طالعتنا صحفنا المحلية بالأمس القريب وفي يوم واحد تحديدا، بأخبار عن صدور حكمين قضائيين، الأول نشر يوم الأربعاء 22/10/2008 في صحيفة "الحياة" وهو صدور حكم بسجن 6 شبان سعوديين 15 عاماً وجلد كل واحد منهم 1500 جلدة، وذلك لاختطافهم قاضيا والاستيلاء على أمواله وسيارته تحت تهديد السلاح علما، أن هؤلاء الشباب تتراوح أعمارهم بين 15 و21 عاماً ويدرسون جميعا في المرحلة المتوسطة والثانوية، وقد صدر الحكم من قبل لجنة مكونة من ثلاثة من القضاة، وفي الوقت ذاته طالب المدعي العام بإيقاع عقوبة القتل تجاههم حتى يكون رادعا لغيرهم .
ومن المصادفات العجيبة أن نشرت صحيفة "الوطن" في اليوم ذاته عن مصادقة محكمة التمييز على مجرم بالسجن 8 سنوات وجلده 2000 جلدة، كان قد اختطف حدثا وقام باغتصابه وتصويره لجريمته وهدده بنشر صور له وهو عار في حال إبلاغه لأي أحد.
لا شك أن كل قارئ لما ذكر يدرك تماما مدى التباين الكبير والشاسع بين الجريمتين، لا شك أن الأولى جريمة واعتداء على حرمة القضاء ولكن الثانية وهي جريمة الاغتصاب جريمة بشعة بكل المقاييس البشرية لما يترتب عليها من انتهاك صارخ لكرامة وبراءة الطفل أو الطفلة المعتدى عليه إذ أن الاغتصاب في بداية المراحل العمرية يعد من أسوا الآلام النفسية التي تستمر طيلة فترة الحياة ولذلك يعاني المغتصَب من تدهور خطير في نفسيته وفقدان للتواصل مع مجتمعه ويشعر بالخوف الشديد من كل ما يدور حوله ليبدأ تدريجيا بالدخول في الموت النفسي والذي قد يودي به إلى أحيانا الى الانتحار وإزهاق روحه بغية التخلص من كل الأمراض التي يعاني منها.
ليست هذه الحادثة -على رغم بشاعتها- من الحوادث النادرة التي يصدر بحقها حكم قضائي هزيل وضعيف تجاه جريمة بشعة ونكراء كالاغتصاب، فلقد صدرت من قبل العديد من الأحكام القضائية الهزيلة بحق جرائم أشد بشاعة من الحادثة المذكورة ولعلي أذكر للقارئ بعض الأمثلة، فلقد نشرت صحيفة الجزيرة في 9 ربيع الأول 1427 عن مجرم "قام بخطف طفلة عمرها أربع سنوات من أمام منزل أهلها بالقوة وقام باغتصابها، ومن ثم رماها بالقرب من أحد المنازل المهجورة البعيدة عن منزل أهلها، حيث عثر عليها أحد المارة في حالة يرثى لها وحكم القاضي على المجرم بسجنه 4 سنوات وجلده 400 جلدة ". ونشرت صحيفة عكاظ في 14 شوال 1428 " قيام شاب بالاعتداء على طفل عمره 8 سنوات وتهديده بالضرب إن أخبر أحداً، وقد صدر بحقه حكم من المحكمة العامة بجدة بالسجن لمدة سنتين وستة أشهر، علما أن المدعي العام أكد في لائحته أن ماقام به المجرم هو ضرب من ضروب الحرابة والفساد في الأرض وطالب بتطبيق حد الحرابة عليه لفعلته الشنيعة". ونشرت صحيفة الجزيرة في 24 شوال 1427 عن "قيام أربعة أشخاص باختطاف حدث وإركابه بالقوة والإكراه وقيام أحدهم باغتصابه وإعادته بعد ذلك لمكان قريب من المكان الذي تم اختطافه منه، وقد حكمت عليهم المحكة العامة بالرياض بالسجن مدة تتراوح ما بين 3-8 سنوات والجلد ما بين 600-800 جلدة". ونشرت صحيفة عكاظ في 15 محرم 1428 عن "قيام أربعة أشخاص باغتصاب يتيم بالقوة داخل مقر سكنه بجمعية الأيتام بمكة المكرمة وقد حكمت عليهم المحكمة العامة بمكة المكرمة بالسجن سنتين والجلد 200 جلدة".
ونشرت صحيفة الرياض في 24 شعبان 1429 " عن قيام شاب بمراودة فتاة عن نفسها وتهديدها بنشر صورها على الانترنت فصدر حكم من المحكمة الجزئية بحائل بسجنه 5 أشهر وجلده 90 جلدة". وقد طالعت في جريدة شمس "عن قيام شاب بالاعتداء على حدث وتصوير اعتدائه بكاميرا الجوال وبث مقاطع منها على الانترنت فحكمت المحكمة العامة بسجنه 10 سنوات وجلده 2000 جلدة، وطالب المدعي العام بحد الحرابة عليه وقتله حدا لبشاعة جرمه"، إلى غير ذلك من الأمثلة العديدة التي تدل على وهن بين وواضح في إصدار الأحكام القضائية تجاه جرائم كبرى كالاغتصاب والتي تتفق جميع الديانات والأعراف والأنظمة المعاصرة على بشاعتها لذلك يحكم في ست ولايات أمريكية على مغتصبي الأطفال بالإعدام وأما في بقية الولايات فتكون العقوبة بمدة لا تقل عن 25 عاما لتصل إلى السجن مدى الحياة.
فنحن لدينا هنا اعتداء على قاض من قبل مجموعة من المراهقين وسلبه سيارته وأمواله وكانت العقوبة فيها أغلظ واشد بكثير من عقوبة الاغتصاب، إذ أن معظم الحوادث والجرائم البشعة التي ذكرتها لم تبلغ عقوبتها نصف عقوبة حادثة الاعتداء التي وقعت على القاضي !
الأمر الذي سهل ازديادا واضحا وملموسا لتلك الجرائم يوما بعد يوم، خصوصا إذا علم المجرم أن محكوميته ستكون مخففة، وسيتم الإفراج عنه بعد ذلك ويعود حرا طليقا، والسؤال الموجه لقضاتنا إذا لم يكن الخطف بقوة تحت تهديد السلاح وانتهاك الكرامة من جرائم الحرابة التي تستحق القتل فما هي الحرابة إذن من وجهة نظرهم؟!
إن هذا التباين الكبير بين الأحكام الصادرة من قضاتنا لكثير من الحوادث والجرائم يعيدنا مجددا للحديث عن ضرورة تقنين وتنصيص القوانين وتحديد العقوبات في الجرائم والجنح وصياغة فقه المعاملات والجنايات والأحوال الشخصية وفق لوائح محددة، وذلك من أجل تحقيق العدالة والأمن للمواطن والمقيم، والسلامة من التعارض والتناقض الحاصل في أحكامنا القضائية، الذي من أبرز مسبباته عدم وجود قانون مكتوب، إذ أن تلك الأحكام تعتمد اعتماداً رئيسياً على تفسير واجتهاد كل قاض على حدة في فهمه للشريعة الإسلامية، لذلك يحدث كثيرا أن يحكم أحد القضاة على حادثة بحكم مغلظ ويحكم قاض آخر على حادثة مشابهة بحكم مخفف وهو الأمر الذي يوقع الناس بالظلم ويدعو للتشكيك في أحكام الشريعة الإسلامية، وليس هذا الأمر متعلق بالقضاة فحسب بل يوجد اختلاف حتى على مستوى الأحكام الصادرة من محكمتي التمييز بمكة المكرمة والرياض، ولا أبالغ إن قلت إن بعض القضاة لدينا من قليلي الخبرة والممارسة عندما يقع في حيرة في الحكم على قضية ما وبسبب انعدام قانون منصوص عليه يستغل اجتماعات القضاة في بعض أوقات الراحة فيما يعرف (بالمختصر) وهي الغرفة الملحقة بمكتب القاضي لعرض القضية عليهم واستشارتهم في الحكم عليها وبعد ذلك يأخذ بأوسط آرائهم ليحكم في القضية التي بين يديه!!
وحتى أكون منصفا وعادلا فقد ذكر لي أحد القضاة بأنه غالبا ماكان يحكم في قضايا الاغتصاب بحد الحرابة وهو القتل للمعتدي ولكن مثل ذلك الحكم غالبا ماكان يرفض من قبل هيئة التمييز ويعاد مرة أخرى لإعادة النظر فيه من جديد مبررا ذلك بأننا لو طبقنا حد الحرابة على جميع المغتصبين فإننا سنفاجئ بكم هائل من المجرمين سيتم قتلهم بتلك الجريمة .
إن مسألة تقنين القضاء ليست وليدة اليوم أو الأمس، فلقد أصدر الملك عبدالعزيز رحمه في حينه توجهيا جاء نصه كمايلي " إن جلالة الملك حفظه الله، يفكر في وضع مجلة للأحكام الشرعية، يعهد إلى لجنة من خيار علماء المسلمين الاختصاصيين استنباطها من كتب المذاهب الأربعة المعتبرة وهذه المجلة ستكون مشابهة لمجلة الأحكام التي كانت الحكومة العثمانية وضعتها عام 1293هـ، ولكنها تختلف عنها بأمور؛ أهمها: عدم التقيد حين الاستنباط بمذهب دون آخر، بل تأخذ ما تراه في صالح المسلمين من أقوى المذاهب حجة ودليلاً من الكتاب والسنة".
وأصدر بعد ذلك الملك عبد العزيز أمرا إلى هيئة المراقبة القضائية بالشروع في عملها، وفقا لمايلي: "إذا اتفقت المذاهب الأربعة على حكم من الأحكام فيكون هذا الحكم معتبراً وملزماً لجميع المحاكم والقضاة أما المسائل الخلافية فيشرع في تدوينها منذ اليوم، وفي كل أسبوع تجتمع هيئة مراقبة القضاء مع جملة من فطاحل العلماء، وينظرون فيما يكون اجتمع لدى الهيئة من المسائل الخلافية وأوجه حكم كل مذهب من المذاهب فيها، وينظر في أقوى المذاهب حجة ودليلاً من كتاب الله وسنة رسوله، فيصدر قرار الهيئة على إقراره والسير على مقتضاه، وبهذه الوسيلة تجتمع لدى الهيئة معظم المسائل الخلافية التي هي منشأ الصعوبة في التأليف بين أحكام المذاهب، ويصدر القرار بشأنها، ويكون هذا القرار ملزماً لسائر المحاكم الشرعية والقضاة".
وعلى الرغم من أن توجيه الملك عبد العزيز كان يذهب لاختيار الأحكام الراجحة من المذاهب الأربعة، غير أن الهيئة القضائية اكتفت بالاعتماد على المذهب الحنبلي وهو الذي لايزال معمولا به حتى الآن .
وفي عهد الملك فيصل كان موضوع تقنين القضاء يحضى باهتمام منه لإدراكه بأهمية ذلك فوجه أمره في عام 1393هـ إلى هيئة كبار العلماء لمناقشته والتي قررت منع التقنين وعدم جوازه برأي الأغلبية فيما رأى ستة من الأعضاء جواز التقنين.
وتمضي السنين والمؤسسة الدينية لدينا لاتزال لديها الكثير من المخاوف من قضية التقنين القضائي وبعد مايزيد على 35 عاما من اجتماعهم السابق بدأت مرة أخرى في عام 1429هـ بعقد اجتماعاتها لمناقشة ما سبق مناقشته قبل ذلك، حيث عقدت اجتماعها في 15 شعبان 1429 للتدارس حول تدوين الأحكام القضائية غير أنها لم تتوصل حتى وقتنا إلى قرار نهائي .
ولعل المتتبع لآراء كبار العلماء لدينا وأبرز طلبة العلم لا يتفائل بأي تغير في رؤيتهم وتوجهاتهم تجاه منع وتحريم التقنيين، فلقد صدر في عام 1426 أحد أهم البحوث المعنية بالقضية حيث ألف الشيخ عبد الرحمن بن سعد الشثري كتابا بعنوان تقنين الشريعة بين التحليل والتحريم والذي خلص فيه إلى تحريم ذلك ومنعه وقد قام بالتقديم للكتاب مجموعة من العلماء وكبار طلبة العلم الذين وافقوا المؤلف في رأيه وحذروا من خطورة قضية التقنين وأنها سبيل لتحويل الأحكام الشرعية إلى مواد مشابهة للقوانين الغربية، وكان من أبرز أولئك العلماء الشيخ صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء والشيخ عبد الرحمن العجلان، والشيخ عبدالله الغنيمان والشيخ عبدالرحمن المحمود . وأهم من ذلك ما صرح به رئيس مجلس القضاء الأعلى الشيخ صالح اللحيدان في حوار أجرته صحيفة الوطن في 23سبتمبر 2006 "أنه لا يعمل على مشروع صياغة الفقه الإسلامي على شكل مواد قانونية، ولم يشارك في صياغته" ورأى فضليته " أن تجربة الآخرين في ذلك لم تكلل بالنجاح" .
وفي المقابل هناك فريق من العلماء وطلبة العلم ممن يؤيدون تقنين القضاء ومن أبرزهم الشيخ عبدالله بن منيع عضو هيئة كبار العلماء والذي قال في لقاء أجرته معه صحيفة الشرق الأوسط، باللغة الإنجليزية في 23مارس 2006 " إنني أطالب بوضع القوانين..منذ 25 عاماً طالبت بالتقنين طبقاً لمذاهب الفقه الأربعة، وليس فقط المذهب الحنبلي. وإذا قامت جهة رسمية بتولي هذه المسؤولية فسوف تقلل كثيراً من المصاعب وتشكل عاملاً قوياً في التعجيل بإصدار الأحكام في القضايا" وأشار أيضا " أن التقنين أحد أهم الأسباب الرئيسيه لإصلاح القضاء في السعودية".
وطالب كذلك الشيخ عبدالمحسن العبيكان -كما جاء في جريدة الرياض بتاريخ 20ربيع الاول 1426- بتشكيل لجنة على مستوى عال لصياغة الفقه إلى مواد قانونية وقال إن القضاة يحتاجون إلى إعادة تأهيل لمعرفة ذلك .
ولقد عبر عدد من المحامين في أكثر من مناسبة عن مدى استيائهم الشديد من عدم وجود قوانين واضحة ومنصوصة في قضايا الأحوال الشخصية الأمر الذي يجعل الكثير من قضاياهم هي رهن أمزجة القضاة للحكم فيها، وقد ذكرت منظمة "هيومان رايتس ووتش" في حوار لها بتاريخ 11ديسمبر 2006 مع الشيخ عبالعزيز القاسم المحامي والقاضي سابقا قوله "إنه يشعر بالإحباط والغضب من القيود المفروضة في نظام الإجراءات الجزائية في ظل غياب قانون للعقوبات، وقال: "لا أقبل قضايا جنائية لأنه لا يوجد قانون يمكنني أن أضع حججي تبعاً له"
وفي ظل المطالبات المتزايدة بضرورة تقنين القضاء فقد صرح وزير العدل الدكتور عبد الله بن محمد آل الشيخ كما في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 14ربيع الثاني 1428 "إن الوزارة انتهت من تقنين أحكام المرأة، وأنه سيتم رفعها إلى خادم الحرمين الشريفين وتطبيقها عقب اعتمادها" وقال "إن وزارة العدل وضعت مدونة لأحكام المرأة، والجوانب والآلية التي تحيط بوجود المرأة في المحكمة" وأكد كذلك "أن الوزارة اعتمدت آراء فقهية محددة وموحدة في هذا الجانب، رغبة منها في توحيد هذا الإجراء في كافة المحاكم السعودية، واصفا المشروع بأنه سيسر المرأة عندما يتم تطبيقه " وحتى هذه اللحظة لم تر تلك المدونة النور رغم أن التصريح قد مضى عليه أكثر من عام حتى الآن .
ولقد صرح وزير العدل أيضا مؤخرا في صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 6رجب1429 بأن "موضوع تدوين الأحكام القضائية، لا يزال قيد الدراسة في هيئة كبار العلماء، حيث ستستكمل دراسة الموضوع في جلسة الهيئة المقبلة".
ومثل هذا التصريح لا يجعلنا نتفائل كثيرا إذ أن ملف تقنين القضاء ظل في أيدي المؤسسة الدينية أكثر من 30 عاما ولم تخرج حتى الآن بنتيجة ايجابية ولم تظهر في الوقت نفسه أيضا أي بوادر لتغير ملموس لمواقف أبرز رموزها في مقابل النهج الإصلاحي للقضاء والذي دعا إليه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز.
إننا في وضع استجدت فيه الكثير من التغيرات والتطورات التي تستدعي ضرورتها القصوى أن نعيد النظر في أنظمتنا القضائية لتكون أكثر ظبطا ووضوحا للقاضي وللمتقاضي خصوصا مع الانفتاح العالمي الكبير الذي نعيشه وأن يتم إعادة تأهيل القضاة وتطويرهم ومنحهم العديد من الدورات في مجال القضاء والإدارة والقيادة والتعاطي مع وسائل التقنية الحديثة، فلك أن تعجب كل العجب أنه عندما يتوفر عدد من الأدلة المادية والتي لا يتطرق إليها شك كبصمة الحمض النووي (dna) ضد المتهم بجرائم الاغتصاب والأعراض ثم لا يحكم عليه بعد ذلك بجريمته لعدم توفر الأدلة الكافية والسبب جهل القاضي بالتطورات العلمية الحديثة والتي أصبحت دلالتها المادية أقوى من كثير من الأدلة التي يبحث عنها القاضي لإثبات جريمة المعتدي.
الرابط :
http://www.alarabiya.net/save_print.php ... t_id=58974