التقابض في المعاملات المصرفية المعاصرة
1- المراد بالقبض: القبض في اللغة: الأخذ. يقال: صار الشيء في قبضتك أي: صار في ملكك وقبّضه المال أعطاه إياه .
واصطلاحاً: حيازة الشيء حقيقةً أو حكماً. وقولنا حقيقة أي: بوضع اليد على الشيء كأخذه وتسلمه ، وحكما أي بالتخلية بينه وبينه فيصير في حكم المقبوض.
2- طرق القبض:
يتم القبض بطرق: أقواها وأكثرها وقوعاً المناولة. وقد اختلف العلماء في صفة القبض: فقال الحنفية: يكون بالتخلية سواء كان المبيع عقاراً أو منقولاً إلا المكيل والموزون فإن قبضه يكون باستيفاء قدره أي بكيله أو وزنه.
وقال المالكية والشافعية: قبض العقار يكون بالتخلية بين المبيع وبين المشتري وتمكينه من التصرف فيه بتسليم المفاتيح إن وجدت ، وقبض المنقول بحسب العرف الجاري بين الناس.
وقال الحنابلة: قبض كل شيءٍ بحسبه فإن كان مما ينقل فقبضه بنقله ، وإن كان مكيلاً أو موزوناً فقبضه بكيله ووزنه ، لأن القبض ورد مطلقاً فيجب الرجوع فيه إلى العرف.
وفي رواية أخرى أن القبض بالتخلية مع التمييز.
ومما سبق يتبين أن مذهب الجمهور أن ماكان مقدراً فقبضه يكون باستيفاء قدره ، وماكان جزافا فعند الحنابلة ورواية عند المالكية: قبضه بنقله من مكانه ، وفيما عدا الجزاف والمقدر يرجع للعرف في قبضه ، وهو مذهب الجمهور عدا الحنفية.
فللقبض طرقٌ كثيرة ومنها: التناول باليد ، والنقل والتحويل فيما بيع جزافاً ، والكيل والوزن فيما يكال ويوزن ، والتخلية فيما لا يمكن نقله ، ويكون الإتلاف والتصرف في المبيع من المشتري قبل قبضه بمنزلة القبض فيكون ضامناً له.
3- أثر القبض:
يتم العقد بمجرد الإيجاب والقبول ، ولكن بعض العقود يتوقف فيها تمام الالتزام على تسليم العين لأنها تبرع وهي خمسة : الهبة والإعارة والإيداع والقرض والرهن.
وإذا تم القبض ثبت الملك للمشتري (وأما في العقود الفاسدة فقال الجمهور: يفيد الملك ، وقال المالكية: يفيد الملك إن لم يفت أو يتغير حاله) ويكون المقبوض من ضمانه ، ويجب عليه بذل العوض.
والقبض شرط لصحة بعض أنواع العقود أو لزومها فالصحة في مثل الصرف واللزوم في مثل الرهن.
هذا في عقود المعاوضات على تفصيلٍ بين العلماء وأما في غيرها كالميراث فلا يشترط القبض.
4- خلاف الفقهاء في حكم بيع مااشتراه الانسان قبل قبضه:
1- قال الحنفية: لا يجوز بيع المنقول قبل قبضه ، وما لا ينقل فيجوز عند الصاحبان استحساناً ، لأن تلفه غير محتمل.
2- وقال الشافعية: لا يجوز بيع شيءٍ قبل قبضه منقولاً أو غير منقول واستدلوا بما يلي:
أ)- أن علة النهي عن بيع الطعام قبل قبضه تتحقق في غيره ، سواءٌ قلنا بأن العلة (كما هي عند الجمهور) الغرر أي: غرر انفساخ العقد على تقدير الهلاك قبل القبض. قال ابن قدامة: علة النهي عن البيع قبل القبض عجز المشتري عن تسلمه لأن البائع قد يسلمه وقد لا يسلمه ، لا سيما إذا كان المشتري قد ربح فإنه يسعى في رد المبيع إما بجحدٍ أو احتيال في الفسخ أهـ أو قلنا كما قال المالكية: العلة لئلا يتخذ ذريعة للتوصل إلى الربا فيتوصل به إلى بيع العينة ، فكل هذه العلل موجود في غير الطعام.
ب)- ولقول ابن عباس (رضي الله عنهما) وهو راوي الحديث: ولا أحسب كل شيء إلا مثله. ولحديث حكيم بن حزام (رضي الله عنه) : إذا اشتريت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه . وحديث زيد بن ثابت في النهي عن بيع السلع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم ، وهما عامان وإن كان فيهما مقال ، لكن يشهد لهما القياس وهو صحيح.
3- وقال الحنابلة: وهو قولٌ عند المالكية فيما بيع جزافاً: لا يجوز بيع الطعام قبل قبضه ويجوز بيع ما عداه ، واستدلوا بما يلي:
حديث ابن عباس (رضي الله عنه): نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يبيع الرجل طعاما حتى يستوفيه قلت لابن عباس: كيف ذلك ؟ قال: ذلك دراهم بدراهم والطعام مرجأ . وعن عبدالله بن دينار قال: سمعت ابن عمر (رضي الله عنهما) يقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): من ابتاع طعاما فلا يبيعه حتى يقبضه . وعن ابن عمر مرفوعاً: من اشترى طعاماً بكيلٍ أو وزن فلا يبيعه حتى يقبضه رواه أحمد .
وعن أبي هريرة (رضي الله عنه) مر فوعاً: من اشترى طعاماً فلا يبيعه حتى يكتاله . وعن ابن عمر (رضي الله عنه) قال: رأيت الذين يشترون الطعام مجازفةً يضربون على عهد رسول الله حتى يؤوه إلى رحالهم متفقٌ عليه .
ووجه الاستدلال أن النهي خاصٌ بالطعام لمفهوم الأحاديث السابقة.
واستدل المالكية للجواز فيما بيع جزافاً بأنه يدخل في ملك المشتري بمجرد العقد.
4- وقيل: يجوز في غير المقدرات قبل قبضها ، وفيما عداها لا يجوز وهو رواية عند الحنابلة.
5- من صور القبض المستحدثة:
1- الشيك. 2- الكمبيالة. 3- الشيك السياحي. 4- القيد على الحساب. 5- القيد على الحساب في الصرف. 6- الحوالة المصرفية. 7- قبض أوراق البضائع: وهي الأوراق الواردة على البضائع كوثيقة الشحن وسند إيداع متاع أو بضاعة في مخزنٍ عام. 8- قبض أسهم الشركات.
6-التكييف الشرعي للصور الجديدة:
التكييف الشرعي للشيك وما بمعناه :
الشيك: ليس ورقة نقدية وإنما هو وثيقة بدين بإحالة محتواه من ذمة ساحبه إلى ذمة المسحوب عليه مع بقاء مسئولية ساحبه حتى سداده.
ويمكن اعتبار الشيك بمثابة الوكالة ، أو الحوالة إلا أنه لا تبرأ به ذمته تماماً بل يعتبر محيلاً بمبلغ الشيك وضامناً سداده ، أو أنه في حكم الورقة النقدية فيكون تسلم الشيك بمثابة تسلم قيمته. والشيك السياحي يمكن إلحاقه بالشيك أو الأوراق النقدية. والقيد على الحساب يعتبر تسلماً فعلياً للنقود ولكن بطريقةٍ حديثة ، وكذلك القيد على الحساب في الصرف عند استبدال عملةٍ بأخرى.
التكييف الشرعي للحوالة المصرفية:
الحوالة المصرفية هي: أن يدفع شخص إلى مصرف مبلغا من المال ليحوله إلى شخص بعينه في بلد آخر فيحرر المصرف حوالة بذلك المبلغ إلى مصرف آخر أو فرع له في ذاك البلد يأمره بدفع المبلغ إلى ذلك الشخص المعين ، أو يقوم المصرف بناء على رغبة دافع المبلغ بالكتابة أو الإبراق إلى المصرف الآخر بتسليم المبلغ إلى شخص دون أن يتسلم العميل حوالة محررة بذلك ويسمى هذا النوع بالتحويل البريدي ، ويتقاضى البنك عمولة.
والحوالة المصرفية أشبه بالسفتجة إلا أن الحوالة قد تكون بين جنسين ولا يشترط أن تكون دينا بل يتم السحب من الرصيد ثم إن المصرف يأخذ عمولة وهذا خلاف السفتجة. فإذا كانت الحوالة بجنس العملة فيمكن اعتبارها كالسفتجة التي أجازها الفقهاء أو إجارة ، وإذا كان بعملة أخرى فيكون صرفا وإجارة. أو نقول أخذ العميل ورقة التحويل بمثابة القبض ثم قيام المصرف بتحويله إلى الآخر سفتجة ، وإن حولها إلى عملةٍ أخرى فهي مصارفة.
التكييف الشرعي لقبض أوراق البضائع ، وأسهم الشركات:
يتم تداولها عن طريق التظهير (أي: نقل ملكية الورقة التجارية لمستفيدٍ جديدٍ أو توكيله أو استيفائها أو رهنها بعبارة تفيد ذلك) ويعتبر تظهيرها بمثابة قبضٍ للأعيان التي هي وثائق بها. وكذلك الأسهم تنتقل ملكيتها بنقل قيدها في سجل المساهمين أو تظهيرها.
7- الحكم الشرعي لصور القبض الجديدة:
أما قبض الشيك فهو كقبض النقود للأدلة التالية:
أ)- أن قبض الشيك كالحوالة ، فإن من خصائصه أنه لا ينبغي أن يسحب إلا على من لديه مقابل وفائه ، وأنه لا يلزم لاعتباره شيكا قبول المسحوب عليه وهذه خصائص الحوالة فيأخذ حكمها ، وقد قال ابن قدامة: الحوالة كالقبض ، وقال: الحوالة كالتسليم ، وفي الشرح الكبير: الحوالة بمنزلة القبض. وقال المرداوي: الحوالة والإبراء منه كالقبض على الصحيح من المذهب ، وقيل: إن جعلا وفاءً فكالقبض وإلا فلا.
ب)- أن قبض الشيك بمثابة قبض النقود في عرف الناس. وقد قال ابن قدامة: وقبض كل شيء بحسبه..ولأن القبض مطلق في الشرع فيجب الرجوع فيه إلى العرف كالإحراز والقبض أهـ وفي الشرح الكبير: الأسماء تعرف حدودها تارة بالشرع…وتارة باللغة..وتارة بالعرف كالقبض والتفرق. وقال: القبض مرجعه إلى عرف الناس حيث لم يكن له حدٌ في اللغة ولا في الشرع.
ونوقش بأن اعتباره بمثابة النقود يبطل بما إذا لم يكن للساحب رصيد. وأجيب بان الضمانات التي أحيط بها تجعله محل ثقة كالنقود تماماً ومنها أن من كتب شيكا بلا رصيد يعاقب في جميع القوانين عقوبة شديدة وأنه غير مؤجل ( أما لو أجل فلا يعتبر بمنزلة القبض) ثم إن ذلك حاصل في النقود فقد تكون مزيفة ولم يمنع ذلك من الثقة بها.
وأما قول النبي (صلى الله عليه وسلم): (يدا بيد) فيراد به التعيين الذي تثبت به الحقوق كما يدل على ذلك حديث ابن عمر –رضي الله عنهما- : إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ بالدراهم فقال –صلى الله عليه وسلم-: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها مالم تفترقا وبينكما شيء. رواه البيهقي. وبناءً عليه فالتعيين يكون قبضاً ، فيكون القبض إما يدويا أو حسابياً.
وقد أصدر المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي في دورته الحادية عشرة قرارا جاء فيه: بعد الدراسة والبحث قرر المجلس بالإجماع مايلي:
أولا: يقوم استلام الشيك مقام القبض عند توفر شروطه في مسألة صرف النقود بالتحويل في المصارف .
ثانياً: يعتبر القيد في دفاتر المصرف في حكم القبض لمن يريد استبدال عملة بعملة أخرى سواء كان الصرف بعملة يعطيها الشخص للمصرف أو بعملة مودعة فيه.
وقد أفتت اللجنة الدائمة بأنه يعتبر تسليم الشيك قبضاً كما في الحوالة. وسئلت اللجنة عن تسديد قيمة الذهب والفضة عن طريق الخصم من الحساب وإيداعه في حساب البائع بواسطة ما يسمى ببطاقة الائتمان فأجابت بما يلي: ما دام الحال أن جهاز نقاط البيع الذي بموجبه يخصم المبلغ حالاً من حساب المشتري المودع في المصرف المسحوب منه ، ويحول حالاً إلى حساب البائع ، وليس هناك عمولات لقاء هذا التحويل ، فإن البيع بهذه الصفة له حكم التقابض في المجلس ، فيجوز بيع الذهب بالعملة الورقية وتسديد الثمن بواسطة نقطة البيع المذكورة لتوفر الحلول والتقابض في مجلس العقد.
وأفتت لجنة الإفتاء في وزارة الأوقاف الكويتية بما يلي: القيد في الحسابات الجارية على ما هو معمولٌ به بصوره لا يمكن الرجوع فيها إلا بإرادة صاحب الحساب يعتبر من قبيل القبض ، وهو قبضٌ حكماً بناءً على العرف الجاري في المعاملات المصرفية ، لأن القبض ورد الشرع بالأمر به ولم يحدد كيفية معينة له.
وقال الشيخ ستر الجعيد: والشيكات السياحية يمكن أن تعتبر بمثابة النقود لا سيما وهي محاطة بضوابط بواسطتها يمكن حفظ الحق وعدم ضياعه ، وهي في نفسها تقوم بوظائف النقود ، فلا مانع من إلحاقها بها يعضد ذلك ما رجحنا من أن الشيك عامةً أصبح كالنقد ، وإن إلحاقه به متوجه والشيكات أكثر إيغالاً في معنى النقدية من الشيكات عامة ، وبالتالي فينطبق عليها ما سبق من وصف الورق النقدي في القول المختار.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا والحمد لله رب العالمين.
المراجع:
1- أبحاث في الاقتصاد المعاصر د/محمد عبداللطيف الفرفور ص141.
2- بحوثٌ في الاقتصاد الإسلامي ، للشيخ/ عبدالله بن منيع.
3- أحكام الأوراق التجارية والنقدية د/ ستر الجعيد.
4- استبدال النقود والعملات د/علي السالوس.
5- مجلة المجمع عدد (6) ج1 ص451-772.
6- قرارات المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي ص99.
7- أحكام صرف النقود والعملات د/ عباس الباز.
8- مجموعة الفتاوى الشرعية الصادرة عن قطاع الإفتاء والبحوث الشرعية. طبع وزارة الأوقاف الكويتية.
9- فتاوى اللجنة الدائمة جمع الشيخ/ أحمد الدرويش.
10- القبض ، تعريفه ، أقسامه ، صوره ، أحكامه. د/ سعود الثبيتي.
11- نوازل فقهية معاصرة / لخالد سيف الله الرحماني.
12- الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية د/ عمر المترك.
13- تحديد قبض الشيك بحث للشيخ عبدالله بن منيع (مجلة البحوث الإسلامية العدد 26).