لقد ورثنا عن بعض مشايخنا التحسس من كلمة ( قانون )، حتى إنَّ هذه الكلمة كفيلة بِلَيِّ الأعناق وَشَزَرِ الأحداق نحو من يقولها؛ إنكاراً على تلفظه بها دون النظر إلى ما يريد قوله عنها، إذ يكفي أنها أشد قبحاً من كلمة شيطان أو أيٍ من مترادفات المستقذرات من الخارج من أبدان الأحياء والأموات أجلكم الله.
حتى إذا تقدمت بنا مراحل التعليم قليلاً فوجئنا بإيراد أئمة الفقه المعتبرين في المذاهب الأربعة لهذه الكلمة في كتبهم دون تحفظٍ من مشبوه ولا احترازٍ من مكروه؛ أمثال: القاضي عياض، وابن العربي، والقرطبي، وابن الجوزي، وأبو حَيَّان الأندلسي، وابن قيم الجوزية، وابن حجر العسقلاني غفر الله لهم أجمعين، بل إنَّ ابن تيمية رحمه الله ذكر هذا المصطلح أكثر من عشرين مرة في كتابٍ واحد.
وليس ذلك فقط بل كان استعمال هؤلاء السلف لكلمة ( قانون ) للدلالة على دقيق الضبط ومزيد الإحكام؛ ومنهم من ذكره مضافاً إلى غيره من المصطلحات الأصيلة؛ كقولهم: قانون الشرع، وقانون الفقه، وقانون السلف، وقانون الحكمة الإلهية، والقانون الشرعي، ونحو ذلك. عند هذا علمنا أنَّ هذه الجفوة - بين مشايخنا وبين هذا المصطلح - حادثةٌ غيرُ مرتكزةٍ على أساسٍ تعتمد عليه؛ سوى أنَّ هناك من التشريعات الوضعية ما عُرِفَ بهذا الاسم؛ فَنُبِذَ الاسم بأكمله لأجل ذلك، ولاشك أنَّ ذاك ليس من حقِّ أحدٍ كائناً من كان، ما دام قد جرى على ألسنة من قبلهم ممن هم خيرٌ منا ومنهم، أمثال أولئك الأعلام رضي الله عنهم وأرضاهم. مع أنَّ التنفير لا يجب أن يكون من الكلمة ذاتها، بل من الاستعمال الخاطئ لها.
لما تقدم: لم يلق القانون غير الإعراض والجفاء من طلبة العلم الشرعي، وكأنه رديفٌ لمسمى جناية أو جريمة.
ومما ينبغي معرفته أن مصطلح القانون في عصرنا ينطبق على ثلاثة أشياء: شكلي، ووضعي، وتنظيمي.
فالقانون الشكلي/ هو العلم بصياغة القوانين ودلالاتها وأنواعها وتفريعاتها.
وهذا القانون ما هو إلا معرفة مسارات مخصوصة وقوالب مرصوصة يمكن أن تُصَبَّ فيها أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة المستمدة من قواعد الفقه العامة وضوابطها.
وهو بهذا الاعتبار علمٌ لا غنى عنه أبداً، ومن الواجب تعلمه على الكفاية؛ بحيث إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين.

والقانون الوضعي/ هو الذي يُعنى بالأحكام المستنبطة من عقول البشر المتعارضة مع الوحيين العظيمين ( الكتاب، والسنة ).
وهذا القانون لا يجوز لمسلمٍ دراسته إلا على وجه المقارنة؛ لبيان بطلانه وتضاربه ومصادمته لنواميس الله في خلقه، وبنحوٍ من هذا صدرت الفتوى رقم/3532، ورقم/18612 من اللجنة الدائمة للإفتاء رحم الله من مات من أعضائها، ونفع الله بالباقين منهم.

والقانون التنظيمي/ هو الخاص بالتنظيمات البشرية لجوانب الحياة المعاصرة، وهو علمٌ مبنيٌ على المصالح المرسلة، مثل: أنظمة المرور، والاستيراد والتصدير، والتصنيع، والتجارة الدولية، والبروتوكولات الحكومية ( المراسم )، وهي كثيرٌ لا يمكن إحصاؤها لتجددها بحسب حاجة الناس إليها.
وهذا النوع من أنواع القانون من مصلحة المسلمين معرفته وتطبيقه؛ توحيداً للعرف العالمي الذي بدأ يسيطر على كثير من مناحي الحياة، وحتى لا يغدر المسلم الجاهل بها، والمصلحة في معرفتها وتطبيقها؛ لثبوت نفعها، ولأنها جاءت من قومٍ سبروا أمور الحياة - التي هم أحرص الناس عليها وأعلم الناس بظاهرها - حتى وقفوا عندها فيما بينهم، ولو أردنا الوصول إلى مثلها عبر ذات الطريق لمكثنا خلف القوم قروناً حتى نصل إلى نتائج اليوم، ولو شئنا تطوير ما انتهوا إليه كان لابد لنا من وجود المراجع الشافية والتجارب الوافية والخبرات الكافية.

ولذلك فدراسة هذا القانون ما هو إلا إطلاعٌ على ما لدى القوم عبر التاريخ في نواحٍ عديدة من أمور معاش بني آدم، نستطيع به التطور والتطوير؛ ليمكننا اللحاق بهم فيما سبقونا إليه، ولنتبارى في سبقهم فيما نقدر على تجاوزهم فيه، وَلِمَ لاَ ؟، فنحن أمةُ خير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأمة الخير لجميع البشر.
إنَّ الخلط بين هذه الأنواع الثلاثة للقانون هو الخطأ الذي وقع فيه بعضنا؛ ممن لا نشك في عقائدهم ولا في مقاصدهم، بقدر ما نعلم خطأهم في تصور الموقف، الأمر الذي جعلهم ينهجون نهج العداء والاستعداء لكل ما يَمُتُّ بأيِّ صِلَةٍ لمسمى القانون، ومن أساء فهماً أساء إجابةً ولاشك.
وما نذهب إليه هنا : لا يمنعنا من الوقوف لمن يريد التسلل بين الصفوف؛ لينادي بتطبيق بعض أحكام القانون الوضعي الصادمة للثابت من شرع الله؛ كما نسمع اليوم من بعض بني جلدتنا؛ ممن يطالبون بإلغاء المفاضلة بين الذكور والإناث في الميراث الذي فصَّله الله في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه تنزيل من حكيم حميد سبحانه.
غير أنَّ هؤلاء موجودون في كل زمان ومكان ومنتمون إلى جميع فئات المجتمع، حتى إنك لترى من بينهم من لا يعرف من القانون إلا اسمه ولا من الشرع إلا رسمه، من ذوي التخصصات البعيدة عن الشرع والقانون، بل إنَّ أكثرهم من ذوي الحظوظ المتدنية من التعليم العام أصحاب الثقافات الطيارة؛ ممن يتصدون للحديث في منابر الإعلام عن جميع الهموم، ويبادرون في وضع الحلول لعامة الغموم، يتكلمون في كل شيءٍ بلا ضابط، ويقترحون أيَّ شيءٍ بلا رابط، ويمدحون من شاءوا بلا حدود، ويذمون من أرادوا بلا قيود، كما خلا الفضاء لِحَمَامٍ غَفَلَ عنه الصياد، فقيل له: خلا لكِ الجَوُّ فَبِيضِي وَاصفِرِي وَنَقِّري ما شِئتِ أن تُنَقِّري.
وجميع أفراد نوعي القانون الشكلي والتنظيمي مطلوبةٌ لخدمة العامة وَلِصَبِّ نصوص الشريعة في قوالبها اللازمة لها بقدر الحاجة، وابتعاث الطلاب إلى دول الغرب والشرق لدراسة هذه القوانين - بما لا يزيد عن الحاجة - أمرٌ محمود، وإن كنت لا أرى التوسع فيه، فلربما نبتت نابتةُ شَرٍ من بين من يعودون وقد مُسِخَ في الظاهر والباطن إلى نحوٍ من صُوَرِ من تركهم، بعد أن انغمس في أوحال الانبهار بالحضارات المتسلخة، وارتبط نفسه بقيود وأغلال الإباحية في مستنقعات البهيمية المسماة بالحرية.
والمفزع من هذا إلى إخلاص النية في: حُسنِ طريقة اختيار الطلاب، وانتقاءِ برامج التلقيح المهيئة للابتعاث، ودِقَّةِ أساليب المتابعة في الخارج، وتكثيفِ رحلات التسديد والمقاربة من الدعاة للمبتعثين، وتقنين العقوبات على المخالفين من الطلبة، والعزم والحزم في تطبيق ذلك من قبل المسؤولين، فهذا كفيل بإذن الله بتضييق الدائرة على الخارجين عن السَّنَنِ المطلوب. والله أعلم
-
-
-
-
-

http://www.cojss.com/article.php?a=201