلبس يعتبر باطلا، وتبطل الإجراءات التي اتخذها استناداً إلى ما أوجده لنفسه بغير الطريق القانوني ، ولا يترتب على ذلك الآثار القانونية للتلبس.
ويمكن أن يمثل لذلك بالمشاهدات التي يختلسها مأمور الضبط القضائي أو أعوانه من خلال ثقوب أبواب المساكن ، لما في ذلك من المساس بحرمة المساكن. ومن ثم قضي بأنه "إذا كان الثابت هو أن مشاهدة الخفير للمتهمين وهم يتعاطون الأفيون كانت وسيلته التجسس من ثقب الباب ، وأن أحد الشهود احتال عليهم لفتح الغرفة التي كانوا فيها على هذه الحالة حتى اقتحمها الخفير وضبط المتهمين وفتشهم فعثر معهم على المخدر ، فإن حالة التلبس لا تكون ثابتة ، ويكون القبض والتفتيش باطلين" . ومثال المشاهدة غير المشروعة أيضاً مشاهدة مأمور الضبط القضائي لجريمة ترتكب داخل منزل عن طريق دخوله إلى هذا المنزل بوجه غير قانوني .
كما تكون مشاهدة غير مشروعة إذا كانت وليدة قبض في غير الأحوال الجائز القبض فيها قانوناً. ولذلك قضي بأنه "إذا كانت الواقعة الثابتة بالحكم هي أن المتهم لم يتخل عما معه من القماش المسروق إلا عندما هم الضابط بتفتيشه دون أن يكون مأموراً من سلطة التحقيق بهذا الإجراء ، فإنه لا يصح الاعتداد بالتخلي ويكون الدليل المستمد منه باطلاً". ذلك أنه "يشترط في التخلي الذي ينبني عليه قيام حالة التلبس بالجريمة أن يكون قد وقع عن إرادة وطواعية واختيار، فإذا كان وليد إجراء غير مشروع فإن الدليل المستمد منه يكون باطلا لا أثر له" .
وكذا لا يقوم التلبس إذا كان الكشف عنه نتيجة تعسف مأمور الضبط القضائي في تنفيذ إذن التفتيش أو تجاوز حدود الغرض منه. وهكذا قضي بأنه "إذا أذن مأمور الضبط بتفتيش مسكن للبحث عن أسلحة غير مرخص بها فهذا لا يخوله تفتيش محفظة من الجلد عثر عليها بين طيات فراش المتهم ، فإذا عثر فيها على ورقة فضها فعثر فيها على مادة مخدرة فإن حالة التلبس لا تكون قائمة، إذ أن البحث عن الأسلحة لا يستلزم تفتيش المحفظة لا يعقل أن تحتوي على شيء مما يجري البحث عنه" .
كما يكون التلبس غير مشروع إذا كان نتيجة لتدخل رجال الشرطة في خلق فكرة الجريمة (التحريض الصوري) لدى الجاني بطريق الغش والخداع أو التحريض على مقارفتها. لأن مثل هذا السلوك من شأنه التأثير في إرادة الجاني تأثيراً يعيبها. مثال تحريض المتهم على بيع المخدرات لضبطه أثناء البيع. ولكن ذلك لا يحول دون اتخاذ الحيل من أجل ضبط الجريمة في الحدود التي تترك مهالا إرادة الجاني حرة . وهكذا قضي بأن " مهمة مأمور الضبط القضائي بمقتضى المادة 21 من قانون الإجراءات الجنائية الكشف عن الجرائم والتوصل إلى معاقبة مرتكبيها ، فكل إجراء يقوم به في هذا السبيل يعتبر صحيحاً منتجاً لأثره ما لم يتدخل بفعله في خلق الجريمة أو التحريض على مقارفتها ، وطالما بقيت إرادة الجاني حرة غير معدومة ، فلا تثريب على مأمور الضبط أن يصطنع في تلك الحدود من الوسائل البارعة ما يسلس لمقصوده في الكشف عن الجريمة ولا يتصادم مع أخلاق الجماعة" .
56- ج : آثار التلبس :
إذا ما توافرت حالة من حالات التلبس حق لمأمور الضبط القضائي سلطة اتخاذ بعض الإجراءات. تلك الأخيرة قد تكون مجرد أعمال استدلال لا تتحرك بها الدعوى الجنائية ، وقد تكون على النقيض محض أعمال تحقيق ماسة بالحرية منحت سلطة اتخاذها لمأمور الضبط القضائي بصفة استثنائية بناء على الملائمة الإجرائية.
57- إجراءات الاستدلال في أحوال التلبس :
نصت المادة 31 إجراءات جنائية على أنه "يجب على مأمور الضبط القضائي في حالة التلبس بجناية أو جنحة أن ينتقل فوراً إلى محل الواقعة. ويعاين الآثار المادية للجريمة و يحافظ عليها ، ويثبت حالة الأماكن والأشخاص ، وكل ما يفيد في كشف الحقيقة ، ويسمع أقوال من كان حاضرا أو من يمكن الحصول منه على إيضاحات في شأن الواقعة ومرتكبها. ويجب عليه أن يخطر النيابة العامة فورا بانتقاله. ويقصد بانتقال مأمور الضبط القضائي المبادرة إلى التوجه لمكان الجريمة بمجرد إبلاغه بحدوثها دون اعتبار للوقت الذي يكون قد مضى بين وصوله وبين وقت ارتكاب الجريمة . وهذا الانتقال واجب مفروض على مأمور الضبط القضائي حتى في الأحوال العادية , إلا أن المشرع نص عليه صراحة بصدد حالة التلبس ، نظرا لأهميته في إثبات آثار الجريمة ، وهو أمر قد يتوقف عليه كشف حقيقة الجريمة وتحديد المسئول عنها. والالتزام بالانتقال الفوري قاصر على الجنايات والجنح دون المخالفات. ويشترط ألا يكون مكان الجريمة مما يعتبر قانوناً مسكناً ، ذلك أن المساكن تتمتع بحرمة خاصة لا تبرر حالة التلبس الخروج عليها.
ويقصد بإثبات حالة مكان الجريمة أن يقوم مأمور الضبط القضائي بوصف مكان الجريمة ، وبيان ما إذا كان هذا المكان داخل مساكن البلد أو في مكان خارجها ، وطبيعة الأرض التي ارتكبت عليها الجريمة. أما إثبات حالة الأشياء المتخلفة عن الجريمة فيقصد بها السلاح المستعمل في الجريمة ، والأدوات التي استخدمت في كسر الأبواب. أما إثبات حالة الأشخاص فيعني قيام مأمور الضبط القضائي بوصف حالة المجني عليه ، حياً أو ميتاً ، درجة الوعي لدية ، الإصابات التي في جسده ، أوصاف الجثة إن كان المجني عليه ميتاً ، وتقدير سن صاحبها علة وجه التقريب ، وموضعها الجغرافي بالنسبة للرأس والأقدام وما إذا كانت مسجاة على بطنها أو ظهرها أو جنبها ، وما إذا كانت هناك دماء في موقع الحادث.
وعلى مأمور الضبط القضائي واجب المحافظة على آثار الجريمة ، بأن يمنع كل شخص من الاقتراب من المكان ، أو يمنع رفع أو تحريك أي شيء من مكانه ، وله حق تعين حارس على المكان ، كما له حق وضع الأختام على الأماكن التي بها أثار أو أشياء تفيد في كشف الحقيقة.
وقد خولت المادة 32 إجراءات مأمور الضبط القضائي عند الانتقال إلى مكان الواقعة ، فضلاً عما سبق ، سلطة منع الحاضرين من مبارحة محل الواقعة أو الابتعاد عنه حتى يتم تحرير المحضر ، وحق استحضار من يمكن الحصول منه على إيضاحات في شأن الواقعة.
والأمر الذي يصدره مأمور الضبط القضائي بمنع الحاضرين من مبارحة مكان الواقعة أو الابتعاد عنه ، لا يعد قبضاً أو استيقافاً ، فهو مجرد إجراء تنظيمي قصد به أن يستقر النظام في هذا المكان حتى تتم المهمة التي حضر من أجلها ، على اعتبار أن هذا الإجراء هو من قبيل الإجراءات التنظيمية التي تقتضيها ظروف الحال تمكينا له من أداء المأمورية المنوط بها.
وقد مال البعض إلى القول بأنه يجوز لمأمور الضبط القضائي استخدام القوة أو القهر لحمل الحاضرين على عدم مبارحة مكان الواقعة أو الابتعاد عنه. وذلك استنادا إلى أن هذا الإجراء ليس من جنس أعمال الاستدلال العامة التي يجوز لمأمور الضبط القضائي القيام بها ، وأن لهذا الإجراء طابع الإكراه ، لاحتمال وجود أهم الشهود أو وجود المتهم نفسه بين الحاضرين .
ولدينا أنه لا يجوز لمأمور الضبط القضائي استخدام القوة أو القهر لإلزام الحاضرين بالبقاء في مكان الواقعة ، فذلك ليس مما أجازه النص ، وكل ما لمأمور الضبط القضائي عند مخالفة الأمر الذي يصدره أن يحرر محضراً بذلك يثبت فيه المخالفة ، ويحكم على المخالف بغرامة لا تزيد على ثلاثين جنيها (م.33/1 إجراءات جنائية).
وإذا كان المشرع قد خول مأمور الضبط القضائي في حالة التلبس سلطة الاستحضار في الحال لمن يمكن الحصول منه على إيضاحات في شأن الواقعة ، إلا أنه لا يملك أي وسيلة لحمل الأفراد على الاستجابة لدعوته بالحضور ، فذلك يتم دون استخدام أية وسيلة من وسائل القهر والإكراه طواعية من قبل الأفراد. فإذا امتنع أحد مما دعاهم بالحضور ، عد ذلك مخالفة ، وجاز أن تحكم فيها المحكمة الجزئية بغرامة لا تزيد على ثلاثين جنيها (م.33 إجراءات جنائية).
58- إجراءات التحقيق (الماسة بالحرية) في أحوال التلبس :
منح المشرع مأمور الضبط القضائي في حالة التلبس سلطة مباشرة بعض إجراءات التحقيق ما كانت تتم في الظروف العادية إلا بمعرفة سلطة التحقيق أو بناء على إذن منها ، وذلك استجابة لاعتبارات الملائمة الإجرائية وللضرورات العملية ولانتفاء مظنة الكيد والتعسف قبل المتهم. وهذه الإجراءات بينها قانون الإجراءات الجنائية في المواد 34 ، 35 فيما يتعلق بالقبض على الأشخاص والتحفظ عليهم ، والمواد 45 ، 46 فيما يتعلق بتفتيش الأشخاص والأماكن ، والمادة 55 فيما يتعلق بضبط الأشياء.
وفي الخلاف حول طبيعة الإجراءات الماسة بالحرية التي يباشرها مأمور الضبط في حالة التلبس ، مال البعض إلى القول بأن تلك الإجراءات تعد أعمال تحقيق بالمعنى الفني الدقيق ، حيث تتماثل الإجراءات الماسة بالحرية (القبض والتفتيش) التي يباشرها مأمور الضبط القضائي في حالة التلبس مع ذات الإجراءات التي تباشرها سلطة التحقيق. نعم ، أنه من الناحية الشكلية تعتبر هذه الإجراءات من أعمال الضبط القضائي ، ولكن العبرة دائماً هى بجوهر الإجراءات لا بشخص من باشرها. يؤيد ذلك أن المادة 34 إجراءات جنائية حين خولت مأمور الضبط القضائي سلطة القبض اشترطت فضلاً عن حالة التلبس توافر دلائل كافية على اتهام المقبوض عليه. فهذه الدلائل ، بالإضافة إلى التلبس تشير بوضوح إلى أن المقبوض عليه أصبح في مركز المتهم بالمعنى القانوني.
ولدينا أن هذه الإجراءات التي خولها المشرع لمأمور الضبط القضائي في تحقيق الجرائم المتلبس بها وإن كانت أعمال تحقيق ، إلا أنها ليست أعمال تحقيق حقيقية ، وإنما أعمال تحقيق متميزة خولت استثناء لمأمور الضبط القضائي ، فهى تظل إجراءات سابقة على الدعوى الجنائية. وبناء على ذلك فإنه لا يترتب عليها الآثار التي يرتبها القانون على أعمال التحقيق الحقيقية ، ومن أهمها تحريك الدعوى الجنائية ، إلا بعد إقرارها من سلطة التحقيق الأصلية سواء كانت النيابة العامة أو قاضي التحقيق . وما يؤكد ذلك أن القانون لم يخول تحريكا لدعوى الجنائية إلا للنيابة العامة ، ومن منح هذه السلطة استثناء ، وليس من بين هؤلاء مأمور الضبط القضائي ، لذلك لا يمكن اعتبار أعمال مأمور الضبط القضائي في جرائم التلبس تحريكاً لدعوى الجنائية. يدل على ذلك أنه إذا لم تقر سلطة التحقيق هذه الأعمال ، ورأت عدم السير في الدعوى ، فإنها تصدر أمراً بالحفظ وليس بعدم وجود وجه لإقامة الدعوى الجنائية .
59- القبض بناءً على التلبس :
القبض Arrestation من الإجراءات الخطيرة الماسة بالحرية الشخصية ، ويأتي على رأس إجراءات التحقيق. وبالنظر لتلك الخطورة حرصت كافة التشريعات على إحاطته بالضمانات الكافية صيانة لحقوق الإنسان ومحافظة على حرماته وحرياته. ومن أهم هذه الضمانات أنه لا يجوز اتخاذه إلا بمعرفة سلطة التحقيق أو بأمر منها. كما لا يجوز لمأمور الضبط القضائي القيام بهذا الإجراء إلا في الحالات الاستثنائية ، ومنها حالة التلبس. وهذا ما اتجه إليه المشرع الدستوري المصري حين قرر في المادة 41 من الدستور الحالي لعام 1971 على أن "الحرية الشخصية حق طبيعي وهي مصونة لا تمس ، وفيما عدا حالة التلبس لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حرسته بأي قيد أو منعه من التنقل إلا بأمر تستلزمه ضرورة التحقيق وصيانة أمن المجتمع ويصدر هذا الأمر من القاضي المختص أو النيابة العامة ، وذلك وفقاً لأحكام القانون". وتأكيدا لذلك نصت المادة 40 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه" لا يجوز القبض على أي إنسان أو حبسه إلا بأمر من السلطات المختصة قانوناً ، كما تجب معاملته بما يحفظ عليه كرامة الإنسان ولا يجوز إيذاؤه بدنيا أو معنوياً" .
وقد عرفت محكمة النقض القبض على الأشخاص بأنه "إمساكه من جسمه وتقييد حركته وحرمانه من حريته في التجول كما يريد دون أن يتعلق الأمر بقضاء فترة زمنية معينة" . على أن الإكراه أو القوة ليس من مستلزمات القبض ، فقد يمتثل الشخص لمأمور الضبط القضائي طواعية دون حاجة لاستخدام القوة. فالعنصر الجوهري في القبض هو تقييد حرية المقبوض عليه وحرمانه من الحركة أو التنقل كما يشاء ، ولو لفترة قصيرة.
ولعل العنصر الأخير يوقع الخلط بين القبض وبين بعض الإجراءات التي تقتضي المساس بالحرية ، ولكنها ليست قبضاً بالمعنى الفني الدقيق ، ومنها : الاستيقاف ، والتعرض المادي .
60- التمييز بين القبض والاستيقاف :
الاستيقاف غفل المشرع المصري عن تنظيمه ، وإن استخلص ضمناً من مجمل ما يقوم به مأمور الضبط القضائي في جمع الاستدلالات والتحري عن الجرائم عملاً بالمادة 24 من قانون الإجراءات الجنائية. وقد أخذت محكمة النقض على كاهلها عبء التعريف به بقولها أنه "إجراء يقوم به رجل السلطة العامة في سبيل التحري عن الجرائم وكشف مرتكبيها ، يسوغه اشتباه تبرره الظروف ، وهو أمر مباح لرجال السلطة العامة إذا ما وضع الشخص نفسه طواعية واختيارا في مواضع الريب والظن ، وكان هذا الوضع ينبئ عن ضرورة تستلزم تدخل المستوقف للتحري والكشف عن حقيقته عملاً بالمادة 24 إجراءات" .
ويختلف القبض عن الاستيقاف من عدة وجوه : فالقبض إجراء من إجراءات التحقيق لا يجوز مباشرته إلا من مأموري الضبط القضائي في حالة التلبس وبشروط محددة ، وذلك بخلاف الاستيقاف فإنه إجراء إداري جائز دائما لرجال السلطة العامة ولو لم يكونوا من مأموري الضبط القضائي. ويجوز اتخاذه إذا موضع الشخص نفسه طواعية منه واختيارا في موضع الريب والشبهات بما يبرر استيقافه للكشف عن حقيقة أمره. كما أن القبض بمعرفة مأمور الضبط القضائي يستلزم توافر حالة التلبس بالجريمة ، بينما الاستيقاف يجوز لمجرد الاشتباه أو الريبة حتى ولو لم تكن هناك جريمة. فغاية الاستيقاف هي مجرد إزالة أسباب الريبة والشك التي وضع الشخص نفسه فيها طوعا واختياراً . كما أن القبض يتضمن تقييداً لحرية المقبوض عليه وحرمانه من الحركة أو التنقل ، ولو تطلب الأمر استعمال القوة معه عند اللزوم ، بينما الاستيقاف لا ينطوي على تعطيل لحرية الشخص ، ولا يبيح في ذاته استعمال القوة معه ، وإنما ينحصر في مجرد إيقافه في الطريق لسؤاله عن اسمه وصنعته وعنوانه ووجهته ، أو طلب تقديم بطاقته الشخصية لاستكناه أمره . فضلاً عن ذلك فإن القبض يترتب عليه أثر إجرائي هو جواز تفتيش شخص المتهم ، بخلاف الاستيقاف فلا يجيز لرجل السلطة العامة تفتيش الشخص . وأخيراً فإن القبض يبيح احتجاز المتهم لمدة لا تتجاوز 24 ساعة بمعرفة مأمور الضبط القضائي ، بينما الاستيقاف لا يبيح سوى الوقت اللازم للتعرف على شخصية المشتبه فيه ثم يترك وشأنه. وقد سمحت محكمة النقض في بعض أحكامها لرجال البوليس ورجال الضبط باصطحاب المتهم الذي وضع نفسه مواضع الريبة والظن اختيارا إلى قسم البوليس لاستيضاحه والتحري عن أمره ، وأن ذلك لا يعد قبضا وإنما استيقافاً .
وفي رأينا أنه إذا لم تتوافر حالة من حالات التلبس ، فإن استيقاف الشخص لا يبرر تعطيل حرية الأخير إلا بالقدر المعقول الذي يسمح لرجل الضبط بسؤال المشتبه فيه عن اسمه وعنوانه ومقر إقامته والاستيضاح عن الأمور التي أوقعته في مدار الشبهات ، على أن لا يتجاوز ذلك إلى اقتياده إلى قسم الشرطة ، فمثل هذا الإجراء يعتبر باطلاً ، ذلك أنه قبض في معناه القانوني .
61- التمييز بين القبض والتعرض المادي :
أجاز المشرع للأفراد ولرجال السلطة العامة - ولو من غير رجال الضبط القضائي - في الجنح المتلبس بها أن يحضروا المتهم ويسلموه إلى أقرب مأمور من مأموري الضبط القضائي. فقد نص المشرع في المادة 37 إجراءات على أن "لكل من شاهد الجاني متلبسا بجناية أو جنحة يجوز فيها قانونا الحبس الاحتياطي ، أن يسلمه إلى أقرب رجل من رجال السلطة العامة دون احتياج إلى أمر بضبطه". كما نص في المادة 38 إجراءات على أن "لرجال السلطة العامة ، في الجنح المتلبس بها التي يجوز فيها الحكم بالحبس ، أن يحضروا المتهم ويسلموه إلى أقرب مأمور من مأموري الضبط القضائي ، ولهم ذلك أيضا في الجرائم الأخرى المتلبس بها إذا لم يمكن معرفة شخصية المتهم".
ويبين من قراءة المادتين 37 ، 38 إجراءات جنائية أن ما تقرر للأفراد العاديين ولرجال السلطة العامة بناء عليهما يتجاوز حد الاستيقاف ، وكنه لا يرقى إلى مرتبة القبض من الناحية القانونية ، فهو ليس مجرد إيقاف إنسان وضع نفسه موضع الريب في سبيل التعرف على شخصيته ، ولا هو تقييد لحريته والتعرض له وحجزه ولو لفترة بسيطة تمهيدا لاتخاذ بعض الإجراءات ضده ؛ بل هو مجرد التحفظ على المتهم واقتياده إلى أحد مأموري الضبط القضائي للحصول منه على الإيضاحات اللازمة في شأن الواقعة المنسوبة إليه. ومن ثم فهو مجرد تعرض مادي فحسب. وعلى هذا الأساس فلا يجوز احتجاز المتهم لفترة أطول مما يقتضيه التسليم ، وإلا عد ذلك قبضاً ، كما لا يجوز تفتيش المتهم ، ما لم يكن هذا التفتيش وقائي يهدف إلى مجرد تجريد المتهم من الأسلحة أو الآلات التي قد يستعملها في الاعتداء على من قاموا بضبطه .
ويفترق التعرض المادي للأفراد عن ذلك المقرر لرجال السلطة العامة من حيث النطاق. فبالنسبة للأفراد ، يكون التعرض المادي مقصوراً على حالة التلبس الحقيقي ، دون أحوال التلبس الحكمي ، أي يجب ضبط الجاني أثناء ارتكاب الجريمة في حالة تلبس ثم البحث عن المتهم. أما بالنسبة لرجال السلطة العامة فيكفي أن تكون الجريمة في حالة تلبس ولو لم يشاهد الجاني متلبساً بها. وكذلك اشترط القانون بالنسبة للتعرض المادي من جانب الأفراد أن تكون الجريمة جناية أو جنحة يجوز فيها الحبس الاحتياطي ، وهي الجنح التي يعاقب عليها القانون بالحبس لمدة تزيد على ثلاثة أشهر. أي أن القانون خول الأفراد حق التعرض المادي في ذات الأحوال التي يجوز فيها لمأمور الضبط القضائي القبض على الأشخاص ، وإن كان في حدود معينة. أما بالنسبة لرجال السلطة العامة فقد توسع في السلطة المخولة لهم ، فلم يقتصر الأمر على الأحوال التي يجوز فيها لمأمور الضبط القضائي القبض على الأشخاص ، وهي الجنح التي يعاقب عليها بالحبس لمدة لا تزيد على ثلاثة أشهر ، بل توسع في ذلك بحيث أجاز التعرض المادي في الجنح التي يجوز فيها الحكم بالحبس مطلقاً ، وأجاز لهم ذلك في الجرائم الأخرى ، سواء جنحة أم مخالفة ، ولو لم يعاقب عليها بالحبس ، إذا لم يمكن معرفة شخصية المتهم .
62- شروط القبض في أحوال التلبس :
نظراً لكون سلطة مأمور الضبط القضائي في أحوال التلبس سلطات استثنائية تنطوي على المساس بحريات الأفراد ، لذا قيد المشرع سلطة القبض على المتهم في أحوال التلبس بشروط معينة. منح المشرع لمأمور الضبط القضائي سلطة القبض على المتهم في أحوال التلبس بشروط معينة. فقد نصت المادة 34 من قانون الإجراءات الجنائية ، المعدلة بالقانون رقم 37 لسنة 1972 ، على أن "لمأمور الضبط القضائي في أحوال التلبس بالجنايات أو الجنح التي يعاقب عليها بالحبس لمدة تزيد على ثلاثة أشهر أن يأمر بالقبض على المتهم الحاضر الذي توجد دلائل كافية على اتهامه".
يفهم من ذلك أن المشرع قد أجاز لمأمور الضبط القضائي الحق في إصدار أمر بالقبض على المتهم الحاضر في أحوال التلبس ، دون إذن بذلك من النيابة العامة . ولما كان التلبس صفة تلازم الجريمة ذاتها لا شخص مرتكبها ، فإن توافره يسمح للمأمور الذي شاهد وقوعها أن يقبض على كل من يقوم دليل على مساهمته فيها سواء أكان فاعلا أصليا أم شريكا.
ويشترط لتوافر تلك السلطة لمأمور الضبط القضائي ، فضلاً عن استلزام قيام حالة من حالات التلبس ، أن تكون الجريمة محل التلبس جناية أو جنحة عقوبتها الحبس مدة لا تزيد عن ثلاثة أشهر ، والعبرة في تقدير العقوبة بما يرد به النص عليها في القانون لا بما ينطق به القاضي في الحكم. وعلة اشتراط أن تكون الجنحة معاقبا عليها بتلك العقوبة هو التوفيق بين إباحة القبض وبين جواز الحبس الاحتياطي الذي لا يكون طبقا للمادة 34 إجراءات إلا في الجنايات أو الجنح المعاقب عليها بالحبس لمدة تزيد على ثلاثة أشهر.
كما يجب أن تتوافر الدلائل الكافية على اتهام الشخص بالجريمة ، أي على ارتكابه لها أو مشاركته فيها. ولا يشترط أن ترقى تلك الدلائل إلى مرتبة الأدلة ، لأنها تستنتج من وقائع لا تؤدي بالضرورة وبحكم اللزوم العقلي إلى ثبوت الجريمة. وتقدير الدلائل التي تسوغ لمأمور الضبط القضائي القبض ، ومبلغ كفايتها ، يكون بداءة لرجل الضبط القضائي ، خاضعاً غي ذلك لرقابة سلطة التحقيق تحت إشراف محكمة الموضوع التي لها أن تقضي بعدم كفاية الدلائل أو بعدم توافرها, وإبطال القبض يترتب عليه إهدار كل دليل انكشف نتيجة القبض الباطل وعدم الاعتداد به في إدانة الشخص .
هذا كله إذا كان المتهم حاضراً ، فإذا لم يكن حاضراً ، وتوافرت شروط القبض المتعلقة بالجريمة وبالدلائل الكافية على الاتهام ، جاز لمأمور الضبط القضائي إصدار أمر بضبطه وإحضاره (المادة 35/1 إجراءات). وينفذ هذا الأمر بواسطة أحد المحضرين أو بواسطة رجال السلطة العامة (المادة 35/3 إجراءات). ويظل هذا الأمر نافذاً مدة ستة اشهر قياساً على ما ورد بشأن أمر الضبط والإحضار الذي يصدر عن سلطة التحقيق في المادتين 139 ، 201 إجراءات جنائية.
63- واجبات مأمور الضبط القضائي حال القبض على المتهم :
أوجبت المادة 36 إجراءات جنائية على مأمور الضبط القضائي أن يسمع فورا أقوال المتهم المقبوض عليه ، وإذا لم يأت بما يبرئه ، يرسله في مدى أربع وعشرين ساعة إلى النيابة العامة المختصة. ويعد هذا النص تطبيق لما ورد النص عليه في المادة 71 من الدستور التي تقضي بان يبلغ كل من يقبض عليه أو يعتقل بأسباب القبض عليه أو اعتقاله فوراً ، ويكون له حق الاتصال بمن يرى إبلاغه بما وقع أو الاستعانة به على الوجه الذي ينظمه القانون ، ويجب إعلانه على وجه السرعة بالتهم الموجهة إليه ، وله ولغيره التظلم أمام القضاء من الإجراء الذي قيد حريته الشخصية ، وينظم القانون حق التظلم بما يكفل الفصل فيه خلال مدة محددة ، وإلا وجب الإفراج حتماً. كما أوجبت المادة 139 من قانون الإجراءات الجنائية في فقرتها الأولى على أن "يبلغ فوراً كل من يقبض عليه أو يحبس احتياطيا بأسباب القبض عليه أو حبسه ، ويكون له حق الاتصال بمن يرى إبلاغه بما وقع والاستعانة بمحام ، ويجب إعلانه على وجه السرعة بالتهم الموجهة إليه".
ويقصد بسماع الأقوال ، سؤال المتهم عن التهمة المسندة إليه وإجابته عنها دون مناقشة تفصيلية في أدلة الاتهام بغية الإيقاع به وتقوية الأدلة القائمة ضده ، هذا الذي يعد استجواباً لا تملكه سوى سلطة التحقيق الأصلية. وإذا لم يأت المتهم بما يبرئه وجب على مأمور الضبط القضائي أن يرسله في مدى أربع وعشرين ساعة إلى النيابة المختصة. ولا يجوز لمأمور الضبط القضائي أن يستبقي المتهم لديه مدة أطول من ذلك ، وإلا ترتب على ذلك مؤاخذته جنائياً وتأديبياً. وإذا أرسل للنيابة العامة بعد هذا الموعد القانوني تعين الإفراج عنه فوراً ، نظرا لكون القبض وقت عرضه عليها يعتبر باطلاً ، فلا يجوز لها أن تصدر أمراً بالحبس الاحتياطي بناء على الإجراء الباطل. كما لا يجوز احتجاز المتهم لمدة أطول من أربع وعشرين ساعة من تاريخ عرضه على النيابة ، بل يتعين الإفراج عنه فوراً ، ما لم يستجوب في ظرف 24 ساعة من تاريخ عرضه عليها وتقرر حبسه احتياطيا.
64- التفتيش بناءً على التلبس :
التفتيش إجراء من إجراءات التحقيق ، لا يجوز تقريره إلا للبحث عن الأشياء الخاصة بالجريمة الجاري جمع الاستدلالات أو حصول التحقيق بشأنها (المادة 50/1 إجراءات جنائية). ومن ثم فلا يجوز إجراء التفتيش للتوصل إلى ضبط جريمة لم تقع أو يخشى وقوعها. والتفتيش بطبيعته بحثاً عن الشيء في مستودع السر ، ويتمثل هذا المستودع إما في شخص المتهم أو في المكان الذي يقيم فيه أو يعمل به.
ويتميز التفتيش عن عدة إجراءات أخرى ماسة بحرمة الحياة الخاصة ، تتشابه معه من حيث الشكل المادي أو كيفية القيام بها ولكنها لا ترقى إلى مستواه كإجراء من إجراءات التحقيق. ومن هذه الإجراءات التفتيش الوقائي ، والتفتيش الإداري ، والتفتيش برضاء المتهم ، وأخيراً دخول المنازل والأماكن لغير التفتيش.
65- التفتيش الوقائي :
التفتيش الوقائي هو الذي يهدف إلى تجريد الشخص مما يحتمل أن يكون بحوزته من أسلحة وأدوات أخرى قد يستعين بها في الاعتداء على غيره أو في الإضرار بنفسه. ويتم اتخاذ هذا التفتيش عند القيام بأي إجراء يتضمن التعرض القانوني للحريات الفردية سواء أكان بمناسبة قبض قانوني أم التعرض المادي. ولذا قضي بأن هذا التفتيش "أمر لازم لأنه من وسائل التوقي والتحوط من شر ما قبض عليه إذا ما سولت له نفسه التماسا للفرار أن يتعدى على غيره بما قد يكون محرزا له من سراح أو نحوه" . ويجب على مأمور الضبط القضائي التزام غاية هذا التفتيش ، أي يقتصر على التفتيش الخارجي ، فإذا ما ثبت أن المتهم لا يحمل شيئا خطراً لا يجوز البحث فيما هو أبعد من ذلك وإلا كان عملاً غير مشروع .
66- التفتيش الإداري :
التفتيش الإداري – ويسمى أيضاً التفتيش بناءً على تعاقد - إجراء يقوم به بعض الموظفين العموميين أو من في حكمهم ، وذلك بقصد تحقيق أهداف إدارية أو وقائية عامة للتحقق من تنفيذ ما تأمر به القوانين واللوائح وما تنهى عنه. فهو لا يجري أصلا للبحث عن أدلة جريمة معينة ، وإنما للتحقق من سلامة تطبيق القوانين واللوائح. ومن أمثلة التفتيش الإداري تفتيش عمال المصانع والمتاجر ، والتي تقضي لوائحها بتفتيش العاملين بها ، ويفترض بالتالي رضاء الشخص أو العامل بهذا الإجراء مسبقا بمجرد موافقته على العمل بالمصنع . ومن قبيل ذلك التفتيش الذي تقضي به قوانين السجون ولوائحه من تفتيش الزائرين والسجانين والمسجونين .
ومثال ذلك أيضا ما يسمح به قانون الجمارك من تفتيش للقادمين من الخارج والمغادرين داخل الدائرة الجمركية ، حيث أسبغ المشرع على بعض موظفي الجمارك صفة مأمور الضبط القضائي ، وخولهم بذلك حق تفتيش الأماكن والأشخاص والبضائع ووسائل النقل داخل الدائرة الجمركية ،(مادة 25 من القانون رقم 66 لسنة 1963).
وهنا يتعين الإشارة إلى أن القانون لم يتطلب توافر شروط القبض والتفتيش المقررة بقانون الإجراءات الجنائية ، وإنما خول موظفي الجمارك – دون بقية مأموري الضبط القضائي - سلطة التفتيش داخل الدائرة الجمركية لمجرد قيام حالة تنم عن شبهة في توافر تهريب جمركي (المادة 28 من قانون الجمارك) . والواقع أن النصوص القانونية التي تبيح التفتيش داخل الدائرة الجمركية تتنافى والمادة 41 من الدستور المصري لعام 1971 والتي تحظر القبض على أحد وتفتيشه إلا في حالة التلبس أو بأمر القاضي المختص أو النيابة العامة ، فالدستور أضفى بذلك حماية ضد التفتيش كإجراء من إجراءات التحقيق ، ويتعين أن تمتد هذه الحماية من باب أولى إلى كل انتهاك لحقوق الأشخاص في السرية . هذا إلا إذا اعتبر قانون الجمارك هذا التفتيش شرطاً لدخول الدائرة الجمركية ، وفي هذه الحالة يجد سنده في رضاء صاحب الشأن بالتفتيش الذي وضعه قانون الجمارك ، فإذا ما أسفر هذا التفتيش عن قيام جريمة في حالة تلبس ، فإن الدليل المستمد منه يكون صحيحاً.
67- الرضاء بالتفتيش :
لما كانت ضمانات الحرية الشخصية وحرمة المساكن ، من الحقوق العامة ، فرضت لحماية أسرار الحياة الخاصة للأفراد ، فإنه يجوز لمن تقررت له هذه الحماية أن ينزل عنها ويقبل تفتيش منزله أو شخصه في غير الأحوال التي يجيزها القانون . ويلاحظ أن الرضاء في هذه الحالة لا يصحح تفتيشاً وقع باطلاً من عيبه إذا لم يدفع صاحب الشأن ببطلانه ، أو إذا تراخى في التمسك بهذا البطلان. فالتفتيش هنا لا يعد من قبيل الذي قرره ونظمه قانون الإجراءات الجنائية كإجراء من إجراءات التحقيق شابه بطلان صححه رضاء المتهم ، لأن ثمة بطلان لم يقع أصلاً ، بل أن هذا الرضاء قد غير من طبيعة التفتيش الإجرائي ، بحيث أصبح إجراء آخر هو "الإطلاع على الأشياء والمعاينة" ، فلا محل إذا لوصف هذا التفتيش بالبطلان صححه رضاء المتهم أو عدم تمسكه بهذا البطلان .
على أنه يشترط أن يصدر الرضاء من الشخص المراد تفتيشه ، وأن يكون سابقاً على إجراء التفتيش. وأن يكون الرضاء صريحاً لا لبس فيه. ومن ثم فلا يعتبر مجرد السكوت وعدم الاعتراض رضاء بالتفتيش ، إذ من الجائز أن يكون ذلك منبعثا عن الخوف والاستسلام. لذلك يتعين أن يكون الرضا حراً لا إكراه فيه لا يشوبه غلط أو تدلس ، بأن يكون صادرا عن علم بالإجراء المطلوب وغايته منه ، وبأن من يقوم بتنفيذ التفتيش ليس له الحق في إجرائه قانوناً . على أنه لا يشترط أن يكون هذا الرضاء ثابتا بكتابة صادرة ممن حصل تفتيشه ، بل يكفي أن تستبين المحكمة ثبوته من وقائع الدعوى وظروفها. وإذا أسفر هذا التفتيش عن قيام جريمة في حالة التلبس ، فإنه يجوز لمأمور الضبط القضائي من تلقاء نفسه ضبط ما يعتبر حيازته جريمة.
وإذا كان ما يجرى تفتيشه مسكناً ، فقد استقر قضاء النقض على أن الرضاء قد يصدر من صاحبه أو حائزه أو من يقوم مقامه في غيبته . على أن محكمة النقض قد اشترطت لاعتبار الشخص حائزاً حق الرضاء بالتفتيش أن تكون إقامته بصورة مستمرة مع صاحب المكان ، فمجرد توافر الصلة فحسب لا يكفي لاعتباره حائزاً ، ويكون الرضا بالتفتيش في هذه الحالة قد صدر ممن لا يملكه ، ويضحى التفتيش باطلا ويبطل ما يترتب عليه من آثار . على أنه إذا أسفر تفتيش المنزل برضاء صاحبه عن قيام جريمة في حالة تلبس فإنها لا تجيز لمأمور الضبط القضائي سوى القبض على الشخص وتفتيشه (المادة 41 من الدستور) ، ولا يجوز له إجراء التفتيش الإجرائي للبحث عن الأشياء الخاصة بالجريمة المتلبس بها إلا إذا صدر له أمر قضائي مسبب ممن يملك سلطة التحقيق (المادة 44 من الدستور).
68- دخول المنازل لغير التفتيش :
حرص الدستور المصري في المادة 44 منه على النص على أن "للمساكن حرمة فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بأمر قضائي مسبب وفقا لأحكام القانون". وإعمالاً لهذا النص أكدت المادة 45 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه"لا يجوز لرجال السلطة الدخول في أي محل مسكون إلا في الأحوال المبينة في القانون ، أو في حالة طلب المساعدة من الداخل أو في حالة الحريق أو الغرق أو ما شابه ذلك".
وهكذا سمح المشرع لرجال السلطة العامة بدخول المساكن – في غير الأحوال المقررة قانوناً - لمجرد القيام بعمل مادي تقتضيه الضرورة. وقد مثلت المادة 45 سالفة الذكر لهذه الأعمال بحالة طلب المساعدة من الداخل أو في حالة الحريق أو الغرق. وقد أضافت
محكمة النقض إلى تلك الأحوال حالة تعقب المتهم بقصد تنفيذ أمر القبض عليه. إذ اعتبر ذلك مجرد عمل مادي تقتضيه ضرورة تعقب المتهم أينما وجد لتنفيذ الأمر بضبطه وتفتشيه. وعلى كل حال فإن الضرورة تقدر بقدرها ، بحيث لا يجوز لمأمور الضبط القضائي سوى تحقيق الغرض الذي استدعته تلك الضرورة ، فالدخول مقيد بالغاية التي من أجلها منح مأمور الضبط القضائي هذه السلطة. لذلك إذا أسفر دخول المنزل في هذه الحالة عن ضبط جريمة في حالة تلبس بطل تفتيش المسكن المترتب على هذه الحالة. على أنه يجوز لمأمور الضبط في تلك الحالة القبض على المتهم وتفتيشه بشخصه .
69- تفتيش الأشخاص في أحوال التلبس :
أجاز له تفتيش الأشخاص في الحالات التي يجوز فيها القبض عليهم (المادة 46/1 إجراءات) ، كما أجاز له هذا التفتيش تبعا لتفتيش المنزل إذا ما توافرت شروط معينة (المادة 49 إجراءات).
فقد نصت المادة 46 من قانون الإجراءات الجنائية على أنه "في الأحوال التي يجوز فيها القبض قانونا على المتهم يجوز لمأمور الضبط أن يفتشه". وهذا النص يقرر مبدأ استقر في قضاء النقض مؤداه أنه "كلما كان القبض صحيحاً كان التفتيش الذي يرى من خول إجراءه على المقبوض عليه صحيحا" . فالتفتيش من توابع القبض ومستلزماته . على أنه لا يجب أن يفهم من ذلك أنه يشترط لصحة التفتيش أن يكون قد سبقه قبض على المتهم. فعلى حد قول محكمة النقض أن الشارع لم يشترط لإيقاع هذين الإجراءين ترتيبا معينا ، ومن ثم فإن ما تنعاه الطاعنة من بطلان إجراءات الضبط وفساد دليل الكشف على المخدر المستمد منها ، استنادا إلى أن القبض عليها كان تاليا لتفتيش عباءتها ، لا يستند إلى أساس صحيح في القانون .
والسائد فقهاً أن التفتيش المقصود في المادة 46/1 إجراءات جنائية لا يقتصر على التفتيش الوقائي ، وإنما هو حق عام ينطبق على جميع الأحوال التي يجوز فيها القبض على المتهم بحثاً عن أدلة الجريمة التي في حيازته وضبطها (التفتيش بالمعنى الفني). وفي ذلك تقول محكمة النقض "القول بأن التفتيش المشار إليه في هذه المادة قصد به التفتيش الوقائي هو خروج بالنص من مجال التعميم الذي تدل عليه عبارته إلى نطاق التخصيص الذي لا موقع له من موضع النص ولا من صيغته التي أحال فيها بصورة مطلقة على الأحوال التي تجيز القبض قانونا على المتهم" .
هذا وقد أباح المشرع ، بموجب نص المادة 49 إجراءات جنائية ، تفتيش الشخص الموجود في المنزل سواء أكان متهما أم غير متهم ، إذا قامت قرائن قوية على أنه يخفي شيئاً يفيد في كشف الحقيقة. وهذا التفتيش لا يرتبط بحالات القبض على المتهم ، بل أنه مرتبط بتفتيش منزل المتهم. ومن ثم وجب أن يكون تفتيش المنزل جائزاً قانوناً ، بأن يكون بأمر قضائي مسبب وفقا لأحكام القانون ؛ فضلاً عن ضرورة توافر قرائن قوية على أن المتهم أو شخص سواه يخفي شيئاً يفيد في كشف الحقيقة . وتقدير هذه القرائن ومبلغ كفايتها لمأمور الضبط القضائي ، ويكون تقديره خاضعا لرقابة سلطة التحقيق ومحكمة الموضوع.
ويظهر من تلك الشروط أن هذا الحق المقرر لمأموري الضبط القضائي إنما هو أمر استثنائي لا يجب التوسع فيه. وعلى هذا فلا يجوز لمأمور الضبط القضائي تفتيش شخص خارج المنزل ولو وجدت قرائن قوية على أنه يخفي شيئا يفيد في كشف الحقيقة ، إلا إذا قام في حق هذا الشخص حالة من الحالات التي تجيز القبض عليه ، كما لو كانت الجريمة في حالة تلبس ، فتفتيشه في هذه الحالة يكون مستندا إلى توافر حالة من حالات القبض وليس أثرا لتفتيش المسكن.
ولدينا أن تقرير الحق في تفتيش الشخص الموجود بالمنزل سواء كان متهما أو غير متهم بناء على نص المادة 49 فيه توسع يتعارض مع أحكام المادة 41 من الدستور ، طالما لم يتوافر بشأن الأشياء التي يخفيها المتهم أو غيره حالة من حالات التلبس. وهذا الرأي هو ما أيده قضاء النقض حين قال أن "مفاد ما قضى به المادة 49 من قانون الإجراءات الجنائية من تخويل مأمور الضبط القضائي الحق في تفتيش الشخص إذا قامت ضده أثناء تفتيش منزل المتهم قرائن قوية على أنه يخفي معه شيئا يفيد في كشف الحقيقة دون أن يصدر أمر قضائي ممن يملك سلطة إصداره ، أو أن تتوافر في حقه حالة التلبس يخالف حكم المادة 41 من الدستور ، لذلك فإن المادة 49 من قانون الإجراءات الجنائية تعتبر منسوخة ضمنا بقوة الدستور نفسه منذ تاريخ العمل بأحكامه دون تربص صدور قانون أدنى ، ولا يجوز الاستناد إليها في إجراء القبض والتفتيش منذ ذلك التاريخ" .
ويجب أن يخضع تفتيش الأشخاص في جميع الأحوال للضمانات القانونية المقررة. فيشترط أن يجري بمعرفة أحد مأموري الضبط القضائي دون غيره ، بحيث لا يجوز له أن يندب أحد رجال السلطة العامة لإجرائه. على أنه يجوز له أن يستعين في إجراء التفتيش بمن يرى مساعدته فيه من معاونيه ولو لم يكونوا من رجال الضبط ما داموا يعملون تحت إشرافه. كما يجب أن يراعى في تفتيش شخص المتهم ألا يكون فيه مساس بشرفه أو كرامته أو منافاة للآداب العامة. فإذا أخفى المتهم شيئاً في موضع عورة منه لا يجوز المساس بهذه العورة ، لما يتضمنه ذلك من هتك عرض المتهم ، وهو ما لا يجيزه القانون حماية للآداب العامة. كما لا يجوز أن يتضمن التفتيش مساساً بسلامة جسم المتهم أو إيذاء بدنياً أو معنوياً.
وإذا كان المراد تفتيشه أنثى ، فيجب أن يكون التفتيش بمعرفة أنثى يندبها لذلك مأمور الضبط القضائي (المادة 46/2 إجراءات). وهذا الندب يسري على كل تفتيش يكون محله أنثى ، ولذلك فهو واجب التطبيق بالنسبة إلى الحالة التي ترتبط بتفتيش المسكن (المادة 49). وهي قاعدة ذات اتصال بالنظام العام بحيث لو أجرى رجل الضبط القضائي هذا التفتيش بنفسه يعد باطلاً ، ولو رضيت به الأنثى رضاء صريحاً ، شريطة أن يكون التفتيش أن يجري في مواضع تخدش حياء الأنثى إن أجراه رجلاً. ولدينا أنه لا يجوز ندب طبيب من الرجال لتفتيش الأنثى ، بمقوله أن له حق توقيع الكشف الطبي عليها بحسبانه خبيراً ، فالقانون حين أجاز للطبيب الكشف على الأنثى ، إنما قرره لمصلحتها بقصد العلاج وبرضاء مسبق منها. هذا كله ما لم يتخذ التفتيش صورة عمل طبي يحتاج إلى خبرة خاصة لا تتوافر إلا في طبيب.
70- تفتيش المنازل في أحوال التلبس :
لما كان تفتيش المنازل – بحسبانها مستودع للسر وموضع سكينة الشخص - انتهاك خطير لحرمتها ، لذا فقد حرص دستور 1971 على تقرير بعض الضمانات بغية صيانة تلك الحرمة. وهكذا نصت المادة 44 منه على أن "للمساكن حرمة فلا يجوز دخولها ولا تفتيشها إلا بأمر قضائي مسبب وقفا لأحكام القانون". وبغية التوفيق بين نصوص قانون الإجراءات الجنائية وهذا النص الدستوري تدخل المشرع بموجب القانون رقم 37 لسنة 1972 بشأن الحريات العامة ، من أجل تعديل بعض نصوص قانون الإجراءات الجنائية. وهكذا تم تعديل المادة 91 من قانون الإجراءات الجنائية بحيث اشترطت لدخول المسكن وتفتيشه صدور أمر من قاضي التحقيق ، وأن يكون هذا الأمر مسبباً ، كما عدلت المادة 206 من ذات القانون ، واستلزمت لتفتيش غير المتهم أو منزل غير منزله أن تحصل النيابة العامة على أمر مسبب بذلك من القاضي الجزئي بعد إطلاعه على الأوراق. ومن ناحية أخرى ألغى نص المادة 48 إجراءات التي كانت تخول مأمور الضبط القضائي سلطة تفتيش منازل الأشخاص الموضوعين تحت مراقبة البوليس إذا وجدت أوجه قوية للاشتباه في أنهم ارتكبوا جناية أو جنحة.
غير أن المشرع قد غفل عن تعديل المادة 47 إجراءات جنائية التي تخول مأمور الضبط القضائي في حالة التلبس بجناية أو جنحة أن حق تفتيش منزل المتهم. وقد ترتب على هذا الغفل أن طرح الفقه التساؤل حول جواز إعمال حكم هذه المادة.
المستقر عليه فقهاً أن هناك ثمة تعارض بين المادة 47 إجراءات والمادة 44 من الدستور . وأنه لما كان الدستور هو القانون الأعلى مرتبة ، فإنه إذا ما تعارض نص لقانون مع نص الدستور وجب إعمال هذا النص الأخير وإهدار ما سواه. ولما كان ذلك وكان ما قضى به الدستور في المادة 44 من حظر دخول المساكن أو تفتيشها إلا بناء على أمر قضائي مسبب ولم يستثني من ذلك حالة التلبس ، بخلاف الحال في تفتيش الأشخاص فقد أجازته المادة 41 من الدستور في حالة التلبس دون استلزام أمر قضائي. لذلك لا يجوز إهدار هاتين الضمانتين اللتين قررهما الدستور لصون حرمة المسكن. ولا يجوز القول باستثناء حالة التلبس من حكم هاتين الضمانتين قياساً على استثناء هذه الحالة من ضمانة صدور الأمر القضائي في حالة تفتيش الشخص أو القبض عليه ، ذلك أن هذا الاستثناء لا يقاس عليه. ولا يمكن التعلل لرفض هذا الرأي بمقوله أن حالة التلبس تقتضي سرعة القيام بالإجراءات وإلا أهدرت الغاية المرجوة منها ، ذلك أن مأمور الضبط القضائي يملك الحق في اتخاذ التدابير التحفظية للمحافظة على الأدلة (م.24 إجراءات جنائية). ومن ثم فإن ما تقرر بالمادة 47 إجراءات الجنائية من تخويل مأمور الضبط القضائي الحق في إجراء تفتيش المسكن في حالة التلبس دون أن يصدر له أمر قضائي مسبب ، يكون قد تضمن حكماً مخالفا للمادة 44 من الدستور ، ويكون قد نسخ ضمناً بقوة الدستور ، ويكون صدور أمر قضائي ومسبب لدخول المسكن أو تفتيشه لابد منه بعد العمل بأحكام الدستور دون حاجة لتعديل أو إلغاء المادة 47 من قانون الإجراءات الجنائية.
وهذا ما انتهت إليه المحكمة الدستورية العليا حين عرض عليه الأمر . فقد جاء في حكمها الأشهر حول المادة 47 من قانون الإجراءات الجنائية أن "المشرع الدستوري قد فرق في الحكم بين تفتيش الأشخاص وتفتيش المساكن فيما يتعلق بضرورة أن يتم التفتيش في الحالتين بأمر قضائي ممن له سلطة التحقيق أو من القاضي المختص كضمانة أساسية لحصول التفتيش تحت إشراف مسبق من القضاء ، فقد استثنت المادة 41 من الدستور من هذه الضمانة حالة التلبس بالجريمة بالنسبة للقبض على الشخص وتفتيشه ، فضلا عن عدم اشتراطها تسبيب أمر القاضي المختص أو النيابة العامة بالتفتيش ، في حين أن المادة 44 من الدستور لم تستثني حالة التلبس من ضرورة صدور أمر قضائي مسبب ممن له سلطة التحقيق أو من القاضي المختص بتفتيش المسكن سواء قام به الآمر بنفسه أم أذن لمأمور الضبط القضائي بإجرائه ، فجاء نص المادة 44 من الدستور المشار إليه عاما مطلقاً لم يرد عليه ما يخصصه أو يقيده ، مما مؤداه أن هذا النص الدستوري يستلزم في جميع أحوال تفتيش المساكن صدور الأمر القضائي المسبب...ولا يحق القول باستثناء حالة التلبس من حكم هاتين الضمانتين – أي صدور الأمر القضائي وأن يكون الأمر مسبباً -قياسا على إخراجها من ضمانة صدور الأمر القضائي في حالة تفتيش الشخص أو القبض عليه ، ذلك بأن الاستثناء لا يقاس عليه كما أنه لا محل للقياس عند وجود النص الدستوري الواضح الدلالة. ولا يغير من ذلك ما جاء بعجز المادة 44 من الدستور بعد إيرادها هاتين الضمانتين أن ذلك"وفقا لأحكام القانون" لأن هذه العبارة لا تعني تفويض المشرع العادي في إخراج حالة التلبس بالجريمة من الخضوع للضمانتين اللتين اشترطهما الدستور في المادة 44 سالفة الذكر ، وإنما تشير عبارة "وفقا لأحكام القانون" إلى الإحالة إلى القانون العادي في تحديد الجرائم التي يجوز فيها صدور الأمر بالتفتيش وبيان كيفية صدوره وتسبيبه إلى غير ذلك من الإجراءات التي يتم بها هذا التفتيش.
وهكذا أصبح تفتيش المساكن غير جائز لمأمور الضبط القضائي ولو في حالة التلبس إلا بناء على أمر قضائي مسبب ، سواء في ذلك منزل المتهم أو منزل غير المتهم. بل ولا تستطيع النيابة العامة أن تندب مأمور الضبط لتفتيش مسكن غير المتهم ، ذلك أن النيابة العامة لا تملك ذاتها إجراء هذا التفتيش إلا بناء على أمر مسبب بذلك من القاضي الجزئي بعد إطلاعه على الأوراق (المادة 206 إجراءات). كما لا يجوز للقاضي الجزئي – حال الرغبة في تفتيش مسكن غير المتهم - أن يصدر الأمر إلى مأمور الضبط القضائي مباشرة ، كما لا يجوز لهذا الأخير أن يطلب هذا الأمر من القاضي الجزئي.
وبزوال سلطة مأمور الضبط القضائي في تفتيش المساكن إلا بأمر قضائي مسبب ، يظل له فقط اتخاذ جميع الوسائل التحفظية اللازمة للمحافظة على أدلة الجريمة (المادة 24/1 إجراءات) ، وله أن يضع الأختام على الأماكن التي بها آثار أو أشياء تفيد في كشف الحقيقة وله أن يقيم حراساً عليها (المادة 53 إجراءات).
71- حكم تفتيش المتاجر والسيارات :
في الواقع لقد تضاربت الأحكام حول حكم تفتيش المساكن. فبعض الأحكام ذهبت في إلى أن "حرمة محل التجارة مستمدة من اتصاله بشخص صاحبه" . وفي أحكام أخرى ذهبت إلى أن "للمتجر حرمة مستمدة من اتصاله بشخص صاحبه أو بمسكنه" . وفي حكم آخر أضفت حكم المسكن على المتجر عند غياب صاحبه نفسه ، حتى ولو كان بابه مفتوحا أثناء النهار . ثم عادت في حكم آخر وأضفت على المتجر حكم الشخص حيث قضت بأن "المشرع بما نص عليه في المادة 44 من الدستور والمادة 91 من قانون الإجراءات لم يتطلب تسبيب أمر التفتيش إلا حين ينصب على المسكن ، والحال في الدعوى الماثلة أن أمر النيابة العامة بالتفتيش انصب على شخص الطاعن ومتجره دون مسكنه فلا موجب لتسبيبه" .
والحق أن المحال التجارية قد ترتبط بالشخص ، وقد ترتبط بالمسكن. فالمتجر يكون مرتبطا بالشخص عند وجوده فيه ، ومن الممكن أن يرتبط بمسكنه إذا كان من ملحقات هذا المسكن أو في حالة غياب صاحبه نفسه سواء كان المتجر مغلقاً أم مفتوحاً أثناء النهار. وعلى ذلك فإنه يجوز لمأمور الضبط القضائي تفتيش المتجر كلما كان جائزا تفتيش شخص حائزه عند وجوده فيه إذا توافرت حالة التلبس دون استصدار أمر قضائي ، أما إذا ارتبط المتجر بمسكن الشخص كما لو كان من ملحقاته أو في حالة غياب صاحبه عنه فلا يجوز تفتيش المتجر ، ولو في حالة التلبس ، إلا بصدور أمر قضائي مسبب.
هذا الخلاف لا نلمسه بشأن تفتيش السيارات. فالمتفق عليه فقهاً وقضاءً أن السيارة ليست مسكناً ، ولذلك فإن تفتيش السيارات لا يخضع إلى الضمانات والقواعد المقررة للمساكن. وبناء على ذلك قضي بأن "حرمة السيارة الخاصة مستمدة من اتصالها بشخص صاحبها أو حائزها" . ومن ثم يسري على تفتيشها أحكام تفتيش الأشخاص طالما هي في حيازة صاحبها أو حائزها ، أو برضائه متى كان متواجداً بها وقت التفتيش . أما إذا كانت السيارة الخاصة داخل أحد ملحقات المسكن ، فإن تفتيشها يأخذ حكم المكان المسكون فلابد من استصدار أمر قضائي مسبب قبل التفتيش .
ونعتقد أن ما يسري على السيارات الخاصة يسري بدوره على السيارات الأجرة. ومن ثم فإن تفتيش تلك الأخيرة يرتبط بتفتيش شخص حائزها أو ركابها إذا توافرت حالة التلبس. وإذا كان لمأمور الضبط القضائي إصدار أمر بوقف مركبات السير الخاصة والأجرة على السواء ، بغية التأكد من مراعاة قواعد التراخيص وأمن الطرق ، أو بغية البحث عن مجرم هارب أو التأكد من شخصية ركابها...الخ ، فإن هذا الإيقاف لا يخول لمأمور الضبط القضائي سلطة تفتيش السيارة ، متى لم تتوافر أحد حالات التلبس التي تبيح تفتيش السيارة وما بها من ركاب.
أما بالنسبة للسيارات العامة وسائر المواصلات العامة فإن تفتيشها يسري عليه ما يسري على تفتيش الأماكن العامة . ومن ثم يجوز تفتيشها ولو في غير حالة التلبس. غير أن هذا التفتيش لا ينصرف إلى الركاب أو أمتعتهم إلا إذا توافرت حالة التلبس أو بإذن من سلطة التحقيق.
72- ثانياً : دور الشرطة القضائية في أحوال الندب للتحقيق :
73- أ : التعريف بالندب وبيان مبرراته :
سبق لنا التأكيد على أن اختصاص مأمور الضبط القضائي يقتصر على الاستدلال ، دون أعمال التحقيق الابتدائي ، فهي من اختصاص سلطات التحقيق سواء كانت النيابة العامة أم قاضي التحقيق. ومع ذلك فقد أجاز المشرع لسلطات التحقيق أن تندب أحد مأموري الضبط القضائي ، لمباشرة بعض إجراءات التحقيق. فقد نصت المادة 70 إجراءات جنائية على أنه "لقاضي التحقيق أن يكلف أحد أعضاء النيابة العامة أو أحد مأموري الضبط القضائي القيام بعمل معين أو أكثر من أعمال التحقيق عدا استجواب المتهم ، ويكون للمندوب في حدود ندبه كل السلطة التي لقاضي التحقيق. وله إذا دعت الحال لاتخاذ أي إجراء من الإجراءات خارج دائرة اختصاصه أن يكلف به قاضي محكمة الجهة أو أحد أعضاء النيابة أو أحد مأموري الضبط القضائي بها". كما نصت المادة 200 إجراءات جنائية على أن "لكل من أعضاء النيابة العامة في حالة إجراء التحقيق بنفسه أن يكلف أي مأمور من مأموري الضبط القضائي ببعض الأعمال التي من خصائصه".
والندب – المسمى في العمل الأذن - بذاته إجراء من إجراءات التحقيق ، ومن ثم تتحرك به الدعوى الجنائية ، كما تنقطع به مدة التقادم ، ولو لم يقم المندوب بتنفيذ هذا الانتداب . ويترتب على الانتداب ، تمتع مأمور الضبط القضائي المنتدب للتحقيق ، بكافة السلطات التي تتمتع بها السلطة الآمرة ، ويتقيد بذات الشروط التي تتقيد بها في حدود الإجراء أو الإجراءات المنتدب لمباشرتها.
ويجد الندب عادة مبرره في بعض الاعتبارات العملية ، التي قد تنشأ نتيجة كثرة أعمال التحقيق مما لا يتسع الوقت لمباشرتها جميعا من قبل سلطة التحقيق الأصلية. بل يكمن أن تنشأ اعتبارات إجرائية توجب الندب ، كأن يكون العمل المراد إجراؤه في خارج دائرة اختصاص سلطة التحقيق المحلي ، أو حينما تقتضي سرعة الكشف عن الحقيقة مباشرة عدة إجراءات في أكثر من مكان وفي نفس الوقت ، مما يصعب على سلطة التحقيق أن تقوم بهذه الإجراءات. هذا كله فضلاً عن أن بعض أعمال التحقيق ، كالقبض والتفتيش ، تقتضي مكنات جسمانية ، عادة لا تتوافر إلا بالنسبة لمأمور الضبط القضائي بحكم تأهيلهم المهني.
74- ب : شروط الندب للتحقيق :
أوجب المشرع لصحة الندب نوعان من الشروط : بعضها موضوعي تتصل بصفة الآمر بالندب ، وصفة المندوب ، ومحل الندب ؛ وبعضها ذات طبيعة شكلية تتصل بالشكل اللازم في أمر الندب ذاته.
75- الشروط الموضوعية للندب :
بقراءة المواد 70 ، 200 من قانون الإجراءات الجنائية يتبين أن أمر الندب يجب أن يصدر من سلطة خصها القانون بالتحقيق ، وأجاز لها ندب غيرها. وعلى ذلك فإن لقاضي التحقيق (م70) وللنيابة العامة (م.200) سلطة ندب غيرهم من جهات التحقيق أو أحد مأموري الضبط القضائي. وعلى ذلك فلا يجوز لمأمور الضبط القضائي عند مباشرته بعض إجراءات التحقيق أن ينتدب غيره من مأموري الضبطية القضائية لاتخاذ أي من هذه الإجراءات ، ذلك أن القانون لم يخوله سلطة الندب .
وفوق ذلك يتعين أن يكون الآمر بالندب مختصاً نوعياً باتخاذ الإجراء الذي يندب له مأمور الضبط القضائي ، لأن الانتداب تفويض لا اختصاص ، فلا يجوز للسلطة الآمرة أن تندب مأمور الضبط القضائي لمباشرة إجراء لا تملكه. مثال ذلك الندب الصادر من وكيل النيابة لتفتيش منزل غير المتهم ، فهذا الإجراء لا يملكه وكيل النيابة إلا بعد استصدار إذن من القاضي الجزئي ، وبالتالي فهو لا يملك ندب غيره طالما أنه خارج عن حدود اختصاصه . وكذلك لا يجوز للقاضي الجزئي أن ينتدب مأمور الضبط القضائي لتفتيش منزل غير المتهم أو لمراقبة المكالمات التليفونية ، ذلك أنه لا يملك مباشرة هذا الإجراء ، بل تنحصر سلطته في الإذن للنيابة العامة باتخاذ الإجراء ، وللنيابة العامة سلطة ندب من تراه من مأموري الضبط لتنفيذ الإجراء . كما يشترط ألا توجد عقبة قانونية تحول بين الآمر بالندب وأن يقوم بنفسه بالإجراء محل الندب ، كأن تكون الدعوى الجنائية معلقة رفعها على شكوى أو طلب أو إذن .
وعلاوة على الاختصاص النوعي يتعين أن يكون الآمر بالندب مختصاً مكانياً بما يندب إليه من أعمال التحقيق ، فلا يكون الندب صحيحا إذا صدر من وكيل نيابة لاتخاذ إجراء في جريمة غير داخلة في دائرة اختصاصه. والاختصاص المكاني يتحدد بمكان ارتكاب الجريمة أو مكان إقامة المتهم أو مكان ضبطه ، فإذا لم تدخل الجريمة في دائرة اختصاص وكيل النيابة بأحد هذه المعايير ، فلا يكون مختصاً بالتحقيق مكانياً ، فلا يجوز له بالتالي أن يندب مأمور الضبط القضائي لمباشرة أي من إجراءاتها .
ويجب أن يظل اختصاص سلطة التحقيق قائماً ، وعلى ذلك فلا يجوز إصدار ندب لمأمور الضبط القضائي لمباشرة إجراء من إجراءات التحقيق في جريمة مستقبلة محتملة الوقوع لكونها لم تدخل في اختصاصه بعد . ولا يجوز أيضا أن يصدر عضو النيابة العامة ندباً لمأمور الضبط القضائي في شأن دعوى أصدر فيها أمراً بعدم وجود وجه لإقامة الدعوى الجنائية. ولا يجوز من باب أولى أن ينفذ مأمور الضبط القضائي أمراً كان قد صدر إليه ولم ينفذ حتى صدر أمر بالأوجه لإقامة الدعوى ، فإن الندب ينتهي سريانه بصدور الأمر بالأوجه ، كما ينتهي بطرح الدعوى على قضاء الحكم.
ويجب أن يصدر أمر الندب إلى أحد مأموري الضبط القضائي المختصين مكانياً ونوعياً ، فلا يجوز ندب غيرهم من مرؤوسيهم أو معاونيهم ، ومن باب أولى لا يجوز ندب غيرهم من مأموري الضبط القضائي غير المختصين بالجريمة. على أن هذا لا يمنع من أن يستعين مأمور الضبط الصادر إليه أمر الندب بمساعديه في تنفيذه ما دام ذلك تحت بصره وإشرافه وعلى مرأى منه . ويتعين تحديد مأمور الضبط القضائي في أمر الندب ، ولا يشترط أن يكون هذا التحديد بالاسم بل يكفي التحديد بالاختصاص الوظيفي. وفي هذه الحالة يمكن أن يباشر الإجراء أي مأمور ضبط قضائي ممن يشغلون هذه الوظيفة ، ولو كان غير الذي طلب الإذن به. أما إذا تحدد الندب باسم واحد معين لم يكن لهذا المنتدب أن يندب غيره ما لم يخول ذلك في الأمر . وإذا صدر أمر الندب لأكثر من مأمور ضبط قضائي لتنفيذ الإجراء ، جاز لأحدهم أن يقوم به منفرداً. أما إذا كان أمر الندب استلزم أن يباشر الإجراء بمعرفة جميع من حددوا فيه ، فإنه لا يجوز أن ينفرد أحدهم بمباشرة الإجراء دون اشتراك الباقين معه ، كما لا يجوز من باب أولى أن يندب غيره من مأموري الضبط دون اشتراكه معهم.
ووفقاً لقضاء النقض يلزم أن يكون مأمور الضبط المنتدب للتحقيق عالماً عالما بالإذن قبل إجراء التحقيق ، ومتى توافر له العلم فإن مجرد سهوه عن الإشارة في محضر التحقيق إلى الإذن الصادر إليه لا يكفي للقول بأنه لم يكن عالما به. وهذا القضاء موفق على أساس أن إجراءات التحقيق ليست من الاختصاصات الذاتية لمأمور الضبط القضائي ، بل هي من اختصاص سلطة التحقيق ، وأحاطها المشرع بضمانات معينة حماية لحريات الأفراد ومنعا لاحتمال التعسف معهم.
ويلزم فوق ذلك أن يكون محل أمر الندب أمراً مشروعاً ، وهو لا يكون كذلك إلا إذا انصب أمر الندب على إجراء بعينه يحدد في الأمر. فقد ألزم المشرع قاضي التحقيق "ببيان المسائل المطلوب تحقيقها والإجراءات المطلوب اتخاذها". وتحديد نطاق الندب ومداه قد ورد في القانون "مطلقا يسري على كافة إجراءات التحقيق وينتج أثره بشرط أن يصدر صريحاً ممن يملكه وأن ينصب على عمل معين أو أكثر من أعمال التحقيق" . ومن ثم فإنه يجوز الندب لإجراء الضبط أو التفتيش أو المعاينة أو سماع الشهود. كما يصح ندب مأمور الضبط القضائي لتنفيذ إذن القاضي الجزئي بمراقبة تليفون أو تفريغ التسجيلات الصوتية .
غير أنه يحظر أن ينتدب مأمور الضبط القضائي من أجل تحقيق قضية برمتها. ففي ذلك معنى تخلي جهة التحقيق عن السلطة التي قصد المشرع أن يخصها بها توفيراً لضمانات للمتهمين لا تتوافر في مأمور الضبط القضائي . ولا يستثنى من هذا الحظر سوى معاون النيابة الذي أجاز قانون السلطة القضائية عند الضرورة تكليفه لتحقيق قضية بأكملها (المادة 22/2) .
هذا وقد استثنى المشرع من الإجراءات التي تكون موضوعا للندب الاستجواب ، وذلك بصريح نص المادة 70 إجراءات جنائية حيث أجاز الندب لأعمال التحقيق "عدا استجواب المتهم" فهذا الإجراء يلزم فيه أن يباشره المحقق بنفسه. وحكمة هذا الاستثناء أن الاستجواب إجراء خطير ، لأنه قد يؤدي إلى اعتراف المتهم ، لذلك أحاطه المشرع بضمانات كافية تمنع التعسف والإكراه وإساءة استعمال السلطة ، وهذه الضمانات لا تتوافر إلا في سلطة التحقيق. وإذا كان الندب للاستجواب غير جائز ، فإن ذلك يستتبع عدم جواز الندب في الحبس الاحتياطي ، إذ يشترط للأمر به أن يكون مسبوقا باستجواب المتهم وهو ما لا يملكه مأمور الضبط القضائي. هذا فضلا عن أن الحبس الاحتياطي ليس من الإجراءات العاجلة التي تتوفر فيها العلة التي استوجبت تقرير الندب. كما لا يجوز الندب في إصدار أوامر التحقيق ، فلا يجوز للمحقق أن يندب غيره لإصدار أمر القبض أو الإفراج عن المتهم ، لأن الندب تقرر للتخفيف عن المحقق في تنفيذ أوامر التحقيق لا في إصدارها .
وتجدر الإشارة إلى أن المشرع قد حظر الندب للتحقيق تجاه بعض الأشخاص أو بغية تفتيش بعض الأماكن. من قبيل ذلك ما قررته المادة 51 من قانون المحاماة رقم 17 لسنة 1983 من أنه "لا يجوز التحقيق مع محام أو تفتيش مكتبه إلا بمعرفة أحد أعضاء النيابة العامة. ويجب على النيابة أن تخطر مجلس النقابة أو مجلس النقابة الفرعية قبل الشروع في تحقيق أي شكوى ضد محام بوقت مناسب". كما تنص المادة 224 من ذات القانون على أنه "لا يجوز تفتيش مقار نقابة المحامين ونقاباتها الفرعية...أو وضع أختام عليها إلا بمعرفة أحد أعضاء النيابة العامة وبحضور نقيب المحامين أو نقيب النقابة الفرعية أو من يمثلها". كما نصت المادة 43/1 من قانون تنظيم الصحافة رقم 96 لسنة 1996 على أنه "لا يجوز التحقيق مع الصحفي بسبب جريمة من الجرائم التي تقع بواسطة الصحف أو تفتيش مقر عمله لهذا السبب إلا بواسطة أحد أعضاء النيابة العامة. وهذه الأحكام ليست من قبيل الإرشاد والتوجيه ، بل يترتب البطلان على مخالفتها. ولا يغير من ذلك عدم ترتيب النص البطلان على مخالفة حكمه ، ذلك أن القانون المصري لا يأخذ بمذهب البطلان التشريعي ، بل يأخذ بمذهب البطلان الذاتي الذي يترك للقاضي تقرير البطلان عند مخالفة إجراء جوهري (م. 231 إجراءات جنائية) ، وليس من شك أن الإشراف القضائي على الإجراءات الجنائية من الإجراءات الجوهرية المتعلقة بالنظام العام .
76- الشروط الشكلية للندب :
استلزم المشرع عدداً من الشروط الشكلية في أمر الندب الصادر إلى مأمور الضبط القضائي ، منه أن يكون الأمر صريحاً. فالانتداب الضمني لا يعتبر انتدابا للتحقيق. ولذلك قضي بأن "مجرد إحالة الأوراق من النيابة إلى البوليس لا يعد انتداباً منها لأحد أعضاء الضبط القضائي لإجراء التحقيق" . ولا يشترط أن يفرغ أمر الندب في صيغة معينة ، فيكفي فيه أن يكون واضح الدلالة على الندب. كما يلزم أن يكون أمر الندب ثابتاً بالكتابة ، بحسبانه بذاته إجراء من إجراءات التحقيق. وعلى ذلك فإنه لا يكفي في الندب للتحقيق مجرد الترخيص الشفوي ، بل يجب أن يكون له أصل مكتوب موقع عليه ممن أصدره إقرارا بما حصل منه . ولا يغني عن شرط الكتابة الانتداب التليفوني حتى ولو كان ثابتاً بدفتر الإشارات التليفونية ، هذا إلا إذا كان للأمر أصل ثابت بالكتابة في الأوراق إلا أنه أبلغ تليفونياً إلى مأمور الضبط القضائي ، إذ لا يشترط أن يكون أمر الندب بيد المندوب حين تنفيذه .
وعلاوة على ذلك يجب أن يكون أمر الندب مؤرخاً ، غير أنه لا يؤثر في صحة الأمر عدم اشتماله على ساعة صدوره ، إلا إذا حدد الأمر مدة سريانه فإن إثبات الساعة لازم في تلك الحالة لتقدير ما إذا كان التنفيذ قد تم في الأجل المقرر أم لا . كما يجب اشتمال أمر الندب على تحديد مصدره ، ومن صدر له ، والمسائل المطلوب تحقيقها والإجراءات المطلوب اتخاذها ، والأشخاص الذين تباشر هذه الإجراءات بصددهم. فإذا جاء أمر الندب مغفلا هذه البيانات كان باطلاً. غير أنه لا ينال من صحة أمر الندب خلوه من بيان صفة المأذون بتفتيشه أو صناعته أو محل إقامتهم ، طالما أنه الشخص المقصود بالأمر . وفي النهاية يلزم أن تتوافر لدى السلطة الآمرة بالندب تحريات جدية وكافية قبل إصداره. فالأصل في القانون أن أمر الندب هو إجراء من إجراءات التحقيق لا يصح إصداره إلا لضبط جريمة جناية أو جنحة واقعة بالفعل وترجحت نسبتها إلى متهم معين ، وأن هناك من الدلائل ما يكفي لأن يتخذ الإجراء محل الندب. وعلى هذا فلا يجوز إصدار أمر الندب لضبط جريمة مستقبلة لم تقع بعد . وتقدير جدية التحريات وكفايتها لإصدار الأمر بالندب هو من المسائل الموضوعية التي يوكل الأمر فيها إلى سلطة التحقيق تحت إشراف محكمة الموضوع .
77- تنفيذ أمر الندب للتحقيق :
إذا ما صدر أمر الندب لمأموري الضبط القضائي للقيام بعمل من أعمال التحقيق فعلى هؤلاء مراعاة القواعد التي يجب على المحقق إتباعها في مباشرة أعمال التحقيق ، سواء كان الآمر بالندب هو قاضي التحقيق أم النيابة العامة. فيتعين من ثم تحرير محضر بمعرفة كاتب مختص ، وإلا ظل محضرة من قبيل محاضر الاستدلالات . إذا ندب مأمور الضبط القضائي لسماع شاهد معين كان عليه أن يحلفه اليمين ، كما هو الشأن بالنسبة للشهادة التي يجريها المحقق لو أنه باشر الإجراء بنفسه، فإن لم يفعل مأمور الضبط القضائي ذلك فإن الإجراء لا يعد إجراء من إجراءات التحقيق ، بل مجرد إجراء من إجراءات الاستدلال. وإذا ندب لتفتيش منزل فإنه يلتزم بمراعاة نص المادة 92 إجراءات بشأن التحقيق الذي يجريه قاضي التحقيق والتي تنص على إجراء التفتيش بحضور المتهم أو من ينيبه عنه إن أمكن ذلك. وإذا كانت هناك ضرورة ألجأته إلى استجواب المتهم فعليه مراعاة كافة الضمانات المقررة في هذا الشأن (م. 123-125 إجراءات جنائية).
ومتى التزم القائم بتنفيذ أمر الندب هذه الضوابط ، فقد ترك له القانون مساحة تقدير في أن يتخذ ما يراه كفيلاً بتنفيذ ما جاء بأمر الندب ، فالقانون لم يلزمه في ذلك بإتباع طريقة معينة. فإذا كان الأمر بالندب يتعلق بالتفتيش فلمأمور الضبط القضائي أن يتخذ من وسائل التحوط ما يمكنه من تحقيق الغرض من التفتيش المأذون له به ، وأن يستعين في ذلك بأعوانه من رجال الضبط القضائي أو بغيرهم من رجال السلطة العامة ، شريطة أن يكونوا تحت سمعة وبصره. كما أن له أن يدخل المكان مت الباب الرئيس له أو من شرفة من شرفاته أو من فوق أسطحه ، حسبما تمليه ظروف التنفيذ . ولمأمور الضبط القضائي المندوب للتحقيق مباشرة الإجراء المندوب له في أي وقت يراه مناسباً ، نهاراً أو ليلاً ، متى لم يحدد له أمر الندب وقتاً معيناً للتنفيذ أو يحظر عليه ذلك في وقت معين .
على أن سلطة مأمور الضبط القضائي في تنفيذ أمر الندب ليست مطلقة ، بل أن هناك قيود عدة ترد على سلطته عند تنفيذ أمر الندب. وأهم تلك القيود وجوب عدم تجاوز حدود الندب ولا الغرض منه. فإذا استنفذ الشخص المنتدب أمر الندب فليس له أن يتخذ أي إجراء أخر وإلا وقع هذا الإجراء باطل ، وبطل ما يتولد عنه من أدلة . ولا يستثنى من تلك القاعدة إلا ما جاء بنص المادة 71/2 إجراءات جنائية التي قررت أن "للمندوب أن يجري أي عمل آخر من أعمال التحقيق ، أو أن يستجوب المتهم في الأحوال التي يخشى فيها فوات الوقت متى كان متصلاً بالعمل المندوب له ولازما في كشف الحقيقة".
يفهم من ذلك أن للمنتدب للقيام بعمل من أعمال التحقيق حق تجاوز حدود هذا الندب إذا قامت حالة ضرورة ، مبنية على خشية فوات الوقت ، ومن ثم استحالة مباشرة إجراء معين مستقبلاً ، أو عدم امكان مباشرته على الوجه الذي يحقق مصلحة التحقيق. مثال ذلك مرض المتهم مرضاً خطيراً أو إصابته في حادث قبل استجوابه ويخشى عدم امكان ذلك فيما بعد. على أن تجاوز مأمور الضبط القضائي لحدود الندب وفق لنص سالف الذكر يظل مقيد بقيدين ، أولهما ضرورة أن يكون الإجراء الذي تجاوز به المندوب حدود ندبه متصلاً بالعمل المندوب له ولازماً في كشف الحقيقة بالنسبة للدعوى التي يجري تحقيقها. كأن يندب مأمور الضبط لسماع شاهد إثبات ، فتقضي الضرورة سماع شاهد آخر مشرف على الهلاك أو على وشك السفر خارج البلاد ؛ فضلاً عن وجوب أن يكون الإجراء الذي تجاوز به مأمور الضبط القضائي المندوب حدود ندبه يدخل أصلا في اختصاص السلطة الآمرة بالندب ، فإذا لم يكن داخلاً في اختصاص هذه السلطة فلا يجوز للمندوب مباشرته لو توافرت حالة الضرورة. مثال ذلك أن يندب مأمور الضبط القضائي من النيابة العامة لتفتيش المتهم ومنزله ، فلا يجوز له أن يفتش منزل غير المتهم ولو اقتضت ذلك حالة الضرورة ، كما لا يجوز له مراقبة المحادثات السلكية واللاسلكية أو إجراء تسجيلات لأحاديث جرت في منزل المتهم ، ذلك أن النيابة العامة الآمرة بالندب لا تملك اتخاذ أيا من هذين الإجرائين إلا بإذن من القاضي الجزئي.
ومن بين القيود التي تحد من سلطة مأمور الضبط القضائي في تنفيذ أمر الندب ، وجوب تقيده بالمدة المحددة للتنفيذ والواردة في أمر الندب. والأصل أن القانون لم يوجب على السلطة التي أمرت بالندب أن تحدد أجلاً لتنفيذ أمر الندب. وليس في القانون ما يوجب تنفيذ الأمر فور صدوره. وإذا لم يتحدد لتنفيذ الندب أجلاً ، فإن أجله يتحدد بقوة القانون ، بولاية السلطة الآمرة بالندب. فإذا زالت ولاية تلك السلطة ، بإحالة الدعوى إلى المحكمة أو بإصدار أمر بالأوجه لإقامة الدعوى الجنائية ، فإن ذلك يحول دون تنفيذ أمر الندب إذا لم يكن قد بوشر الإجراء بعد. أما إذا كان الإجراء قد تم تنفيذه ، فإن الندب ينقضي باستنفاذ غرضه ، ذلك أنه لا يجوز تنفيذ الأذن أكثر من مرة واحدة. فإذا كان الندب صادراً بالتفتيش فيستوي أن يكون قد عثر على الأشياء المراد ضبطها أو لم يعثر عليها ، وسواء نص في أمر الندب على ذلك أو لم ينص . فإذا طرأ ما يسوغ التفتيش للمرة الثانية وجب استصدار أمر جديد .
ولما كان عدم إلزام سلطة التحقيق بتحديد أجلاً لتنفيذ أمر الندب يتضمن في طياته تهديداً للحريات الفردية وحرمة الحياة الخاصة لمدة قد تطول كثيراً طويلة ، لذا فقد توخى المشرع الحظر وأوجب في بعض الحالات تحديد أجلاً لتنفيذ أمر الندب. من ذلك ما قرره المشرع بالنسبة لضبط الخطابات والرسائل والجرائد والمطبوعات والطرود لدى مكاتب البريد ، وجميع البرقيات لدى مكتب البرق ، ومراقبة المحادثات السلكية واللاسلكية أو إجراء تسجيلات لأحاديث جرت في مكان خاص (م.95 ، 206 إجراءات) ، وكذلك تفتيش غير المتهم أو منزل غير منزله (م.206 إجراءات جنائية). حيث أوجب أن يكون الأمر في هذه الحالات لمدة لا تزيد عن ثلاثين يوما قابلة للتجديد لمدة أو مدد أخرى مماثلة. كما تحددت بالنسبة لأوامر الضبط والإحضار حداً أقصى للتنفيذ ، إذ قرر المشرع عدم جواز تنفيذها بعد مضي ستة أشهر من تاريخ صدورها ، ما لم تجدد لمدة أخرى (م.139/2 إجراءات جنائية) .
وإذا ما تحدد أجلاً لتنفيذ أمر الندب فإن هذا الميعاد لا يدخل في احتسابه اليوم الذي صدر فيه الإذن ، وذلك تطبيقاً للقواعد العامة التي قررتها المادة 15/1 من قانون المرافعات. على أن العبرة في حساب بداية المدة التي حددها أمر الندب تكون بيوم وصول الأمر إلى الجهة المنتدبة لا بيوم وصوله لمن أحيل إليه من هذه الجهة من رجال الضبطية القضائية لتنفيذه .
خــاتــمــة
لعل تلك الرحلة القصيرة في رحاب مبدأ أصل البراءة ، ورحاب تلك الصلة الشائكة بين الشرطة حال أدائها لمهمة الضبطية القضائية وبين الحقوق والحريات المعترف بها للأفراد ، قد كشفت عن بعض النواقص التي يتعين على المشرع المصري تداركها ، تدعيماً منه للبراءة المفترضة فيمن وجه له الاتهام بارتكاب جرم ، وتنقية منه لتلك النظرة المريبة التي يوليها أفراد المجتمع المصري للوظيفة الشرطية كأحد عناصر الضبط القضائي ، أسوة منه بما اتجه إليه المشرع الفرنسي في قانون 15 يونيو 2000 المسمى بقانون بتدعيم قرينة البراءة وحقوق المجني عليه ، ومن قبيل ذلك نذكر :
*- تقرير حق المتهم الذي أعتدي على البراءة المفترضة فيه في طلب وقف الاعتداء والتعويض عن الضرر الذي أصابه. كما أن لسلطة التحقيق وللقاضي حق طلب وقف الاعتداء على نفقة المعتدي.
*- ضرورة اتخاذ المشرع الخطوات الجادة نحو تجريم الأفعال التي تشكل عدواناً على البراءة المفترضة في الإنسان ، وبصفة خاصة نشر وقائع جنائية ونسبتها لأشخاص لم يصدر بشأنهم حكماً نهائياً بالإدانة ، مصحوباً ذلك في بعض الأحيان بصور للمتهمين ، الأمر الذي يغيب الضوابط الحاكمة بين حق المجتمع في الإعلام وحق المتهم في صون براءته المفترضة.
*- وجوب النص صراحة على حق المشتبه فيه في الاستعانة بمحام منذ اللحظة الأولى لبدء احتجاز الشخص من قبل عناصر الشرطة القضائية. مع تخويله الحق في طلب ندب محام له إذا لم يكن قادراً على ذلك. مع ضرورة النص على إلزام الضبطية القضائية بإعلام المشتبه فيه بهذا الحق .
*- التقرير الصريح لحق المشتبه فيه ، وكذا المتهم ، في عدم الإجابة على أسئلة المحققين ، وتبصيره بهذا الحق أثناء جمع الاستدلالات أو حال البدء في إجراءات التحقيق الابتدائي.
*- وجوب تقرير حق الأفراد في التعويض عن الحبس الاحتياطي التعسفي ، متى صدر قرار نهائي بألا وجه للإقامة الدعوى الجنائية أو حكم بالبراءة. مع ضرورة عدم تقييد هذا الحق بحصول ضرر ما من تقرير الحبس الاحتياطي ، وكذا عدم إخضاع منح هذا التعويض لتقدير القضاة.
*- تدعيماً للحق في الدفاع ، يجب جعل سلطة تفتيش مكتب المحامي من اختصاص قاض يندب لذلك ، مع ضرورة النص على حضور نقيب المحامين أو من ينيبه في ذلك عند تنفيذ التفتيش ، وإعطاء الحق للقاضي وللنقيب فقط في الإطلاع على الأوراق والمستندات قبل ضبطها. وهنا يجب التأكيد على تفعيل المادة 51 من قانون المحاماة الذي يوجب إخطار النقابة الفرعية قبل الشروع في تحقيق أي شكوى ضد المحامي بوقت مناسب.
*- ضرورة إلزام النيابة العامة بزيارة أماكن الاحتجاز والسجون في مواعيد محددة.
*- مراجعة حالات التلبس وقصرها فقط على حالات التلبس الحقيقي تقيداً لسلطة مأمور الضبط القضائي.
*- في ضوء أحكام النقض التي أشرنا إليها ، ووفقاً لما جاء بنص المادة 41 من الدستور ، يجب إلغاء نص المادة 35 إجراءات جنائية التي تجيز لمأمور الضبط القضائي اتخاذ الإجراءات التحفظية دون أمر قضائي بذلك وفي غير حالات التلبس إذا وجدت دلائل كافية على اتهام شخص بارتكاب جناية أو جنحة سرقة أو نصب أو تعد شديد أو مقاومة لرجال السلطة لعامة بالقوة والعنف.
*- بالنظر لما اعتاد القضاء عليه من الاعتداد بالمعلومات الخاصة بالتحريات والاستدلالات التي يجمعها مأمور الضبط القضائي في تكوين عقيدة القاضي ، بل والاعتداد أحياناُ بالإقرار الصادر من المتهم أمام الشرطة القضائية حتى ولو عدل عنه أمام النيابة ، فيجب النص على تقرير البطلان كجزاء على عدم تحرير مأمور الضبط القضائي بكل إجراء يتخذه ، أو إغفال أحد البيان الجوهرية الواجبة فيه (الجهة التي حررته ، وأسم وصفة محرره ، تاريخ اتخاذ الإجراء وتحرير المحضر...الخ).
*- الحرص على تقيد أعمال الاستدلال والتحقيق بمدد محددة تنتهي فيها ، ما لم تمدد الآجال بمعرفة قاضي يختص أو يندب لذلك ، دون ترك الأمر في يد سلطة التحقيق المطلقة.
*- ضرورة النص على حظر التفتيش في المواعيد الليلة إلا لضرورة أو في جرائم معينة ، أسوة بالمادة 59/1 إجراءات جنائية فرنسي التي تحظر التفتيش قبل الساعة السادسة صباحاً وبعد التاسعة مساءً. علماً بأنه يجوز تطبيق القاعدة العامة الواردة في المادة السابعة من قانون المرافعات ، والتي لا تتعارض مع طبيعة الإجراءات في الدعوى الجنائية .
*- وجوب تقييد أمر الحبس الاحتياطي بتوافر دلائل خطيرة ومتطابقة دون الاكتفاء بفكرة الدلائل الكافية ، وتقيد هذا الأمر كذلك بأسباب محددة ، أو تقرير بدائل له (راجع م.129/2 من مشروع قانون الإجراءات الجنائية لعام 1997).
*- جعل سلطة الأمر بالحبس الاحتياطي من اختصاص القضاء وفصلها عن الجهة القائمة بالتحقيق.
*- ضرورة النص على حظر مع جرى عليه العمل من إلزام المتهم بتمثيل كيفية ارتكابه للجريمة ، لما في ذلك من عدوان على البراءة المفترضة فيه .
*- أخذاً بالتوجهات الحديثة في كفالة حق كل محكوم عليه في أن يعاد النظر في إدانته بواسطة جهة قضائية أعلى ، يجب إعادة النظر في مبدأ عدم جواز الطعن على الأحكام الصادرة من محكمة الجنايات. وهنا يمكن تلمس خطى المشرع الفرنسي وفق قانون 15 يونيو 2000 حين أوجب الطعن على الحكم الصادر من محكمة الجنايات أمام محكمة جنايات أخرى تختارها الدائرة الجنائية بمحكمة النقض.