النـص:

بسم الله الرحمن الرحيم

"من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس: سلام عليك.

أما بعد، فإن القضاءَ فريضةٌ محكمة وسنةٌ متبعة، فافهم إذا أُدْلِي إليك، فإنه لا ينفعُ تكَلُّمُ بحق لا نَفاذَ له.

آس بين الناس في وجهِك وعدلِك ومجلِسِك، حتى لا يطمعَ شريفٌ في حيفك، ولا ييأسَ ضعيفٌ من عدلك (1)

البينةُ على من ادَّعى واليمين على من أنكر، والصلحُ جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحلَّ حراماً أو حرم حلالاً.

ولا يمنعك قضاءٌ قضيتَه بالأمس- فراجعت فيه عقلك، وهديت لرشدك- أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديمٌ ومراجعةُ الحقِّ خيرٌ من التمادي في الباطل.

الفهْمَ الفَهْم، فيما تَلَجْلَجَ في صدرك (2) مما ليس في كتاب ولا سنة، ثم اعرِف الأشباهَ والأمثال، وقِسِ الأمورَ عند ذلك واعمِد إلى أشبهها بالحق، واجعل لمن ادَّعى حقاً غائباً أو بينةً أمداً ينتهي إليه، فإن أحضَرَ بينةً أخذتَ له بحقه، وإلا إستَحْللتَ عليه القضية فإنه أنفى للشك وأجلى لِلْعَمَى(3).

المسلمون عُدول بعضُهُم على بعض، إلا مَجْلُوداً في حدٍّ أو مجرَّباً عليه شهادةُ زور، أو ظَنِينْاً في ولاَءِ أو نسب، فإن الله تولّى منكم السرائرَ ودرَأَ بالأيمان والبيِّنات (4).

وإياك والغَلقَ والضَّجرَ(5)، والتأذَّي بالخصوم، والتنكُّرِ عند الخصومات، فإن الحقَ في مواطن الحق يُعْظِمُ الله به الأجر، ويحسنُ به الذُّخْر(6)، فمن صحَّتْ نيتُه وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلَّقَ للناس لما يعلمُ الله أنه ليس من نفسه شانَهُ الله (7)، فما ظنك بثوابِ الله عز وجل في عاجل رزقِهِ وخزائِنِ رحمتِه. والسلام".

1- الجو العـام:

في سنة 17 هـ ولّى عمرُ بن الخطاب أبا موسى الأشعري البصرة، ولحرص أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على أن ينال كلُّ ذي حق حقَّه كتب هذه الرسالة إلى واليه وقاضيه أبي موسى الأشعري.

والذي أنشأ هذا النص هو عمر بن الخطاب بن نفيل القرشي ثاني الخلفاء الراشدين، أسلم قبل الهجرة بخمس سنين، وكان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزواته، وقد اشتهر عمر بالفصاحة والبلاغة في خطبه ورسائله، وقد توسعت البلاد الإسلامية في خلافته حيث فتحت الشام والعراق ومصر، وكان رضي الله عنه يمشي منفرداً في أسواق المدينة متفقداً أحوال الرعية، وقد قتله أبو لؤلؤة فيروز المجوسي غلام المغيرة بن شعبة في صلاة الفجر سنة 23هـ.

أما أبو موسى الأشعري فهو عبد الله بن قيس بن سليم بن حضار بن حرب من بني الأشعر من قحطان، ولد في زبيد في اليمن ووفد على مكة في أول ظهور الإسلام فأسلم وهاجر إلى الحبشة، وبعد أن نصر الله المسلمين وانتشر الإسلام في الجزيرة العربية ولاَّه الرسول على زبيد وعدن ثم ولاه عمر البصرة، وفي خلافة عثمان أصبح والياً على الكوفة، وفي خلافة علي كان أحد الحَكمَين، وكان رضي الله عنه خفيف الجسم قصيراً خفيف شعر العارضين وقد توفي سنة 44 هـ.

2- شرح النص:

(1) "آس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك" يقول: سَوِّ بين المتخاصمينَ في بشاشة وجهك وفي عدلك بينهم، واجعل مجالسهم متشابهة حتى لا يطمع الشريف في ميلك معه لشرفه ولا ييأس الضعيف من إنصافك.

(2) "الفهم الفهم، فيما تلجلج في صدرك " تلجلج: تردد.

المعنى ثبت فهمك في القضية التي تتردد فيها قبل أن تصدر الحكم فيها.

(3) "أجلى للعمى" أوضح للأمر المبهم.

(4) "المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور أو ظنيناً في ولاء أو سب، فإن الله تولى منكم السرائر ودرأ بالأيمان والبينات".

الظنين: المتهم. درأ: دفع.

المعنى: الأصل في المسلم أن يكون مقبولا عندما يشهد على أخيه المسلم لأنه يتوخى العدل، ولا يستثنى من ذلك إلا من جلد في حد أو شهد شهادة زور، أو كان متهماً في انتمائه إلى غير نسبه أو في ولائه لغير مواليه، والله سبحانه وتعالى يعلم ما يخفي الإنسان، وقد أتاح اللُه للإنسان دفع التهم بالأيمان والبينات الواضحات.

(5) "وإياك والغلق والضجر". الغلق: ضيق الصدر. الضجر: قلة الصبر.

المعنى: ينهى عمر أبا موسى الأشعري عن ضيق صدره بالخصوم وقلة صبره عندما تبسط القضايا وتتشعب.

(6) "ويحسن به الذخر" الذخر: ما يحفظ للإنسان من أعماله الطيبة.

المعنى: إن ما يبذله القاضي من تثبيت للحق بين المتخاصمين يحفظه

الله له ويجعله زينة لأعماله الطيبة.

(7) "ومن تخلق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه، شانه الله ".

المعنى: ومن أظهر للناس خلقاً يخالف نيته وما أضمر في نفسه فإن الله سيجعله قبيحاً في أعين الناس ويهتك ستره.

3- تقسيم النص:

إذا قرأنا كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري وجدناه يتكون من ثلاثة أجزاء رئيسة هي:

1- المقدمة وتبدأ بقوله: " من عبد الله عمر" وتنتهي بقوله: "سلام عليك".

2- تعريف القضاء ويبدأ بقوله: "أما بعد فإن القضاء" وينتهي بقوله: "لا نفاذ له".

3- الأسس التي يعتمد عليها القاضي في قضائه بين الناس وتشمل معظم الرسالة حيث تبدأ بقوله: "آس بين الناس" وتنتهي بقوله: "وخزائن رحمته". وقد ختم الرسالة بقوله: "والسلام".[1]

4- دراسة الأفكار:

الأفكار التي تشتمل عليها هذه الرسالة أفكار علمية مستخلصة من القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد استطاع عمر بن الخطاب أن يصوغ ما استخلصه في شكل قواعد ثابتة تكون أساساً ومعتمداً للقاضي ومركز القضاء على مر العصور، وانطلاقاً من ذلك نستطيع أن نقول إن الأفكار في هذه الرسالة جديدة وهي منظمة ومقسمة إلى جزئيات فليس فيها تداخل ولا اختلاط، وقد أعطت القضاء الإسلامي دفعة جديدة فأحلته محلاً جديداً،

فهي تدعو إلى تطور القضاء إلى الأفضل وفق حكم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.

وعمر رضي الله عنه صادق فيما يقول؛ لموافقته أحكام الشريعة الإسلامية وآدابها، وكل ما تضمنته هذه الأفكار فهو موافق لحقائق الأمور التي يعيشها الناس فالناس على اختلاف طبقاتهم يرحبون بها، وهذا هو السبب الذي جعل لأفكار عمر هذه المنزلة التي احتلتها على مر العصور، فأثرها الاجتماعي ملموس في الناس منذ أن أرسلها عمر إلى أبي موسى الأشعري إلى وقتنا هذا، وعلى الرغم من أنها تخص القاضي والمهتمين بالقضاء إلا أنها لا تنغلق على غيرهم لأنها أفكار واضحة.

5- الأسلوب:

أسلوب عمر رضي الله عنه في هذه الرسالة يتسم بالسهولة، فقد بدأ الرسالة بقوله: "من عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عبد الله ابن قيس" وهذه العبارة هي العبارة السائدة في صدر الرسائل في زمن الخلفاء الراشدين حيث كان أسلوب الرسالة خالياً من عبارات التفخيم سواء كانت الرسالة موجهة للخليفة أو صادرة منه، ونلاحظ أن جملة " سلام عليك " تتلو اسم المرسل والمرسل إليه حيث تعقبهما: " أما بعد" ثم يشرع في موضوع الرسالة.

وعندما ننظر في الألفاظ التي استخدمها عمر نجدها ألفاظاً يستعملها الناس في حديثهم اليومي، فهي ليست غريبة عليهم. وأما تراكيب الرسالة فهي متينة وقوية، خالية من التعقيد ومن الحشو، وبما أن المقام مقام إقناع فقد كثر التأكيد في أسلوب الرسالة ومن ذلك قوله: "فإن القضاء" "فإنه لا ينفع " "فإن الحق قديم".

وأسلوب الرسالة يجمع بين الأسلوب العلمي الذي يهدف إلى أداء الأفكار بأسلوب مفهوم لا تراعى فيه الناحية الجمالية، والأسلوب الأدبي الذي يقدم

الأفكار مع ملاحظة الناحية الجمالية، غير أننا إذا أنعمنا النظر في أسلوب الرسالة وجدنا الأسلوب الأدبي يبرز في أولها، وهذا يدل على مهارة عمر وأصالة أسلوبه، فإذا سرنا إلى وسط الرسالة وإلى آخرها برز الأسلوب العلمي وتغلب على الأسلوب الأدبي.

وأسلوب هذه الرسالة استطاع أن يؤدي أفكارها وينقلها إلى القارئ والمستمع في يسر وسهولة لتوافر الصفات التي ذكرناها في هذا الأسلوب. ولا يغيب عنا أن السمعة التي حظيت بها هذه الرسالة على امتداد التاريخ الإسلامي مردها إلى: تأثير الأفكار، وأصالة الأسلوب، وخلف هذين وعي الخليفة الصالح عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإدراكه لما تحتاج إليه النفس البشرية سواء كانت حاكمة أو محكومة.