ترددت كثيراً في افتتاحية هذه المقالة بين أن أقول بلساني : قدَّر الله عليَّ فراجعتُ كتابة العدل .
أو أقول بلسان غيري : قدَّر الله عليَّ فصرت كاتب عدل .
اقتباساً من عبارة روَّاد المتسولين الأوائل عند استعطاف جماعة المصلين ؛ لأنَّ هذا هو حال المراجع لكتابة العدل غالباً ، وهو حال كاتب العدل المعين حديثاً . كان الله في عوننا وعونهم
= في كل دفعةٍ من دفعات التخرج في كليات الشريعة بالمملكة يكون لكتابات العدل نصيبٌ من الخريجين ، حالهم كحال زملائهم من القضاة والمعلمين والباحثين وغيرهم . غير أن عوامل التعرية تفتك بكتاب العدل على وجه الخصوص خلال أشهرٍ من مباشرة العمل ، إذ ينقطع كثيرٌ من كتاب العدل - في الغالب - عن مراجعة ما درسوه في الجامعة ، ويستسلموا لثقافاتٍ أخرى لا تَمُتُّ بصلةٍ لتخصصهم الشرعي ، فيجدون أنهم مجبرون على الدخول في عالم الخرائط والمخططات وعرض الشوارع والمناطق التجارية والوديان المدفونة .
يمكثون ما شاء الله لهم على هذه الحال ، حتى إذا تورَّطوا في مجلسٍ - من مجالس زملائهم القضاة والباحثين والمعلمين - وجدوا أنهم قد فقدوا الكثير مما كانوا عليه ، فيبدؤون بالانسحاب لتكوين جماعةٍ جديدة ، وقد ينطوي الواحد منهم على نفسه بعدما يرى أنه محاطٌ برجال الأعمال وسماسرة العقار .
ففي منتصف العام 1399هـ زرت مدينة الدمام ، وجمعني مجلسٌ بِثُلَّةٍ من كتاب العدل والقضاة ، وكان رئيس المحاكم آنذاك حاضراً ، فأسعدني تخصيص هؤلاء الجمع المبارك جزءاً من الجلسة لقراءة كتابٍ في الفقه ، غير أني فوجئت بعدم مشاركة جميع كتاب العدل في ذلك الحوار العلمي ، في الوقت الذي كان بعضهم متميزاً في دراسته ومتقدماً في تخرجه على مثلي .
= وفي العام 1429هـ مررت بكتابة العدل لشراء شقة ، فأرشدني البائع إلى المكتب المختص ، فرأيت كاتب عدل قارب التقاعد ، فوقفت أمامه ، وعندما رفع رأسه سألني : أين فلان ؟. فقلت له : أنا هو . فقرأ اسمي الرباعي جهراً ، ثم نظر إليَّ ، فقلت له : نعم هو أنا . فما زاد على أن أشار إليَّ بمراجعة المكتب المجاور ، وهناك أبلغنا الكاتب بلزوم المراجعة من الغد .
وعندما جئت في اليوم التالي وجدت البائع قد أخذ إحالةً جديدةً لكاتب عدلٍ آخر ، وعندما وقفنا أمامه سألني : إن كنت اشتريت فعلاً ، وعن قدر القيمة ، وهل دفعتها كاملة - ولم يزد على ذلك - فأجبته عن ذلك كله ، فطلب مني التوقيع ، ثم ختم الأوراق وسلمني الصك خلال بضع دقائق .
كان الأول متجهماً ، والثاني طلق الوجه ، وليس بينهما في العمر غير ربع قرنٍ فقط !.
= الرعيل الأول من كتاب العدل لجؤوا إلى التجهم والتقطيب لمقاومة ما يسمى بـ (المحسوبية) ، أو الواسطة ، بعدما رأوا مصارع القوم من أسلافهم وأقرانهم ؛ ممن انزلق في مهاوي المجاملة ودواعي النفس الأمارة .
= وهناك منهم من نصب نفسه مفتياً وقاضياً ، فحكم على معاملات الناس بالحل والحرمة ، وامتنع عما يراه هو محرماً باجتهاده ؛ مخالفاً في ذلك التعليمات المبلغة لهم من مرجعهم وزارة العدل .
ومنهم : من يرفض الإفراغ من أو للشركات العقارية ؛ بحجة أنها تشترك مع بنكٍ في عمليات التمويل العقاري .
ومنهم : من يُرَدِّدُ المتبايعين مرةً بعد مرة ؛ بحجة دراسة الأوراق ، لِيُحوِجَ الناس إلى إعادة الطلب ، فيُحالوا إلى غيره .
ومنهم : من يلتمس أدنى سببٍ لترديد المراجعين ، فيطلب إضافة رقم الحفيظة وتاريخه ، ولو مع وجود رقم السجل المدني ، أو العكس ، وقد يجد بعضهم خطأً إملائياً في صك الوكالة فيطلب تصحيحه ، وقد يتعسف فيطلب تجديد صك الوكالة دون سببٍ ظاهر . ونحو هذا من الأسباب .
ومنهم : من يُنَفِّرُ البائع أو المشتري بالمبالغة في التعطيل وطلبات الانتظار ، ومثله لا يجهل ارتباط الناس بأعمالهم ورعاية شؤون أسرهم .
ومنهم : من يطلب الإطلاع على صكوك المستند الأول وما قبله ، ناسياً ما نصت عليه التعليمات والأنظمة من حجية الصكوك الصادرة من كتابات العدل ، ومنها : المادة الثمانون من نظام القضاء ، ونصها :
[ الأوراق الصادرة عن كتاب العدل - بموجب الاختصاص المنصوص عليه في المادة (الرابعة والسبعين) من هذا النظام - تكون لها قوة الإثبات ، ويجب العمل بمضمونها أمام المحاكم بلا بينة إضافية ، ولا يجوز الطعن فيها ؛ إلا تأسيساً على مخالفتها لمقتضى الأصول الشرعية أو النظامية أو تزويرها ] .
هذا هو حال المواطنين وشركات التمويل العقاري مع بعض كتاب العدل ، وليس مع جميعهم ، ولا مع غالبهم من فضل الله .
= ومن المأمول من وزارة العدل : الاهتمام بجانب التوثيق ، وتكثيف التدريب والتطوير والمراقبة على كتابات العدل وكتاب العدل ؛ بما يضمن تحقيق المطلوب منهم على النحو الذي يُرضي الله أولاً ، وَيُظهر الوزارة وفروعها بالمظهر اللائق بهم .
= كما من المؤمَّل من الوزارة الموقرة : الاهتمام بجانب الثواب والعقاب - على حدٍ سواء - لحث منسوبيها على التنافس فيما هو خير .
= كما نتطلع إلى تطوير قدرات كتابات العدل بإكمال حوسبتها ، وإتمام إدخال بياناتها ؛ لتوفير الوقت والجهد على المراجعين والعاملين .
= كما ننشد ذلك اليوم الذي يستطيع المواطن منا الدخول إلى موقع كتابة العدل من منزله ؛ لإدخال البيانات التي يريدها ، فيحصل عليها على الفور ؛ سواء : عند المراجعة بنفسه في اليوم الذي يناسبه ، أو بواسطة البريد الحكومي .
لن أزيد على ما تقدم ؛ حتى لا تُحبط الوزارة الحالية بطلباتٍ فوق ما لديها من تطلعاتٍ وهموم . والله الموفق
http://www.cojss.com/article.php?a=268