«العيسى» وزير بهوية شرعية... ولكن بعقل «سنغافوري»
ما إن أخذ وزير العدل الدكتور محمد العيسى موقعه في دار «المشوح» أول من أمس، حتى قذف بما كان الناس يتساءلون عنه قبل حضوره، كأنه سمع ما تردد بعد أن جاء متأخراً، فأجاب قبل أن يسمع سؤالاً واحداً، بخطاب تمسك فيه بالهوية الشرعية والقضائية، وساح في شواهد غربية وسنغافورية وعربية، وما فرغ حتى «شفى غلائل، وأحبط مفعول الأسئلة القضائية الفتاكة».
لكن الوزير الذي أرسل أقواله على طريقة الضربات الاستباقية، ما أذهل حضور أمسية «المشوح» بافتراض ما ينتظرون، بالقدر الذي عجبوا من نقضه كل ما عرف سائداً ليس بين العامة والكتاب والنخب وحسب، وإنما بين رجال السلك العدلي والقضائي أيضاً.
غير أن ذلك العَجب ربما تحول إلى إعجاب، عندما برزت مهارة العيسى في توجيه آراءٍ، خالف فيها حتى عضو المحكمة العليا الشيخ صالح المحيميد الذي ناب عن الوزير ساعة من الدهر، حوصر فيها بألسنة حداد، ساءلت عن أبواب مثل قطع اليد، والتعزير، وانصراف القضاة وحضورهم باكراً، وقلة عددهم، وما إلى ذلك.
في مسألة «كتاب العدل» التي ملأت الصحف وانشغل بها الناس، نفى إمكان إدانة بعضهم بالفساد، «وإنما توجد أخطاء تكون فادحة أحياناً، لكن من الصعب تجريم كاتب العدل، لأنه مجتهد». إلا أن رفضه القطع بما طرح الكاتب خالد السليمان على أنه مسلّمة لا مراء فيها، لم يمنعه من الإقرار بصعوبة علاج كل ما تعلق بكتابات العدل من تأخير وأخطاء، بشّر بادئ الأمر بأنها في تناقص، بفضل تحرك جهازه في تدارك أي خلل على هذا الصعيد، «إذ لا يمكن التنازل عن جودة الصك الشرعي، ولا بد أن يكون على مستوى من الدقة يليق بمستوى الجهة الشرعية التي أصدرته».
العيسى لم ينكر على هذا الصعيد وجود تضارب في بعض الصكوك، فأعلن وقوفه على حالات، أُبرزت فيها ستة صكوك على أرض واحدة، وهو ما أكد أنه غير مقبول، مشدداً على أن مالك الصك الشرعي عليه أن يكون مطمئناً. وحول نقل كتاب عدل من مناطق أو مدن إلى أخرى، نقض الوزير كذلك ما تردد بأن ذلك كان بقصد التأديب أو عقاباً لبعضهم على التقصير، وإنما «بغية تجديد الدماء وتحريك المياه الراكدة، وسريعاً ما أدت الخطوة نتائجها في ذلك».
أما القضاة الذين كان أحسنُ المدافعين عنهم قبل الوزير من دعا إلى تفهم أنهم بشر منهم من يخطئ في التأخير عن الدوام لكن الغالبية عكس ذلك، فإن العيسى أطلق المفاجآت تجاههم في نواح عدة، فأكد أنه يكفيهم أن يحضروا مواعيد جلساتهم، بل في بلدان أخرى مثل مصر، أحياناً لا يخصص مكتب للقاضي مطلقاً، وإنما يحضر الجلسة وبعد أن ترفع يغادر المحكمة.
بل إن العيسى الذي مارس القضاء قبل أن يكون قيادياً في ديوان المظالم ووزارة العدل، أكد أن القضاة أولى من أعضاء هيئة التدريس والأطباء في عدم اشتراط الدوام، فلا توجد دولة في العالم تفرض حضورهم، إلا أن تكون لديهم جلسة فيحاسبون حينئذ على التأخر عنها إن لم يكن ذلك بعذر. غير أن المفاجئ الذي أضفى على مرافعة العيسى ضد القضاة مزيداً من الصدقية، هو إضافته أن معظم الأحكام التي يدلي بها القضاة لا يحررونها إلا في بيوتهم، نظراً لحاجتها إلى بحث وتسبيب. في تلميح إلى أن عمل القضاة ليس محصوراً في مباني المحاكم.
واستمر الوزير المثير في نقض المسلّمات المتداولة حول القضاء والعدل، فنفى أن المملكة تعاني نقصاً في القضاة، بل قال: «نحن تجاوزنا المعدل العالمي في أعداد القضاة، ففي تلك الدول يعدون قضاة المظالم وأعضاء هيئة التحقيق والادعاء العام ضمن العدد، ناهيك عن أن مشكلاتنا القائمة في تزاحم القضايا لها أسباب أخرى، وعلاجها ليس في زيادة القضاة».
هنا شخصت الأبصار، وبكل بساطة أجاب العيسى مبتسماً: «ذهبنا إلى دول شتى غربية وعربية، فوجدنا أن في دولة غربية انخفض معدل القضايا المرفوعة إلى القضاء بنسبة 90 في المئة، بعد استحداثهم مكاتب في المحاكم (للوساطة والتوفيق)، وفي الأردن الشقيقة انخفضت النسبة 40 في المئة، هذه نقطة، وأما الأخرى فهي أن القاضي بات مشغولاً بكثير من الأعباء المكتبية وبلا مستشارين شرعيين ولا نظاميين، بينما المفروض عكس ذلك، وبالتالي فإن توجهنا السير على هذين الاتجاهين: التوفيق والإصلاح، وتدعيم المكتب القضائي بالعناصر البشرية والإدارية التي تؤثر بشكل بالغ في إنجازه عمله».
وفي شق الحلول البديلة، كذلك نبه إلى أن دولاً مثل سنغافورة لا يكاد الناس يذهبون إلى المحاكم، بسبب اعتمادهم على التقنية في ترافعهم، وهو ما قال إن وزارته تسعى إلى التقدم نحوه، بعد تأهيل البنية التقنية للمحاكم، على رغم إقراره بصعوبات جمة في هذا الاتجاه.
ونقض الوزير كذلك مسلّمات حول قضايا عدة، مثل القول بعدم إمكان الاعتماد جذرياً على المحامين في الترافع، والدعوات الناصحة بإغلاق أبواب المحاكم بوجوه الإعلاميين. وبأن التقنين فيه محظور شرعي، إذ أشار الوزير إلى أن كثيراً من رافضيه يقعون في تناقض، بتجويزهم أشياء هي في حقيقتها تقنين وإن لم تسمّ به.
وعلى هذا المنحى أكد، وهو العضو في هيئة كبار العلماء، ما نشرته «الحياة» سابقاً أن «كبار العلماء» في جلستهم أخيراً قبل نحو شهرين، أجازوا «تدوين الأحكام وفق آلية معينة، جرى الرفع بها إلى خادم الحرمين».
http://www.alqodhat.com/news.php?action=show&id=314