كـتـاب


الثقافة القضائية







تأليف

القاضي/ إسماعيل بن إبراهيم بن يحيى الطيِّب
عضو هيئة التفتيش القضائي
المدرس في المعهد العالي للقضاء



حقوق الطبع محفوظة
للمؤلف

الطبعة الثانية
1425هـ – 2004م


?


كتـاب








مجمل خطة محتويات الكتاب

الباب الأول
التعريـف بمـادة الثقافـة القضائية حدَّاً، وماهية
الفصل الأول: التعريف في اللغة، والاصطلاح.
(أ): التعريف في اللغة.
(ب): التعريف في الاصطلاح.
الفصل الثاني: التعريف بالموهبة الذاتية والنفسية في الشخصية الثقافية القضائية.
(أ): مفهوم الموهبة الذاتية.
(ب): مفهوم الموهبة النفسية.
الفصل الثالث: مقومات العمل المِراسِي التطبيقي في تقدير دلالة التعريف الفني الجامع بين مادتَي: الثقافة، والقضاء.
(أ): مفهوم المقوم المِراسِي في العمل القضائي.
(ب): مفهوم المقوم الجامع بين الثقافة والقضاء مادةً واحدة وبين اعتبار أن كلاً منهما يحدُّه التعريف الخاص بذات المادة.
(ج): توجيه دلالة المُقَوِّمات العلمية في الشخصية القضائية الوضعية، وتحرير مقارنتها بمقومات الشخصية القضائية الشرعية.

الباب الثاني
الثقافة القضائية في العصر الجاهلي
الفصل الأول: أشهر قضاة الجاهلية.
الفصل الثاني: نماذج من أقضية الجاهلية.
الفصل الثالث: الإسلام يُقِرُّ مبدأ القضاء الجاهلي.

الباب الثالث
السلوك القضائي في صدر الإسلام
الفصل الأول: تشريع القضاء يحقق التطبيق العملي لحماية السلوك.
الفصل الثاني: ثقافةُ الصحابة العلمية وأثرُها في سلوكهم عَطَّلَتْ وأَوْقَفَتْ محاكمَ تقاضيهم.
الفصل الثالث: سرُّ عدلِ القضاء حُسْنُ سلوكِ وُلاتِه.
الفصل الرابع: الامتناع عن قبول القضاء وتهيُّبه أوجدَه التحذيرُ الشرعي، ثم الإشفاق والزهد.


الباب الرابع
بوادر خرق مقومات النهج القضائي في عصور الْخَلَف، والْمُلْك العَضُوض
الفصل الأول: مفهوم البادرة في اللغة والاصطلاح.
(أ): تعريف البادرة في اللغة.
(ب): تعريف البادرة في الاصطلاح.
الفصل الثاني: بادرةُ خَرْق السلوك القضائي القويم بطلب ولاية القضاء.
الفصل الثالث: بادرةُ ظهورِ الرشوة، والحكمِ بالهوى سبَّب زوالَ العدل، وسقوطَ هيبة القضاء.
الفصل الرابع: بادرةُ شراء ولاية القضاء تحقيقٌ للظُّلم، وبيعٌ للضمير.
الفصل الخامس: بادرةُ حب الظهور، والتقرب للولاة شائِنةُ وجْهِ القضاء، ووصْمَةُ وُجوهِ وُلاتِه.

الباب الخامس
السلطة القضائية، ولازم صفاتها
الفصل الأول: مقومات القاضي الخُلُقية والفنية.
الفصل الثاني: مقومات القاضي الأدبية.
الفصل الثالث: مقومات هيبة القاضي، وهيبة القضاء.
الفصل الرابع: مقومات القاضي في قدرة القضاء.
الفصل الخامس: الشروط السلوكية اللازمة في حامل أمانة القضاء.

الباب السادس
مقوماتٌ عامة
الفصل الأول: مواقفُ قضائية.
الفصل الثاني: نوادرُ قضائية.
الفص الثالث: وكلاءُ الشريعة، والمحامون.
الفصل الرابع: المقومات السلوكية في قانون السلطة القضائية رقم: (1) لسنة: 1991م في الجمهورية اليمنية.
الفصل الخامس: توصيف وتصنيف موظفي المحاكم في قانون السلطة القضائية.

وبالله التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل،،،

القاضي/ إسماعيل بن إبراهيم الطيِّب
1/رمضان/1245ه.




إلى والدي المغفور له، نبراس أعلام الدعوة المغمورين، ودليل قادات التربية المستورين، مجدِّدُ جهادِ دعوةِ اللسان، واليد، والقلم الصامت، ناصرُ الدين الخالص، قامعُ معالمِ الشرك وبِدَعِ الأهواء، مُزيلُ شرِّ نفَّاثات العُقَد، ومُسقطُ موبقات تمائم سُلامى القدمَين والجِيْد واليد، كابحُ جماحِ هواة الفساد، ومُوريات الأحقاد، مُسدي نور اليقين إلى كل قلب غابت فطرتُه ولانت عقيدتُه، يوم أطبق ظلام الران، وساد شياطين الإنس والجان عامةَ قرى خيران، وما حولها من قضاء الشرفين.
وإنه لَبِرٌّ بِه وصلةٌ لوُدِّه حين أكتب محتسباً عن مفردات جهاده، ومعالم حياته، ومقومات صفاته، بعد حملي فقه سيرته، وجمعي معظم شواهد أثره عن خيرة محبيه ورواة علومه.. وكلهم يصفه بـ(المجاهد في الحق).
ومن هذا الانطلاق الوصفي الصادق، انطلقتُ في ترجمة حياته لنرى محتوى هذا العنوان موثقاً في القريب العاجل –إن شاء الله-.
كما أرفع الإهداء إلى والدتي الأم الوفية الطاهرة النقية، وقد قامت على تربيتي وتعليمي، مُنْذِرة مُبِرَّة، مع ثلاثة من إخواني، إلى أن شقَّت طريقنا مضحِّـيَة محتسبة، حتى بلغَتْ من الكِبَر عِتياً، ولا زالت ترعانا بعزة العقيدة، وكريم الأصل، وطِيْب المنبت.
رضي الله عنهما، ورفع ذكرهما، وأعلا من الجنات درجاتهما.
والله ولي الهداية والصلاح ،،،



قدَّم للكتاب
الأستاذ/ يحيى بن محمد مالك
(مدير المعهد العالي للقضاء)
**********
فضيلة العلامة/ سليمان بن محمد بن عبد الوهاب الأهدل
**********
فضيلة القاضي العلامة/ هلال بن عباس الكبودي
(عضو المحكمة العليا)
**********
فضيلة القاضي المجتهد/ محمد بن أحمد الكبسي
(عضو المحكمة العليا)
**********
فضيلة العلامة السيد/ محمد بن عباس زبارة
(وكيل وزارة العدل للشئون القضائية)
**********
فضيلة الأستاذ القاضي/ محمد بن محمد الدريبي
(وكيل وزارة العدل المساعد)


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين.
والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المتقين/ محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحابته الغُرِّ المَيامين.
أمَّا بعد:
فإنه بمناسبة الإعداد للطبعة الثانية لكتاب: (الثقافة القضائية) المقرَّرِ على طلبة قسم الدراسات الدورية والتدريبية في المعهد العالي للقضاء.. وبمناسبة ما يمتاز به الكتاب في نسخته موضوعاً ومادةً.
كما أن لهذه الطبعة في نسختها امتيازات بما زِيدَ فيها من تهذيبٍ وتنقيحٍ وتوضيحاتٍ وتعليقاتٍ عِلميةٍ مهِمةٍ كلها تهدف إلى زيادة تقريب المعنى الثقافي القضائي وتزكيته لدى طالب التأهُّل، أو عند مَن له اهتمام بتثقيف نفسه وتفقيهها في علم القضاء السلوكي الأخلاقي ليربط موضوعَه بعلمه الإجرائي التنفيذي.. بالخصوص، أو عند مَن له اهتمام أو هواية.. بالعموم؛ فالكتاب موثق التزكية.. موفور التنضير بمادته: عنصراً، ومفهوماً، ومقوِّماً.
ومهما حرص قارِئُه ودارِسُه على اصطحاب نية الاستفادة العلمية العملية بالنظرة –على الأقل– في حدود العلم اللازم.. أو زيادة باصطحاب التزكية العلمية المحاطة بالتنظير المتعدي.. فإنه سينال هدِيَّة الكتاب: ماهيةً ثقافيةً خاصة في السلوك القضائي الذاتي والنفسي موهبة يتمثلها حامل أمانة القضاء عقيدةً وشريعةً.. ومفهوماً علمياً، ومقوِّماً سلوكياً.

وعليه:
وبما أن المؤلف –رعاه الله– رأى أن تكون لي كلمة تقريظ وتقييم.. فإني لأُقَدِّر له ذلك وأتشرفُ لأعَبِّر عن مكنون علمي بخصوص ما توَخَّاه الكتابُ موضوعاً وقدمَتْه فصولُه طَبَقاً شهياً على مائدة القضاء، وحدَّدتْ عناصرَه سلوكاً وأخلاقاً وآداباً.. مجموعةُ مقوماتٍ علميةٍ تدعو طالبَ التأهُّل إلى التزام التطبيق العملي..
وقد أوضح مكنونُها على أن القضاء يعني: العدل وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية الغراء.. وتقديراً لمصداقية تقريرات القوانين الموضوعية والإجرائية النافذة في الجمهورية اليمنية..
ومتعلقُ العدل والعدالة في منهج الكتاب عَنى به مقومات السلوك في الشخصية القضائية وحدَّدَ ارتباطَها بالذات والنفس حيث أوضح بأنها في الذات تعني: الشخصية التي لا تقبل الضعف، ولا يساورها اللِّين، ولا تعرف التردد في الأمر..
كذلك لديها الدقةُ في الفهم، والاصغاء إلى حُجج الخصوم وأطراف النـزاع المستدعي معهم واقعَ الالتفات وبُعدَ الملاحظة وعمقَ التفكير فيما يتلجلج به اللسان أحياناً لدى موفور اللَّدد.. في مقابل العَي عديمِ الإفصاح بحجته..
أما في النفس فقد حددها بتلك الشخصية التي لا تقبل المجاملات ولا تعمل بها، ثم هي تمقت المداهَنة، ولا تعرف الخوف من أن يقول الناس عنها أو يسخطوا في مقابل مخالفة أهوائهم، أو لعدم مراعاة مصالحهم الأنانية..
ثم حددها بتلك الشخصية التي توفر لها تحقيق العزة.. وخاصيةَ قَسْر اليد من أن تطول شبهة أو تأخذ ما ليس لها بحق..
وقد تقلدت نزاهةَ المطمع وسلامةَ الصدر وحسنَ التدبير وصفاءَ الهدف وتجريدَه وسموَّ الغاية تجاه كل تطبيق عملي قضائي لهذه السلوكيات..
وعليه أيضاً:
فلا يفوتني القول بأن نظامَ الدراسة في المعهد ومنهجَه الهادفَ يُقِرُّ ويوافقُ هذا التوجُّه، وقد أثراه الكتاب وحدده وفقاً للأهداف المتوخَّاة من إنشاء المعهد، والرسالة السامية التي يحملها في إعداد وتأهيل أعضاء السلطة القضائية –قضاةً، وأعضاءَ نيابة، ومعاونين– تأهيلاً علمياً أكاديمياً.. واقع ذلك تحصيلاً نظرياً من خلال مضمّنات المنهج الدراسي التخصصي للمعهد على مستوى قسمَيه.
فمُهمتُه بصفة عامة: إيصال جميع الملتحقين به إلى تحقيق القدرة العلمية القضائية حكماً وتحريراً وتوثيقاً.. ثم إلى تحقيق القدرة الفنية توصيفاً وتصنيفاً.
وقد جمعَ هذه الأوصافَ وتضمَّنَها هذا الكتاب: (الثقافة القضائية) مستوعباً أبعادَها وتقريرَ أحوالِها وأوصافِها، مادةٌ مقررة تعني وتقيم جانباً كبيراً وفهماً في الشخصية القضائية المعنية بالتدريب والتأهيل..
ولقد أحسن وأجاد.. التوصيف والتعريف على مستوى أبوابه وفصوله.
أحسن وأجاد ترجمةَ الأهداف المتوخَّاة من تقرير مادته، مادةً دراسيةً علميةً واجبةَ التطبيق في الذات والنفس لازماً.. وفي الوظيفة العامة واجباً متعدياً..
وإنه لكتابٌ جديرٌ بمادته وبموضوعه أن يُنشَر ويُدرَس ويُحفَظ.. على ما وصَفَه به مَن سبقني بالتقريظ والتقديم من رجال القضاء المتخصصين في المحكمة العليا ووزارة العدل، وغيرهم..


فجزى الله مؤلفَه ومخرجَ مادته القاضي/ إسماعيل بن إبراهيم الطيب خير الجزاء.
والحمد لله رب العالمين.

راجي عفوَ ربه ورضوانَه/ يحيى بن محمد مالك
مدير المعهد العالي للقضاء - صنعاء
في: شعبان/ لسنة: 1420ه
الموافق: 9/11/1999م












بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين.
والصلاة والسلام على رسوله الأمين سيدنا/ محمد، وآله وصحبه ومن سار على دربهم ودعا إلى الله على بصيرة إلى يوم ا لدين.
وبعد:
فقد قَدَّم إليَّ أخي العلامة المقرئ الحافظ لكتاب الله تعالى القاضي الشيخ/ إسماعيل بن إبراهيم الطيب مؤلَّفه المفيد –بعون الله– الذي سمَّاه: كتاب: (الثقافة القضائية) مُحسناً الظن فيَّ، رغم أني لست من فرسان هذا الميدان؛ ولكنَّ اعتزازي بما أولاني أخي المؤلف من الثقة جعلني أَقْبَل التكليف؛ فخصصت جُزءاً من وقتي لقراءته صفحة صفحة، وباباً باباً، ومررت به –بعون الله– من أوله إلى آخره.
لقد وجدت نفسي أمام حديقة وارفة الظلال كثيرة الثمار فاستفدت منه أيَّما فائدة ولم أبخل بملاحظة ارتأيتُها وما أقَلَّها.
وكم كنت أستحي لتقبل أخي المؤلف لتلك الملاحظات بتواضع جمٍّ وأدب رفيع.
ويلمس القارئ لهذا الكتاب مدى الجهد الكبير الذي بذله المؤلف –جزاه الله خيراً– في إخراجه بهذه الصورة المشْرقة ليستفيد منه كل طلاب العلم سواءً في معهد القضاء أو في غيره.
وفي الختام: أتوجه إلى الله –العلي القدير– أن ينفع به وأن يرزقنا الإخلاص له –سبحانه وتعالى– في القول والعمل والنية، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.
وصلى الله على سيدنا/ محمد، وآله وصحبه وسلَّم.

الفقير إلى الله/ سليمان بن محمد بن عبد الوهاب الأهدل
27/محرم الحرام/سنة: 1415ه
الموافق: 6/7/1994م



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه، عدد ما خلق فسوى، وقدر فهدى.
والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين/ محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من نهج نهجه واتبع سنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أمَّا بعد:
فإنه بناءً على الثقة التي أَوْلانِيْها أخي في الله القاضي/ إسماعيل بن إبراهيم الطيب حيث قدَّم لي كتابَه الذي أسماه: (الثقافة القضائية) وقدم له أنه كتاب منهجي قام بجمعه وتأليفه كمادةٍ مقررة على طلبة الدراسات الدورية والتأهُّل للأعمال القضائية في المعهد العالي للقضاء طالباً مني مراجعته وإبداء الملاحظات عليه ظاناً بي خيراً ومحسناً فيَّ آماله، والله المستعان.
وعليه:
فقد لبيت طلبه وقرأت المؤلَّف المذكور بدقة وعناية؛ كلمةً كلمة وسطراً سطراً وصفحةً صفحة من أوله إلى آخره فرأيت فيه ولمست ما وصفه به الشيخ الفاضل/ سليمان الأهدل في مقدمته، والقاضي/ محمد بن محمد الدريبي، ثم أنني لم أبخل بملاحظات يسيرة أشرت إليها، ومنها مجرد استفهام، وكلها تقبَّلَها أخي بكل سرور ولَبَّى الأخذ بها.
وعلى العموم فإنه يحسن بكل مشتغل في سلك القضاء أن يحرص على اقتناء هذا المؤلف، ثم قراءته ودراسته بقصد الاستفادة، وكذلك من له اهتمام بالتعرف على جوانب الأخلاق، والآداب، والسلوك القضائي.
وإني لأرجو لمؤلِّفه التوفيق والسداد وحسن النية وصالح العمل.
والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والحمد لله رب العالمين.

راجي عفوَ ربه الكريم/ هلال بن عباس الكبودي
عضو المحكمة العليا
1/11/1415ه
1/4/1995م


بسم الله الرحمن الرحيم

لَمَحَتْ مُقْلَتي كتابَ الثقافة
وتأمتـلـتُـه فـوافـيتُـه كالـ
حبذا فكرة أصاغَتْه عِقداً
جمعَتْه يراعُ شيخٍ هُمامٍ
من بني الطيبـين زادوا بـ (إسما
عالِمٌ حافظٌ خطيبٌ نبيهٌ
فلعمري لقد أتانا بسِفْرٍ
هو للحاكمين خيرُ منارٍ
فاسلكوا نهجَه وسيروا على الحـ
فاللبيبُ الذي يراقب مَوْلا
فالأمَّارات غيرُ مَن عَصَمَ اللـ
إنما هذه الحياة خيالٌ
فاتقوا الله ربكمْ إنَّ تقوا
بجوار الرسول طه ومن لَفْـ
صلواتٌ من الإله عليهم‎
في القضا فارتشفْتُ منه سلافة
روضِ يُضفي على الطباع لَطافة
جوهرياً ونظَمَتْ أصدافه
المَعيٍّ ذي فطنة وحَصافة
عيل) مجداً ورفعةً وشرافة
خُلُقٌ يُخْجِل النسيمَ ظِرافة
مثمرٍ بالهدى، وأدنى قِطافه
في طريقٍ محفوفةٍ بالمخافة
ـقِّ ولا تبتغوا سبيلاً خِلافه
هُ ويخشاهُ يوم يُبدِي صِحافه
ـهُ مطايا إلى الجحيم وافة
واعتقادُ النعيمِ فيها سخافة
هُ مُجازٌ إلى كريم الضيافة
ـفَّ عليهم كساءه ولحافه
وعلى الصحب ما هَمَتْ وكَّافَة

وبعد حمد الله مستحق الحمد والثناء.
والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، مَن أرسله رحمة للعالمين هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وأصحابه الذين اهتدوا بهديه واستناروا بنوره في السير في دربه.
وبعد:
فقد اطَّلعتُ على كتاب الثقافة في القضاء لمؤلفه فضيلة الشيخ العلامة ضياء الإسلام/ إسماعيل ابن إبراهيم الطيب –حفظه الله ذاتَه وعَمَر بالصالحات أوقاتَه– فألفيتُ الكتاب فريداً في بابه، كاملاً في موضوعاته، قد استقطبه الأستاذ من عدة كتب قد لا تصل إلى يد الكثير منَّا لعزتها أو لتعذر الوصول إليها لولا همة الشيخ –حفظه الله– بعَثَتْها من سباتها وأخرجتْ مكنوناتها؛ فجاء كتابه جامعاً لشتاتها متدلياً بأشهى ثمراتها، فحري به أن يُنشر في المدارس وأن يحرص على حفظه كل دارس ليعلم كيف المسلك في القضاء، وكيف تأدب مَن قبلَهم بأخلاق المرتضى، وأن لا يتصدى له إلا من انتهل من منهل العلم الصافي وارتوى، ووطَّن نفسه على التقوى، ونهى النفس عن الهوى؛ لتكون الجنة هي المأوى، وقليل ما هم، وأما من كان دون ذلك فليبتعد عن القضاء كما ابتعد عنه الصالحون ممن مضى، ولا سيما هذه الأيام التي سادت فيها الفوضى –فجزى الله الشيخ الأستاذ/ إسماعيل خير الجزاء– فلقد جمع فأوعى، ونصح وأبلغ، واستنفذ طاقاته، وكرَّس الكثير من أوقاته خدمة للدين ونصحاً للمسلمين والتحاقاً بموكب العلماء العاملين ابتغاءً لمرضاة رب العالمين.
وفقنا الله جميعاً إلى مرضاته، إنه جواد كريم بَرٌّ رحيم.

القاضي/ محمد بن أحمد الكبسي
–غفر الله له ولوالديه–
بتاريخ: 12/ذو القعدة الحرام/1415ه


بسم الله الرحمن الرحيم

حمداً لله على نعمه التي لا تحصى.
وصلاةً وسلاماً على رسوله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه الأكرمين.
وبعد: -
فلقد أُتيحت لي فرصة الاطلاع على ما كتبه الأخ القاضي/ إسماعيل بن إبراهيم الطيب، المدرس بالمعهد العالي للقضاء لمادة الثقافة القضائية في نفس الموضوع، فوجدته قد حوى الكثير مما يجدر بالطالب معرفته عن القضاء وأهله، وكذا ما يجب أن يتحلى به القاضي من صفات حميدة.
فمهنة القضاء كما هو معلوم مهنة صعبة تتطلب مزيداً من المعرفة، ومزيداً من التحلي بالأخلاق العالية والصفات النبيلة.
فجزاه الله خير الجزاء، ونفع الله به وبما كَتب.
والله ولي الهداية والتوفيق.

محمد بن عباس زبارة
وكيل وزارة العدل للشئون القضائية
14/7/1994م



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين.
والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله وأصحابه الغُرِّ الميامين.
وبعد:
ببالغ الإعزاز والتقدير تلقيت نسخة من كتاب: (الثقافة القضائية) من مؤلفه القاضي الفاضل/ إسماعيل بن إبراهيم الطيب، أحد قضاتنا الأجِلاء المتحلين بالعفة والاستقامة والخُلُق الكريم والهمة العالية في تحصيل العلم وتعليمه.
وهذا الكتاب العامر بالمواضيع الشيقة والمفيدة في مجالات: فقه القضاء، والثقافة القضائية، والسلوك القضائي، وآداب وأخلاق رجالاته قديماً قبل ظهور شمس الإسلام مُمَثَّلاً بقضاء الجاهلية، وبعد فجر الإسلام مُمَثَّلاً بقضاء النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– والصحابة بعده حتى عصرنا الحاضر.
وهذا الكتاب القيم وَمْضَة مضيئة وتحفة مفيدة امتاز بابتكار خاصيات علمية وقضائية قيمة تمثلت في حسن التوليف وجمال الربط بين مفهوم الثقافة والفن القضائي، وقد صيغت نتيجة هذا التوليف في قالب سامق بديع تَمثَّل في تعريف النوعية القضائية الموهوبة ذاتياً ونفسياً.
كما امتاز بتعريفِ مفهوم العدل في القضاء الجاهلي والقانون الوضعي، وتعريفه في القضاء الإسلامي، وعظيم الفرق بين المفهومَين.
كذا فإن لهذا الكتاب ميزة تحبير مادة القضاء بمادة الثقافة ومقومات السلوك بصفة عامة.
كذلك امتاز بأسلوب الربط بين القضاء كعلم دراية ورواية، وبينه كسلوك وأخلاق يلزم رجالات القضاء تفهُّمه وتطبيقه.
وأخيراً: امتيازه بإيجابية طرح المواقف القضائية، وبديع أسلوب تقديم النادرة القضائية.
وجميلٌ جداً مناقشة هذا الكتاب لقانون السلطة القضائية في أهم مواده المتعلقة بسلوك القاضي وكتَّاب المحاكم وحصر مشتملات المقومات الإيجابية لأفرادهم.
وكذا تعرضه لمناقشة مفهوم الوكالة والمحاماة في عرضٍ مقْنِع وارِف وبأسلوب علمي وفني دقيق.
وهذا الكتاب يلزم كل من له صلة بالقضاء مباشِرَةً أو معاوِنَة، أو من له اهتمام بشئون القضاء وطلاب العلم.
وإني لأتمنى من كل قلبي لكاتبه التوفيق والسداد.
ونَفَع الله بعلمه طلابَ العلم ورجالَ القضاء مزيداً من هذه الأعمال العلمية الخيرة.
سائلاً المولى –عزَّ وجلَّ– للمؤلف السعادة في الدارَين، والصلاح له في ماله وأولاده وعلمه.
والله وليُّ الهداية والتوفيق.

محمد بن محمد الدريبي
وكيل وزارة العدل المساعد



مقدمة الطبعة الثانية

الحمد لله العليم الحكيم، إليه يُرجَع الأمرُ كلُّه، لا يَعْزُب عنه مثقالُ ذرة في الأرض ولا في السماء، بنعمته تتم الصالحات، وتُضاعَف الحسنات.
والصلاة والسلام على محمد رسول الله الصادق الأمين، وآله الطاهرين، وصحابته أجمعين.
أما بعد:
فإنه بمناسبة نفاد نُسَخ الطبعة الأولى لكتاب: (الثقافة القضائية)، وفي زمن قياسي.. لاحَقَه حظُّه.. بإقبال رُوَّاد الثقافة القضائية على شرائه.
كذلك من أسباب إعادة طبعه: رغبةُ ضرورةِ تغطيةِ حاجة طلاب الدراسات الدورية التأهيلية في المعهد العالي للقضاء مستقبلاً.. وهو لا يزال يقيم دوراته، كلما سرَّح مجموعةً تَلَتْها أخرى.. حتى تتخرج فيه..
ولعل مادة الكتاب قد ميَّزَتْ رواجَه، لِمَا يختص به من جمع وتنسيق بين الثقافة العلمية السلوكية، الشاملة للأخلاق والتربية، الممثِّلة للقربى إلى الله تعالى، وللروحانية المطْمَئِنة بالإيمان، في جعل كل عمل عبادةً، وطاعةً لله رب العالمين، يرجو فاعلُه بٍرَّه ونفعَه في الدنيا والآخرة، وبين القضاء محط مقومات اللدد، ومُخرج الكيد، والتربص وليد الضغائن، وسادن حجب البر والتقوى.. عن قوم لا يؤمنون.
وقد كان موضوعه واحداً من أسباب تزكيته واعتبار أسلوبه وطرحه.. ومن قُرَّائه مَن صرَّح وآذَنَنِي بأن الكتاب بموضوعاته يمثِّل قواعد جامعة تحمل أبعاداً خاصةً تحتاج إلى تمشية.. وأنه يُحِبُّ ويَرْغَبُ في تقريبها.
وقد كان رَدِّي: بما أن ربَّ البيت أدري بما فيه.. وأنا أحقُّ بإدارة بيتي: فإن إرادتي تتمثل في إبقاء الكتاب على حاله، وعلى ما هو عليه؛ مُجْمَلَ النصوص، عامَّ الخطوط؛ ليبقى للقارئ وطالبِ العلم أثرُ جُهْدٍ، وتقديرُ بحثٍ مرجِعي، يؤهِّلُه لِعْلْمٍ وفَهْمٍ أوسع.. من خلال الاطلاع..
ولتقدير الضرورة: خُصَّتْ هذه الطبعة بإضافات اقتَضَتْها وُرُود الحث القائم على النصح الفاعل الدال به أصحابُه على إمكان توسيع دائرة النظر في تحرير بعض الخطوط العريضة..
فكان ذلك حافزاً على إجراء الإعادة بخصوص تنظير التقسيم الفني لمادة الكتاب إلى أبواب وفصول، وزيادات عَنَت الخطوط العريضة بِدءاً بعرض حدِّ الماهية وتوجيهِها.. إلى تحرير بعض النصوص المنقولة من إبهام المتابعة.. وتجريد ظنية اختيارها.. في مقابل مذاهب أصحابها وخاصية تقدير آرائهم.
ومن مفاهيم الكتاب العامة والمجملة: ما حظي في هذه الطبعة من الشرح والبيان..
كما خُصَّ بالتوجيه والتقويم كلُّ ما اعتُبِر في الأصل مُبْهَماً..
وما لا يَعْنِيه التفريعُ ولا التعديلُ هو: جانبُ الدلالة في المادة: دلالةُ النُّصْح، ودلالةُ العمل، ثم دلالةُ الإخلاص والاقتداء.. وفوق ذلك: دلالةُ التجنب والاقتناع مهما دعي إليه وهو قادر..
أما مَن طَلَبه فيُمنع.. ولا تَصِحُّ ولايَةُ ناقصِ الأهلية.. ولا مستورِ الحال.. ولا فاقدِ التأهُّل.. على حدِّ إفصاحات الإشفاق الآتية:
أيَا أيُّها الناسُ كُلُّ الأُمَمْ
أُخاطِبُ فِيكُم مُرِيْدَ القَضا
فَيا صاحِ إنَّ القَضاءَ لَذُو
فَيَجْعَلُ ذا العَقْلِ في حَـيْرَةٍ
عَدَى مَنْ أرادَ الإلهُ لَهُ
فَلا تَطْلُبِ الحُكْمَ تقْضِي بِهِ
لِماذا أرَى في زَماني خُطَىً
فَوا عَجَبِي مِنْ خُطَى ذِي الْحِجَا
كَطَيْشِ الفَراشَةِ إِذْ تَرْتَمِي
فَتُسْقِطُها النارُ في قَعْرِها
ويا عَجباً! كَيْفَ يُذْرِي الرُّشَا
فيَحْسَبُهُ المُقْتَدِي حُجَّةً
ويَرْمُقُهُ الْمَرْءُ في (جُـبَّـةٍ)
وتَعْلُو عَلَى رَأْسِهِ (عِمَّةٌ)
ومَا كانَ مِنْ حَقِّهِ وَضْعُها
أمَا كانَ يَدْرِي بِأَنَّ القَضا
يفر الفتى شفقا أن قضا
فيقضي لهول هوى عن رضا
ألا فليعش حطما من ثرى
فمن سره الحكم إذ جاءه
فَإن يَكُ حالُ القَضا هَكَذا
إلَيكُمْ خِطاباً مِنَ القَلْبِ عَمّْ
لِيَعْلُوَ – إنْ خالَ- مَجْدَ القِمَمْ
شُجُونٍ يُغَـيِّرُ رُوْحَ القِيَمْ
أيَسْمُو؟! أَمِ الدُّوْنُ أَعلَى الْهَرَمْ؟!
هِدايةَ قَلْبٍ وعَقْلٍ وَفَمْ
فَقَدْ يَتْبَعُ الحُكْمَ ذَيْلُ النَّدَمْ!
وسَعْياً حَثِيْثاً لِمَا فِيْهِ ذَمْ؟!
إلى نارِ عِرْضِ ومالٍ ودَمْ!
على وَهْجِ نارٍ تَرُوْمُ الشَّمَمْ
تقولُ: ألاَ بِئْسَ نُعْمَى الأَلَمْ!
لِتُرْدِي بِهِ في مَكانِ الظُّلَمْ؟!
بِمْحَضِ شُمُوخِ شُحُومِ الوَرَمْ
و(جَـنْبِـيَّةٍ) حَوْلَ فَيْضِِ الدَّسَمْ
فَيُهْدِي التَّحايا ويُلْقِى السَّلَمْ
لِيُثْنِي عَلَيْه الجَهُوْلُ الأَصَمْ!
قَضاءٌ يُحَتِّمُ طَرْحَ الذِّمَمْ؟!
ليصلى الحريص جحيم الحمم
جناه بصول وهاء الوهم
جباه بجور قضاء النهم
على حال يسر رماه العدم
فخَيْرٌ مِنَ الحُكْمِ حُكْمُ العَدَمْ!

والله حسبنا ونعم الوكيل،،،
المؤلف ،،،



مقدمة الطبعة الأولى

الحمد لله رب العالمين.
والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين/ محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن ما يتصل بالقضاء من مفاهيم علمية نظرية وتطبيقية سواءً على مستوى تنظيم الإدارة وتحديثها تصنيفاً وتوصيفاً، أو على مستوى العمالة تأهيلاً وتوظيفاً، نشأةً وتطوراً؛ فذلك من متطلبات الإصلاح القضائي.
ومتعلقاتُ هذه المعاني لزومُ الصفات السلوكية لعامة السلطة القضائية، وخاصةً أفرادها، اقتداءً بالسلف، وقدوةً مُثْلى للخلف.
وهذه وتلك عناصر واقعية وحقيقية تدخل ضمن مفهوم علم القضاء الواسع الدلالة، والشامل شوارد مظانه.
وبمثل هذا العموم توصف مادة: (الثقافة القضائية) التي نقدِّمُ لها على أنها مادة منهجية، يتلقى دراستَها طلبةُ الدراسات الدورية والتدريب في المعهد العالي للقضاء؛ لتعريفهم من خلالها على السلوك العملي المطلوب تطبيقه في كل الأعمال القضائية التي يُسنَد إليهم اختصاص تنفيذها في المحاكم بدقة وأمانة ونزاهة.
ومفهوم المادة يعني: الاضطلاع العلمي –مادياً ونظرياً- بعموم مقومات القضاء تاريخاً –بدايةً ونهايةً-، وفقهاً، ولغةً، وأصولاً، وفروعاً، وتنظيماً، وتأهيلاً، وشروطاً، وآداباً، وفنَّاً... (تطبيقاً وتنفيذاً).
وعلى تقدير توفُّر الوقت، وتيسير جمع مادة هذه العناصر على أنها تمثل المنهج المكمِّل للنفع النسبي، كلما تحقق استيعاب مظان مادته العلمية في كل عنصر مما ذكر.
والواقع يحتِّم تحديد وقت وزمن الدراسة بأشهُرٍ معدودات يستحيل فيها استيعاب الشمولية الوارفة، والتحقيق الجامع المانع في كل جوانب بحوث هذه المادة.
لذلك فإن تركيزنا التنفيذي النظري سيقع على جانب واحد فقط، هو: جانب السلوك العملي في الشخصية القضائية.
أما الجوانب الأخرى فواردٌ عليها التجاوز تفصيلاً، ولا مناص من الإشارة إلى ما يحصل به العلم الضروري لطالب التأهُّل.
والجانب السلوكي في مادة: (الثقافة القضائية) يعني: ما تضمنه عنصر التنفيذ في السلطة القضائية من لازم الأخلاق، والآداب، بعض الشروط.
ذلك هو منهجنا في إجماله، نتناول تفصيلَه في إطار محتويات أبواب ستةٍ، تُمَثِّل خطة هذا الكتاب، وذلك على نحو ما يأتي في (مجمل خطة محتويات الكتاب).
والله الهادي إلى سواء السبيل،،،
المؤلف ،،،







البابُ الأول

التعريف بمادة الثقافة القضائية
حدَّاً، وماهيَّة



الفصل الأول:
التعريف في اللغة والاصطلاح
(أ): التعريف في اللغة
مفهوم الثقافة القضائية في اللغة:
هي: الحَذاقة.
قال ابن منظور: "ثَقِفَ الشيءَ ثَقْفاً وثِقافاً وثُقُوفَةً: حَذَقَهُ.
ورجل ثَقْفٌ وثَقِفٌ وثَقُفٌ: حاذِقٌ فَهِمٌ.
ويقال: ثَقِفَ الشيءَ، وهو: سُرعة التَعَلُّم.
وثَقِفْتُ الشيءَ: حَذَقْتُهُ.
وثَقِفْتُهُ: إذا ظَفَرْتُ به.
قال تعالى: ?فَإِمَّا تَثْقِفَنَّهُمْ فِيْ الْحَرْبِ?( ).
وثَقِفَ ثَقْفَاً: صار حاذِقاً فَطِناً ثابِتَ المعرفة بما يَحتاج إليه"( ).
والذي يهمنا من هذه المعاني: ما يوافق منها المعنى الاصطلاحي لمادة (الثقافة القضائية)، وهو: لزومُ الفطنةِ والمعرفةِ لفنِّ القضاءِ، والحاجةِ إليه.
(ب): التعريف في الاصطلاح
مفهوم الثقافة القضائية في الاصطلاح:
هو: مفهوم فنِّ القضاء الذي لا تكفي فيه المعرفة والفهم العلمي وحدهما؛
بل لا بد من وجود مواهب وعوامل شخصية ونفسية تجعل من المرء قاضياً صالحاً قادراً على تحمل مسئولية الحكم بين الناس والفصل بين وجهات نظرهم على أسس علمية وقواعد نظرية وقانونية عادلة ونافذة.



الفصل الثاني:
التعريف بالموهبة الذاتية والنفسية
في الشخصية الثقافية القضائية
(أ): مفهوم الموهبة الذاتية
المواهب الذاتية هي:
? قوة الشخصية التي لا تعرف التردد في الأمر.
? ولديها الدقة في الفهم.
? والإصغاء إلى حجة الطرفين.
? وسـرعة البديهة لما يلفت النظر أحياناً في أقوال أحدهما، ويستـدعى دقة الملاحظة والعمق في التفكير فيما يتلجلج به اللسان.
(ب): مفهوم الموهبة النفسية
أما المواهب النفسية فهي:
? ضبط النفس، والسيطرة على العواطف.
? وعدم الخـوف من الناس من أن يقـولوا أو يسخطوا أو يعلِّقوا على غير فهم وإدراك، أو ثقافة فنية قضائيـة، والتي لا يمكن أن تتوفر إلا في شخص القاضي الممارس عشرات السنين في مجال القضاء.
? والبت في آلاف الدعاوى وآلاف المنازعات.
? وشهادة آلاف الوقائع.
? وحل معضلاتها.




الفصل الثالث:
مقومات العمل المِراسِي التطبيقي في تقدير
دلالة التعريف الفني الجامع بين مادتَي: الثقافة، والقضاء
(أ): مفهوم المقوم المِراسِي في العمل القضائي
ممارسة القضاء مدة طويلة في الغالب تكسب القاضي خبرة قضائية خاصة وثقافة معينة يحمل بها ميزان العدل ليوازن بين كفَّتَيه؛ فيضبط تأرجُحَهما بالحجة العلمية، والفهم الدقيق، والفطنة الحسَّاسة النادرة.
فعملية الموازنة بناءً على ما تقدم بين حجج الخصمَين وترجيح أحدهما على الآخر عملية فنية وثقافية دقيقة تحتاج إلى كثير من حصافة الرأي والمران الإيجابي النافع.
فمن يرى أن القضاء بين الناس مهمة سهلة ومهنة ميسرة مبذولة يكون ضعيفاً باديَ الرأي مجانباً للصواب، إلا إذا كان هذا الشخص جاهلاً أو مغروراً.. ومثل هذا –قطعاً– لا يصلح للقضاء؛ فإن وُلِّي فالبلاء على من وُلِّي عليهم، والويل له بقضائه.
والقضاة ثلاثة: واحدٌ في الجنة، واثنان في النار، وهذا لا يخرج عن دائرة الاثنين بحال مهما كان مُسْلِماً مدعياً تمسكه ومحافظته.
ولقد فهم أهمية القضاء وعظيم قَدْره وشديد مسئوليته أئمة العرب الدهاة قبل فجر الإسلام؛ فما كانوا يختارون لمنصبه إلا من له فيهم ميزة خاصة في السلوك، ورجاحة العقل، وسلامة الفهم، وحصافة الرأي، ودقة الملاحظة، وسعة الثقافة، وطول البال، وعفة اليد، ونزاهة المطمع، وسلامة قضاء الغَرَض، وإرادة المصلحة العامة في الغالب.
وهم يرجعون في إصدار أحكامهم إلى العادات والأعراف، والتجارب، والفراسة في إلحان حجج المتخاصمين، وما يستنبطه اجتهادهم من القياس على الشبيه والمِثْل؛ ولهذا وُوجِهَتْ بالرضا والقبول، وصارت سنَّة متَّبَعة للخلف، ومنها ما أقره الإسلام وثبَّته.
ويروي لنا التاريخ نماذج من القضاة الجاهليين الذين حققوا تلك الصفات وطبقوها في أحكامهم العامة على الآخرين، كما أن لبعضهم أحكاماً خاصة على أنفسهم إصداراً وتطبيقاً لحفظ المال، والعقل، والعِرض، والسلوك الخُلُقي …
(ب): مفهوم المقوم الجامع
بين الثقافة والقضاء كمادةٍ واحدة
وبين اعتبار أن كلاً منهما يحدُّه التعريف الخاصُّ بذات المادة
قبل الانتقال إلى حيز التفصيل الموعود من هذا الكتاب يبقى من نص التعريف بمادته جزؤه الجامع بين مفهومَي: الثقافة، والقضاء مادة واحدة مفهومها العام، يعني: إظهار البعد الثقافي القضائي في جميع ملازم الكتاب جملة، وعلى مستوى بسط مطالب فصوله المحررة ضمناً تحت عناوينها.. وحكماً وموضوعاً واحداً يعنيه التعريف السلوكي الأخلاقي..
وهذا الجزء الممثل للجميع يقرره مفهوم حدِّ وماهيةِ الموهبة الثقافية القضائية بصفة عامة.
ومفهومها يعني: انطلاق القاضي بفكره التنفيذي السلوكي الرائد في تذوق تفعيل الممارسة القضائية العلمية تفعيلاً عملياً يواكب حال كل تطور حديث مباح.. كتذوق حلاوة الإيمان في ممارسة الطاعة لله تعالى أمراً ونهياً.. وفي تقديم القربى إليه سبحانه بما شرع فريضة ونافلة..
فالقاضي ينطلق كذلك في تفاعل علمه النظري مع تطبيقه العملي المِراسِي حتى لا يكون علماً جامداً يقف دون الصلة بالله، بعيداً عن حال المتابعة، أو بعيداً عن حال إرادة الموافقة للسنة.. أو عن الاستفادة من هذا الجديد المتطور أو ذاك.. كحال وقوف مفهوم علم المنطق بصاحبه وراء حدِّ وماهية دورانه الفلسفي العقلي.. كدوران حيوان الأربع حول رحاه، على ما قرره علماء هذا الفن.
وإنه لمِن لوازم العلم النظري مفاعلة القاضي لإجراءات القضاء العملية: القولية، والفعلية..
كما أنه واجب عليه ربطها بالسلوك الأخلاقية الأصلية والفنية المكتسبة.. أو بالسلوك الاختيارية الطوعية المثلى والمطلوبة ندباً أو سنةً قائمةً معلومةً، شِرعةً ومنهاجاً؛ حتى لا يكون مفهوم علم القضاء وولايته مجرد موروثٍ مِراسِي تقليدي جاف، يقف بصاحبه دون الروحانية، جاحداً مقومات التقوى المُكْسِبة للزهد، والمُوجِدة للورع.
(ج): توجيه دلالة المقومات العلمية
في الشخصية القضائية الوضعية،
وتحرير مقارنتها بمقومات الشخصية القضائية الشرعية
إنه لَتَبَلُّدٌ مُزْرٍ أن يقف القاضي بفهمه خلف وقوف القانون الوضعي بمواده جافاً جاحداً دون تطبيق لوازم أدلة الإسلام التشريعية المرنة، الجزائية منها والعقابية لتُنَفَّذ حداً وقصاصاً وحقاً شخصياً.. لازماً بوقوع المخالفات الشرعية أمراً ونهياً.. حاصلاً تطبيقه على المخالف إنصافاً وعدلاً..
وحقيقة واقع جفاف وجحود التشريعات الوضعية يتجلى في أربع وقفات:
أولاً: وقوفاً مُفْرِطاً في الحكمة:
زيادةً إلى حصول المكر، والخداع، وارتداء لباس سياسة الخضوع لأمر الواقع الموصوفة بحالاتها.. معلومة النفاق على ما حدده المنصوص عليها شعراً استوحاه جمال إدراك واقع سياسة الحال المقرونة بالأوصاف الآتية:
مُجَامَلاتٌ كُلُّها نِفَاقُ
تِجارَةٌ لَعِيْنَةٌ ومُرْبِحَةْ
مُعْظَمُهُم تَراهُ ذا وَجْهَين
وحَرَكاتٌ مَا لَهَا أخْلاقُ
لِمَنْ يُجِيْدُ فَنَّها وناجِحَةْ
يأكل لَحْمَ الناس باليدَين( )

فأيُّ حكمة يا تُرى يحققها مثل هذا الإفراط.. وفي مقابل السلوك الأخلاقية في السياسة الشرعية..
وضده: التفريط نقصاً إلى حد حصول البله، والحمق، والغُمارة، والجنون.
ومهما سُمِّي هذا الوقوف بالحكمة ووُصِف بضالة المؤمن المشروع أخذها.. فإن ذلك من باب تسمية الأشياء بغير مسمياتها تمهيداً لإحلال المحرمات منها.. والتحايل لإسقاط الحدود فيها.. وقد استباحت حرمة الكليات الخمس.. بمبرر جواز الخِدعة على حد دليل السنة: »الحَرْبُ خُدْعَة«.
وحقيقة الحكمة: ثمرة اعتدال العقل الحاصل به حسن التدبير، وثقابة الرأي، وجودة الفهم، وبُعد الإدراك المتناهي للمصالح، وقناعة الثبات في الأمر..
ثانياً: وقوفاً مُفْرِطاً في الشجاعة:
زيادةً إلى حصول التهوُّر، والتكبُّر، والعُجب، والصَّلَف..
وضده: التفريط نقصاً إلى حد حصول الذِّلة، والمسكنة، والمهانة، والتبعية الغربانية الحاصل بها نوع شؤم المعصية في شخصية التبع..
وحقيقة الشجاعة: انقياد قوة الغضب للعقل المنضبط بالشرع الحاصل به الكرم، والنجدة، والوقار، والحِلم، والاحتمال، وكظم الغيظ، والشهامة، وكِبَر النفس..
ثالثاً: وقوفاً مُفْرِطاً في العفة:
زيادةً إلى الرهبانية، والتبتُّل، وترك الواجب إلى حدِّ إجازة ظلم النفس بعدم إعطائها حقها..
وضده: التفريط نقصاً إلى حد حصول التبذير، واللؤم، والحيوانية الهِيْم، والوحشية القَسْوَرَة، ورفض الأخلاق والقيم..
وحقيقة العفة: تأدُّب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع، الحاصل به الحياء، والقناعة، والورع، والزهد..
رابعاً: وقوفاً مُفْرِطاً في العدل:
زيادةً إلى حصول الانقباض، والشُّح، وفقدان مَلَكَة الغضب.
وضده: التفريط نقصاً إلى حد حصول الظلم، والفساد، وانتشار الجريمة..
وحقيقة العدل: ضبط النفس على مقتضى الحكمة الحاصل بها القسط والعدالة.
والقسط في الـحكم يعني: القسط في القول، والعمل، وفي الاعتقاد، والصلة، والبِرِّ.
والقسط في تحديد الولاء، والبراء، يعني: التعامل بالعدالة.
والعدل يعني: الاعتدالَ في الأمر، والاستقامةَ على الحق، والاعترافَ به لذَوِيه، وردَّه إليهم..
وميزان العدل: تحقيق دوام الرضا عن الله.
والعدل، والعفة، والشجاعة، والحكمة: صفات سلوكية عملية.. مفهومها اعتدالاً يعني: أصول الأخلاق..
وقد تجاوزها القانون التزاماً وسَطَاً.. وتبَنى أطرافها مضاهئاً.. ثم مختاراً موقف العَتَمة والغُدرة: عِلَّة نورانيةِ العقل المعتدل: بضابط الشرع والدين الموصوف باليسر والوسطية، وبخاصية: مرونة أحكامه التفصيلية العملية.. الموجبة للاختلاف بين الفقهاء.. ويصدق عليها: وصف خاصية مرونة تقدير الأحكام القضائية في كل حادثة بواسطة الشخصية القضائية الموهوبة.. والموجب لهذا التقدير: واقع مرونة الأحكام الشرعية القابلة للاجتهاد في الفقه الإسلامي.



الباب الثاني

الثقافة القضائية
في العصر الجاهلي

الفصل الأول:
أشهر قضاة الجاهلية
كان العرب قبل الإسلام أصحاب فصاحة وبلاغة وفطنة وحكمة، ومنهم مَن له ميزة خاصة من حكمة نادرة، ووجاهة، ورأي سديد فيما يواجه قومه من معضلات الأمور الحربية منها والسياسية مع قبيلة أخرى، أو فيما من شأنه الاستقرار الأمني، والأخلاقي، والاجتماعي بإقامة العدل والإنصاف في مجتمع قومه وعشيرته، فيضع أحكاماً، ويطبق نظاماً، وينشر مبدءاً تعود إيجابياتها ضماناً وصيانة للأعراض والأموال والدماء.
فمِن مَن كان له تلك الثقافة والمعرفة والفطنة القضائية والسلوك الحكيم: عامر بن الظرب اليَشْكُري العدواني، وهو: الحارث بن عمرو بن قيس. قال ابن إسحاق: "وكانت العرب لا يكون بينها نائرة ولا عضلة في قضاء إلا اسندوا ذلك إليه، ثم رضوا بما قضى به"( ).
ومن قيس أيضاً: سنان بن عمرو بن مرشد، والحارث بن عباد، وامرؤ القيس بن أبَّان بن كعب بن زهير، وعامر بن الضحيان؛ وكان يجلس للناس قاضياً في الضحى، والجعيد بن صبره، وقيس بن خالد بن عبد الله ذي الجدين.
ومن إياد: وكيع بن سلمة؛ وهو صاحب الصرح بحزورة مكة المكرمة، وقد أكثروا فيه فقالوا: "كان كاهناً"، وقالوا: "كان صِدِّيقاً من الصِدِّقين"، ومن كلماته: مُرضعة، وفاطمة، ووادِعة، وقاصمة، والقطيعة، والفجيعة، وصلة الرحم، وحُسن الكَلِم، ومن كلامه: "زعم ربكم ليجزينَّ بالخير ثواباً، وبالشر عقاباً"، فلما حضرته الوفاة جمع إياد، ثم قال: "اسمعوا وصيتي: الكلام كلمتان، والأمر بعد البيان، مَن رَشَد فاتبعوه، ومَن غَوى فارفضوه، وكل شاةٍ معلقة برجلها".
وقِس بن ساعدة الإيادي، وحنظلة بن نهد بن زيد؛ ومما قيل عنه: "حنظلة بن نهد خير ناشئ في معد".
ومن اليمن: عمرو بن حممة بن الحارث؛ جدُّه الأعلى: (دُوس).
ومن بني أسد: سويد بن ربيعة بن حذار.
ومن بني تـميم: ربيعة بن مخاشن بن معاوية؛ وكان يـجلس على سرير من خشب؛ فسُمِّي: ذا الأعواد؛ حتى قيل فيه:
ولقد عملتُ سِوى الذي نَبَّأَتَنِي
أنَّ السبيلَ سبيلُ ذي الأعوادِ

وأكثم بن صيفي بن رياح، وضمرة بن ضمرة، وحاجب بن زرارة، والأقرع بن حابس ابن عقال.
ومن كنانة: صفوان بن أمية، وسلمِيُّ بن نوفل؛ وقيل عنه:
يَسُودُ أقوامٌ وليسوا بسادةٍ
بل السيدُ المذكورُ سلميُّ بنُ نوفَلِ

والشداخ؛ وهو: يعمر بن عوف بن كعب؛ وكانت قريش قاتلت خُزاعة، وأرادوا إخراج خُزاعة من مكة؛ فتراضى الفريقان بيعمر؛ فحكم بينهم، وباوَأَ بين الدماء، وعلى ألا يخرج خُزاعةُ من مكة.
ومن بني سهم: قيس بن عُدَي بن سعد بن سهم؛ وقيل عنه: "كأنه في العز قيس بن عُدَي"، والعاص بن وائل، وهاشم بن سعيد بن سهم.
ومن بني عُدَي: نُفَيل بن عبد العُزَّى بن رياح.
ومن بني زهرة: العلاء بن جارية.
ومن بني مخزوم: العدل؛ وهو: الوليد بن المغيرة.
ومن بني أمية: حرب.
ومن بني هاشم: عبد المطلب بن هاشم، وولَداه/ الزبير، وأبو طالب.
ويُروَي أن أول قضاة العرب: الأفعى بن الحصين بن غُنم الجرهـمي؛ الذي حكم بين بني نزار بن معد في ميراثهم، وهم: مُضَر، وربيعة، وإياد، وأنمار، وكان منـزله: نجران، من اليمن، ومن ولده: السيد، والعاقب؛ أسقفا نجران، اللذان أرادا مباهلة رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم–( ).
وليس هؤلاء الذين تَمَكنَّا من معرفتهم هم كل قضاة العرب؛ وإنما يُعْتَبَرون من أشهرهم وأنبغهم.
قال الجرجاوي: "كان القضاء قبل الإسلام يُعهد إلى رجالٍ ذوي خبرة ودراية وعقل وعلم ونبوغ في الذكاء، وكانوا يُوَظَّفون إما باكتساب ثقة الملك، أو الأمة، وهذه الحال كانت في الفرس والرومان.
أما العرب فكانوا يرجعون إلى حَكَم يفصل في الدعوى بين المتنازعين، وإن كانت الدعوى بين قبيلتين اختاروا قبيلة ثالثة، وهي بدورها تختار وتُعَيِّن الحَكَم من أعظم رجالها في الفضل والرأي والتدبير"( ).
قال ابن هشام: "ومن قضاة العرب مَن كان يُسمَّى: مُجَمِّعاً؛ لِمَا جَمَع من أمرهم، مثل: قُصَي بن لؤي؛ الذي اتخذ دار الندوة للقضاء، وحل أمور قومه، وتيمَّنت العرب به، حتى قال الشاعر:
قُصَيٌ –لَعَمْرِي– كان يُدْعَى: مُجَمِّعَاً
بِهِ جَمَعَ اللهُ القبائلَ مِن فُهَرِ

فكانوا لا يتشاورون في أمر، ولا يعقدون لواءً، ولا تُنكَح امرأةٌ، ولا يَتزوج رجلٌ إلا على يده، وفي داره( ).
وهكذا كان التقدير للرجال بسلوكهم وتفانيهم في خدمة الآخرين دون إضرارٍ بهم، ولا سَلْبٍ لأموالهم، أو نَظَرٍ لِما في أيديهم، وهم يعتقدون أن خيرَ الناس أنفعَهم للناس؛ بغاية ما يتمثل به النفع وهو: أقامة العدل؛ للإنصاف حالاً وزماناً ومكاناً بحسب العرف والعادة.
وهذا تفريق فنيٌ دقيق يظهر به أن مفهوم العدل في القضاء الجاهلي دون حقيقة العدالة شِرعةً ومنهاجاً، أزلاً حاضراً أو مستقبلاً؛ لأن هذا فقط من خصوصيات تشريع الله العليم الحكيم الخبير بمصالح عباده اليوم وغداً
ومتعلق المفهومَين تصنيف الثقافة القضائية الجاهلية، وسنورد شيئاً في توضيح وتبيين هذين الوصفَين للأهمية عند المقارنة.





الفصل الثاني:
نماذجُ من أقضية الجاهلية
في السطور الآتية نماذج من أقضية الجاهلية:
أولاً: الحكم بتحريم الخمر، والحدِّ على مَن شربها:
وممن حكم بذلك: الوليد بن المغيرة على ولده/ هشام بن الوليد.
حيث حدَّه بالضرب على شرب الخمر.
ثانياً: الحكم بتحريم الزنا:
وممن حكم بذلك: الأسلوم اليمامي.
ثالثاً: الحكم بإهدار دم المعتدي في الحرب، ودفعِ دية المعتدَى عليهم:
والذي حكم بهذا هو: الشدَّاخ/ يعمر بن عوف.
ذلك بين قريش وخُزاعة، وهو الذي حكم بولاية الكعبة وأَمْر مكة لقُصي، ثم ساوى بينهم؛ بعضهم مثل بعض في الحقوق والواجبات دون تفاضل مستقبلاً، وخزاعة هذه دخيلةٌ على قريش في مكة.
رابعاً: على المدعي البينة، وعلى المنكر اليمين:
ويُروَى أن الحاكم بهذا هو: قِس بن ساعدة.
خامساً: القضاء في الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين:
يُروى هذا عن: عامر بن جُشم، أو: عامر بن الظرب.
ساساً: القضاء في الخُنثى المُشْكِل:
وفي سيرة ابن هشام أن القاضي بذلك هو: عامر بن الظرب.
حيث أتوه فقالوا: "بماذا تحكم في رجل له ما للرجل وله ما للأنثى؟ أتجعله رجلاً أم امرأة؟"، فقال: "حتى أنظر في أمركم، فوالله ما نزل بي مثل هذا منكم يا معشر العرب"، فاستأخَروا عنه، فبات يقلِّب ليلته وينظر أمره.. حتى وصل إلى حُكْمٍ بمساعدة جاريته، قالت: "اتبع القضاءَ المَبَال؛ فإن بال من حيث يبول الرجل فهو رجل، وإن بال من حيث تبول المرأة فهو امرأة.. ثم خرج إلى الناس فحكم بالذي أشارت به جاريته.
سابعاً: القضاء بالقِسامة في دم عمر بن علقمة بن المطلب:
والقاضي بها: الوليد بن المغيرة.
ثامناً: القضاء في الديات:
والقاضي فيها بأن تكون ديةُ الرجل مائةً من الإبل هو: عبد المطلب، أو عميلة بن الأعزل، أو عامر بن الظرب.
تاسعاً: القضاء بالحدِّ في السرقة:
ويُروى أن أول من قضـى بـحدِّ قطع اليد في السرقة هو: الوليد بن المغيرة.
عاشراً: القضاء بأن الولد للفراش:
وذلك القاضي هو: أكثم بن صيفي( ).
وهكذا فإن المتدبر لهذه القضايا والحُكْم فيها يرى أن قضاتها يتمتعون بثقافة عالية، وفطنة دقيقة، وذكاء نادر، وسلوك قويم أهَّلهم ذلك للوصول إلى المحافظة على الأعراض والدماء والأموال والعقول ظاهراً، حتى جاء الإسلام فأثبت أن هذه الأقضية مبدؤها الفطرة السليمة بموافقتها أحكامه أو معظمها بغض النظر عن العقيدة التي انحرفوا بها عن الفطرة، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لكنهم لا يفقِدون جملة السلوك الأخلاقية، وما أرضاهم أن يتنازلوا عن كل مقوماتها الإيجابية وهم يحكمون ويقضون على شواذ المخالفين والمفرِّطين، أو على الأقل يرون مخالفتها نقيصةً ومَذَمَّة.
ولبعضهم على أنفسهم عَقْدُ التزاماتٍ خاصةٍ إيـجاباً أوندباً حَمَلَتهُم على خرق عادةِ قومهم ومجتمعهم فعلَها وهذه الالتزامات هي: ثقافتهم السلوكية العُرفية.. كما سنعرف.
وفيما سبق دلالة واضحة على أن العامة لـم يكن لـهم من السلوكيات والأخلاق مثل ما للخاصة، وتلك هي السنة، ?وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيْلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيْلاً?( ).
ويتضمن حالهم قول الشاعر:
على قَدْر أهل العزم تأتي العزائمُ
وتعْظُمُ في عين الصغير صِغارُها
وتأتي على قَدْر الكرام المَكارِمُ
وتَصْغُرُ في عين العظيم العَظَائمُ

وإن من أشراف العرب وعقلائهم من اتخذ لنفسه سلوكاً والتزاماً خاصاً في تحريم بعض ما تعوَّد قومُه وعشيرتُه على تعاطيه ومقارفته، كالخمر والزنا.
فمن أولئك: قيس بن عاصم، الذي ألزَمَ نفسه بعدم شرب الخمر، وقال فيه:
رأيتُ الخمرَ مصلحةً، وفيها
فلا – والله – أشربُها حياتي
فإن الخمر تَفضحُ شارِبِيها
إذا دارتْ حمياها تعلت
خصالٌ تُفسِدُ الرجلَ الكريْمـا
ولا أدعو لها أبداً نَدِيْمـا
وتُجْنِيْهِم بها الأمرَ العظِيْمـا
طوالعُ تُسَفِّهُ المرءَ الحلِيْمـا

وآخر هو: عفيف بن معد يكرب الكِنْدي، الذي حرَّم الخمر والزنا على نفسه بقوله:
قالت لي: هَلُمَّ إلى التَّصابي
وودَّعْتُ القِداحَ وقد أَراني
وحرَّمتُ الخمورَ عليَّ حتى
فقلتُ: عَفَفْتُ عمَّا تعلمينا
بها في الدهر مشعوفاً رهينا
أكون لقَعْرِ مَلْحُودٍ دفينا

وقال عامر بن الظرب في الخمرة أيضاً وهو يُقْسِم ألا يسقيَها ولا يشربَها حياته:
إنْ أشْربِ الخمرَ أشربُها للذَّتِها
لولا اللَّذاذة والفتيان لم أرَها
سَئَالَةٌ للفتى ما ليس يَمْلِكُهُ
مُورِثَةُ القوم أضغاناً بلا إِحنٍ
أقسمتُ بالله أسْقِيَها وأشرَبَها
وإن أدَعَها فإني ماقِتٌ قالِ
ولا رأَتْنِي إلا مِن مَدى الغالِ
ذهَّابَةٌ بعقولِ القومِ والمالِ
مُزْرِيَةٌ بالفتى ذي النَّجْدَةِ الحالِ
حتى يُفَرِّقَ تُرْبُ القبرِ أوصالي

وقال حاتم الطائي في تحريم الخمر والفجور –وحاتمٌ هذا وَلَدُهُ الصحابيُّ الجليل/ عَدَي بن حاتم–:
وإني لأرجو أن أموتَ ولَمْ أنَلْ
متاعاً مِن الدنيا فُجُوراً ولا خَمْراً

وقال مقيس بن صبابة في الخمر محرماً إياها على نفسه وهو يذمها:
رأيتُ الخَمْرَ طَيِّبَةً، وفيها
فلا –والله– أشربُها حياتي
إذا كانت مليكةٌ من هوائي
سأتركُها وأتركُ ما سِواها
خصالٌ كلُّها دَنَسٌ ذَمِيْمُ
طوال الدهرِ ما طَلَعَ النجومُ
أحالفُها فَحالَفَني الهُمومُ
من اللَّذاتِ ما أرسَى يَسُومُ

وقال الأسلوم اليمامي في تحريم الخمر والزنا على نفسه وهو قد حَكَم بتحريم ذلك:
سالمتُ قومي بعد طُولِ مَظاظَةٍ
وتركتُ شُربَ الرَّاحِ وهي أثيرةٌ
وعفَفْتُ عنه يا أميمُ تَكَرُّماً
والسِّلْمُ أبقى في الأمور وأعْرَفُ
والمُومِساتِ، وتَرْكُ ذلك أشْرَفُ
وكذاك ذو الحِجا المُتَعَفِّفُ( )

ولا يخفى ما في هذا من علاقة وثيقة بموضوعنا؛ لأن هذه الأحكام الشخصية نابعة من وجود المقومات السلوكية بواسطة الشعور بالتأثُّم لما يخالف الفطرة، كمن يشعر بالتأثُّم وهو يأخذ الرشوة، أو يحابي، أو يجامل في عمله على حساب ما هو واجبٌ عليه بحكم وظيفته.
وما إصدار الأحكام العلنية جماعيةً أو شخصيةً على المخالفات السلوكية إلا دليل الفهم الثقافي الفني القضائي لدى هؤلاء.









الفصل الثالث. يــــــــتـــــبـــــــع.. ..