code

النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: كتاب الثقافة القضائية

  1. #1

    Icon1 كتاب الثقافة القضائية






    كـتـاب


    الثقافة القضائية







    تأليف

    القاضي/ إسماعيل بن إبراهيم بن يحيى الطيِّب
    عضو هيئة التفتيش القضائي
    المدرس في المعهد العالي للقضاء



    حقوق الطبع محفوظة
    للمؤلف

    الطبعة الثانية
    1425هـ – 2004م


    ?


    كتـاب








    مجمل خطة محتويات الكتاب

    الباب الأول
    التعريـف بمـادة الثقافـة القضائية حدَّاً، وماهية
    الفصل الأول: التعريف في اللغة، والاصطلاح.
    (أ): التعريف في اللغة.
    (ب): التعريف في الاصطلاح.
    الفصل الثاني: التعريف بالموهبة الذاتية والنفسية في الشخصية الثقافية القضائية.
    (أ): مفهوم الموهبة الذاتية.
    (ب): مفهوم الموهبة النفسية.
    الفصل الثالث: مقومات العمل المِراسِي التطبيقي في تقدير دلالة التعريف الفني الجامع بين مادتَي: الثقافة، والقضاء.
    (أ): مفهوم المقوم المِراسِي في العمل القضائي.
    (ب): مفهوم المقوم الجامع بين الثقافة والقضاء مادةً واحدة وبين اعتبار أن كلاً منهما يحدُّه التعريف الخاص بذات المادة.
    (ج): توجيه دلالة المُقَوِّمات العلمية في الشخصية القضائية الوضعية، وتحرير مقارنتها بمقومات الشخصية القضائية الشرعية.

    الباب الثاني
    الثقافة القضائية في العصر الجاهلي
    الفصل الأول: أشهر قضاة الجاهلية.
    الفصل الثاني: نماذج من أقضية الجاهلية.
    الفصل الثالث: الإسلام يُقِرُّ مبدأ القضاء الجاهلي.

    الباب الثالث
    السلوك القضائي في صدر الإسلام
    الفصل الأول: تشريع القضاء يحقق التطبيق العملي لحماية السلوك.
    الفصل الثاني: ثقافةُ الصحابة العلمية وأثرُها في سلوكهم عَطَّلَتْ وأَوْقَفَتْ محاكمَ تقاضيهم.
    الفصل الثالث: سرُّ عدلِ القضاء حُسْنُ سلوكِ وُلاتِه.
    الفصل الرابع: الامتناع عن قبول القضاء وتهيُّبه أوجدَه التحذيرُ الشرعي، ثم الإشفاق والزهد.


    الباب الرابع
    بوادر خرق مقومات النهج القضائي في عصور الْخَلَف، والْمُلْك العَضُوض
    الفصل الأول: مفهوم البادرة في اللغة والاصطلاح.
    (أ): تعريف البادرة في اللغة.
    (ب): تعريف البادرة في الاصطلاح.
    الفصل الثاني: بادرةُ خَرْق السلوك القضائي القويم بطلب ولاية القضاء.
    الفصل الثالث: بادرةُ ظهورِ الرشوة، والحكمِ بالهوى سبَّب زوالَ العدل، وسقوطَ هيبة القضاء.
    الفصل الرابع: بادرةُ شراء ولاية القضاء تحقيقٌ للظُّلم، وبيعٌ للضمير.
    الفصل الخامس: بادرةُ حب الظهور، والتقرب للولاة شائِنةُ وجْهِ القضاء، ووصْمَةُ وُجوهِ وُلاتِه.

    الباب الخامس
    السلطة القضائية، ولازم صفاتها
    الفصل الأول: مقومات القاضي الخُلُقية والفنية.
    الفصل الثاني: مقومات القاضي الأدبية.
    الفصل الثالث: مقومات هيبة القاضي، وهيبة القضاء.
    الفصل الرابع: مقومات القاضي في قدرة القضاء.
    الفصل الخامس: الشروط السلوكية اللازمة في حامل أمانة القضاء.

    الباب السادس
    مقوماتٌ عامة
    الفصل الأول: مواقفُ قضائية.
    الفصل الثاني: نوادرُ قضائية.
    الفص الثالث: وكلاءُ الشريعة، والمحامون.
    الفصل الرابع: المقومات السلوكية في قانون السلطة القضائية رقم: (1) لسنة: 1991م في الجمهورية اليمنية.
    الفصل الخامس: توصيف وتصنيف موظفي المحاكم في قانون السلطة القضائية.

    وبالله التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل،،،

    القاضي/ إسماعيل بن إبراهيم الطيِّب
    1/رمضان/1245ه.




    إلى والدي المغفور له، نبراس أعلام الدعوة المغمورين، ودليل قادات التربية المستورين، مجدِّدُ جهادِ دعوةِ اللسان، واليد، والقلم الصامت، ناصرُ الدين الخالص، قامعُ معالمِ الشرك وبِدَعِ الأهواء، مُزيلُ شرِّ نفَّاثات العُقَد، ومُسقطُ موبقات تمائم سُلامى القدمَين والجِيْد واليد، كابحُ جماحِ هواة الفساد، ومُوريات الأحقاد، مُسدي نور اليقين إلى كل قلب غابت فطرتُه ولانت عقيدتُه، يوم أطبق ظلام الران، وساد شياطين الإنس والجان عامةَ قرى خيران، وما حولها من قضاء الشرفين.
    وإنه لَبِرٌّ بِه وصلةٌ لوُدِّه حين أكتب محتسباً عن مفردات جهاده، ومعالم حياته، ومقومات صفاته، بعد حملي فقه سيرته، وجمعي معظم شواهد أثره عن خيرة محبيه ورواة علومه.. وكلهم يصفه بـ(المجاهد في الحق).
    ومن هذا الانطلاق الوصفي الصادق، انطلقتُ في ترجمة حياته لنرى محتوى هذا العنوان موثقاً في القريب العاجل –إن شاء الله-.
    كما أرفع الإهداء إلى والدتي الأم الوفية الطاهرة النقية، وقد قامت على تربيتي وتعليمي، مُنْذِرة مُبِرَّة، مع ثلاثة من إخواني، إلى أن شقَّت طريقنا مضحِّـيَة محتسبة، حتى بلغَتْ من الكِبَر عِتياً، ولا زالت ترعانا بعزة العقيدة، وكريم الأصل، وطِيْب المنبت.
    رضي الله عنهما، ورفع ذكرهما، وأعلا من الجنات درجاتهما.
    والله ولي الهداية والصلاح ،،،



    قدَّم للكتاب
    الأستاذ/ يحيى بن محمد مالك
    (مدير المعهد العالي للقضاء)
    **********
    فضيلة العلامة/ سليمان بن محمد بن عبد الوهاب الأهدل
    **********
    فضيلة القاضي العلامة/ هلال بن عباس الكبودي
    (عضو المحكمة العليا)
    **********
    فضيلة القاضي المجتهد/ محمد بن أحمد الكبسي
    (عضو المحكمة العليا)
    **********
    فضيلة العلامة السيد/ محمد بن عباس زبارة
    (وكيل وزارة العدل للشئون القضائية)
    **********
    فضيلة الأستاذ القاضي/ محمد بن محمد الدريبي
    (وكيل وزارة العدل المساعد)


    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين.
    والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام المتقين/ محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحابته الغُرِّ المَيامين.
    أمَّا بعد:
    فإنه بمناسبة الإعداد للطبعة الثانية لكتاب: (الثقافة القضائية) المقرَّرِ على طلبة قسم الدراسات الدورية والتدريبية في المعهد العالي للقضاء.. وبمناسبة ما يمتاز به الكتاب في نسخته موضوعاً ومادةً.
    كما أن لهذه الطبعة في نسختها امتيازات بما زِيدَ فيها من تهذيبٍ وتنقيحٍ وتوضيحاتٍ وتعليقاتٍ عِلميةٍ مهِمةٍ كلها تهدف إلى زيادة تقريب المعنى الثقافي القضائي وتزكيته لدى طالب التأهُّل، أو عند مَن له اهتمام بتثقيف نفسه وتفقيهها في علم القضاء السلوكي الأخلاقي ليربط موضوعَه بعلمه الإجرائي التنفيذي.. بالخصوص، أو عند مَن له اهتمام أو هواية.. بالعموم؛ فالكتاب موثق التزكية.. موفور التنضير بمادته: عنصراً، ومفهوماً، ومقوِّماً.
    ومهما حرص قارِئُه ودارِسُه على اصطحاب نية الاستفادة العلمية العملية بالنظرة –على الأقل– في حدود العلم اللازم.. أو زيادة باصطحاب التزكية العلمية المحاطة بالتنظير المتعدي.. فإنه سينال هدِيَّة الكتاب: ماهيةً ثقافيةً خاصة في السلوك القضائي الذاتي والنفسي موهبة يتمثلها حامل أمانة القضاء عقيدةً وشريعةً.. ومفهوماً علمياً، ومقوِّماً سلوكياً.

    وعليه:
    وبما أن المؤلف –رعاه الله– رأى أن تكون لي كلمة تقريظ وتقييم.. فإني لأُقَدِّر له ذلك وأتشرفُ لأعَبِّر عن مكنون علمي بخصوص ما توَخَّاه الكتابُ موضوعاً وقدمَتْه فصولُه طَبَقاً شهياً على مائدة القضاء، وحدَّدتْ عناصرَه سلوكاً وأخلاقاً وآداباً.. مجموعةُ مقوماتٍ علميةٍ تدعو طالبَ التأهُّل إلى التزام التطبيق العملي..
    وقد أوضح مكنونُها على أن القضاء يعني: العدل وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية الغراء.. وتقديراً لمصداقية تقريرات القوانين الموضوعية والإجرائية النافذة في الجمهورية اليمنية..
    ومتعلقُ العدل والعدالة في منهج الكتاب عَنى به مقومات السلوك في الشخصية القضائية وحدَّدَ ارتباطَها بالذات والنفس حيث أوضح بأنها في الذات تعني: الشخصية التي لا تقبل الضعف، ولا يساورها اللِّين، ولا تعرف التردد في الأمر..
    كذلك لديها الدقةُ في الفهم، والاصغاء إلى حُجج الخصوم وأطراف النـزاع المستدعي معهم واقعَ الالتفات وبُعدَ الملاحظة وعمقَ التفكير فيما يتلجلج به اللسان أحياناً لدى موفور اللَّدد.. في مقابل العَي عديمِ الإفصاح بحجته..
    أما في النفس فقد حددها بتلك الشخصية التي لا تقبل المجاملات ولا تعمل بها، ثم هي تمقت المداهَنة، ولا تعرف الخوف من أن يقول الناس عنها أو يسخطوا في مقابل مخالفة أهوائهم، أو لعدم مراعاة مصالحهم الأنانية..
    ثم حددها بتلك الشخصية التي توفر لها تحقيق العزة.. وخاصيةَ قَسْر اليد من أن تطول شبهة أو تأخذ ما ليس لها بحق..
    وقد تقلدت نزاهةَ المطمع وسلامةَ الصدر وحسنَ التدبير وصفاءَ الهدف وتجريدَه وسموَّ الغاية تجاه كل تطبيق عملي قضائي لهذه السلوكيات..
    وعليه أيضاً:
    فلا يفوتني القول بأن نظامَ الدراسة في المعهد ومنهجَه الهادفَ يُقِرُّ ويوافقُ هذا التوجُّه، وقد أثراه الكتاب وحدده وفقاً للأهداف المتوخَّاة من إنشاء المعهد، والرسالة السامية التي يحملها في إعداد وتأهيل أعضاء السلطة القضائية –قضاةً، وأعضاءَ نيابة، ومعاونين– تأهيلاً علمياً أكاديمياً.. واقع ذلك تحصيلاً نظرياً من خلال مضمّنات المنهج الدراسي التخصصي للمعهد على مستوى قسمَيه.
    فمُهمتُه بصفة عامة: إيصال جميع الملتحقين به إلى تحقيق القدرة العلمية القضائية حكماً وتحريراً وتوثيقاً.. ثم إلى تحقيق القدرة الفنية توصيفاً وتصنيفاً.
    وقد جمعَ هذه الأوصافَ وتضمَّنَها هذا الكتاب: (الثقافة القضائية) مستوعباً أبعادَها وتقريرَ أحوالِها وأوصافِها، مادةٌ مقررة تعني وتقيم جانباً كبيراً وفهماً في الشخصية القضائية المعنية بالتدريب والتأهيل..
    ولقد أحسن وأجاد.. التوصيف والتعريف على مستوى أبوابه وفصوله.
    أحسن وأجاد ترجمةَ الأهداف المتوخَّاة من تقرير مادته، مادةً دراسيةً علميةً واجبةَ التطبيق في الذات والنفس لازماً.. وفي الوظيفة العامة واجباً متعدياً..
    وإنه لكتابٌ جديرٌ بمادته وبموضوعه أن يُنشَر ويُدرَس ويُحفَظ.. على ما وصَفَه به مَن سبقني بالتقريظ والتقديم من رجال القضاء المتخصصين في المحكمة العليا ووزارة العدل، وغيرهم..


    فجزى الله مؤلفَه ومخرجَ مادته القاضي/ إسماعيل بن إبراهيم الطيب خير الجزاء.
    والحمد لله رب العالمين.

    راجي عفوَ ربه ورضوانَه/ يحيى بن محمد مالك
    مدير المعهد العالي للقضاء - صنعاء
    في: شعبان/ لسنة: 1420ه
    الموافق: 9/11/1999م












    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين.
    والصلاة والسلام على رسوله الأمين سيدنا/ محمد، وآله وصحبه ومن سار على دربهم ودعا إلى الله على بصيرة إلى يوم ا لدين.
    وبعد:
    فقد قَدَّم إليَّ أخي العلامة المقرئ الحافظ لكتاب الله تعالى القاضي الشيخ/ إسماعيل بن إبراهيم الطيب مؤلَّفه المفيد –بعون الله– الذي سمَّاه: كتاب: (الثقافة القضائية) مُحسناً الظن فيَّ، رغم أني لست من فرسان هذا الميدان؛ ولكنَّ اعتزازي بما أولاني أخي المؤلف من الثقة جعلني أَقْبَل التكليف؛ فخصصت جُزءاً من وقتي لقراءته صفحة صفحة، وباباً باباً، ومررت به –بعون الله– من أوله إلى آخره.
    لقد وجدت نفسي أمام حديقة وارفة الظلال كثيرة الثمار فاستفدت منه أيَّما فائدة ولم أبخل بملاحظة ارتأيتُها وما أقَلَّها.
    وكم كنت أستحي لتقبل أخي المؤلف لتلك الملاحظات بتواضع جمٍّ وأدب رفيع.
    ويلمس القارئ لهذا الكتاب مدى الجهد الكبير الذي بذله المؤلف –جزاه الله خيراً– في إخراجه بهذه الصورة المشْرقة ليستفيد منه كل طلاب العلم سواءً في معهد القضاء أو في غيره.
    وفي الختام: أتوجه إلى الله –العلي القدير– أن ينفع به وأن يرزقنا الإخلاص له –سبحانه وتعالى– في القول والعمل والنية، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير.
    وصلى الله على سيدنا/ محمد، وآله وصحبه وسلَّم.

    الفقير إلى الله/ سليمان بن محمد بن عبد الوهاب الأهدل
    27/محرم الحرام/سنة: 1415ه
    الموافق: 6/7/1994م



    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه، عدد ما خلق فسوى، وقدر فهدى.
    والصلاة والسلام على خاتم النبيين وإمام المرسلين/ محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من نهج نهجه واتبع سنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
    أمَّا بعد:
    فإنه بناءً على الثقة التي أَوْلانِيْها أخي في الله القاضي/ إسماعيل بن إبراهيم الطيب حيث قدَّم لي كتابَه الذي أسماه: (الثقافة القضائية) وقدم له أنه كتاب منهجي قام بجمعه وتأليفه كمادةٍ مقررة على طلبة الدراسات الدورية والتأهُّل للأعمال القضائية في المعهد العالي للقضاء طالباً مني مراجعته وإبداء الملاحظات عليه ظاناً بي خيراً ومحسناً فيَّ آماله، والله المستعان.
    وعليه:
    فقد لبيت طلبه وقرأت المؤلَّف المذكور بدقة وعناية؛ كلمةً كلمة وسطراً سطراً وصفحةً صفحة من أوله إلى آخره فرأيت فيه ولمست ما وصفه به الشيخ الفاضل/ سليمان الأهدل في مقدمته، والقاضي/ محمد بن محمد الدريبي، ثم أنني لم أبخل بملاحظات يسيرة أشرت إليها، ومنها مجرد استفهام، وكلها تقبَّلَها أخي بكل سرور ولَبَّى الأخذ بها.
    وعلى العموم فإنه يحسن بكل مشتغل في سلك القضاء أن يحرص على اقتناء هذا المؤلف، ثم قراءته ودراسته بقصد الاستفادة، وكذلك من له اهتمام بالتعرف على جوانب الأخلاق، والآداب، والسلوك القضائي.
    وإني لأرجو لمؤلِّفه التوفيق والسداد وحسن النية وصالح العمل.
    والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
    والحمد لله رب العالمين.

    راجي عفوَ ربه الكريم/ هلال بن عباس الكبودي
    عضو المحكمة العليا
    1/11/1415ه
    1/4/1995م


    بسم الله الرحمن الرحيم

    لَمَحَتْ مُقْلَتي كتابَ الثقافة
    وتأمتـلـتُـه فـوافـيتُـه كالـ
    حبذا فكرة أصاغَتْه عِقداً
    جمعَتْه يراعُ شيخٍ هُمامٍ
    من بني الطيبـين زادوا بـ (إسما
    عالِمٌ حافظٌ خطيبٌ نبيهٌ
    فلعمري لقد أتانا بسِفْرٍ
    هو للحاكمين خيرُ منارٍ
    فاسلكوا نهجَه وسيروا على الحـ
    فاللبيبُ الذي يراقب مَوْلا
    فالأمَّارات غيرُ مَن عَصَمَ اللـ
    إنما هذه الحياة خيالٌ
    فاتقوا الله ربكمْ إنَّ تقوا
    بجوار الرسول طه ومن لَفْـ
    صلواتٌ من الإله عليهم‎
    في القضا فارتشفْتُ منه سلافة
    روضِ يُضفي على الطباع لَطافة
    جوهرياً ونظَمَتْ أصدافه
    المَعيٍّ ذي فطنة وحَصافة
    عيل) مجداً ورفعةً وشرافة
    خُلُقٌ يُخْجِل النسيمَ ظِرافة
    مثمرٍ بالهدى، وأدنى قِطافه
    في طريقٍ محفوفةٍ بالمخافة
    ـقِّ ولا تبتغوا سبيلاً خِلافه
    هُ ويخشاهُ يوم يُبدِي صِحافه
    ـهُ مطايا إلى الجحيم وافة
    واعتقادُ النعيمِ فيها سخافة
    هُ مُجازٌ إلى كريم الضيافة
    ـفَّ عليهم كساءه ولحافه
    وعلى الصحب ما هَمَتْ وكَّافَة

    وبعد حمد الله مستحق الحمد والثناء.
    والصلاة والسلام على رسوله المصطفى، مَن أرسله رحمة للعالمين هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وعلى آله وأصحابه الذين اهتدوا بهديه واستناروا بنوره في السير في دربه.
    وبعد:
    فقد اطَّلعتُ على كتاب الثقافة في القضاء لمؤلفه فضيلة الشيخ العلامة ضياء الإسلام/ إسماعيل ابن إبراهيم الطيب –حفظه الله ذاتَه وعَمَر بالصالحات أوقاتَه– فألفيتُ الكتاب فريداً في بابه، كاملاً في موضوعاته، قد استقطبه الأستاذ من عدة كتب قد لا تصل إلى يد الكثير منَّا لعزتها أو لتعذر الوصول إليها لولا همة الشيخ –حفظه الله– بعَثَتْها من سباتها وأخرجتْ مكنوناتها؛ فجاء كتابه جامعاً لشتاتها متدلياً بأشهى ثمراتها، فحري به أن يُنشر في المدارس وأن يحرص على حفظه كل دارس ليعلم كيف المسلك في القضاء، وكيف تأدب مَن قبلَهم بأخلاق المرتضى، وأن لا يتصدى له إلا من انتهل من منهل العلم الصافي وارتوى، ووطَّن نفسه على التقوى، ونهى النفس عن الهوى؛ لتكون الجنة هي المأوى، وقليل ما هم، وأما من كان دون ذلك فليبتعد عن القضاء كما ابتعد عنه الصالحون ممن مضى، ولا سيما هذه الأيام التي سادت فيها الفوضى –فجزى الله الشيخ الأستاذ/ إسماعيل خير الجزاء– فلقد جمع فأوعى، ونصح وأبلغ، واستنفذ طاقاته، وكرَّس الكثير من أوقاته خدمة للدين ونصحاً للمسلمين والتحاقاً بموكب العلماء العاملين ابتغاءً لمرضاة رب العالمين.
    وفقنا الله جميعاً إلى مرضاته، إنه جواد كريم بَرٌّ رحيم.

    القاضي/ محمد بن أحمد الكبسي
    –غفر الله له ولوالديه–
    بتاريخ: 12/ذو القعدة الحرام/1415ه


    بسم الله الرحمن الرحيم

    حمداً لله على نعمه التي لا تحصى.
    وصلاةً وسلاماً على رسوله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه الأكرمين.
    وبعد: -
    فلقد أُتيحت لي فرصة الاطلاع على ما كتبه الأخ القاضي/ إسماعيل بن إبراهيم الطيب، المدرس بالمعهد العالي للقضاء لمادة الثقافة القضائية في نفس الموضوع، فوجدته قد حوى الكثير مما يجدر بالطالب معرفته عن القضاء وأهله، وكذا ما يجب أن يتحلى به القاضي من صفات حميدة.
    فمهنة القضاء كما هو معلوم مهنة صعبة تتطلب مزيداً من المعرفة، ومزيداً من التحلي بالأخلاق العالية والصفات النبيلة.
    فجزاه الله خير الجزاء، ونفع الله به وبما كَتب.
    والله ولي الهداية والتوفيق.

    محمد بن عباس زبارة
    وكيل وزارة العدل للشئون القضائية
    14/7/1994م



    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين.
    والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله وأصحابه الغُرِّ الميامين.
    وبعد:
    ببالغ الإعزاز والتقدير تلقيت نسخة من كتاب: (الثقافة القضائية) من مؤلفه القاضي الفاضل/ إسماعيل بن إبراهيم الطيب، أحد قضاتنا الأجِلاء المتحلين بالعفة والاستقامة والخُلُق الكريم والهمة العالية في تحصيل العلم وتعليمه.
    وهذا الكتاب العامر بالمواضيع الشيقة والمفيدة في مجالات: فقه القضاء، والثقافة القضائية، والسلوك القضائي، وآداب وأخلاق رجالاته قديماً قبل ظهور شمس الإسلام مُمَثَّلاً بقضاء الجاهلية، وبعد فجر الإسلام مُمَثَّلاً بقضاء النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– والصحابة بعده حتى عصرنا الحاضر.
    وهذا الكتاب القيم وَمْضَة مضيئة وتحفة مفيدة امتاز بابتكار خاصيات علمية وقضائية قيمة تمثلت في حسن التوليف وجمال الربط بين مفهوم الثقافة والفن القضائي، وقد صيغت نتيجة هذا التوليف في قالب سامق بديع تَمثَّل في تعريف النوعية القضائية الموهوبة ذاتياً ونفسياً.
    كما امتاز بتعريفِ مفهوم العدل في القضاء الجاهلي والقانون الوضعي، وتعريفه في القضاء الإسلامي، وعظيم الفرق بين المفهومَين.
    كذا فإن لهذا الكتاب ميزة تحبير مادة القضاء بمادة الثقافة ومقومات السلوك بصفة عامة.
    كذلك امتاز بأسلوب الربط بين القضاء كعلم دراية ورواية، وبينه كسلوك وأخلاق يلزم رجالات القضاء تفهُّمه وتطبيقه.
    وأخيراً: امتيازه بإيجابية طرح المواقف القضائية، وبديع أسلوب تقديم النادرة القضائية.
    وجميلٌ جداً مناقشة هذا الكتاب لقانون السلطة القضائية في أهم مواده المتعلقة بسلوك القاضي وكتَّاب المحاكم وحصر مشتملات المقومات الإيجابية لأفرادهم.
    وكذا تعرضه لمناقشة مفهوم الوكالة والمحاماة في عرضٍ مقْنِع وارِف وبأسلوب علمي وفني دقيق.
    وهذا الكتاب يلزم كل من له صلة بالقضاء مباشِرَةً أو معاوِنَة، أو من له اهتمام بشئون القضاء وطلاب العلم.
    وإني لأتمنى من كل قلبي لكاتبه التوفيق والسداد.
    ونَفَع الله بعلمه طلابَ العلم ورجالَ القضاء مزيداً من هذه الأعمال العلمية الخيرة.
    سائلاً المولى –عزَّ وجلَّ– للمؤلف السعادة في الدارَين، والصلاح له في ماله وأولاده وعلمه.
    والله وليُّ الهداية والتوفيق.

    محمد بن محمد الدريبي
    وكيل وزارة العدل المساعد



    مقدمة الطبعة الثانية

    الحمد لله العليم الحكيم، إليه يُرجَع الأمرُ كلُّه، لا يَعْزُب عنه مثقالُ ذرة في الأرض ولا في السماء، بنعمته تتم الصالحات، وتُضاعَف الحسنات.
    والصلاة والسلام على محمد رسول الله الصادق الأمين، وآله الطاهرين، وصحابته أجمعين.
    أما بعد:
    فإنه بمناسبة نفاد نُسَخ الطبعة الأولى لكتاب: (الثقافة القضائية)، وفي زمن قياسي.. لاحَقَه حظُّه.. بإقبال رُوَّاد الثقافة القضائية على شرائه.
    كذلك من أسباب إعادة طبعه: رغبةُ ضرورةِ تغطيةِ حاجة طلاب الدراسات الدورية التأهيلية في المعهد العالي للقضاء مستقبلاً.. وهو لا يزال يقيم دوراته، كلما سرَّح مجموعةً تَلَتْها أخرى.. حتى تتخرج فيه..
    ولعل مادة الكتاب قد ميَّزَتْ رواجَه، لِمَا يختص به من جمع وتنسيق بين الثقافة العلمية السلوكية، الشاملة للأخلاق والتربية، الممثِّلة للقربى إلى الله تعالى، وللروحانية المطْمَئِنة بالإيمان، في جعل كل عمل عبادةً، وطاعةً لله رب العالمين، يرجو فاعلُه بٍرَّه ونفعَه في الدنيا والآخرة، وبين القضاء محط مقومات اللدد، ومُخرج الكيد، والتربص وليد الضغائن، وسادن حجب البر والتقوى.. عن قوم لا يؤمنون.
    وقد كان موضوعه واحداً من أسباب تزكيته واعتبار أسلوبه وطرحه.. ومن قُرَّائه مَن صرَّح وآذَنَنِي بأن الكتاب بموضوعاته يمثِّل قواعد جامعة تحمل أبعاداً خاصةً تحتاج إلى تمشية.. وأنه يُحِبُّ ويَرْغَبُ في تقريبها.
    وقد كان رَدِّي: بما أن ربَّ البيت أدري بما فيه.. وأنا أحقُّ بإدارة بيتي: فإن إرادتي تتمثل في إبقاء الكتاب على حاله، وعلى ما هو عليه؛ مُجْمَلَ النصوص، عامَّ الخطوط؛ ليبقى للقارئ وطالبِ العلم أثرُ جُهْدٍ، وتقديرُ بحثٍ مرجِعي، يؤهِّلُه لِعْلْمٍ وفَهْمٍ أوسع.. من خلال الاطلاع..
    ولتقدير الضرورة: خُصَّتْ هذه الطبعة بإضافات اقتَضَتْها وُرُود الحث القائم على النصح الفاعل الدال به أصحابُه على إمكان توسيع دائرة النظر في تحرير بعض الخطوط العريضة..
    فكان ذلك حافزاً على إجراء الإعادة بخصوص تنظير التقسيم الفني لمادة الكتاب إلى أبواب وفصول، وزيادات عَنَت الخطوط العريضة بِدءاً بعرض حدِّ الماهية وتوجيهِها.. إلى تحرير بعض النصوص المنقولة من إبهام المتابعة.. وتجريد ظنية اختيارها.. في مقابل مذاهب أصحابها وخاصية تقدير آرائهم.
    ومن مفاهيم الكتاب العامة والمجملة: ما حظي في هذه الطبعة من الشرح والبيان..
    كما خُصَّ بالتوجيه والتقويم كلُّ ما اعتُبِر في الأصل مُبْهَماً..
    وما لا يَعْنِيه التفريعُ ولا التعديلُ هو: جانبُ الدلالة في المادة: دلالةُ النُّصْح، ودلالةُ العمل، ثم دلالةُ الإخلاص والاقتداء.. وفوق ذلك: دلالةُ التجنب والاقتناع مهما دعي إليه وهو قادر..
    أما مَن طَلَبه فيُمنع.. ولا تَصِحُّ ولايَةُ ناقصِ الأهلية.. ولا مستورِ الحال.. ولا فاقدِ التأهُّل.. على حدِّ إفصاحات الإشفاق الآتية:
    أيَا أيُّها الناسُ كُلُّ الأُمَمْ
    أُخاطِبُ فِيكُم مُرِيْدَ القَضا
    فَيا صاحِ إنَّ القَضاءَ لَذُو
    فَيَجْعَلُ ذا العَقْلِ في حَـيْرَةٍ
    عَدَى مَنْ أرادَ الإلهُ لَهُ
    فَلا تَطْلُبِ الحُكْمَ تقْضِي بِهِ
    لِماذا أرَى في زَماني خُطَىً
    فَوا عَجَبِي مِنْ خُطَى ذِي الْحِجَا
    كَطَيْشِ الفَراشَةِ إِذْ تَرْتَمِي
    فَتُسْقِطُها النارُ في قَعْرِها
    ويا عَجباً! كَيْفَ يُذْرِي الرُّشَا
    فيَحْسَبُهُ المُقْتَدِي حُجَّةً
    ويَرْمُقُهُ الْمَرْءُ في (جُـبَّـةٍ)
    وتَعْلُو عَلَى رَأْسِهِ (عِمَّةٌ)
    ومَا كانَ مِنْ حَقِّهِ وَضْعُها
    أمَا كانَ يَدْرِي بِأَنَّ القَضا
    يفر الفتى شفقا أن قضا
    فيقضي لهول هوى عن رضا
    ألا فليعش حطما من ثرى
    فمن سره الحكم إذ جاءه
    فَإن يَكُ حالُ القَضا هَكَذا
    إلَيكُمْ خِطاباً مِنَ القَلْبِ عَمّْ
    لِيَعْلُوَ – إنْ خالَ- مَجْدَ القِمَمْ
    شُجُونٍ يُغَـيِّرُ رُوْحَ القِيَمْ
    أيَسْمُو؟! أَمِ الدُّوْنُ أَعلَى الْهَرَمْ؟!
    هِدايةَ قَلْبٍ وعَقْلٍ وَفَمْ
    فَقَدْ يَتْبَعُ الحُكْمَ ذَيْلُ النَّدَمْ!
    وسَعْياً حَثِيْثاً لِمَا فِيْهِ ذَمْ؟!
    إلى نارِ عِرْضِ ومالٍ ودَمْ!
    على وَهْجِ نارٍ تَرُوْمُ الشَّمَمْ
    تقولُ: ألاَ بِئْسَ نُعْمَى الأَلَمْ!
    لِتُرْدِي بِهِ في مَكانِ الظُّلَمْ؟!
    بِمْحَضِ شُمُوخِ شُحُومِ الوَرَمْ
    و(جَـنْبِـيَّةٍ) حَوْلَ فَيْضِِ الدَّسَمْ
    فَيُهْدِي التَّحايا ويُلْقِى السَّلَمْ
    لِيُثْنِي عَلَيْه الجَهُوْلُ الأَصَمْ!
    قَضاءٌ يُحَتِّمُ طَرْحَ الذِّمَمْ؟!
    ليصلى الحريص جحيم الحمم
    جناه بصول وهاء الوهم
    جباه بجور قضاء النهم
    على حال يسر رماه العدم
    فخَيْرٌ مِنَ الحُكْمِ حُكْمُ العَدَمْ!

    والله حسبنا ونعم الوكيل،،،
    المؤلف ،،،



    مقدمة الطبعة الأولى

    الحمد لله رب العالمين.
    والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وإمام المتقين/ محمد بن عبد الله الصادق الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
    أما بعد:
    فإن ما يتصل بالقضاء من مفاهيم علمية نظرية وتطبيقية سواءً على مستوى تنظيم الإدارة وتحديثها تصنيفاً وتوصيفاً، أو على مستوى العمالة تأهيلاً وتوظيفاً، نشأةً وتطوراً؛ فذلك من متطلبات الإصلاح القضائي.
    ومتعلقاتُ هذه المعاني لزومُ الصفات السلوكية لعامة السلطة القضائية، وخاصةً أفرادها، اقتداءً بالسلف، وقدوةً مُثْلى للخلف.
    وهذه وتلك عناصر واقعية وحقيقية تدخل ضمن مفهوم علم القضاء الواسع الدلالة، والشامل شوارد مظانه.
    وبمثل هذا العموم توصف مادة: (الثقافة القضائية) التي نقدِّمُ لها على أنها مادة منهجية، يتلقى دراستَها طلبةُ الدراسات الدورية والتدريب في المعهد العالي للقضاء؛ لتعريفهم من خلالها على السلوك العملي المطلوب تطبيقه في كل الأعمال القضائية التي يُسنَد إليهم اختصاص تنفيذها في المحاكم بدقة وأمانة ونزاهة.
    ومفهوم المادة يعني: الاضطلاع العلمي –مادياً ونظرياً- بعموم مقومات القضاء تاريخاً –بدايةً ونهايةً-، وفقهاً، ولغةً، وأصولاً، وفروعاً، وتنظيماً، وتأهيلاً، وشروطاً، وآداباً، وفنَّاً... (تطبيقاً وتنفيذاً).
    وعلى تقدير توفُّر الوقت، وتيسير جمع مادة هذه العناصر على أنها تمثل المنهج المكمِّل للنفع النسبي، كلما تحقق استيعاب مظان مادته العلمية في كل عنصر مما ذكر.
    والواقع يحتِّم تحديد وقت وزمن الدراسة بأشهُرٍ معدودات يستحيل فيها استيعاب الشمولية الوارفة، والتحقيق الجامع المانع في كل جوانب بحوث هذه المادة.
    لذلك فإن تركيزنا التنفيذي النظري سيقع على جانب واحد فقط، هو: جانب السلوك العملي في الشخصية القضائية.
    أما الجوانب الأخرى فواردٌ عليها التجاوز تفصيلاً، ولا مناص من الإشارة إلى ما يحصل به العلم الضروري لطالب التأهُّل.
    والجانب السلوكي في مادة: (الثقافة القضائية) يعني: ما تضمنه عنصر التنفيذ في السلطة القضائية من لازم الأخلاق، والآداب، بعض الشروط.
    ذلك هو منهجنا في إجماله، نتناول تفصيلَه في إطار محتويات أبواب ستةٍ، تُمَثِّل خطة هذا الكتاب، وذلك على نحو ما يأتي في (مجمل خطة محتويات الكتاب).
    والله الهادي إلى سواء السبيل،،،
    المؤلف ،،،







    البابُ الأول

    التعريف بمادة الثقافة القضائية
    حدَّاً، وماهيَّة



    الفصل الأول:
    التعريف في اللغة والاصطلاح
    (أ): التعريف في اللغة
    مفهوم الثقافة القضائية في اللغة:
    هي: الحَذاقة.
    قال ابن منظور: "ثَقِفَ الشيءَ ثَقْفاً وثِقافاً وثُقُوفَةً: حَذَقَهُ.
    ورجل ثَقْفٌ وثَقِفٌ وثَقُفٌ: حاذِقٌ فَهِمٌ.
    ويقال: ثَقِفَ الشيءَ، وهو: سُرعة التَعَلُّم.
    وثَقِفْتُ الشيءَ: حَذَقْتُهُ.
    وثَقِفْتُهُ: إذا ظَفَرْتُ به.
    قال تعالى: ?فَإِمَّا تَثْقِفَنَّهُمْ فِيْ الْحَرْبِ?( ).
    وثَقِفَ ثَقْفَاً: صار حاذِقاً فَطِناً ثابِتَ المعرفة بما يَحتاج إليه"( ).
    والذي يهمنا من هذه المعاني: ما يوافق منها المعنى الاصطلاحي لمادة (الثقافة القضائية)، وهو: لزومُ الفطنةِ والمعرفةِ لفنِّ القضاءِ، والحاجةِ إليه.
    (ب): التعريف في الاصطلاح
    مفهوم الثقافة القضائية في الاصطلاح:
    هو: مفهوم فنِّ القضاء الذي لا تكفي فيه المعرفة والفهم العلمي وحدهما؛
    بل لا بد من وجود مواهب وعوامل شخصية ونفسية تجعل من المرء قاضياً صالحاً قادراً على تحمل مسئولية الحكم بين الناس والفصل بين وجهات نظرهم على أسس علمية وقواعد نظرية وقانونية عادلة ونافذة.



    الفصل الثاني:
    التعريف بالموهبة الذاتية والنفسية
    في الشخصية الثقافية القضائية
    (أ): مفهوم الموهبة الذاتية
    المواهب الذاتية هي:
    ? قوة الشخصية التي لا تعرف التردد في الأمر.
    ? ولديها الدقة في الفهم.
    ? والإصغاء إلى حجة الطرفين.
    ? وسـرعة البديهة لما يلفت النظر أحياناً في أقوال أحدهما، ويستـدعى دقة الملاحظة والعمق في التفكير فيما يتلجلج به اللسان.
    (ب): مفهوم الموهبة النفسية
    أما المواهب النفسية فهي:
    ? ضبط النفس، والسيطرة على العواطف.
    ? وعدم الخـوف من الناس من أن يقـولوا أو يسخطوا أو يعلِّقوا على غير فهم وإدراك، أو ثقافة فنية قضائيـة، والتي لا يمكن أن تتوفر إلا في شخص القاضي الممارس عشرات السنين في مجال القضاء.
    ? والبت في آلاف الدعاوى وآلاف المنازعات.
    ? وشهادة آلاف الوقائع.
    ? وحل معضلاتها.




    الفصل الثالث:
    مقومات العمل المِراسِي التطبيقي في تقدير
    دلالة التعريف الفني الجامع بين مادتَي: الثقافة، والقضاء
    (أ): مفهوم المقوم المِراسِي في العمل القضائي
    ممارسة القضاء مدة طويلة في الغالب تكسب القاضي خبرة قضائية خاصة وثقافة معينة يحمل بها ميزان العدل ليوازن بين كفَّتَيه؛ فيضبط تأرجُحَهما بالحجة العلمية، والفهم الدقيق، والفطنة الحسَّاسة النادرة.
    فعملية الموازنة بناءً على ما تقدم بين حجج الخصمَين وترجيح أحدهما على الآخر عملية فنية وثقافية دقيقة تحتاج إلى كثير من حصافة الرأي والمران الإيجابي النافع.
    فمن يرى أن القضاء بين الناس مهمة سهلة ومهنة ميسرة مبذولة يكون ضعيفاً باديَ الرأي مجانباً للصواب، إلا إذا كان هذا الشخص جاهلاً أو مغروراً.. ومثل هذا –قطعاً– لا يصلح للقضاء؛ فإن وُلِّي فالبلاء على من وُلِّي عليهم، والويل له بقضائه.
    والقضاة ثلاثة: واحدٌ في الجنة، واثنان في النار، وهذا لا يخرج عن دائرة الاثنين بحال مهما كان مُسْلِماً مدعياً تمسكه ومحافظته.
    ولقد فهم أهمية القضاء وعظيم قَدْره وشديد مسئوليته أئمة العرب الدهاة قبل فجر الإسلام؛ فما كانوا يختارون لمنصبه إلا من له فيهم ميزة خاصة في السلوك، ورجاحة العقل، وسلامة الفهم، وحصافة الرأي، ودقة الملاحظة، وسعة الثقافة، وطول البال، وعفة اليد، ونزاهة المطمع، وسلامة قضاء الغَرَض، وإرادة المصلحة العامة في الغالب.
    وهم يرجعون في إصدار أحكامهم إلى العادات والأعراف، والتجارب، والفراسة في إلحان حجج المتخاصمين، وما يستنبطه اجتهادهم من القياس على الشبيه والمِثْل؛ ولهذا وُوجِهَتْ بالرضا والقبول، وصارت سنَّة متَّبَعة للخلف، ومنها ما أقره الإسلام وثبَّته.
    ويروي لنا التاريخ نماذج من القضاة الجاهليين الذين حققوا تلك الصفات وطبقوها في أحكامهم العامة على الآخرين، كما أن لبعضهم أحكاماً خاصة على أنفسهم إصداراً وتطبيقاً لحفظ المال، والعقل، والعِرض، والسلوك الخُلُقي …
    (ب): مفهوم المقوم الجامع
    بين الثقافة والقضاء كمادةٍ واحدة
    وبين اعتبار أن كلاً منهما يحدُّه التعريف الخاصُّ بذات المادة
    قبل الانتقال إلى حيز التفصيل الموعود من هذا الكتاب يبقى من نص التعريف بمادته جزؤه الجامع بين مفهومَي: الثقافة، والقضاء مادة واحدة مفهومها العام، يعني: إظهار البعد الثقافي القضائي في جميع ملازم الكتاب جملة، وعلى مستوى بسط مطالب فصوله المحررة ضمناً تحت عناوينها.. وحكماً وموضوعاً واحداً يعنيه التعريف السلوكي الأخلاقي..
    وهذا الجزء الممثل للجميع يقرره مفهوم حدِّ وماهيةِ الموهبة الثقافية القضائية بصفة عامة.
    ومفهومها يعني: انطلاق القاضي بفكره التنفيذي السلوكي الرائد في تذوق تفعيل الممارسة القضائية العلمية تفعيلاً عملياً يواكب حال كل تطور حديث مباح.. كتذوق حلاوة الإيمان في ممارسة الطاعة لله تعالى أمراً ونهياً.. وفي تقديم القربى إليه سبحانه بما شرع فريضة ونافلة..
    فالقاضي ينطلق كذلك في تفاعل علمه النظري مع تطبيقه العملي المِراسِي حتى لا يكون علماً جامداً يقف دون الصلة بالله، بعيداً عن حال المتابعة، أو بعيداً عن حال إرادة الموافقة للسنة.. أو عن الاستفادة من هذا الجديد المتطور أو ذاك.. كحال وقوف مفهوم علم المنطق بصاحبه وراء حدِّ وماهية دورانه الفلسفي العقلي.. كدوران حيوان الأربع حول رحاه، على ما قرره علماء هذا الفن.
    وإنه لمِن لوازم العلم النظري مفاعلة القاضي لإجراءات القضاء العملية: القولية، والفعلية..
    كما أنه واجب عليه ربطها بالسلوك الأخلاقية الأصلية والفنية المكتسبة.. أو بالسلوك الاختيارية الطوعية المثلى والمطلوبة ندباً أو سنةً قائمةً معلومةً، شِرعةً ومنهاجاً؛ حتى لا يكون مفهوم علم القضاء وولايته مجرد موروثٍ مِراسِي تقليدي جاف، يقف بصاحبه دون الروحانية، جاحداً مقومات التقوى المُكْسِبة للزهد، والمُوجِدة للورع.
    (ج): توجيه دلالة المقومات العلمية
    في الشخصية القضائية الوضعية،
    وتحرير مقارنتها بمقومات الشخصية القضائية الشرعية
    إنه لَتَبَلُّدٌ مُزْرٍ أن يقف القاضي بفهمه خلف وقوف القانون الوضعي بمواده جافاً جاحداً دون تطبيق لوازم أدلة الإسلام التشريعية المرنة، الجزائية منها والعقابية لتُنَفَّذ حداً وقصاصاً وحقاً شخصياً.. لازماً بوقوع المخالفات الشرعية أمراً ونهياً.. حاصلاً تطبيقه على المخالف إنصافاً وعدلاً..
    وحقيقة واقع جفاف وجحود التشريعات الوضعية يتجلى في أربع وقفات:
    أولاً: وقوفاً مُفْرِطاً في الحكمة:
    زيادةً إلى حصول المكر، والخداع، وارتداء لباس سياسة الخضوع لأمر الواقع الموصوفة بحالاتها.. معلومة النفاق على ما حدده المنصوص عليها شعراً استوحاه جمال إدراك واقع سياسة الحال المقرونة بالأوصاف الآتية:
    مُجَامَلاتٌ كُلُّها نِفَاقُ
    تِجارَةٌ لَعِيْنَةٌ ومُرْبِحَةْ
    مُعْظَمُهُم تَراهُ ذا وَجْهَين
    وحَرَكاتٌ مَا لَهَا أخْلاقُ
    لِمَنْ يُجِيْدُ فَنَّها وناجِحَةْ
    يأكل لَحْمَ الناس باليدَين( )

    فأيُّ حكمة يا تُرى يحققها مثل هذا الإفراط.. وفي مقابل السلوك الأخلاقية في السياسة الشرعية..
    وضده: التفريط نقصاً إلى حد حصول البله، والحمق، والغُمارة، والجنون.
    ومهما سُمِّي هذا الوقوف بالحكمة ووُصِف بضالة المؤمن المشروع أخذها.. فإن ذلك من باب تسمية الأشياء بغير مسمياتها تمهيداً لإحلال المحرمات منها.. والتحايل لإسقاط الحدود فيها.. وقد استباحت حرمة الكليات الخمس.. بمبرر جواز الخِدعة على حد دليل السنة: »الحَرْبُ خُدْعَة«.
    وحقيقة الحكمة: ثمرة اعتدال العقل الحاصل به حسن التدبير، وثقابة الرأي، وجودة الفهم، وبُعد الإدراك المتناهي للمصالح، وقناعة الثبات في الأمر..
    ثانياً: وقوفاً مُفْرِطاً في الشجاعة:
    زيادةً إلى حصول التهوُّر، والتكبُّر، والعُجب، والصَّلَف..
    وضده: التفريط نقصاً إلى حد حصول الذِّلة، والمسكنة، والمهانة، والتبعية الغربانية الحاصل بها نوع شؤم المعصية في شخصية التبع..
    وحقيقة الشجاعة: انقياد قوة الغضب للعقل المنضبط بالشرع الحاصل به الكرم، والنجدة، والوقار، والحِلم، والاحتمال، وكظم الغيظ، والشهامة، وكِبَر النفس..
    ثالثاً: وقوفاً مُفْرِطاً في العفة:
    زيادةً إلى الرهبانية، والتبتُّل، وترك الواجب إلى حدِّ إجازة ظلم النفس بعدم إعطائها حقها..
    وضده: التفريط نقصاً إلى حد حصول التبذير، واللؤم، والحيوانية الهِيْم، والوحشية القَسْوَرَة، ورفض الأخلاق والقيم..
    وحقيقة العفة: تأدُّب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع، الحاصل به الحياء، والقناعة، والورع، والزهد..
    رابعاً: وقوفاً مُفْرِطاً في العدل:
    زيادةً إلى حصول الانقباض، والشُّح، وفقدان مَلَكَة الغضب.
    وضده: التفريط نقصاً إلى حد حصول الظلم، والفساد، وانتشار الجريمة..
    وحقيقة العدل: ضبط النفس على مقتضى الحكمة الحاصل بها القسط والعدالة.
    والقسط في الـحكم يعني: القسط في القول، والعمل، وفي الاعتقاد، والصلة، والبِرِّ.
    والقسط في تحديد الولاء، والبراء، يعني: التعامل بالعدالة.
    والعدل يعني: الاعتدالَ في الأمر، والاستقامةَ على الحق، والاعترافَ به لذَوِيه، وردَّه إليهم..
    وميزان العدل: تحقيق دوام الرضا عن الله.
    والعدل، والعفة، والشجاعة، والحكمة: صفات سلوكية عملية.. مفهومها اعتدالاً يعني: أصول الأخلاق..
    وقد تجاوزها القانون التزاماً وسَطَاً.. وتبَنى أطرافها مضاهئاً.. ثم مختاراً موقف العَتَمة والغُدرة: عِلَّة نورانيةِ العقل المعتدل: بضابط الشرع والدين الموصوف باليسر والوسطية، وبخاصية: مرونة أحكامه التفصيلية العملية.. الموجبة للاختلاف بين الفقهاء.. ويصدق عليها: وصف خاصية مرونة تقدير الأحكام القضائية في كل حادثة بواسطة الشخصية القضائية الموهوبة.. والموجب لهذا التقدير: واقع مرونة الأحكام الشرعية القابلة للاجتهاد في الفقه الإسلامي.



    الباب الثاني

    الثقافة القضائية
    في العصر الجاهلي

    الفصل الأول:
    أشهر قضاة الجاهلية
    كان العرب قبل الإسلام أصحاب فصاحة وبلاغة وفطنة وحكمة، ومنهم مَن له ميزة خاصة من حكمة نادرة، ووجاهة، ورأي سديد فيما يواجه قومه من معضلات الأمور الحربية منها والسياسية مع قبيلة أخرى، أو فيما من شأنه الاستقرار الأمني، والأخلاقي، والاجتماعي بإقامة العدل والإنصاف في مجتمع قومه وعشيرته، فيضع أحكاماً، ويطبق نظاماً، وينشر مبدءاً تعود إيجابياتها ضماناً وصيانة للأعراض والأموال والدماء.
    فمِن مَن كان له تلك الثقافة والمعرفة والفطنة القضائية والسلوك الحكيم: عامر بن الظرب اليَشْكُري العدواني، وهو: الحارث بن عمرو بن قيس. قال ابن إسحاق: "وكانت العرب لا يكون بينها نائرة ولا عضلة في قضاء إلا اسندوا ذلك إليه، ثم رضوا بما قضى به"( ).
    ومن قيس أيضاً: سنان بن عمرو بن مرشد، والحارث بن عباد، وامرؤ القيس بن أبَّان بن كعب بن زهير، وعامر بن الضحيان؛ وكان يجلس للناس قاضياً في الضحى، والجعيد بن صبره، وقيس بن خالد بن عبد الله ذي الجدين.
    ومن إياد: وكيع بن سلمة؛ وهو صاحب الصرح بحزورة مكة المكرمة، وقد أكثروا فيه فقالوا: "كان كاهناً"، وقالوا: "كان صِدِّيقاً من الصِدِّقين"، ومن كلماته: مُرضعة، وفاطمة، ووادِعة، وقاصمة، والقطيعة، والفجيعة، وصلة الرحم، وحُسن الكَلِم، ومن كلامه: "زعم ربكم ليجزينَّ بالخير ثواباً، وبالشر عقاباً"، فلما حضرته الوفاة جمع إياد، ثم قال: "اسمعوا وصيتي: الكلام كلمتان، والأمر بعد البيان، مَن رَشَد فاتبعوه، ومَن غَوى فارفضوه، وكل شاةٍ معلقة برجلها".
    وقِس بن ساعدة الإيادي، وحنظلة بن نهد بن زيد؛ ومما قيل عنه: "حنظلة بن نهد خير ناشئ في معد".
    ومن اليمن: عمرو بن حممة بن الحارث؛ جدُّه الأعلى: (دُوس).
    ومن بني أسد: سويد بن ربيعة بن حذار.
    ومن بني تـميم: ربيعة بن مخاشن بن معاوية؛ وكان يـجلس على سرير من خشب؛ فسُمِّي: ذا الأعواد؛ حتى قيل فيه:
    ولقد عملتُ سِوى الذي نَبَّأَتَنِي
    أنَّ السبيلَ سبيلُ ذي الأعوادِ

    وأكثم بن صيفي بن رياح، وضمرة بن ضمرة، وحاجب بن زرارة، والأقرع بن حابس ابن عقال.
    ومن كنانة: صفوان بن أمية، وسلمِيُّ بن نوفل؛ وقيل عنه:
    يَسُودُ أقوامٌ وليسوا بسادةٍ
    بل السيدُ المذكورُ سلميُّ بنُ نوفَلِ

    والشداخ؛ وهو: يعمر بن عوف بن كعب؛ وكانت قريش قاتلت خُزاعة، وأرادوا إخراج خُزاعة من مكة؛ فتراضى الفريقان بيعمر؛ فحكم بينهم، وباوَأَ بين الدماء، وعلى ألا يخرج خُزاعةُ من مكة.
    ومن بني سهم: قيس بن عُدَي بن سعد بن سهم؛ وقيل عنه: "كأنه في العز قيس بن عُدَي"، والعاص بن وائل، وهاشم بن سعيد بن سهم.
    ومن بني عُدَي: نُفَيل بن عبد العُزَّى بن رياح.
    ومن بني زهرة: العلاء بن جارية.
    ومن بني مخزوم: العدل؛ وهو: الوليد بن المغيرة.
    ومن بني أمية: حرب.
    ومن بني هاشم: عبد المطلب بن هاشم، وولَداه/ الزبير، وأبو طالب.
    ويُروَي أن أول قضاة العرب: الأفعى بن الحصين بن غُنم الجرهـمي؛ الذي حكم بين بني نزار بن معد في ميراثهم، وهم: مُضَر، وربيعة، وإياد، وأنمار، وكان منـزله: نجران، من اليمن، ومن ولده: السيد، والعاقب؛ أسقفا نجران، اللذان أرادا مباهلة رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم–( ).
    وليس هؤلاء الذين تَمَكنَّا من معرفتهم هم كل قضاة العرب؛ وإنما يُعْتَبَرون من أشهرهم وأنبغهم.
    قال الجرجاوي: "كان القضاء قبل الإسلام يُعهد إلى رجالٍ ذوي خبرة ودراية وعقل وعلم ونبوغ في الذكاء، وكانوا يُوَظَّفون إما باكتساب ثقة الملك، أو الأمة، وهذه الحال كانت في الفرس والرومان.
    أما العرب فكانوا يرجعون إلى حَكَم يفصل في الدعوى بين المتنازعين، وإن كانت الدعوى بين قبيلتين اختاروا قبيلة ثالثة، وهي بدورها تختار وتُعَيِّن الحَكَم من أعظم رجالها في الفضل والرأي والتدبير"( ).
    قال ابن هشام: "ومن قضاة العرب مَن كان يُسمَّى: مُجَمِّعاً؛ لِمَا جَمَع من أمرهم، مثل: قُصَي بن لؤي؛ الذي اتخذ دار الندوة للقضاء، وحل أمور قومه، وتيمَّنت العرب به، حتى قال الشاعر:
    قُصَيٌ –لَعَمْرِي– كان يُدْعَى: مُجَمِّعَاً
    بِهِ جَمَعَ اللهُ القبائلَ مِن فُهَرِ

    فكانوا لا يتشاورون في أمر، ولا يعقدون لواءً، ولا تُنكَح امرأةٌ، ولا يَتزوج رجلٌ إلا على يده، وفي داره( ).
    وهكذا كان التقدير للرجال بسلوكهم وتفانيهم في خدمة الآخرين دون إضرارٍ بهم، ولا سَلْبٍ لأموالهم، أو نَظَرٍ لِما في أيديهم، وهم يعتقدون أن خيرَ الناس أنفعَهم للناس؛ بغاية ما يتمثل به النفع وهو: أقامة العدل؛ للإنصاف حالاً وزماناً ومكاناً بحسب العرف والعادة.
    وهذا تفريق فنيٌ دقيق يظهر به أن مفهوم العدل في القضاء الجاهلي دون حقيقة العدالة شِرعةً ومنهاجاً، أزلاً حاضراً أو مستقبلاً؛ لأن هذا فقط من خصوصيات تشريع الله العليم الحكيم الخبير بمصالح عباده اليوم وغداً
    ومتعلق المفهومَين تصنيف الثقافة القضائية الجاهلية، وسنورد شيئاً في توضيح وتبيين هذين الوصفَين للأهمية عند المقارنة.





    الفصل الثاني:
    نماذجُ من أقضية الجاهلية
    في السطور الآتية نماذج من أقضية الجاهلية:
    أولاً: الحكم بتحريم الخمر، والحدِّ على مَن شربها:
    وممن حكم بذلك: الوليد بن المغيرة على ولده/ هشام بن الوليد.
    حيث حدَّه بالضرب على شرب الخمر.
    ثانياً: الحكم بتحريم الزنا:
    وممن حكم بذلك: الأسلوم اليمامي.
    ثالثاً: الحكم بإهدار دم المعتدي في الحرب، ودفعِ دية المعتدَى عليهم:
    والذي حكم بهذا هو: الشدَّاخ/ يعمر بن عوف.
    ذلك بين قريش وخُزاعة، وهو الذي حكم بولاية الكعبة وأَمْر مكة لقُصي، ثم ساوى بينهم؛ بعضهم مثل بعض في الحقوق والواجبات دون تفاضل مستقبلاً، وخزاعة هذه دخيلةٌ على قريش في مكة.
    رابعاً: على المدعي البينة، وعلى المنكر اليمين:
    ويُروَى أن الحاكم بهذا هو: قِس بن ساعدة.
    خامساً: القضاء في الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين:
    يُروى هذا عن: عامر بن جُشم، أو: عامر بن الظرب.
    ساساً: القضاء في الخُنثى المُشْكِل:
    وفي سيرة ابن هشام أن القاضي بذلك هو: عامر بن الظرب.
    حيث أتوه فقالوا: "بماذا تحكم في رجل له ما للرجل وله ما للأنثى؟ أتجعله رجلاً أم امرأة؟"، فقال: "حتى أنظر في أمركم، فوالله ما نزل بي مثل هذا منكم يا معشر العرب"، فاستأخَروا عنه، فبات يقلِّب ليلته وينظر أمره.. حتى وصل إلى حُكْمٍ بمساعدة جاريته، قالت: "اتبع القضاءَ المَبَال؛ فإن بال من حيث يبول الرجل فهو رجل، وإن بال من حيث تبول المرأة فهو امرأة.. ثم خرج إلى الناس فحكم بالذي أشارت به جاريته.
    سابعاً: القضاء بالقِسامة في دم عمر بن علقمة بن المطلب:
    والقاضي بها: الوليد بن المغيرة.
    ثامناً: القضاء في الديات:
    والقاضي فيها بأن تكون ديةُ الرجل مائةً من الإبل هو: عبد المطلب، أو عميلة بن الأعزل، أو عامر بن الظرب.
    تاسعاً: القضاء بالحدِّ في السرقة:
    ويُروى أن أول من قضـى بـحدِّ قطع اليد في السرقة هو: الوليد بن المغيرة.
    عاشراً: القضاء بأن الولد للفراش:
    وذلك القاضي هو: أكثم بن صيفي( ).
    وهكذا فإن المتدبر لهذه القضايا والحُكْم فيها يرى أن قضاتها يتمتعون بثقافة عالية، وفطنة دقيقة، وذكاء نادر، وسلوك قويم أهَّلهم ذلك للوصول إلى المحافظة على الأعراض والدماء والأموال والعقول ظاهراً، حتى جاء الإسلام فأثبت أن هذه الأقضية مبدؤها الفطرة السليمة بموافقتها أحكامه أو معظمها بغض النظر عن العقيدة التي انحرفوا بها عن الفطرة، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لكنهم لا يفقِدون جملة السلوك الأخلاقية، وما أرضاهم أن يتنازلوا عن كل مقوماتها الإيجابية وهم يحكمون ويقضون على شواذ المخالفين والمفرِّطين، أو على الأقل يرون مخالفتها نقيصةً ومَذَمَّة.
    ولبعضهم على أنفسهم عَقْدُ التزاماتٍ خاصةٍ إيـجاباً أوندباً حَمَلَتهُم على خرق عادةِ قومهم ومجتمعهم فعلَها وهذه الالتزامات هي: ثقافتهم السلوكية العُرفية.. كما سنعرف.
    وفيما سبق دلالة واضحة على أن العامة لـم يكن لـهم من السلوكيات والأخلاق مثل ما للخاصة، وتلك هي السنة، ?وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيْلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيْلاً?( ).
    ويتضمن حالهم قول الشاعر:
    على قَدْر أهل العزم تأتي العزائمُ
    وتعْظُمُ في عين الصغير صِغارُها
    وتأتي على قَدْر الكرام المَكارِمُ
    وتَصْغُرُ في عين العظيم العَظَائمُ

    وإن من أشراف العرب وعقلائهم من اتخذ لنفسه سلوكاً والتزاماً خاصاً في تحريم بعض ما تعوَّد قومُه وعشيرتُه على تعاطيه ومقارفته، كالخمر والزنا.
    فمن أولئك: قيس بن عاصم، الذي ألزَمَ نفسه بعدم شرب الخمر، وقال فيه:
    رأيتُ الخمرَ مصلحةً، وفيها
    فلا – والله – أشربُها حياتي
    فإن الخمر تَفضحُ شارِبِيها
    إذا دارتْ حمياها تعلت
    خصالٌ تُفسِدُ الرجلَ الكريْمـا
    ولا أدعو لها أبداً نَدِيْمـا
    وتُجْنِيْهِم بها الأمرَ العظِيْمـا
    طوالعُ تُسَفِّهُ المرءَ الحلِيْمـا

    وآخر هو: عفيف بن معد يكرب الكِنْدي، الذي حرَّم الخمر والزنا على نفسه بقوله:
    قالت لي: هَلُمَّ إلى التَّصابي
    وودَّعْتُ القِداحَ وقد أَراني
    وحرَّمتُ الخمورَ عليَّ حتى
    فقلتُ: عَفَفْتُ عمَّا تعلمينا
    بها في الدهر مشعوفاً رهينا
    أكون لقَعْرِ مَلْحُودٍ دفينا

    وقال عامر بن الظرب في الخمرة أيضاً وهو يُقْسِم ألا يسقيَها ولا يشربَها حياته:
    إنْ أشْربِ الخمرَ أشربُها للذَّتِها
    لولا اللَّذاذة والفتيان لم أرَها
    سَئَالَةٌ للفتى ما ليس يَمْلِكُهُ
    مُورِثَةُ القوم أضغاناً بلا إِحنٍ
    أقسمتُ بالله أسْقِيَها وأشرَبَها
    وإن أدَعَها فإني ماقِتٌ قالِ
    ولا رأَتْنِي إلا مِن مَدى الغالِ
    ذهَّابَةٌ بعقولِ القومِ والمالِ
    مُزْرِيَةٌ بالفتى ذي النَّجْدَةِ الحالِ
    حتى يُفَرِّقَ تُرْبُ القبرِ أوصالي

    وقال حاتم الطائي في تحريم الخمر والفجور –وحاتمٌ هذا وَلَدُهُ الصحابيُّ الجليل/ عَدَي بن حاتم–:
    وإني لأرجو أن أموتَ ولَمْ أنَلْ
    متاعاً مِن الدنيا فُجُوراً ولا خَمْراً

    وقال مقيس بن صبابة في الخمر محرماً إياها على نفسه وهو يذمها:
    رأيتُ الخَمْرَ طَيِّبَةً، وفيها
    فلا –والله– أشربُها حياتي
    إذا كانت مليكةٌ من هوائي
    سأتركُها وأتركُ ما سِواها
    خصالٌ كلُّها دَنَسٌ ذَمِيْمُ
    طوال الدهرِ ما طَلَعَ النجومُ
    أحالفُها فَحالَفَني الهُمومُ
    من اللَّذاتِ ما أرسَى يَسُومُ

    وقال الأسلوم اليمامي في تحريم الخمر والزنا على نفسه وهو قد حَكَم بتحريم ذلك:
    سالمتُ قومي بعد طُولِ مَظاظَةٍ
    وتركتُ شُربَ الرَّاحِ وهي أثيرةٌ
    وعفَفْتُ عنه يا أميمُ تَكَرُّماً
    والسِّلْمُ أبقى في الأمور وأعْرَفُ
    والمُومِساتِ، وتَرْكُ ذلك أشْرَفُ
    وكذاك ذو الحِجا المُتَعَفِّفُ( )

    ولا يخفى ما في هذا من علاقة وثيقة بموضوعنا؛ لأن هذه الأحكام الشخصية نابعة من وجود المقومات السلوكية بواسطة الشعور بالتأثُّم لما يخالف الفطرة، كمن يشعر بالتأثُّم وهو يأخذ الرشوة، أو يحابي، أو يجامل في عمله على حساب ما هو واجبٌ عليه بحكم وظيفته.
    وما إصدار الأحكام العلنية جماعيةً أو شخصيةً على المخالفات السلوكية إلا دليل الفهم الثقافي الفني القضائي لدى هؤلاء.









    الفصل الثالث. يــــــــتـــــبـــــــع.. ..

  2. #2

    افتراضي رد: كتاب الثقافة القضائية


    الفصل الثالث:
    الإسلام يُقِرُّ مبدأ القضاء الجاهلي
    تَروِي لنا (سيرة ابن هشام) حادثة حِلْف الفضـول، وإقرار النبي –صلى الله عليه وآله سلم– لعقدها، والحُكْم من قريش على أنفسهم بنصرة المظلوم( ).
    قال مؤلفها: "ولقد اجتمع يوم حلف الفضول جماعة من سادات قريش في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه، وهم: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتميم بن مرة، وتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو ممن دخلها إلا قاموا معه حتى ترد إليه مظلمته.
    وكان رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– قد حضر معهم هذا الحلف، وكان يذكره ويقول: »لقد شهدتُ حِلفاً في الجاهلية لو دُعيتُ لمثله في الإسلام لأجبتُ«".
    وهذه العقود وأمثالها من الأحكام العادلة أقرها الإسلام وحافظ عليها، فعلم بهذا أن القضاء أمر طبيعي في المجتمعات والأمم والأديان.
    ولقد أقر الإسلام مما قُضي به في الجاهلية الكثير، سواءً على مستوى القرآن أو السنة أو اجتهاد الصحابة –رضي الله عنهم–.
    فمن القرآن: موافقته على ما كان قد قضى به عبد المطلب، أو عامر ابن الظرب، أو غيرهـما –على خِلافٍ– بأن للذكَر من الإرث مثل حظ الأنثيين.
    ومن السنة المطهرة: موافقتها على ما كان قد قضى به الوليد بن المغيرة، أو أكثم بن صيفي –على خِلافٍ– بأن الولد للفراش، وأن على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين.
    ومن الاجتهاد الإسلامي الشرعي: موافقته على ما كان قد قضى به عامر بن الظرب، أو عامر بن حممة -على خِلافٍ- في الخنثى المُشْكِل بالنظر إلى مجرى بَوْلِه( ).
    وكل ما سبق من الأمثلة التي ذكرنا من أحكام الجاهلية أو معظمها أقرها الإسلام وشرَّعها لا لِذَاتها؛ فأصلها وضع جاهلي من دليل العقل، وافق مسماها دليل الشرع فقط.
    ولا يفوتنا هنا أن نذكر ما نبَّه إليه أستاذنا الفاضل القاضي/ محمد بن إسماعيل العمراني في كتابه: (نظام القضاء في الإسلام) قائلاً: "إن القضاء عند العـرب في الجاهلـية يخـتلف عن القضاء بعد الإسلام في أمرين رئيسيين( ):
    الأمر الأول:
    أن القضاء في الجاهلية لم يكن يستند إلى نص مكتوب أو إلى كتاب مسطور، وإنما كان يعتمد على آي القرآن والسنة والقياس والإجماع، وكذلك على العرف أو الأعراف والعادات بشرط ألا يخالف العرف نصاً في القرآن أو السنة، ولا يخفى أن الاعتماد على العرف والعادة وحدهما يجعل القضاء بعيداً في بعض الأحيان عن العدالة الصحيحة ومبادئ الحق الطبيعي وذلك مثل: عادة وأد البنات في الجاهلية فإنها عادة رذيلة سيطرت على المجتمع الجاهلي وتبعها سادةُ القوم وأشرافُهم حتى جاء الإسلام بإبطالها.
    الأمر الثاني:
    هو صفة الإلزام في الحكم، ففي الجاهلية كان الطرفان يخضعان للحكم تحت التأثير الأدبي أو تحت تأثير الرأي العام في القضايا المهمة، وكثيراً ما كان يرفض أحد المتخاصمين الخضوع لحكم المحكَّم ويطلب الاحتكام إلى غيره ولم يكن في ذلك ضير، وإذا لم يقتنع الخصم بحكومة المحكم ولم ينفذ مضمونها فليس هناك سلطة تفرض عليه التنفيذ، إلا الخوف من الخصم، وبالتالي فإن أصحاب القوة والبطش هم الذين لا سلطان عليهم، والحق للقوة أخيراً، في حين أن القضاء في الإسلام يختلف عن ذلك، فقد اختصم رجلان إلى رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– في أمر من الأمور، فقضى الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم– لأحدهما، فلم يقبل الثاني ما حكم به الرسول –صلى الله عليه وآله وسلم– فنـزل قول الله عزَّ وجلَّ: ?فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُوْنَ حَتَّى يُحَكِّمُوْكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوْنَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيْمَاً?( ).
    فقد أعطت هذه الآية صفةً جديدة للقضاء لم تكن معروفة في الجاهلية هي: صفة الإلزام، وقد شدد الله في هذه الآية على من لم يخضع لحكم رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم–، فنفى عنه صفة الإيمان بقوله: ?فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُوْنَ?، ولم تكتفِ الآيةُ بالخضوع عن الكَرْه والجبر، وإنما أوجب الله بها التسليم المطلق بقوله: ?وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيْمَاً?، ومن المعروف أن ?تَسْلِيْمَاً? مفعول مطلق لفعل ?وَيُسَلِّمُوا?، والإطلاق يفيد المبالغة في التسليم للحكم، ذلك لأنه لا قيمة للقضاء إذا لم تكن أحكامه ملزمة للجميع".
    أقول: وعلى هذا فإن أصدق الأخبار والأحاديث التاريخية عن صفة القضاء الجاهلي هو ذلك الذي أثبته القرآن الكريم وسنة الرسول الخاتم/ محمد –صلى الله عليه وآله وسلم–، وهما الأصلان الوحيدان في دنيا الناس تكون الحجة بهما ثابتة والأخبار فيهما أكيدة، وما جاءا به كان وثيقةً قطعيةً في تصوير العصر الجاهلي، أما ما جاء في كتب التاريخ والمغازي والسِّيَر والأدب فخاضع كله للبحث والمناقشة، ولا يمكن اعتباره قطعي الثبوت أو الدلالة، كذلك الآراء والنظريات خضوعها للبحث والنقاش من باب أولى، وسيأتي ذلك الإثبات القطعي بعد فرد مفهوم الجاهلية.
    والتحقيق أنه لم يصل إلينا عن قوانين الجاهلية وتشريعاتها أكثر مما يسد الرمق، وهو نزر يسير ونتف ضئيل لا تقضى به حاجة ملهوف ولا شرهة طموح مشغوف، وذلك النـزر مبعثر هنا وهناك لا يحصره ضابط ولا يجمعه طالب، كما أن تلك الأحكام والتشريعات الجاهلية ليست شاملة سوى غثرة من الناس قد لا يتجاوز عددهم عاقلة، في إطار القبيلة الواحدة.
    يقول القاسمي في: (نظام الحكم في الشريعة والتاريخ): "والذي عليه أهل الرأي والعلم في هذا الموضوع المهم هو أن الجاهليين قد سرت بينهم أعراف، وأن هذه الأعراف ربما كانت مداراً للحكم، ومستنداً له من قِبَل الحَكَم، وأن هذه الأعراف تختلف بين بقعة وأخرى من جزيرة العرب، وبالقدر الذي كان فيه الاتصال قوياً أو ضعيفاً بين القبائل نفسها، وبين هذه القبائل والأمم الأخرى، كالفرس والروم والحبشة، مما أدى إلى الاقتباس أو التقليد، وربما أدى أحياناً إلى تقدمٍ في الحضارة، ورُقِيٍّ في المدنية"( ).
    وعن أحمد أمين في: (فجر الإسلام) ننقل قوله: "هؤلاء الحكام لم يكونوا يحكمون بقانون مدون، ولا قواعد معروفة، إنما يرجعون إلى عرفهم وتقاليدهم التي كونتها تجاربهم أحياناً، ومعتقداتهم أحياناً، وما وصل إلى أيديهم وأسماعهم عن طريق اليهودية أحياناً.
    ولم يكن لهذا القانون الجاهلي المؤسس على العرف والتقاليد جزاءً، ولا المتخاصمون ملزمون بالتحاكم إليه، والخضوع لحُكمه، فإن تحاكموا إليه فيها، وإلا فلا.
    وإن صدر الحكم أطاعه إن شاء، إن لم يطعه فلا شيء أكثر من أن يحل عليه غضب القبيلة …"( ).
    ويضاف إلى ما قاله أحمد أمين: "أن أعراف الجاهليين وتقاليدهم بنيت أحياناً على الطمع، كحرمان البنت من الإرث، أو على المضارَّة، كزواج المَقْت؛ وهو: أن يتزوج الإبن زوجة أبيه، أو أن يعضلها حتى تخرج له عن إرثها، وقد بقيت شريعتهم هذه قائمة حتى نهى عنها الإسلام"( ).
    وهكذا نرى أن أحكام الجاهليين تجانبها العدالة الموجدة للقضاء القائم بالحق، ومهما وصفت أحكامهم بالعدل فهي بعيدة عن العدالة بمقصد آنيتها حاضراً، وإرادة مكانها وزمانها، وإسقاط تعدِّيها وقتَها وحينَها، أو مَن صدرت لهم أو ضدهم.
    وأيضاً: لفقدان قضاتها علم مصالح الناس مستقبلاً، ولاعتقادهم مع المقضي لهم أن الأحكام بالتراضي، ولا اختصاص لأي تشريع سماوي بإلزامها، ولا إيجاب التزامها، كذا اتفاقهم في تطبيقها قهراً على الضعيف لصالح ضدِّه، وهذا القضاء صار في أحكامه دون العدل المنادي بمجرد الإنصاف في الظاهر، مهما خالف الحقيقة، أو جانب واقعها.
    وليس لغير تشريع الله كمال، ولا عدالة تُقال، وذلك له، لِعْلِم مشرِّعه بما يصلح لعباده اليوم وغداً، على مستوى الأفراد والجماعات قاصراً عليهم ومتعدياً إلى سـواهم بعلمه الأزلي، ?أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيْفُ الخَبِيْرُ?( ).
    ولهذا جاء تنديد القرآن الكريم بأحكام الجاهلية جملةً واحدة في قوله تعالى: ?أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُوْنَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمَاً لِقَوْمٍ يُوْقِنُوْنَ?( ).
    كما نددت بأحكامهم السنةُ المطهرة، بما ثبت عنه –صلى الله عليه وآله وسلم– عند ردِّه شفاعة أسامة بن زيد –رضي الله عنه– لامرأة سرقَتْ … قائلاً: »أتشفعُ في حدٍّ مِن حُدود الله؟ والله لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَها، إنَّ مَن كان قبلَكم إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدَّ، وإذا سرق فيهم القوي تركوه«( ).
    ومن هنا يبرز استفسار وجيهٌ، وهو: ما مكانة تلك الأحكام الصادرة عن قضاة الجاهلية وقد أقرَّها الإسلام، أو أبقاها شرعاً لنا؟ وخاصةً بعد مقابلتها بهذا التنديد وهذا التحذير؟
    والجواب –والله أعلم– كالآتي:
    1- أنَّ تلك الأحكام المُقرَّة نادرة:
    والنادر لا حكم له، وكلها دون عشرات الأحكام في مجموعها، على مدى مئات السنين في عمر الجاهلية.
    2- أنَّ كل حكم يصدر على غير شرع من الله أو بدون بينات من الهدي النبوي أو الوحي الإلهي فهو: باطلٌ وغير صحيح –وإن وافق الصواب–:
    لأنَّ أساسه مبني على غير عِلْم شرعي، وإنما على الأعراف والعادات والتقاليد البشرية المركبة من فعل أهواء النفس الأمارة بالسوء المتفاعلة بالفحشاء والمنكر والبغي.
    3- تأثير مُسمَّى الجاهلية –من الجهل ضد العلم–:
    ومَن كان الجهل صفتُه فقد امتنع حكمه، وإن أصدره انتقض وبَطَل؛ لفقدان القاضي به شرط الأهلية العلمية، ويقرر هذا المعنى حديث: »القُضَاةُ ثَلاثَةٌ …«( )، أحدهم: من قضى بجهل.
    4- نظرتهم إلى الحق بأنه للقوة وحدها، والحكم لصاحبها:
    فلا دخل لدينٍ فيه ولا شريعة، ويقرر هذا المعنى حديث شفاعة أسامة
    السالف ذكره.
    ولعل من أبرز الشواهد على أن الناس في الجاهلية لم يعرفوا سبيلاً إلى تطبيق العدالة، وإنما كان سبيلهم القوة القاهرة ضد الضعيف هو ما ذكره الميداني في مجمع الأمثال على ألسنة الحيوانات، حيث قال: "إن الأرنب التقطت تمرة، فاختلسها الثعلب، فأكلها، فانطلقا يختصمان إلى الضب، فقالت الأرنب: (يا أبا الحَسَل)، فقال: (سميعاً دَعَوْتِ)، قالت: (أتيناك لنختصم إليك)، قال: (عادلاً حَكَّمْتُما)، قالت: (فاخرج إلينا)، قال: (في بيتهِ يُؤتَى الحَكَمُ)، قالت: (إني وجدت تمرة)، قال: (حلوةً فكُلِيها)، قالت: (فاختلسها مني الثعلب)، قال: (لنفسه بغى الخير)، قالت: (فلطمْتُه)، قال: (بحقك أخذتِ)، قالت: (فلطمَني)، قال: (حرٌ انتصَر)، قالت: (فاقضِ بيننا)، قال: (قد قضيتُ)".
    يقول القاسمي، وهو يعلق على هذه القصة: "وفي يقيني أنها ليست إلا صورة واقعية لحوادث يومية متكررة، كانت تقع قبل الإسلام"( ).
    فالدستور الذي كان سائداً في الجاهلية يجعل صاحب القوة هو صاحب الحق، وما تأرْجُح الضب بين الأرنب والثعلب في أحكامه المتعاقبة إلا تأكيداً لهذه القاعدة التي عاد فأكدها المتنبي بقوله:
    مَنْ أطاقَ التماسَ شيءٍ غِلاباً
    واغتِصاباً لَمْ يَلْتَمِسْهُ سُؤالاً

    لا، ولا قضاءً!!
    ويؤكد هذا المذهب ما ذكره أبو تمام من وصفٍ لحال الجاهليين في نظرتهم للحق من شعرهم الحماسي، والمستدَل به لإثبات حقيقة الحق لديهم، وهو هذا البيت من قصيدةٍ لسويد من صميع المرثدي، أو للشميدر الحارثي، وكلاهما جاهلي جاء فيه:
    فَلَسْنا كَمَن كُنتم تُصِيبُون سَلَّةً
    فَنَقْبَلُ ضَيْمَاً أو نُحَكِّمُ قاضياً

    فهم يقولون لخصومهم: لسنا مثلكم؛ فنقبلَ الاعتداء والظلم ونسكت عليه دون أخذٍ بحقنا جهاراً نهاراً، وليس تحت ستار التخفي مثل حالكم، وأيضاً نحن لا نقبل المرافعة إلى حاكمٍ أو قاضٍ كما تفعلون، بل بالقوة نأخذ حقنا.
    والذي يظهر من خلال دراسة مجموع أقضية العرب الجاهليين: أن فكرة إرادة الحق والرضا به كانت بدأت تسري في أحكامهم وتُطبَّق أحياناً في بعض الحقوق المتعلقة بالأموال، والدماء، ونظام الإرث، والزواج، ونصرة المظلوم، والتعويض عن الدم المسفوح، وقطع يد السارق، وإنهاء تأجيج الفتنة وقطع دابر الخلافات، والأمثلة على بعض هذه النماذج سابقة، والأخرى لاحقة –إن شاء الله تعالى–.
    ومن هذه النظرة توصَّل بعض الباحثين إلى القول بأن مسمَّى الجاهلية لا يعني الجهل الذي هو ضد العلم، وإنما يعني الجهل الذي هو ضد الحِلم؛ بدليل قول الشاعر الجاهلي:
    ألا لا يَجهلنَّ أحدٌ علينا
    فنَجهلَ فوق جهلِ الجاهلِينا( )

    كما استدلوا بحديث عائشة أم المؤمنين –رضي الله عنها– الثابت في صحيح مسلم؛ حيث قالت: "سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، وكان رجلاً صالحاً؛ ولكن اجتَهَلَتْه( ) الحميَّة"( ).
    كذلك استدلوا باللغة العربية التي وضع لها عرب الجاهلية الكلمات المبتكرة ذات المعاني الثريَّة.
    ومن ذلك: ما وضعوه لثمرة العنب؛ حيث وضعوا لها أربعين لفظة منذ أن يبدأ العنب زهرة إلى أن يصبح زبيباً.
    وما وضعوه لمسمَّيات أجزاء جسم الإنسان؛ لتزويد علم التشريح بها.
    وما وضعوه لمسمَّيات النجوم والكواكب؛ لتزويد علم الفلك.
    وأيضاً: ما وضعوه لمسمَّيات النبات، والحيوان، وغير ذلك( ).
    أما الزمخشري فيرى أن لفظة الجاهلية في الآية تعني أن أولئك العرب كانوا ينطلقون في أحكامهم من الهوى، حتى استحقوا بذلك إطلاق مسمى: (الجاهلية) عليهم، فقال: "ولم يندِّد سبحانه بحكم الجاهلية إلا لما فيه من الشرور والآثام، وإقرارٍ لأعرافٍ تضمنت الظلم الفاحش بحق المجتمع وأفراده، ولا سيما: المرأة، واليتيم، والرقيق، والضعيف، والفقير، وغيرهم( ).



    الباب الثالث

    السلوكُ القضائي
    في صدر الإسلام


    الفصل الأول:
    تشريعُ القضاء يحقق التطبيق العملي
    لحماية السلوك القضائي
    الإنسان بفطرته العملية المِراسية مجبولٌ على أن تلازمَه صفتان سلوكيتان:
    الصفة الأولى:
    حيوانية آلية عدوانية:
    تتمثل في حب الإنسان للشهوات، والجرْي وراء إشباع الرغبات المادية والمعنوية والجنسية، والتضحية في سبيل تحقيقها بالقيم والمبادئ والأخلاق، والسطو لنيلها وارتكابها على هتك حرمات الدين والأنفس والأموال والأعراض.
    الصفة الثانية:
    اجتماعية عقلانية سلمية:
    تتمثل في إرادة هذا الإنسان فعل الخيرات وعمل الحسنات وتقديم المكرمات واجتناب السيئات، وفي إرادته وحبه تحقيق مسالك القيم الرفيعة، والمبادئ السامية، والأخلاق الكريمة في شخصه وأسرته ومجتمعه وأُمَّته.
    ومتعلقات هذه السلوكيات فطرة الله العقيدية التي فطر الناس عليها، وكان بها الحجة لله تعالى على الوالدين والمسئولين عن التربية الفردية والجماعية لناشئة الجيل من البنين والبنات؛ بدليل قوله –صلى الله عليه وآله وسلم–: »كلُّ مولودٍ يُولَد على الفطرة، فأبَواهُ يُهَوِّدانِه أو يُنَصِّرانِه أو يُمَجِّسانِه«( ).
    وهاتان الصفتان مستفادتان من قوله تعالى: ?وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُوْرَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا?( ).
    فمِن فضل الله وكرمه وإحسانه على الإنسان أنه عرَّفه مضارَّه ومساوءه ومنافعه ومصالحه، ثم ما به سقوطُه أو رفعتُه، وما به إهانتُه أو كرامتُه، عن طريق الإلهامِ المنصوص في الآية، والعملِ بالإرادة.
    وصدق الله العظيم حيث يقول: ?فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقَاً حَرَجَاً كَأَنَّمَا يَصَّعَدُ فِي السَّمَاءِ?( ).
    والهداية والإضلال بإرادة الله الكونية القَدَرية، إلا أن ما يعملُه الإنسان موافقاً لمستلزمات سلوك الهداية كان مراداً شرعياً( )، وما يعملُه مخالفاً وهو من مستلزمات سلوك الضلال فذلك غير شرعي، ولهذا كان لا بد لهذا الإنسان من تشريع له قوة الإلزام بدفع الحقوق، وقوة الحجة، والزعامة بأخذ الواجبات.
    ولا أقل من القضاء: يحقق سعادة الناس ورعاية مصالحهم وتدبير شئونهم وحماية وجدانهم وأحاسيسهم وحقوقهم من كل نفس أمارة بالسوء، وهو يطبق حدود الله زواجرَ وتطهيراً وجزاءً وتأديباً على ما اقترفته أيديهم ونالته جوارحهم من مخالفات وخروقات في تلك الواجبات والحقوق.
    كما جَعلت الشريعةُ من الإنسان بالقضاء حارساً على نفسه لضمان العدالة ونشر الحق وتثبيت الواجبات وصيانة الحقوق وإيصالها إلى ذويها دون تكليف، فهي لم تكتفِ أيضاً بالتكليف له بظاهر القضاء؛ بل كلَّفَتْه أن ينصف غيرَه من نفسه ولو كان القضاء قد حكم له؛ لأن الإسلام يهتم بتحقيق العدالة ولا يعترف بأي قانون يخالف مقاصده، فهو لا يبيح للمحكوم له أن يستحِلَّ مال غيره بحجة الحكم الصادر لصالحه، إذا لم يكن مطابقاً ذلك الحكم لواقع الأمر؛ ودليل هذا قوله –صلى الله عليه وآله وسلم-: »إنما أنا بَشَر، وإنكم لَتَخْتَصِمون إلَيَّ، وعسى أن يكون بعضُكم أَلْحَنَ بِحُجَّته من الآخر؛ فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيتُ له بشيءٍ فإنما أقطع له قطعة من النار؛ فلْيأخذها أو لِيتركها«( ).
    وهذا بخلاف التشريع الوضعي، الذي يهتم فقط بتطبيق القانون على أساس المساواة بين المجتمع؛ كيْفَما كان القانون، وكيْفَما كان الوضع، حَسَبَ سياسة النظام، دون إرادة حقيقة العدالة التي يحرص ويهتم التشريع الإسلامي بتحقيقها كما قال –صلى الله عليه وآله وسلم–: »من عمل عملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ«( ).
    والأمر: الشرع، وردُّه: إسقاطُه.
    والتشريع الإسلامي في قضائه يطلق اسم المكلَّف على كل مسلم وعلى غيره، إشارة إلى أن المواطَنة الإنسانية في الدولة إنما تقوم على شعور كل واحد بالمسئولية في إحقاق الحق، وتطبيق القانون الإلهي، وضمان حرية الإنسان وكرامته.
    فالمكلَّف في الدولة هو: المواطن، وسلوكه وشعوره هما: منهجه الأخلاقي، وواجباته هي: عمارةُ الأرض والخلافة عن الله في استصلاحها؛ ضماناً لمصالح العباد الدنيوية والأخروية، وعدم اختصاص البعض بها دون الآخر، والمكلَّفُ فعلُه هو: ما بوسعك فقط دون تكلُّف، ثم أنك تملك قراره، ويقع تحت دائرة اختصاصك، وأنت تنفذه بأمانة ونزاهة وعفة، وهذا السلوك الموجَّه لا ينال به الفرد فقط رضا الله فحسب؛ بل حينما ينظر إليه إخوانُه في الدين وزملاؤه في العمل تكون لهم به القدوة، وهو مثاب بهذا كلَّما أداه كاملاً محتسباً، وسلك بسببه معه غيرُه مسلكَه( ).
    قُدوةٌ مُتَعدِّية خيرَها يعادل ويسابق حُمُرَ النَّعَم كَرَماً وفضلاً، وإنه ليُقرر ميزان القضاء المتأرجح إلى أن تقام أو حتى تستقيم شوكة العدالة بارزةً فوق العدل المنشود قانوناً.
    وكما تقدم: أن القضاء الجاهلي كان يفتقد الإلزام بحماية السلوك الاجتماعية والأخلاقية في أحكامه العامة، لكن ثقافة بعض قضاته كانت تؤدي بهم إلى تحريم بعض السلوكيات على أنفسهم شخصياً، وهم خاصة في خاصية نادرة، وهم لا يملكون صفة الإلزام لغيرهم لعدم إنكار العرف والعادة لها، ولعدم وجود تشريع سـماوي متبع يعتقدونه دِيناً، ولعدم وجود سلطان له قوة التنفيذ، ولكون حكم القاضي بالاختيار، وولايته لا تتعدى صفة محكَّم، تلك مجملات هذا الموضوع.
    لذلك لا بد من تفصيل هذا الإجمال وصولاً إلى مدلول حماية السلوك في تشريع القضاء الإسلامي، من خلال جمع أطراف خصائصه الإجمالية الفنية القضائية.
    التفصيل والبيان، مع إفادة فارق المقارنة بين تشريع الله ورسوله وبين التشريعات الأخرى:
    قدَّمنا: أن القضاء الإسلامي يستند في أحكامه إلى أدلة الشرع الإلهي، ومِن ثَمَّ تَمَيَّزَ عن كل تشريع آخر بخصائص كثيرة، منها: ما يرجع إلى مقومات العقيدة، ومنها: ما يرجع إلى مقومات السلوك، ومنها: ما يرجع إلى مقومات حفظ الحقوق وصيانة الحريات، ومنها: ما يرجع إلى مقومات الأعراف والعادات، ومنها: ما يرجع إلى مقومات الزواجر والجزاءات، ومنها: ما يرجع إلى حكمة التطبيق كإرادةٍ وقصدٍ للتطهير والتنقية، وغسلِ أدران نتائج المخالفات.
    ونكتفي من هذا بما يجمع ويحقق الهدف والغاية في موضوعنا، وتَحْسُن به الوسيلة للوصول إلى الغرض، وحصرُ ذلك فيما يلي:
    أولاًَ: القضاء الإسلامي مصدره التشريع من الله ورسوله:
    فهو يُنسَب ويُضاف إلى كتاب الله –عزَّ وجلَّ–، وسنة محمد –صلى الله عليه وآله وسلم– نصاً وروحاً في إطار مقاصدها إجمالاً وتفصيلاً، وكان رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– المرجع الوحيد فترة حياته في القضاء وإصدار جميع الأحكام وتنفيذها، وإنه لينفذ الحكم على نفسه بالاقتصاص منها لِمن كان جلَد له ظَهراً أو شَتَم له عِرضاً( ).
    وبعد انتقاله إلى الله تعالى تولَّى صحابتُه –رضي الله عنهم– زِمام الأمور على منهاجه –صلى الله عليه وآله وسلم-، فسلكوا نهج القرآن والسنة اقتداءً، واتخذوها نبراساً وقاعدةً لاجتهادهم ينطلقون منها في أحكامهم وقضائهم، وألزموا أنفسهم بالاحتكام إلى روح الشريعة الإسلامية، ومدلول مقاصدها إذا لم تمدهم النصوص بأحكام الجزئيات؛ ولهذا كان للتشريع الإسلامي صفتُه الدينية التي صبغتْ أحكامَه في العبادات والمعاملات على حدٍّ سواء.
    وتلك الصِّبغة الدينية أكسبتْ أوضاعه المدنية هيبةً واحتراماً، وجعلتْ لها سلطاناً قوياً على النفوس، فإنه من المعلوم أن القوانين المستمدة من الدين لها مساس قوي بالوجدان وتأثير على النفوس، وتكتسب صفة التمكن في الضمير؛ لأن الشخص يمتثلها بدافعٍ من نفسه ووازعٍ من ضميره، ويفعلها رهبةً من ربه ورغبةً فيما عنده يوم الجزاء.
    ومما يؤكد ذلك تلك الوقائع العديدة التي تنادي بأن عنصر الدِّين أكسب التشريع الإسلامي هيبةً واحتراماً كما يدل على ذلك ما كان عليه المسلمون الأوائل من إيثار رضا الله على كل شيء، واعترافهم بالمعاصي التي تحدث منهم أمام القضاء، وهم بعيدون عن أعين الناس.
    ومن ذلك: أن ماعزاً، والغامدية جاء كلٌّ منهما على حدة إلى رسـول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– طائعاً مختاراً، واعترف كلٌّ منهما اعترافاً صريحاً بجريمة الزنا من كلٍّ منهما منفرداً، مع علم كلٍّ منهما أن العقوبة هي الرجم بالحجارة حتى الموت.
    وقد أقام –صلى الله عليه وآله وسلم– عليهما حدَّ الزنا الشرعي كلٌّ على حدة، بعد أن حاول أن يصرف كل واحدٍ منهما عن الاعتراف، وبعد أن ألَحَّا عليه بإقامة الحد عليهما رجـماً حتى الموت، ثم ما كان من الرسول الكريم بعد ذلك إلا أن قام بالناس فصلَّى على كلٍّ منهما بعد رجمه، حتى قال أحد الصحابة في شأن الغامدية: "كيف تصلِّى عليها يا رسول الله وهي زانية"؟ فقال –صلى الله عليه وآله وسلم-: »لقد تابَتْ توبةً لو قُسِّمت على سبعين من أهل المدينة لَوَسِعَتْهُـم«( ).
    ولم تكن هذه الميزة في القضاء الجاهلي، ولا في قضاء القوانين الوضعية؛ لأنها من حيث المصدر تعتمد في أكثر أحولها على الأعراف والعادات السائدة، ومستقاها مما هُدِيَ إليه أهل الثقافة والبصر والنظر في المجتمعات والأمم الذين لهم طول مِرَان وتجربة وممارسة لشئون الحياة، ومن الأوضاع المتوارثة؛ فلهذا انتفت عنها الصفة الدينية، وبالتالي: انتفاء الانقياد الطوعي لحكم القضاء؛ فكيَّفَ الاعتراف بالذنب وطلب التطهير منه طمعاً في رضا الله وعفوِه!
    كل هذه المميزات كان الموجه لها في الشخصية الإسلامية هو: الإيمان بالجزاء، وانتفاؤها عن غير المؤمن بعدم ذلك في القضاءين الجاهلي والوضعي.
    كما أن الإنسان إنما يفعل ما تطلبه القوانين الوضعية بقوة السلطان وقهر الحكام دون أن تتحرك في نفسه أو ضميره دوافع الطاعة، ولهذا نجد الإنسان يحاول الإفلات من العقوبة متى سنَحتْ له الفرصة، هذا فضلاً عن أن القضاء من الفقه الإسلامي مصدره المعصوم –صلى الله علية وآله وسلم–، بينما القضاء الآخر في الجاهلية أو في القانون الوضعي مصدره الإنسان المعرَّض للخطأ والتقصير والنسيان، ثم لتنازع الأهواء والأعراف والعادات والأوضاع السياسية المفروضة والقائمة حينها.
    ثانياً: القضاء الإسلامي مصدر أحكامه السلوك والأخلاق الدينية:
    القضاء الإسلامي ارتبط بالأخلاق والسلوك إلى درجة كبيرة، يظهر ذلك في تقرير مبدأ الضرورة التي بُنِيَتْ عليها أحكام التيسير على الناس ورفع الحرج والمشقة ونفي الضرر، وتغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة؛ لكن لا يعني ذلك مصادرة حرية الملكية الفردية، أو الاعتداء على حق الغير وسلبه ونهبه؛ كما كان العرب والأمم القديمة يجيزون الغزو والأسر والنهب، أو كما عُرِف في الدول الشيوعية والاشتراكية بنظام السيادة (التأميم) أي: مصادرة الملكية الخاصة، أو تقليصها وحصرها( ).
    فالإسلام حرَّم ذلك، وكلَّ أنواع التعدي على ملك الغير، وجَعَلَ لأخذ مال الغير أو للتصرف في ملك الآخر سبباً شرعياً يُبَرِّرُه، وإلا كان الأخذ أو التصرف باطلاً ومحرماً، وعلى هذا بَنى الفقهاء القاعدتين الآتيتين:
    القاعدة الأولى:
    (لا يجوز لأحدٍ أن يأخذ مال أحدٍ بغير سبب شرعي).
    القاعدة الثانية:
    (لا يجوز لأحدٍ أن يتصرف في ملك الغير بدون إذنه، أو بدون ولايةٍ عليه).
    لكن أيضاً حق المِلْك ليس حقاً مطلقاً؛ بل هو مقيَّد بمقاصد الشرعية التي بُني عليها، ومن ثَمَّ لا يجوز أن ينقلب الحق إلى نتيجة عكسية لهذه المقاصد، وأهم هذه القيود: مراعاة حق الغير، وعدم التعسف في استعمال الحق، والمصلحة العامة، والعدالة الاجتماعية، وبمقتضى هذه القيود ليس للمالك أن يتصرف في مِلْكه كيفما شاء إذا تعلق به حق الغير. فإذا كان لأحد حق المرور على أرض جاره؛ فإنه ليس للجار أن يبني في أرضه بناءً يمنع أو يعطل هذا الحق، وليس من التعسف فرض الضرائب لحاجات الدولة الضرورية؛ كما فعل عمر بن الخطاب –رضي الله
    عنه– عام الرمادة، كذلك شراء الأرض أو المِلْك جبراً لأجل المصلحة العامة؛ كمدرسة أو مستشفى أو طريق أو مشروع خِدمي عام أو … إلخ؛ فذلك يجوز بسعر الزمان والمكان أو بتعويضٍ عادل.
    كما أمر الشرع بعمل البِر والإحسان، ووضع مبدأ الأخوة الإنسانية والتضامن الاجتماعي، ومَنَع استعمال الحق إذا نتج عنه ضررٌ فاحشٌ على الغير، فلم يُجِز لصاحب الحق والمِلْك أن يبني جداراً يَسُدُّ به عن جاره النور أو الهواء.
    وفي هذا كله يتدخل القضاء بحكم اختصاصه عند النـزاع، وحُكْمُه حينئذٍ واجب التنفيذ شرعاً على من صَدَر ضدَّه( ).
    ونرى هنا تأكيد الشرع على حق الجار إلى درجة أنه قَرَنه في القرآن الكريم بعبادة الله أمراً، كما قرنه بالشرك نهياً؛ فقال تعالى: ?وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوْا بِهِ شَيْئَاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانَاً وَبِذِيْ الْقُرْبَى وَاليَتَامَى وَالْمَسَاكِيْنَ وَالْجَارِ ذِيْ الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيْلِ?( ).
    كما أَنزَلت السنةُ المطهرة –على صاحبها أفضل الصلاة والسلام– الجارَ منـزلة الوارث؛ فقال –صلى الله عليه وآله وسلم-: »ما زال جبريلُ يوصيني بالجار حتى ظننتُ أنه سيُوَرِّثُه«( )، وقال –عليه الصلاة والسلام–: »مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جارَه«( ).
    وقد أجمع فقهاءُ الإسلام على أنه ليس للشخص أن يستعمل حقَّه في مِلْكه على وجهٍ يترتب عليه ضررٌ فاحشٌ يُلْحِقُه بحق جاره؛ كحجب الضوء أو فتح نوافذ من شأنها إلحاق الضرر به أو إيذاؤه( ).
    وبناءً عليه: صدرت الأحكام الشرعية بحق الجار في الشفعة، وقضى –صلى الله عليه وآله وسلم– بها في الدين؛ فقال –عليه الصلاة والسلام–: »الجارُ أحق بشَفْعِه«، وقال: »الشريك شفيع، والشُّفعة في كل شيء«( ).
    هذا هو شأن الفقه الإسلامي في تثبيت الأخلاق وتطهير المجتمع ومنعه من سلوك الأنانيات والعداوات والبغضاء، فهو يحكم ويأمر بدفع الزكاة من قِبَل الأغنياء إلى الفقراء في قوله تعالى: ?خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيْهِمْ بِهَا?( )، ويحرم الربا لحماية النفوس وتصفيتها؛ كما قال تعالى: ?الَّذِيْنَ يَأْكُلُوْنَ الرِّبَا لا يَقُوْمُوْنَ إِلا كَمَا يَقُوْمُ الَّذِيْ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ …?( )، كما حرَّم القتل، والسرقة، والخمر، والميسِر، والزنا، والقذف، وأكل أموال الغير بغير حق، إلى غير ذلك؛ سُموَّاً بالمسلم عن المَشينات، وعُلوَّاً به إلى المَكْرُمات، ووسيلة ادخار للباقيات الصالحات.
    ولوجود عنصر الدين الموقظ للضمير في أحكام التشريع الإسلامي، وارتباطه بالقيم والأخلاق كان الامتثال والخضوع قائماً ذاتياً، رضاً واختياراً ورغبةً؛ حيث نرى المكلف يُقْبِل على فعل الواجبات والمأمورات الشرعية، وينتهي عن المنهيات؛ بوازعٍ من نفسه المعتقدةِ بأن الله لا يشرِّع من الأحكام إلا ما فيه لعباده مصلحتُهم؛ وهو المحيط بجميع أحوالهم، وإيمانِه بنيل الثواب على امتثاله ذاك..
    وما إقدامُ كلٍّ من ماعزٍ والغامدية، وإتيانُهما رسولَ الله –صلى الله عليه وآله وسلم– طائعَين مختارَين؛ لِيَعترفا بجريمَتَيهِما إلا إيثاراً لرضا ربهما على كل ما سواه، ودليلاً على علمهما الثقافي الواسع، وفهمِهِما الحصيف أن عذاب الدنيا أخف وأهون من عذاب الآخرة؛ لأنهما قد استفادا ذلك من دلالة سلوكهما الإسلامي.
    أما التشريعات الأخرى؛ العُرفية والقانونية فقد باعدتْ بين أحكامها وبين الأخلاق والسلوك السوية، ويتجلَّى ذلك في الأهداف والغايات من إيجادها وتشريعها؛ فذلك ليس سوى إرادة العدل (ظاهر الإنصاف) دون العدالة (موافقة الحق)، والمغبون والمغلوب على أمره في نظر المقنِّن الوضعي لا يستحق الحماية، وهو مغفل، والقانون لا يحمي المغفلين، كما لا يرى أيَّ جريمة، ولا يقرُّ أيَّ عقوبة خارج نصوص القانون، وإنه لَيُشرِّع الظلم ثم يحميه، وكمثال على هذا: إقرار القانون لمن يضع يده على عقار خمس عشرة سنة بِنِيَة التملُّك بملكيته لهذا العقار؛ حتى ولو كان غاصباً، كما يقضي بسقوط الحق بالتقادم، إذ يرى أن ذلك أدنى إلى قيام النظام في المجتمع، ولكونه لا يقصد إلا غايةً نفعيةً ظاهرةً محدودةً نراه يبعد عن قواعد الأخلاق، وهو يبيح الربا وشرب الخمر وإساءة استعمال الحق مهما أضرَّ هذا المستعمِل بنفسه أو بغيره وإن كانوا جيرانه، إلى غير ذلك من المخالفات الأخلاقية والسلوكية، ولعلَّ هذا يرجع إلى أن واضعي تلك التشريعات والقوانين لا يعرفون من مصالح الناس إلا ظواهرها، وقد تشتبه عليهم، وقد يدخل فيها عنصر الهوى، والحظوظ النفسية، وعنصر إشباع الرغبات، والتأثير الحزبي، والولاء
    الضيِّق، والمجاملات، والمداهنات، والخضوع لقوة السلطان وقهر الحكام، و… إلخ.









    الفصل الثاني:
    ثقافةُ الصحابة العِلمية وأثرُها في سلوكهم
    عَطَّلت وأوقفت محاكمَ تقاضيهم
    كان ذلك عند حد الوصول بالمجتمع إلى ضمان العدل التنفيذي الذاتي، دون حاجة إلى ممارسة العدل الإجرائي المتحقق بواسطة المحاكم، بعد أن حققوا مقومات التكافل والإنصاف من النفس.
    إن الصحابة –رضوان الله عليهم أجمعين– يمتازون بإطلاق مسمَّى: (الرعيل الأول)، و(السلف الصالح)، وصفة: (خير أمة أخرجت للناس) في قوله تعالى: ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُوْنَ بِالْمَعْرُوْفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُوْنَ بِاللهِ?( )، وانطباق ذلك عليهم واقعاً بصحبتهم رسولَ الله –صلى الله عليه وآله وسلم–، واقتباسِهم منه، واقتدائهم به؛ لهذا ألزَم –صلى الله عليه وآله وسلم– أمَّتَه بالسيْر على منهاجهم وتولِّيهم؛ مقارناً ذلك بوجوب اتِّباعه، والأمرِ باقتفاء سنته، في قوله –صلى الله عليه وآله وسلم–: »عليكم بسُنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين مِن بعدي، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومُحْدَثات الأمور، فإن كل مُحْدَثة بدعة«( ).
    لقد كان من مستلزمات ثقافتهم العلمية الأخذ بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي يتحقق به وجود المعارضة في نظام الحكم الإسلامي، وطبقوا هذا الأمر نُصحاً لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
    ولو عُدنا ننظر إلى مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومه الواسع الذي ورد في القرآن الكريم وسنة محمد –صلى الله عليه وآله وسلم– لوجدنا المبدأ السليم، الذي به تستقيم أمور الأمة والدولة والمجتمع والقادة والأفراد، وتنتصر فيه قُوى الحق على قوى الباطل، ونوازع الخير على مزالق الشر، وسلوك الاستقامة والفطرة على سلوك الاعوجاج والانحراف، ويرى فيه الحاكم أنه مراقب من كل فرد من أفراد الأمة، وكل فرد يرى أنه مراقب كذلك.
    وتلك الرؤى نابعة من إحساس الضمير الحي المتصل بالله عقيدةً وشريعةً ونظامَ حياة، وهو يحاسب نفسه على الزلة والهفوة والخطأ؛ فلا يُقْدِم على أي أمر إلا بعد أن يقَلِّب فيه أمره ووجوه النظر، حتى إذا رأى به رضا الله بعدم المخالفة ولازم الموافقة أقْدَم عليه، وإلا امتنع عن القيام به، واستغفر الله عن اللجْلَجَة بحديثه في الصدر، وكرِه اطِّلاع الناس عليه فيما لو ظهر، وإن وقع طلب التطهير.. وإن كان له أعلن تجاوزَه وعفوَه وصفحَه عمَّن هو عليه له من أجل الله وحده دون شيء سواه، وإن لزم الصَّدْع ورفع كلمة الحق قالها دون خوف ولا خجل ولا تَهَيُّب مهما كانت درجة من قِيْلَتْ له ووُجِّهتْ إليه.
    ولا نجد أُمَّةً ولا دولةً طبَّقتْ هذا المبدأ وسلكتْ هذا الخلُق غير مجتمع الصحابة –رضي الله عنهم–، إنهم سلكوا هذا الطريق وحملوا هذا المبدأ حتى هانت لديهم حظوظ أنفسهم، وعظمت عندهم العزة بالدين، والشرف بحمل الدعوة، والفخر بالانتصار للحق، وإقامة العدل، وتطبيق العدالة، ورسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– فيهم وهو يتمتع بصفات رئيس الدولة والقاضي المنفِّذ، والصحابة يناقشونه وهو يبادلهم ويشاورهم ويَقبل مشورتهم، ويخالفونه الرأي وينـزل عند رأيهم، وهو يقبل النقد ويتحمل المعارضة.
    والأمثلة الواصفة والمُثْبِتة لهذا النوع من المعارضة ومخالفة الرأي هي كثيرة.. وبما أنه ليس بالضرورة إدراك حصرها للقطع باستيعابها.. وإنما لإثبات المشروعية تحقيقاً للقدوة الحسنة في المتابعة الشرعية لكلٍّ من الرسول –صلى الله عليه وآله وسلم– مجيزاً، والخلفاء الراشدين بالخصوص شهوداً، والتابعين من وُلاةِ سلوكِ الاقتداء.. لمناسبةٍ أو سببٍ.. خارج ما لا يجوز فيه الخلاف من أدلة التشريع الإسلامي، وهو يثري المعارضة المنضبطة من خلال كل مثال، فإننا نكتفي بتوجيه النماذج الآتية للقدوة والأسوة الحسنة:
    النموذج الأول: سياسة تقبُّل المعارضة عند الرسول –صلى الله عليه وآله وسلم–:
    السيرة النبوية تروي لنا الكثير من الأحاديث في هذا الصدد( ):
    فمن ذلك: ما رواه الإمام/ مسلم في صحيحه، عن سلمان بن ربيعة قال: قال عمر ابن الخطاب –رضي الله عنه–: قسَّم النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– قِسْماً، فقلت: يا رسول الله، والله لَغيرُ هؤلاء أحق به منهم، فقال رسول الله: »إنهم خيَّروني بين أن يسألوني بالفُحْش، وبين أن يُبَخِّلُوني، ولستُ بباخِلٍ«( ).
    قال شيخ الإسلام/ ابن تيمية: "يقول: إنه يسألون مسألة لا تصلح؛ فإن أعطيتُهم، وإلا قالوا: هو بخيل، فقد خيروني بين أمْرَين مكروهَين، لا يتركوني من أحدهما: الفاحشة، والتبخيل، والتبخيل أشد، فأدفع الأشد بإعطائهم"( ).
    ومن ذلك: معارضة عمر –رضي الله عنه– أيضاً لصُلح الحديبية، وموقفه الموصوف بالشدة والقوة في مواجهة أصحاب الباطل.
    والقصة مطروقة ومتتبعة في كتب المغازي والسِّيَر وكتب السياسة الشرعية.
    ومن أحكام وبنود ذلك الصلح الذي دار بين النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– وسهيل بين عمرو؛ ممثل قريش: أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليِّه ردَّه عليهم، ومن جاء قريشاً مِمَّن مع محمد لم يردُّوه عليه، وذلك خلال عشر سنين، وحين عرَف عمر –رضي الله عنه– وثَبَ فأتى أبا بكرٍ؛ فقال: "أليس برسول الله"؟ قال: "بلى"، قال: "أوَلَسْنا بالمسلمين"؟ قال: "بلى"، قال: "أوَلَيْسُو بالمشركين"؟ قال: "بلى"، قال: "فعلامَ نعطي الدنيَّة في ديننا"؟ قال أبو بكر: "يا عمر، إلزم غرزَه، فإني أشهد أنه رسول الله"، قال عمر: "فإني أشهد أنه رسول الله".
    ولم يقتنِعْ عمر بجواب أبي بكر؛ فأتى رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– فقال: "يا رسول الله، ألستَ برسول الله"؟ قال: »بلى«، قال: "أوَلَسْنا بالمسلمين"؟ قال: »بلى«، قال: "أوَلَيْسُو بالمشركين"؟ قال: »بلى«، قال: "فعلامَ نعطي الدنيَّة في ديننا"؟ قال: »أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمرَه، ولن يضيِّعَني«( ).
    ففي الحادثتين معارضة واضحة من عمر –رضي الله عنه– للنبي –صلى الله عليه وآله وسلم– فيما فعل، فلم يردَّها –صلى الله عليه وآله وسلم–، وإنما وضَّح له سبب فعلِه وبيَّن وُجهة تصرفه ومبرِّر عمله في الحالتين ليُزيل الالتباس لدى عمر بن الخطاب والذي حمله على الاعتراض نصرةً للحق –حسب ما ظهر له–، ولما وضح الأمر له رضيَ وسلَّم، واستغفر ربه ورَجَا خيراً.
    ولا زلنا مع عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– وهو يعترض على أخذ الفداء من أسرى بدر، مُعَلِّلاً ذلك بأنه أول ظَفَر بالمشركين؛ فأوْلَى أن يُثْخَن فيهم القتل بالسيف حتى يتحدث العرب بقوة شوكة المسلمين، وعزتهم بالإسلام، … إلخ.
    ولَمَّا لَمْ يأخذ النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– برأيه وأخذ برأي أبي بكر نزل قول الله تعالى منكِّراً عليه أخذ الفداء، وجاعلاً رأيَ عمرٍ موافقاً له: ?مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُوْنَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيْدُوْنَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيْدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيْمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيْمٌ?( ).
    ولَمَّا كان يوم بدر رأى النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– أن ينـزل جيش المسلمين أعلى ماء بدر؛ أقربَه إلى المسلمين؛ فقال الحباب بن المنذر: "يا رسول الله، أمَنْـزِلٌ أنزلكَ الله إياه حتى لا نتقدمَه ولا نتأخرَه؟ أم هو رأيك الحربي وإرادة المكيدة؟ "فقال النبي –صلى الله عليه وآله وسلم–: »إنه الحرب والرأي والمكيدة«، فقال الحباب: "إن هذا ليس بمنـزل، وأن منـزلنا أدنى ماء بدر، أقربه إلى العدو، حتى نغور الماء؛ فنشرب ولا يشربون"، فوافق النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– على رأي الحباب( ).
    ومن هذه النماذج الواقعية ندرك مدى ثقافة الصحابة –رضوان الله عليهم– الفنية والعملية في كل متعلقات السلوك والشرع والحياة، وهم بها ينصفون من أنفسهم، ثم يُعِدُّون لازمَها بفهمهم نصحاً لا يخافون لائماً، ولا يخشون سطوة حاكم، ورسولُ الله فيهم يشجهم ويُوجههم ويزكيهم ويُعلمهم الكتاب والحكمة.
    وما انتقل –صلى الله عليه وآله وسلم– إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن ترك أصحابه أعلاماً يُقتَدى بهم قولاً وفعلاً، تحكيماً وتسليماً، ومصداق ذلك ما عرفناه من الأحداث التي وقعت بين الصحابة، وانتهى الخلاف فيها بمجرد التفاهم دون رجوعٍ إلى قضاء أو تحكيم، إنما بمجرد معرفة الحق وصاحبه، فمن ذلك ما وقع بين المهاجرين والأنصار في أمر من يتولى الخلافة بعد موت النبي –صلى الله عليه وآله وسلم–، وهو ما سنعرفه في نموذج الخلفاء الراشدين.
    النموذج الثاني: سياسة تقبُّل المعارضة عند الخلفاء الراشدين:
    كان الأنصار يريدون أن يوَلُّوا سعدَ بن عبادة أمرَ المسلمين، فعارضهم المهاجرون وحجُّوهم بالنص الشرعي، وهو قول النبي –صلى الله عليه وآله وسلم–: »الأئمة مِن قريش، ما حَكَمُوا فَعَدَلُوا، وما وعَدُوا فَوَفَّوا، وما اسْتُرْحِمُوا فَرَحِمُوا«( ).
    فما تجاوزه الأنصار حتى انضموا إلى المهاجرين وبايـعوا أبا بكر الصـديق –رضي الله عنه– مع بقية الصحابة خليفةً للمسلمين.
    ولَمَّا جمع أمرَه قام خطيباً في الناس، معلناً حاجته إلى النصح، وملزِماً نفسَه قبولَه بقوة الحق، وهو يقرُّ ويعترف بإمكان الخطأ منه وينفي العِصمة عن شخصه؛ إذ يقول: "إني وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن أسأتُ فقوِّموني"( ).
    وعندما حان وقت توزيع الأموال من بيـت مال المسلمـين قـام أبو بكر –رضي الله عنه- بتوزيعها على المسلمين بالتساوي، فعارضه عمر –رضي الله عنه– قائلاً: "أتسوِّي بين مَن هاجر الهجرتَين، وصلَّى القبلتَين، وبين مَن أسلم عام الفتح خوف السيف"؟ فقال أبو بكر: "إنما عملوا لله، وأجرهم على الله، وإنما الدنيا دار بلاغ، أَرْجِعْ جزاء وثواب ما عملوا في السابقة إلى ما هو أبقى وخيرٌ لهم"، فحمل لسان مقال عمر على حُسن مقال حال المعترض من أجلهم، حيث لم يطلُب أحد منهم ذلك لنفسه بمقاله.. فلَمَّا وُلِّي عمر فاضَلَ بين المسلمين في العطاء على قدر السابقة في الإسلام.
    وفي حروب الردة: عارض عمر أبا بكر في أمره بمقاتلة المرتدين، فقال أبو بكر رَدَّاً على قول عمر وحُجته حين قال: "كيف تقاتلهم وقد عَصَمَت الشهادتان دماءهم وأموالهم"؟ وذلك بقول الرسول –صلى الله عليه وآله وسلم–: »مَن شهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله فقد عُصِم دمُه ومالُه …«، أو كما قال –صلى الله عليه وآله وسلم–، فردَّ عليه أبو بكر بحُجةٍ ودليل أقوى: "والله لأُقاتِلَنَّ مَن فرَّق بين الصلاة والزكاة؛ لأن الله تعالى يقول: ?وَأَقِيْمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ?( )، فالصلاة حق البدن، والزكاة حق المال"، فقال عمر: "والله لقد فهِمَها أبو بكر"، وكأن عمر –رضي الله عنه– لم يفطن لجملة الاستثناء في الحديـث؛ وهي: قوله –صلى الله عليه وآله وسلم–: »… إلا بِحَقِّها«، حتى فطَّنه لمعناها أبو بكر بقوله: "إلا بحقها، والزكاة من حقها، والله لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– لحاربتهم عليه( ).
    ولَمَّا حضرت أبا بكر الوفاةُ عهِدَ بالخلافة إلى عمر، فاعترض طلحة والزبير قائلَين: "أتعهد إلى هذا الفَظِّ الغليظ؟ ولو ولِيَها لكان أفَظَّ وأغلظ، ماذا أنت قائل لربِّك"؟ فقال أبو بكر: "أبِرَبِّي تخوفونني؟ لأقولن له: لقد وَلَّيتُ على أهلك خير أهلك".
    ويوم أن تولَّى عمر –رضي الله عنه– اشتهر بالعدل والوَرَع، حتى أنه ذات يوم وهو يخطب الناس على منبر المسجد ويأمرهم بالتقوى والسمع والطاعة، قام أحد الصحابة –رضي الله عنهم– فقال: "لا سمع لك ولا طاعة يا عمر"، فقال عمر: "ولماذا"؟ فقال: "لأنك تلبس ثوبَين، وليس للمسلمين إلا ثوب واحد"، فقال عمر لابنه/ عبد الله أخبره لِمَن هذا الثوب الثاني"، فقال عبد الله: "إنه ثوبي، أعطيته لأبي؛ حيث أنه طويل لم يكفِه ثوبه، فزدته له حتى جَمَعَه إلى ثوبه"، فقال الناقد: "الآن يا عمر نسمع ونطيع".
    وتكلم عمر –رضي الله عنه– مرَّةً في مهور النساء وحدَّدها، فقامت امرأة من قريش فقالت: "ليس هذا لك يا عمر! أما سمعتَ ما أنزل الله: ?فَإِنْ آتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارَاً فَلا تَأْخُذُوْا مِنْهُ شَيْئَاً?( ) "؟ فقال: "اللهم غُفْراً، كل الناس أفقه منك يا عمر"، أو قال: "أصابت امرأة وأخطأ عمر"، وصعد المنبر، وأعلن رجوعه عن قوله ذاك( ).
    وقد وقفت الشريعة الإسلامية في النصوص والتاريخ من محاسبة النفس أو النقد الذاتي بواسطة السلوك والأخلاق وقفت موقفها من المعارضة لسلوك الآخرين، بل أكثر وأشد حرصاً، فإن كنا رأيناها وهي تُلزم الحكام والمخالفين بسلوك الفطرة وواجب عرض أعمالهم على أنفسهم كما أوجبت عليهم عرضها على الناس.. إذا كان النقد الذاتي اختيارياً في غير الشريعة الإسلامية؛ فإنه إلزامي ومحتوم في نصوصها ومقاصدها، لكن الملتزم مثاب ولو بمجرد النية، بل بتنفيذه ينال الأجر مضاعفاً أضعافاً كثيرة.
    وما أمرُ كلٍّ من ماعزٍ والغامدية إلا نتيجةٌ عملية للاعتراف بالحق وإرادة التخلص من تبعات الظلم، ومخالفة حُسن السلوك الذاتي والنفسي أو الشخصي حتى وإنْ كلَّف ذلك الاعتراف فقدان المال والجاه والحياة عاجلاً؛ لأن الإيمان بواجب الجزاء ثابت وحاصل بنص القرآن: ?فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرَّاً يَرَهُ?( )، والآيات كثيرة.
    وثابتٌ بالسنة: »افعلْ ما شئتَ فكما تَدينُ تُدان«، أو كما قال –صلى الله عليه وآله وسلم–( ).
    والأمر بالمحاسبة للنفس في القرآن الكريم كان هو الأصل في تثبيت سلوك الصحابة العقيدي والشرعي والأخلاقي على مستوى عامة مجتمعهم، حيث أنهم كانوا يفهمون خطاب الله في الآية العامة: أن تطبيقها على الخاصة من باب أولى، ففي قوله تعالى: ?إِنْ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ?( ) يرون أنه لا يمكن أن يغير المرء ما بنفسه إن لم يحاسبها، ويستعرض ما فعلَتْ، وما أتَتْ من خير، وما اجتَرَحَتْ من شر، فإذا وُفِّق إلى تغيير الشر بالخير، والباطلِ بالحق؛ غيَّر الله ما به.
    فالإشارة في هذه الآية تفيد أن الفقر مرتبط بالإسراف، والذل بالجبن، وضياع السلطان بالظلم، والثروة مرتبطة بحُسن التدبير –في الأغلب–، والمكانة عند الناس بالسعي في مصالحهم –على الأكثر–.
    وهم الذين فهموا أن هذا الخير وذلك الشر مرتبط بالإرادة الاختيارية في قوله تعالى: ?وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِيْن?( ).
    وعليه: كان التزامهم بتصحيحِ الفكر، وتسديدِ النظر، وتأديبِ الأهواء، وتحديدِ مطامح الشهوات؛ بل قصرِها، والدخولِ إلى كل أمرٍ مِن بابه، وطلبِ كل رغبة من أسبابها، وحفظِ الأمانة، واستشعارِ الأخوَّة، والتعاونِ على البر، والتناصحِ في الخير فعلاً، وعن الشر تركاً، وغير ذلك من سلوك ومستلزمات الفضيلةِ؛ أصولِها وفروعِها.
    وهم الذين وصل بهم العدل إلى أداء الشهادة حتى على أنفسهم؛ احتساباً لإقامة القسط وسيادة العدالة، وأملاً في الجزاء والثواب؛ بتطبيق قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا كُوْنُوا قَوَّامِيْنَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِيْنَ إِنْ يَكُنْ غَنِيَّاً أَوْ فَقِيْرَاً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُوْنَ خَبِيْرَاً?( ).
    ونأتي إلى السيرة والتاريخ والمغازي؛ لِنَعْرض جانب سلوك الصحابة –رضي الله عنهم– في محاسبة النفس على تصرفاتها القولية والفعلية، وفي كلامهم الذي كانوا يوجهونه إلى الناس.
    فهذا أبو بكر الصديق، يخطب في الناس قائلاً: "إياكم واتباع الهوى، فقد أفلح من حُفِظَ من اتباع الهوى، والطمع، والغضب".
    وقال في خطبة أخرى: "فاتقوا الله عباد الله، وراقبوه، واعتبروا بمَن مضى قبْلَكم، واعلموا أنه لا بد من لقاء ربكم، والجزاء بأعمالكم.. فأنفسَكم أنفسَكم"( ).
    ومِن أروع اعتمادات كُتُب المغازي والسِّيَر، وكتب التاريخ الإسلامي ما سجلَتْه من سيرة أبي بكر الصديق –رضي الله عنه– نوراً على درب المقتدين، ونبراساً لكل من يُمَكِّنُه الله ويُوَلِّيه أمراً من أمور المسلمين، فهي تروي في صفحاتها المشرقة خطبتَه العظيمة يوم قُضِي له الأمر بالخلافة، روايةً متواترة ومُتَّفَقٌ عليها بأنه: لَمَّا قُضِي الأمر ببيعة أبي بكر صَعَد المنبر فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "أيها الناس قد وُلِّيتُ عليكم ولستُ بخيركم، فإن أحسنتُ فأعينوني، وإن صدقتُ فقوِّموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذَ له حقَّه، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذَ الحق منه –إن شاء الله–، لا يدَع أحدٌ منكم الجهاد؛ فإنه لا يدَعُه قومٌ إلا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيتُ الله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم –يرحمكم الله-".
    وفي سيرة عمر –رضي الله عنه– الكثير من الحوادث التي كان يراقب بها نفسه، مِن ذلك: ما أخرجه ابن جرير في (تاريخه)، عن زيد بن أسلم عن أبيه، أن نفراً من المسلمين كلَّموا عبدَ الرحمن بن عوف؛ فقالوا: "كلِّمْ عمرَ بن الخطاب، فإنه قد أخشانا( )، حتى والله ما نستطيع أن نديم إليه أبصارنا".
    قال: فذكر ذلك عبدُ الرحمن بن عوف لعمر، فقال: "أوَقَدْ قالوا ذلك؟ فوالله لقد لِنْتُ لهم حتى تخوفتُ الله في ذلك، ولقد اشتددتُ عليهم حتى خشيتُ الله في ذلك، وأيمَ الله لأنا أشد منهم فَرَقاً منهم مني".
    وعن أنس قال: "دخلتُ حائطاً (بستاناً)، فسمعتُ عمر يقول، وبيني وبينه جدار: (عمر بن الخطاب أمير المؤمنين!! بَخٍ بَخٍ، والله لَتَتَّقِيَنَّ اللهَ يا ابن الخطاب، أو لَيُعَذِّبَنَّكَ اللهُ) ".
    وفي: (أُسْد الغابة): أنَّ رجلاً قال لعمر: "انطلق معي فاعْدُنِي على فلان، فإنه قد ظلَمَني"، فرفع عمر الدرة فخَفَق بها رأسه، فقال: "تَدَعُون أميرَ المؤمنين وهو مُعَرَّضٌ لكم؛ حتى إذا اشتغل في أمرٍ من أمور المسلمين أتَيْتُموه: أُعْدُنِي، أُعْدُنِي؟"، فانصرف الرجل وهو يَتذمَّر، فقال عمر: "عليَّ بالرجل"، فألقَى إليه المخفقة وقال: "امْتَثِل( ) "، فقال: "لا – والله –، لكنْ أَدَعَها لله ولك"، قال عمر: "ليس هكذا، إما أن تَدَعَها لله إرادةَ ما عندَه، أو تَدَعَها لي فأعلمُ ذلك"، فقال: "أَدَعُها لله".
    قال الأحنف: "فانصرف عمر، ثم جاء يمشي حتى دخل منـزله، ونحن معه، فصلَّى ركعتين وجلس، فقال يخاطب نفسه: (يا ابن الخطاب كنتَ وضيعاً فرفعك الله، وكنتَ ضالاً فهداك الله، وكنتَ ذليلاً فأعزَّك الله، ثم حَمَّلَك على رقاب الناس، فجاءك رجلٌ يَسْتَعْدِيْك فضربْتَه!! ما تقولُ لربك غداً إذا أتيتَه؟) ".
    قال: "فجعل يُعاتب نفسه في ذلك معاتبةً، حتى ظننا أنه خير أهل الأرض".
    ولو قرأتَ سيرة الراشدين كلَّها؛ لوجدتها جميعَها مبنيةً على: (التُّقَى).
    وذلك لا يعدو أن يكون محاسبةً للنفس، قبل الإقدام على العمل، وبعد الإقدام عليه.
    النموذج الثالث: سياسة تقبُّل المعارضة عند التابعين:
    نضربُ هذا النموذج من التاريخ الأموي، وهو: استقالة معاوية الثاني من الخلافة.
    جاء في كتاب: (الإمامة والسياسة) أنه: "لَمَّا مات يزيد بن معاوية استخلَفَ ابنَه/ معاوية بن يزيد، فلبث والياً شهرين وليالي محجوباً لا يُرى، ثم خرج بعد ذلك، فجَمَعَ الناسَ، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أيها الناس، إني نظرتُ بعدكم فيما صار إليَّ من أمركم، وقُلِّدتُه من ولايتكم، فوجدتُ ذلك لا يسعني فيما بيني وبين ربي أن أتقدم على قوم فيهم من هو خيرٌ مني، وأحقهم بذلك، وأقوى على ما قُلِّدتُه، فاختاروا مني إحدى خَصلتَين: إما أن أخرجَ منها، وأستخلف عليكم من أراه لكم رضاً ومُقنِعاً، ولكم الله عليَّ أن لا آلُوكُم نصحاً في الدين والدنيا، وإما أن تختاروا لأنفسكم وتخرجوني منها) ".
    قال: "فأنِفَ الناس من قوله، وأبَوا من ذلك، وخافت بنو أميَّة أن تزول الخلافة منهم، فقالوا: (ننظر في ذلك يا أمير المؤمنين، ونستخير الله، فأمهِلْنا)، قال معاوية: (لكم ذلك، وعجِّلوا عليَّ) ".
    قال: "فلمْ يلبثوا بعدها أياماً حتى طُعِنْ، فدخلوا عليه، فقالوا: (استخلف على الناس من تراه لهم رضاً)، فقال لهم عند الموت: (تريدون ذلك؟ لا والله، لا أتزَوَّدُها، ما سُعِدْتُ بحلاوتها، فكيف أشقى بمرارتها؟) "( ). انتهى.
    إنَّ مما قادهم إليه سلوكهم، ومحاسبتهم أنفسَهم: التحري لأبنائهم، وخوفهم عليهم مِن ولاية أمور المسلمين العامة أو العظيم منها، حتى أن عمر بن الخطـاب –رضي الله عنه– حَجَبَها عن أهله، وأبى أن يولِّيَها ولدَه/ عبد الله مع فضله وجدارته؛ بل قال حينما أُشيرَ إليه: "يكفي مِن آل عمرَ: عمرٌ"؛ لِعِلْمِه أنها مَغْرَمٌ وليستْ مَغْنَماً، وأنها في الدنيا ملامة، ويوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها.
    لذلك كله: كان فِهْمُهُم هو: خيرُ قائدٍ، وخيرُ مُوَجِّهٍ، وخيرُ آمرٍ وناهٍ، وأعدلُ حاكمٍ وقاضٍ بعد الله ورسوله؛ لهذا تعطَّلَتْ محاكم تقاضيهم وهُجِرَت، حتى لم يترافع إليها اثنان طيلة أيامِ سنةٍ بلَياليها، فيضطرُّ القاضي إلى تقديـم استقالته لأمير المؤمنين (خليفة المسلمين).

    وهذا حسبما يرويه لنا كتاب: (أخبار القضاة) نقلاً عن: (تاريخ الطبري)، وهنا أُجْمِلُه موضوعاً متوفقاً مع أصله بتصرف( ):
    قال مؤلفه: "أخبرنا محمد بن أحمد بن الجنيد، قال: حدثنا أبو أحمد الزهري، عن مِسعَر، عن محارب بن دثار، قال: (لَمَّا استُخْلِفَ أبو بكر استَعْمَل عمرَ على القضاء، وأبا عبيدة على بيت المال، فمكث عمر سنةً لا يتقدم إليه أحد)، وفي رواية: (لا يأتيه رجلان)، وفي رواية: (أنه جاء إلى أبي بكر، فقال: ((اعفِني من هذا الأمر الذي لم يَعُدْ للمسلمين به حاجة))، فقال أبو بكر: ((يا عمر لا تقل ذلك، وقل: الحمد لله الذي جعل العدل سلوكَهم، والإنصافَ طريقَهم، وهَداهم سبيلَ الرشاد، ولا نفاد للازم حق دون القضاء)) ) ".
    تلك هي مقومات عهد الراشدين، وهذه هي نتيجتُها، ولذلك فليعمل العاملون، وألحَقَنا الله بهم سالمين مستبشرين. آمين.



    الفصل الثالث:
    سِرُّ عدلِ القضاء حُسْنُ سلوكِ وُلاتِه
    نرى أن أولى ما نتوصل به إلى بيان وتوضيح مفهوم ومعلوم هذا السر الذي رفع الله به أقواماً بعد أن هداهم، وألزم آخرين القدوة بهم، كما قال تعالى: ?أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ?( )، نلْحَظ ذلك من دلالة مفهوم الأمر بالقسط والعدل في القرآن الكريم.
    كذلك معرفةُ أبعادِ نتيجةِ هذا السرِّ، وهدفِه، وغايتِه هو: ذلك البُعدُ الذي توصل إليه الحائزون قَصَبَ السبْق عند ربهم، من قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا كُوْنُوا قَوَّامِيْنَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلْتَقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيْرٌ بِمَا تَعْمَلُوْنَ?( )، ففهِمُوا منها نوعَي العدل: العملي، والنظري.
    ففي هذه الآية نلمَس أهم مكونات السلوك الأصلية التي تقوم عليها العدالة في الأحكام القضائية، والتي سبق تطبيقها في مجتمعات خَلَتْ كانوا اتخذوا وُلاتَهم وحكامهم خيارَهم، وقد استحقوا وصف الله لهم بالإيمان، وهم يحققون العدالة بسلوك الاستقامة، وبانتهاج التقوى، وبإبعاد النفس عن حظوظها، وبقصر طمعها في مقاضات أغراضها، وبالحرص على نيل الرضا والقرب من الله، ورجاء الجزاء والثواب وخوف مسلتزمات العقاب، وباستدامة تجديد العلاقة بالله في السر والعلن مُراقَبةً ومَعِيَّةً داخل الدائرة العملية الإلزامية فعلاً.
    لذلك أصبح العدل فيهم خُلقاً وسلوكاً وقاعدة أصلية من قواعد التشريع الإسلامي والدين الحنيف، لا في نظام الحكم والقضاء فقط، وإنما في علاقة الفرد مع نفسه، وفي علاقته مع الناس، وفي علاقته مع الحاكمين والمحكومين على السواء.
    هذه المعاني وغيرها من مدلولات الآية الكريمة المفتتحة بالنداء والدعوة للمؤمنين بإقامة القسط، والقسط هنا: مرادفٌ للعدل، كما قال تعالى: ?إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ?( ).
    وقد جاء فيها الخطاب عاماً للناس جميعاً، بصفة الأمر غير المحتَمِل لشيء آخر، من ندب أو استحسان أو … إلخ.
    وهي تدل على أن النفس الإنسانية قد تميل مع الهوى، وقد يكون الحُب والبُغض من عوامل إيثار الباطل على الحق، والظلم على العدل.
    وجاء في التفسير أن: "الآية تعني: أن مقتضى الإيمان الاستقامة فكونوا مبالغين فيها، باذلين جهدَكم فيها لله، وهي إنما تتمُّ بالنظر في حقوق الله وحقوق خلقه، فكونوا ?شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ?، أي: العدل، لا تتركوه لمحبة أحدٍ ولا لعداوة أحد، ?وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ?، أي: لا يَحْمِلَنَّكُم، ?شَنَآنُ?، أي: شدةُ عداوة قوم، ?عَلَى أَلا تَعْدِلُوا?: في حقهم".
    وفيه أيضاً: "أي: فإننا لا نأمركم به من حيث ما فيه من تَوفِيَة حقوق الأعداء، بل من حيث ما فيه من تَوفِيَة حقوقكم في الاستقامة"( ).
    وقال الزمخشري: "وفي هذا تنبيهٌ عظيم على أن العدل إذا كان واجباً مع الكفار الذين هم أعداء الله، إذا كان بهذه الصفة من القوة، فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه وأحباؤه؟".
    والرسول –صلى الله عليه وآله وسلم– أزكى المؤمنين، وأبرُّهم، وأخصُّهم بالأمر، وأولاهُم بتطبيق لازم شمول مفهومه؛ لأنه –صلى الله عليه وآله وسلم– معلم الناس وقدوتهم في جميع ما يترتب عليهم في سلوكهم؛ بدليل قوله تعالى: ?وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ?( ).
    والدعوة إلى سلوك العدل والأمر به لا يعني فقط العدل في إصدار الأحكام القضائية، ولكنه أيضاً يعني سلوك العدل في القول؛ بدليل قوله تعالى: ?وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى?( ).
    والأمر بعدلِ القولِ: عامٌّ لكل مكلف، ولزومه على القضاة أولى، نظراً لواقع الحكم القضائي ومجرياته، حيث أن النطق القولي واقع بلفظ القاضي قبل كتابته للحكم فعلاً وبعده لدى النطق به لإعلانه.
    ومن هنا نخلص إلى: وضوح حقيقة عموم القول، وخصوص الفعل في الأمر بالعـدل على الصفتين، وهذا يرُدُّ قولَ مَن يرى بأن القاضي لا يلزَمُه سوى العدل الفعلي، وأنه لو أطلق القول بالعدل لَلَزِمَه ترك فعله، وهذا بعيد.
    وأيضاً: فإن العدل الفعلي لا يلزم غير القاضي فيما وُلِّي فيه خاصة، ولا نَفاذَ لعدلٍ فَعَلَه غير قاضٍ، ولا فيما لم يُوَلَّ فيه، ولا صاحب ولاية عامة، ولا من له حق الفُتْيا العامة؛ لعدم الاختصاص، وعدم ملكية القرار.
    وهذا أيضاً: يرُدُّ قولَ مَن يرى عموم الفعل وخصوص القول في الأمر بالعدل على الصِّفَتَين، حيث يرى أن كِلا الصفتين في الأمر بالعدل تطبيقها من لوازم أي موظف خاص أو عام، عدا القاضي؛ فإن اختصاصه الفعل، ويمتنع عليه القول –كما سبق–، إلا إِنْ أراد ألا يُعْلِمَ القاضي أحدُ الخصوم بأن الحكم له، وهذا يختلف.
    وبالمقابل: فإن القول بعموم الفعل غير مقبول أيضاً، إلا إِنْ قُصِدَ مفهوم العدل العام، وهذا له منحىً خاصٌ يدخل ضمن الأعراف والعادات والتقاليد، ويمثل ذلك: الالتزام بالأوامر العسكرية لأعضاء السلك العسكري، والأوامر المدرسية والزِّي المدرسي للطلبة، وذلك طواعيةً في الحد الأدنى.. تطبيقاً للنظام العام..
    أو ما يمثله الظَلَمَة والمتسلطون بواسطة القهر والقسر الجبري بتطبيق أفعال وتنفيذ أحكام ضد المستضعفين والمغلوبين على أمرهم.
    أو ما يقصد من تنفيذ الأمر للأزواج مع زوجاتهم فيما لو جمع الزوج أكثر من واحدة، فالأمر بالعدل هنا للزوج مباشرة من الله تعالى: ?فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ?( )، وفيها ورد جواز عدم العدل، الملزِم حاصله السلبي: عدم جواز التعدُّد، وقد أكده بنفي الاستطاعة في قوله تعالى: ?وَلَنْ تَسْتَطِيْعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ?( ).
    ويلزم من هذا تقدير ادعاء العدل القولي من الزوج في مقابل دعوى الزوجة ومطالبتها به..
    وهذا يعني: انتفاء العدل الفعلي مع وجود الخوف؛ بنص الآية: ?فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةٌ?( )، ومظنة الظلم قائمة في التعدد، وذلك مفسدة، والتعدد شُرِع لمصلحة، وهي الحاجة أو غيرها، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والمفسدة تعني الضرر الذي لا يقرُّه الإسلام؛ بدليل قوله –صلى الله عليه وآله وسلم- »لا ضَرر ولا ضِرار«، فإذا وُجدت الاستطاعة، ورُفِع الحَيْف، وأُمِنَ من الخوف؛ فالأصل الإباحة( ).
    أو ما يُقصد من عموم الأمر بالعدل في الصلح قولاً وفعلاً بقوله تعالى: ?وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا …?( ).
    ومن اختصاص القاضي عَرْض الصلح على المتخاصمين قَبل إجراء المحاكمة، وليس مطلقاً.
    ومن هذا الباب الأمر بالصلح بين الزوجين بقوله سبحانه: ?فَابْعَثُوا حَكَمَاً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمَاً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيْدَا إِصْلاحَاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا?( )، وحُكْم الصُّلح ليس ملزِماً لأحد، لكن قبولُه متحقَّقٌ بإرادة المصلِحِين؛ بدليل قوله تعالى: ?إِنْ يُرِيْدَا إِصْلاحَاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا?، فعدم تحقق إرادة الإصلاح معناه: تخلُّف نتيجته التوفيقية الحتمية، والأصل: لازم التزام الإخلاص حتى يتحقق مفهوم الإصلاح في كل خلاف، إلا أن غالبية الناس يفضلون إثارة الخلاف وإطالة أمَدِه بحجة الضرورة السارحة والمصلحة القاصرة..!! ولقد صدَق قول الله تعالى فيهم: ?لا خَيْرَ فِي كَثِيْرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ?( ).
    فتخلُّف الخيرية هنا جاء تحقيقه من عدم إرادة الإصلاح بين الإخوان بالعدل والقسط، وبإرادة القَصد السيئ، وبالركام الجاهلي في نفوس المأمورين بالإصلاح، وهم يبغون تطبيق أحكام الجاهلية المحفوفة بالعصبية مصداقاً لتوبيخ الله تعالى لهم في قوله: ?أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُوْنَ?( )، يقصد: بغاة المتابعة لجاهلية الحِلْم والثقافة الشرعية، والجاهلية القائمة تتمثل في: مراعاة المصلحة الأنانية للشخصية والذات، أو للحزبية، أو للسلالية، أو للمذهبية.. إلخ.
    والمعوَّل عليه: مراعاة تقدير المصلحة الشرعية في البُعد الثقافي القضائي، كما لو قَدَّر القاضي مصلحة الزوجين في العودة إلى حظيرة الزوجية بعد الفراق بوقوع الطلاق الرجعي.. فإنه يُقَدِّر (القُرْءَ) بالدم؛ لِتَصِحَّ المراجعة ما بقي جزءٌ يسير من ساعات أيام الحيضة الثالثة ما لم تُقَدَّر مُضَارَّات الزوج للمطلقة بالإرجاع.. فيُقَدِّر (القُرْءَ) بالطهر؛ لتتخلص من ظلم الزوج، فتخرج من العدة الشرعية.. بدخولها في الحيضة الثالثة.
    العدلُ والظلمُ ضِدَّان:
    وكما أمر الله تعالى بالعدل، فإنه نهى عن الظلم نهياً شديداً، وتوعَّد الظالمين بالعذاب الغليظ في آيات كثيرة من القرآن الكريم، منها: قوله تعالى: ?لا يَنَالُ عَهْدِيْ الظَّالِمِيْنَ?( ).
    ومنها: ?وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِيْنَ?( ).
    ومنها: ?إِنَّ الظَّالِمِيْنَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيْمٌ?( ).
    ومنها: ?مَا لِلظَّالِمِيْنَ مِنْ حَمِيْمٍ وَلا شَفِيْعٍ يُطَاعُ?( ).
    ومنها: ?وَمَا للظَّالِمِيْنَ مِنْ أَنْصَارٍ?( ).
    أما الأدلة من السنة القولية والفعلية فكثيرةٌ جداً، وهي تمقُت الظلم وتنهى عنه:
    فمن الأحاديث القدسية: »يا عبادي، إني حرمتُ الظلم على نفسي، وجعلتُه بينكم محرماً، فلا تَظالَمَوا«( ).
    ومن حديث النبي –صلى الله عليه وآله وسلم–: قوله: »اتقوا الظلم، فإن الظلم ظُلُماتٌ يومَ القيامة«( ).
    وقوله –عليه الصلاة والسلام–: »اتقوا دعاءَ المظلوم، فإنه ليس بينه وبين
    الله حِجاب«( ).
    وقوله –صلى الله عليه وآله وسلم–: »من اغتصبَ شِبراً من الأرض طُوِّقَه مِن سبع أرضِيْن يوم القيامة«( ).
    وقوله –صلى الله عليه وآله وسلم–: »… إن المُفلِس من أمتي: من يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي وقد شَتَم هذا، وقَذَف هذا، وأَكَل مال هذا، وسَفَك دمَ هذا، وضَرَب هذا؛ فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يُقْضَى ما عليه أُخِذَ من خطاياهُم فطُرِحَتْ عليه، ثم طُرِح في النار«( ).
    ومن الأمثلة الواقعية لردِّ الظلم ومنْعِ الجَور:
    ما رُوي عن النعمان بن بشير أنه قال: "نَحَلَني أبي نَحْلاً، فقالت أمي: (لا أرضى حتى تُشْهِدَ رسولَ الله –صلى الله عليه وآله وسلم–)، فجاءه ليُشْهِدَه على صَدَقَتي، فقال: »أَكُلَّ وَلَدِكَ نَحَلْتَ مِثْلَه«؟ قال: (لا)، فقال: »اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم«، وقال: »إني لا أَشْهَدُ على جَور«". قال: "فرجع أبي فرَدَّ تلك الصَدَقَة"( ).
    وإن رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– قد بشَّر بالعدل، ودعا إليه، وطبقَّه طوال حياته، وانتشر مفهوم العدل بين الناس، وأصبحوا لا يرون حرجاً في المطالبة به، خطئاً أو صواباً، حتى تجرأ ذو الخويصرة يوم حنين فوقف على رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– وهو يعطي الناس، فقال: "يا محمد! قد رأيتُ ما صنعتَ في هذا اليوم"، فقال الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم –: »أجَل، فكيف رأيتَ«؟ فقال: "لم أرَك عدلتَ"، فغضب رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم–، ثم قال: »ويْحَك! إذا لم يكن العدل عندي؛ فعند مَن يكون؟!«( ).
    وهذا ما كان به تأصيل حق ممارسة النصح، وقد كان تقريره: بإيجاد التعَوُّد عليه في عهد النبي –صلى الله عليه وآله وسلم-، وتشَرُّب الناس له، واعتباره أمراً لا حرج في التذكير به، أو حتى في المطالبة به، بغض النظر عن كونه بحق أو بباطل، كما حصل من جرأة ذي الخويصرة على رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم–.
    وقد وقع من الأنصار لرسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– عَتَبٌ جميل يومَ قسَّم فيء حنين على الناس دونَهم، إذ دخل سعد بن عبادة على رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم–، فقال: "إن هذا الحي من الأنصار قد وجد عليك في الفيء الذي أصبتَ؛ قسَمْتَ في قومك، وأعطيتَ عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكُ في هذا الحي من الأنصار منها شيء".. فجَمَع –صلى الله عليه وآله وسلم– الأنصار، ثم وضَّح لهم أنه إنما تألف به قوماً ليسلموا، وترك الأنصار ثقةً بهم ووُكلاناً لهم إلى إسلامهم.. ثم بشَّرهم برجوعه معهم، واختياره لهم دون الناس جميعاً، حتى رضُوا( ).
    والذي نقصد إليه من إثبات هذه النصوص والأدلة والأحداث هو: وصف حالة تربية الرسول –صلى الله عليه وآله وسلم– أمَّته: صحابَتُه والناسَ حوله على سلوك العدالة والانتصار للعدل، دون تحرُّج من المطالبة به، والنصح بتطبيقه، والعمل على إقامته في مجتمعهم، وهو فيهم، ليسلك المسلمون طريقهم في مفاعلة تجريد سلوك العدالة العملية من كل غَبَش مُتَحَكِّم.. أو طغيان حاكم.. بواسطة التمسيك بالنصح، وحب الناصحين إلى حد مواجهة سلطان جائر.. حافِّين بنصحهم بقاء تحقيق عدالة هذا الدين إلى يوم الدين.
    الإسلام لا يقرُّ الإكراه على التزام السلوك:
    وفي سيرة الخلفاء الراشدين الكثير من النماذج الحية والعملية لسلوك العدل المتبع قولاً وعملاً.
    فهذا أبو بكر الصديق –رضي الله عنه– يقول في أول خطبة له: "الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه –إن شاء الله–"( ).
    وكذلك عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– يقول: "… فأيما رجل كانت له حاجة، أو ظُلِم مظلمة، أو عَتَبَ علينا في خُلُق؛ فليؤذِنِي، فإنما أنا رجل منكم".
    ومن قوله –رضي الله عنه–: "وإني لأرجو إن عُمِّرتُ فيكم يسيراً أو كثيراً أن أعمل بالحق فيكم –إن شاء الله–، لا يبقى أحد من المسلمين –وإن كان في بيته– إلا أتاه حقه ونصيبه من مال الله، ولا يُعْمِلُ إليه نفسَه، ولم يَنْصَبْ إليه يوماً".
    ومن أعماله: ما ذكره ابن الجوزي: أن عمر قسَّم مُرُوْطاً( ) بين نساء أهل المدينة، فبقي منها مَرْطٌ جيد، فقال له بعض مَن عنده: "اعطِ هذا بنتَ رسول الله التي عندك"–يريدون: أمَّ كلثوم بنت علي–، فقال: "أمُّ سليط أحق به، فإنها ممن بايع رسول الله، وكانت تَرْفُو لنا القِرَبَ يوم أحد"( ).
    وهكذا.. نرى أن الذين أقاموا العدل قامتْ لهم الدنيا، وصلُحَتْ أحوالُهم، وأَمِن خوفُهم، وسادتْ دولتُهم، وطال بقاؤهم.
    قال شيخ الإسلام/ ابن تيمية –رحمه الله–: "إن الناس لم يتنازعوا في أنَّ عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة"، ولهذا يروي لنا: "الله ينصر الدولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مؤمنة"( ).
    وقال: "العدل نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بعدلٍ قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يُجزى به في الآخرة"( ).
    ومن هنا يتبين أن روحَ العدالة وسرَّها ما وُجِد إلا بملازمة جوهر السلوك الأخلاقي، والإصلاح النفسي، اللذان هما الدعامة الأولى التي لها أكبر الأثر في تغليب نوازع الخير في هذه الحياة.
    فإذا لم تَصْلُح السلوك الأخلاقية فإن الآفاقَ تُظْلِمُ، والأحوالَ تَسِيْءُ، والفتنَ تَسُودُ في حاضر الناس ومستقبلهم.
    وإنَّما الأممُ الأخلاقُ ما بقِيَتْ
    فإن هُمُ ذَهَبَتْ أخلاقُهم ذهبوا

    فمن انضبطَتْ عليه هذه الأوصاف طواعيةً ذاتيةً: استطاع أن يكمِّل نقصَ القانون البشري الذي يُحكَم به، ويردعَ عاتياتِ الأفكارِ العابثة، ورغباتِ المصالح الشخصية الدنيَّة، ويمنعَ جَور العَسْفِ، ومَيْلِ الهوى، وجَشَعِ المادية، ولَهَثِ المطامع، وسُعْرِ النفس الأمارة بالسوء، ويقمعَ داءَ الكِبْر وغطرسةِ المظهر، ويَسُدَّ سبيلَ الغَيِّ، ويَصْقُل رانَ الغفلة.
    أمَّا من تأرجَحَ وتلوَّنَ، وعلَّلَ وأوَّلَ: صُرِفَ قلبُه، ومُسِخَ فَهْمُه، وغُصَّ عيشُه، وهانتْ نفسُه، وساءَ ذِكْرُه، وأحاطتْ به خطيئتُه، كما قال تعالى: ?سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِيْنَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وِإِنْ يَرَوا سَبِيْلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوْهُ سَبِيْلاً وَإِنْ يَرَوا سَبِيْلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوْهُ سَبِيْلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِيْنَ?( ).
    وفيما يلي نرى لزومَ وضرورةَ دفعِ إيهامِ الإكراه على التزام سلوك الفضيلة والأخلاق الإسلامية، وظَنِّ الجبْرِ والقَسْر على الإيمان، ودعوى سلْب الحريات الخاصة للإنسان وذلك بتشريع العقوبات على المخالفات السلوكية وتطبيق الجزاءات على مرتكبيها.
    ندفع هذا الإيهام من مُضَمَّنات خُلُق المسلم المثبتة لمستلزمات الحدود على الجرائم السلوكية والأخلاقية، حيث حققَتْ أسباب إيقاعها بالمخالف أو إعفائه.
    والمضمَّن: أن الإكراه على الفضيلة لا يصنع الإنسان الفاضل، كما أن الإكراه على الإيمان لا يصنع الإنسان المؤمن، فالحرية النفسية والعقلية أساس المسئولية( ).
    والإسلام يقدِّرُ هذه الحقيقة ويحترمُها وهو يبني صرح الأخلاق، ولماذا يلجأ إلى القَسْر في تعريف الإنسان معنى الخير، أو توجيه سلوكه، وهو يُحسن الظنَّ بالفطرة الإنسانية، ويرى أن إزاحة العوائق من أمامها كافٍ لإيجاد جيل فاضل؟
    إن فطرة الإنسان خَيِّرَة، وليس معنى هذا أنه ملاك لا يُحسِن إلا الخير، بل معنى هذا أن الخير يَتَواءمُ مع طبيعته الأصلية، وأنه يُؤْثِر اعتناقَه والعملَ به، كما يُؤْثِر الطير التحليق إذا تخلص من قيوده وأثقاله.
    فالعمل الصحيح –في نظر الإسلام– هو: تحطيم القيود، وإزالة الأثقال أولاً، فإذا جَثَم الإنسان على الأرض بعدئذٍ ولم يستطع سُمُوَّاً، نُظِرَ إليه على أنه مريض، ثم يُسِّرَتْ له الأسباب إلى الشفاء.
    ولن يُصدِر الإسلامُ حكماً بعزل هذا الإنسان عن المجتمع إلا يوم يكون بقاؤه فيه مَثار شرٍّ على الآخرين.
    في حدود هذه الدائرة يحارِب الإسلام الجرائم الخُلُقية، فهو يفترض ابتداءً أن الإنسان يحب أن يعيش من طريق شريف، وأن يحيا على ثمرات كفاحه وجهده الخاص؛ أي: أنه لا يبني كيانه –مثلاً– على السرقة، أو على الرشوة، ما الذي يحمله على السرقة؟ احتياجُه إلى ما يُقِيْمُ به أَوْدَهُ؟! فليتوفَّر له من الضروريات والمرفهات ما يغنيه عن ذلك.
    وتلك فريضة على المجتمع إن قصر فيها فألجأ فرداً إلى السرقة، فالجريمة هنا يقع وِزرُها على المجتمع المفرِّط، لا على الفرد المضيِّع، أو عليهما بنسبة التفريط.
    فإن كُفِلَتْ للفرد ضرورياتُه، ثم مدَّ بعد ذلك يدَه، مُحِّصَتْ حالتُه جيداً قبل إيقاع العقوبة عليه، فلعلَّ هناك شُبهةٌ تثبتُ أن فيه عِرقاً ينبض بالخير، والإبطاءُ في العقاب مطلوبٌ دَيْناً، إلى حدِّ أن يقول الرسول –صلى الله عليه وآله وسلم–: »إن الإمام لأَن يخطئَ في العفو خيرٌ من أن يخطئَ في العقاب«، أو كما قال –صلى الله عليه وآله وسلم–( )، فإذا تبين من تتبُّع أحوال الشخص أن فطرتَه الْتَاثَتْ، وأنه أصبح مصدر عدوان على البيئة التي كفلته وآوته، وأنه قابَلَ عطفَها وعنايَتَها بتعكير صفوها، وإقلاق أمنها، فلا ملام على هذه البيئة إذا ما حَدَثَ من عدوان أحد أفرادها، فكسَّرت السلاح الذي يؤذي به غيره.
    وقد وصفَ القرآنُ اللصوصيةَ التي تستحق قطع اليد بأنها: لصوصية الظلم والإفساد، وقال في هذا السارق التائب من بعد ظلمه: ?فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوْبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ?( ).
    فالحد الذي شرعه الإسلام هو: وقايةٌ للجماعة المصلِحة العادلة من ضراوة عضوٍ فيها يقابل عدالتها بالظلم، ويقابل إصلاحها بالفساد.
    ذلك مثلٌ نسوقه لنبين به أن الحدود على الجرائم الخُلُقية لم تشرَّع إكراهاً على الفضيلة، وإلجاءً للناس –بطريق القسوة– إلى اتخاذ المسالك الحسنة.
    فالطريقة المُثلَى لدى مرشد التوجيه بمفهوم الإسلام: يكون بالتزامِ خطاب القلبِ الإنساني، واستثارةِ أشواقِه الكامنةِ إلى السمُوِّ والكمالِ ورجوعِه إلى بارئه الأعلى، بأسلوبٍ سائغٍ من الإقناع والمحبة، وتعليقِه بالفضائل الجليلة على أنها الثمرة الطيبة لهذا كله.
    ويجب التحكم في ظروف البيئة التي تكتنف الإنسان حتى تعين على إنضاج المواهب والسجايا الحسنة.
    ولا حرج من خلع الطفيليات التي لا فائدة منها، فنحن في حقول الزراعة نوفِّر النماء للمحاصيل الرئيسة باقتلاع كثيرٍ من الحشائش والأعشاب!!
    وليست المحافظة على مصلحة الإنسانية العامة بأقل من ذلك خطراً، فلا وجه لاستنكار الحدود التي أقرها الإسلام، وسَبَقَتْ بها التوراة، واعتُبِرَتْ بها شريعةَ الأديان السماوية عامة.
    والإسلام يحمِّل البيئة قسطاً كبيراً من تَبِعَة التوجيه المزري بالخير، والمنظِّر بالفساد أو الشر، والقائم بإشاعة الرذائل، ومحقرات الشمائل أو الفضائل.
    واتجاهُه إلى تولِّي مقاليد الحكم يعودُ –فيما يعود إليه من أسباب– إلى الرغبة في تشكيل المجتمع على نحوٍ يُعِيْن على العفاف والاستقامة.
    وقد رَوى النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– قصة القاتل الذي يبتغي التوبة من جرائمه العدوانية، التي أزهق بها مائة نفس، وأنه سأل أعلم أهل الأرض عن إمكان توبته، فأجابه بنعم، وأن ذلك ممكن، إلا أنه وجَّهَه إلى الخروج من تلك القرية التي يسكنها، لأن أهلها قوم سوء، إلى قرية أخرى فيها قوم صالحون؛ ليعبد الله معهم، ويتوب إليه ويستغفره، وألا يعود إلى القرية الظالم أهلها حتى يتوفاه الله، ففعل، ولكنه مات وهو في طريقه إلى قرية التوبة، فعلم الله صدق نيته فتاب عليه. ولرواية القصة طرقٌ أخرى.
    من هنا يرى الإسلام أن ملاحظة البيئة وتقدير آثارها في تكوين الخُلُق عامل ينضَمُّ إلى ما سبق تقريره من حراسة الفطرة السليمة، وتهذيب الأهواء الطائشة، ونظن أن في العناية بهذه النواحي جميعاً ضماناً لإيجاد مجتمع نقي يزخَر بأزكي الصفات وأعف السِّيَر.
    وقُلْ في حُكم المخالفات السلوكية الأخرى مثل ذلك، مع مفارقاتٍ في تقدير الجزاء –يختلف باختلاف نوع الجريمة–، تجدُ تفصيلَها في كتب الفقه، ومصادر مظانِّها، فإليها نُحِيل، و(مَن أُحِيْلَ على مَلِيءٍ فلْيَحْتَل).




    الفصل الرابع:
    الامتناعُ عن قبول القضاء وتَهَيُّبُه
    أوجدَه التحذيرُ الشرعي، ثم الإشفاقُ والزهد
    القضاء مهنة خطيرة ومقدسة، وقد أوجبَتْ قدسيتُه خطرَه، لهذا رفضه وتبرأ من ولايته جُلُّ العلماء الصالحين وأتقياء العارفين، منذ عهد الصحابة والخلفاء الراشدين إلى جيل القرن الرابع الهجري تقريباً، والعلماء والفقهاء لم يكونوا من الناحية النظرية يرمُقون منصب القضاء بعين الرضا، وجمهورهم يرى أنه لا ينبغي أن يقبل القضاء بأي حال، والقليل منهم قال: "إذا وُلِّي رجل القضاء بغير طلب منه فلا بأس بأن يقبل إذا كان يصلح لذلك الأمر، ولم يُوجد من هو أولى منه بولاية القضاء"، وهذا اشتراط في غاية الاحتراز.
    وفيما يأتي نعرض أبرز حجج الفريقين الثابت ورودها في مظانها عن كلٍ من المانعين والمجيزين، ثم عن لازم التوفيق والمقارنة بين أدلة الترهيب المانعة وأدلة الترغيب المجيزة، والجاري عليها مدار الخلاف..
    أولاً: المانعون:
    أدلتهم، وحُجتهم:
    وحجة المانعين وهم الجمهور: ما ورد فيه من الأحاديث المرَهِّبة، والمؤْذِنَة بشدة الحساب والعقاب يوم القيامة لمن وُلِّي القضاء بين الناس، وتلك من شأنها أن تخيف القضاة حتى العادل منهم، تريهم حقيقة الخطر، وعين يقينه.
    فمن ذلك: ما روَتْه أم المؤمنين/ عائشة –رضي الله عنها–، عن النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– أنه قال: »يُجاء بالقاضي العدل يوم القيامة فيَلقى من شدة الحساب ما يَوَدُّ أن لم يكن قضى بين اثنين في تمرة«( ).
    وعن أبي هريرة –رضي الله عنه– أنه قال: »من جُعِل قاضيا فكأنما ذُبِح بغير سِكِّين«( ).
    وفي رواية: »لَتأتِيَنَّ على القاضي العادل يوم القيامة ساعةٌ يتمنى أنه لم يقضِ بين اثنين في تمرةٍ قَط«.
    وعن ابن عباس –رضي الله عنه– أنه قال: »من استُقضِيَ ذُبح بغير سكين«( ).
    وعن بريدة، عن أبيه، عن النبي –صلى الله عليه وآله وسلم–: »القضاة ثلاثة: فرجل علِم فقضى على علم فجار فيه ثم اعتدى؛ فذلك في النار، ورجل جهِل فقضى على الناس فأتلف حقوقهم وأهلكها بجهله؛ فذلك في النار، ورجل علِم فقضى بما علِم فوافق ذلك الحق؛ فهو في الجنة«.
    وعن بريدة، عن كعب قال: "بعثَ عُمر إلى كعب: (إني جاعلك قاضياً)، قال: (لا تفعل يا أمير المؤمنين)، قال: (لِمَ يا كعب)؟ قال: (إن القضاة ثلاثة: فقاضيان في النار، وقاضٍ في الجنة، قاضٍ علِم وترك علمَه فقضى بجور، وقاضٍ لم يعلم فقضى بجهالة؛ فهو معه في النار، وقاضٍ قضى بعلمه ومضى عليه؛ فهو من أهل الجنة)، فقال: (يا كعب، فإنك قد علِمتَ؛ تقضي بعلمٍ وتمضي عليه)، قال: (يا أمير المؤمنين، أختارُ لنفسي أحَبُّ إليَّ من أن أخاطر بها) "( ).
    وعن عبد الله بن موهب، أن عثمان بن عفان –رضي الله عنه– قال لابن عمر: "اذهب فكن قاضياً"، قال: "أعوذ بالله أن أكون قاضياً"، قال: "وما يمنعك"، قال: "سمعتُ رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– يقول: »من كان قاضياً فقضى بالجهل كان من أهل النار، ومن كان قاضياً فقضى بالجور كان من أهل النار، ومن كان قاضياً قضى بحقٍ أو بعدل سأَلَ التَّفَلُّتَ كِفافاً«، فما أرجو منه بعد ذلك؟"( ).
    وعن عبد الله بن عمر، عن النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– قال: »ما مِن حاكمٍ يحكم بين الناس إلا يبعث يوم القيامة ومَلَكٌ آخِذٌ بقفاه، يستوقفُه على شفير جهنم؛ حتى يلتفت إليه مُغْضِباً، فإن قال: الْقِه، ألقاهُ في الهُوُيِّ أربعين خريفاً«( ).
    مشاهير أعلام المانعين:
    وممن رفَض تولِّي منصب القضاء؛ لهذه الأحاديث وغيرها، مجموعةٌ من العلماء الأفذاذ، منذ عهد الصحابة والتابعين إلى زمنٍ غير بعيد.
    ففي عهد عمر بن الخطاب يُروى أنه كتب إلى واليه على مصر/ عمرو بن العاص أن يجعل كعب بن ضنَّة على القضاء، فأرسل عمرو كتاب أمير المؤمنين إلى كعب، فقال كعب: "والله لا ينجيه الله من أمر الجاهلية وما كان فيها من الهلكة، ثم يعود فيها أبداً إذ أنجاه الله منها"، وأبى أن يقبل القضاء( ).
    وفي عهد المنصور امتنع أبو حنيفة عن تولي القضاء حتى أن المنصور حبسه وضربه ليجبره عليه، فما استطاع إجباره.
    وفي عهد المأمون امتنع الإمام/ الشافعي لَمَّا استدعاه لقضاء الشرق والغرب.
    وفي عهد المهدي امتنع سفيان الثوري لَمَّا ولاه على قضاء الكوفة على ألا يعترض عليه في حكم، فأخذه وخرج ورمى به في نهر دجلة وهرب، فطُلِب في كل مكان وفي كل بلد فلم يوجد، ثم تولى قضاء الكوفة شريك النخعي، فقال فيه الشاعر:
    تَحرَّز سفيانُ وفَرَّ بدينه
    وأمسى شريكٌ مَرْصَداً للدراهمِ( )

    وعن محمد بن سيرين قال: "كنتُ عند عبد الله بن عتبة وبين يديه كانونٌ فيه نار، فجاء رجل فجلس معه على فراشه، فسارَّه بشيء ما ندري ما هو؟ فقال له ابن عتبة: (ضع لي إصبعك في هذه النار)، فقال الرجل: (سبحان الله! أتأمرني أن أضع لك أصبعي في النار؟!)، فقال: (أتبخل عليَّ بأصبع من أصابعك في نار الدنيا، وتسألني أن أضع جسدي كله في نار جهنم؟!)، فظننا أنه دعاه إلى القضاء"( ).
    وقال مكحول: "لو خُيِّرتُ بين ضرب عنقي وبين أن أقبل ولاية القضاء لاخترت ضرب عنقي".
    وقال الفضيل بن عياض: "إذا وُلِّي الرجل القضاء فليجعل للقضاء يوماً، وللبكاء يوماً".
    وحدَّث الأصمعي: أن رجلاً جُنَّ هروباً من القضاء، ولَمَّا سُئل: "ما الذي حمَلك على ذلك"، قال: "إن هؤلاء أرادوني على ذهاب ديني، فاخترت ذهاب عقلي"( ).
    وجِيء إلى هارون الرشيد بثلاثة من العلماء ليوليَهم القضاء، وهم: عبد الله بن إدريس، ووكيع بن الجراح، وحفص بن غياث.
    فأما ابن إدريس فقال: "السلام عليكم"، وطرح نفسه؛ كأنه مفلوج، فقال هارون: "خذوا بيد الشيخ لا فَضْل في هذا"، وأما وكيع فقال: "والله يا أمير المؤمنين ما أبصرتُ بها منذ سنة"، ووضع إصبعه على عينه وعنى إصبعه، فأعفاه هارون، وأما حفص فقال: "لولا غلبة الدين والعيال ما وُلِّيتُ".
    وروى الخطيب أن حفصاً هذا قال: "ما وُلِّيت القضاء حتى حلت لي الميتة".
    ورُوِي عن سعيد بن سالم أنه قال: "رأيتُ في سجن البصرة رجلاً محبوساً في أمرين متفاوتين، رأيته محبوساً في: الشطارة( )، ثم رأيته محبوساً في: أنه أبى أن يَلِي القضاء.
    والعَجَب: أنه يُرْفَض ولاية القضاء في تلك العصور الزاهرة؛ خوفاً من تَبِعاتِه، حتى مَن يُعرَفون بعدم استقامة سلوكهم، أو مَن كان لهم سوابق انحراف أخلاقي( ).
    ومِمَّن جاهَرَ بالإصرار ورَفَضَ القضاء:
    من هؤلاء: محمد بن عبد السلام الخشني، حين دعاه إليه أحد أمراء الأندلس وهدده وتوعده ليُلزِمه؛ فلم يزدد إلا نفرة، ومِن توعُّد الأمير قوله: "إن مَن عصانا فقد أحلَّ بنفسه دمَه"، فمدَّ محمد عنقه، وقال: "أبيتُ كما أبت السموات والأرض إباية إشفاق لا إباية نفاق"، ولما رأى الأمير منه الصدق ترك سبيله( ).
    وروى القاضي/ عياض في كتابه: (ترتيب المدارك) أن أحد أمراء الأندلس واسمه: روح ابن حاتم أرسل إلى ابن فروخ ليوليه القضاء، فامتنع، فأمر الأمير به أن يُربَط ويُلقى به عن سطح الجامع إلى الأرض، فبينما هو مكتوف ومُهيأ لإلقائه قالوا له: "أتقبل الولاية"؟ قال: "لا"، فهمُّوا بإلقائه، فلما رأى الجِّدَّ قال: "قبلتُ"، فأجلسوه في الجامع ومعه الحرس، فتقدم إليه خصمان، فنظر إليهما وبكى طويلاً، ثم رفع رأسه وقال: "تعلمان أني –والله– لأنُوْءُ بوِزري يوم القيامة، فكيف بوِزرِكُما ووِزري؟ سألتكما الله إلا أعفيتموني من أنفسكما"، ولما رأى الخصمان هذا التعفف والورع في القاضي، سلَّم أحدُهما بدعوى صاحبه واتفقا( ).
    وأورد صاحب (الحضارة الإسلامية) تولِّي شريك للقضاء بعد امتناع، قال: "ولما ذهب ليتسلم ويقبض مرتَّبه ضايقه الصيرفي، وقال له: (إنك لم تبِع به بَزَّاً)، فأجابه شريك: (بل –والله– بعتُ أكثر من بَزٍّ؛ حيث بعتُ به ديني) "( )، وكان شريكٌ هذا أظْهَرَ الجنونَ يوم دُعي إلى ولاية القضاء، ولم يعفَ منه ولم يُقبل اعتذاره.
    ولما تولى إسماعيل بن إسحاق القضاء جاءه أبو الحسن بن أبي الورد؛ فضرب على ظهره أو على كتفه، وقال: "يا إسماعيل علمٌ أجلسَك هذا المجلس، لقد كان الجهل خيراً لك منه"، فرفع إسماعيل رداءه على وجهه وبكى حتى بلَّه( ).
    ورُوي عن مالك بن أنس؛ إمام دار الهجرة أنه قال: "قال عمر بن الحسين: (ما أدركتُ قاضياً استُقضِي بالمدينة إلا ورأيتُ كآبة القضاء وكراهيته بادية على وجهه)، وأن السبب في رفض الفضلاء والعلماء لمنصب القضاء هو: أن السياسة إذا دخلت حرم القضاء أفسدته، وحوَّلت عدالته عن طريقها السوي، ولما كانت مجانية القاضي للعدالة أمراً يُدخِله النار فقد فضَّل القضاة الأباة غضب السلطة وظلمها على أن يدخلوا النار"( ).
    وقال الأسيوطي: "القضاء مِحنة وبليَّة، فمن دخل فيه فقد عرَّض نفسه للهلاك، لِعُسْر التخلص منه؛ لقوله –صلى الله عليه وآله وسلم–: »مَن جُعل قاضياً فقد ذُبح بغير سكين«( )"( ).
    وقال –صلى الله عليه وآله وسلم–: »إنكم ستختصمون على الإمارة، وستكون حسرةً وندامة«( ).
    وقال عمر بن الخطاب –رضي الله عنه–: "ودِدتُ أن أنـجوَ من هذا الأمر كِفافاً، لا عليَّ ولا لِي"( ).
    وقال ابن قدامة: "وفي القضاء خطرٌ عظيمٌ، ووِزرٌ كبيرٌ، ولذلك كان السلف –رحمة الله عليهم– يمتنعون منه أشد الامتناع، ويخشون على أنفسهم خطره"( ).
    ثانياً: المُجِيْزون:
    أدلتهم، وحُجتهم:
    مما سبق وضَح لنا وتَبَيَّنَ خطر تولي القضاء على أعضائه المتقلدِّين مهنتَه، لذلك لم يسَعْ من ذكرنا من علماء العمل الصالحين والمصلحين إلا الهروب والنفور من ولاية القضاء؛ تعففاً وتقوىً وإشفاقاً.
    وكل ما ذكرنا من أدلة وما وَرَدَ فيها من لازم تهيب القضاء لا يعني ذلك عدم جواز ولايته، ولم يقل بهذا أحد من المسلمين، بل كلهم يفهم أن إقامة القضاء واجب شرعي لا يجوز إلغاؤه، كذلك ولايته فرض عين على المسلمين حتى يقوم به من يسد الحاجة ويرفع الحرج.
    وحيث أن سنة الله الكونية الأزلية اقتضت وجود الخير والشر فتنة، واقتضت الصراع بينهما؛ للتمايز، إما عدلاً وإما ظلماً، والميزان هو: القضاء الذي تتحقق به العدالةُ، وإزالةُ الظلم، وردعُ الظالم، وكفُّ أذاه.
    والله تعالى ينصب نفسه قاضياً بين عباده، ويقضي بالحق، وهو أحكم الحاكمين، والناصب ميزان العدل يوم القيامة، كما قال تعالى: ?وَنَضَعُ الْمَوَازِيْنَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئَاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِيْنَ?( ).
    وهذا دليل على قدسية القضاء؛ بأن الله تعالى يتولاه بنفسه( )، ويسند توليه ولازم إقامته إلى أنبيائه ورسله، فذلك داوُد –عليه السلام– يأمره بإقامته في قوله سبحانه: ?يَا داوُد إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيْفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ إِنَّ الَّذِيْنَ يَضِلُّوْنَ عَنْ سَبِيْلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيْدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ?( ).
    فالله تعالى يأمر بإقامة القضاء الذي يكون به الحكم بين المتخاصمين بالقسط، والمقسطون على منابر من نور يوم القيامة، والله يحب المقسطين.
    وهذا رسول الله/ محمد –صلى الله عليه وآله وسلم– يأمره ربه بإقامة القضاء بقوله تعالى: ?إِنَّا أَنْزَلنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِيْنَ خَصِيْمَاً?( ).
    وقوله: ?وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ?( ).
    كما أثبتَ سبحانه الفلاح للممتثلين والسامعين الطائعين للأحكام الصادرة في قوله: ?إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِيْنَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُوْلِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُوْلُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُوْلَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ?( ).
    وفي التوراة قرَّر الله تعالى إقامة القضاء بين الناس بقوله: ?إِنَّا أَنْزَلنَا التَّوْرَاةَ فِيْهَا هُدَىً وَنُوْرٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِيْنَ أَسْلَمُوا لِلَّذِيْنَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ?( ).
    وقولـه تعالى: ?وَكَـتَبْـنَـا عَـلَيْـهِـمْ فِـيْـهَـا أَنَّ الـنَّـفْـسَ بِـالنَّـفْـسِ …?( )، الآيـة.
    وقوله تعالى: ?وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيْلِ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيْهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ?( ).
    والملاحظ في هذه الأدلة القرآنية أنها لم تأتِ فقط لمجرد إثبات القضاء، وإنما للأمر أيضاً بإقامته.
    وما أمر الله بإقامته لا يجوز أن يكون الممتثل معاقباً بإقامته، لكن مَن لم يَقُمْ بإقامته، أو قام به لكن تعسَّف وحافَ وظلَم، أو كان ليس أهلاً؛ فالعقابُ وارِدٌ.
    ودليل ذلك من السنة ما يلي:
    عن يُسر بن سعيد، عن أبي قيس، عن عمرو بن العاص، عن النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– قال: »إذا حَكَم الحاكم فاجتهد فأصاب؛ فله أجران، وإذا حَكَم فاجتهد فأخطأ؛ فله أجر«( ).
    وعن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه– أن النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– قال: »لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالاً؛ فسلَّطه على هَلَكَتِه في الحق، ورجل أتاه الله حِكمة؛ فهو يقضي بها ويُعَلِّمها«( ).
    وعن عقبة بن عامر قال: "جاء خصمان يختصمان إلى رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– فقال: »اقضِ بينهما«، قلت: أنت أوْلَى بذلك، قال: »وإنْ كان«، قلتُ: علامَ أقضي؟ قال: »اقضِ، فإن أصبتَ فلك عشرة أجور، وإن أخطأتَ فلك أجر واحد«( ).
    وعن عمرو بن الأسود، عن أبي أيوب الأنصاري أن رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- قال: »إن الله مع القاسم حين يَقْسِم، ومع القاضي حين يقضي«( ).
    ورُوي عن عبد الله بن مسعود –رضي الله عنه– أنه قال: "لأن أجلس قاضياً بين اثنين أحبُّ إليَّ من عبادة سبعين سنة"( ).
    وقال ابن قدامة: "وفيه فضل عظيم لِمَن قوِيَ على القيام به، وأدَّى الحق فيه.
    ولذلك جُعل له فيه أجراً مع الخطأ، وأُسقِط عنه تبعة الحكم بالخطأ، ولأنَّ فيه أمراً بالمعروف ونصرة المظلوم، وأداء الحق إلى مستحقيه، ورد الظالم عن ظلمه، وإصلاحاً بين الناس، وتخليصاً لبعضهم من بعض، وذلك من أبواب القُربى.
    ولذلك تولاه النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– والأنبياء قبلَه، فكانوا يحكمون لأممهم"( ).
    وبعث النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– علياً إلى اليمن قاضياً، وبعث أيضاً معاذاً قاضياً.
    وكل هذا وأمثاله يدل على الترغيب في ولاية القضاء والتشجيع عليه، إلا أن الْمُشْكِل في ظاهر الأمر هو: كيف نوفِّق بين الأدلة المرغِّبة والأدلة المرهِّبة مع أنَّ كلها شرعية ثابتة؟
    ثالثاً: التوفيق والمقارنة بين أدلة كلٍّ مِن الترهيب والترغيب:
    لذلك نرى لزاماً علينا إيجاد توفيق يَحْسُن به المَخرَج، وتقْرُب به الوُجهة، وأفْضَلُ توفيقٍ –حسب فهمي، والله أعلم– ما يأتي:
    1- الأخبار التي دلَّت على ذم والي القضاء والترهيب من ولايته:
    محمولةٌ على مَن عَلِم مِن نفسِه أنه لا يستطيع أن يقوم بالقضاء، إما لجهله، أو لقلة أمانته، أو لضعفه.
    والأخبار التي دلَّت على مدحه: محمولةٌ على مَن عَلِم مِن نفسِه القدرة العلمية والفنية والثقافية، والأمانة، والعفة.
    2- الأخبار التي دلت على ذم والي القضاء:
    الإشفاق، والتعفف، وعدم الاستحسان، فيما لو وُجِد من يسد، وتكون به الكفاية. والعكس صحيح في الأخبار التي دلت على المدح.
    3- الأخبار التي دلت على الذم:
    محمولة على الاحتياط للدين باصطحاب الزهد، وقصر الجري وراء منصب القضاء؛ حيث أن الظلم والحَيف فيه محتملٌ، بل أظهر، وأن الشبهة في العدل واردة، ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام، وهذا المعنى ظاهر في حديث: »القضاةُ ثلاثة: …«، وظاهر في عدم الاستطاعة على تطبيق الأمر في قوله تعالى: ?يَا أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوا كُوْنُوا قَوَّامِيْنَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِيْنَ إِنْ يَكُنْ غَنِيَّاً أَوْ فَقِيْرَاً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُوْنَ خَبِيْرَاً?( )، وقد ورد: "وأيُّكُمْ يَعْدِل مع قريبِه"؟
    والأخبار التي دلت على المدح تعني: من أُلزم به ولم يوجد غيره أقدر منه وأكفأ، وتعني: العادل المقسط الآمن على نفسه من النـزاعات والأهواء.
    4- الأخبار التي دلت على الذم:
    محمولة على أنها تقصد الطالب للقضاء، وقد ثبت منع هذا الأمر عن من طلبه؛ بنص الحديث الوارد في منعه –صلى الله عليه وآله وسلم– ذلك عن أبي ذرٍّ، وأبي هريرة بعد أن طلباه؛ مُعَلِّلاً لهما بعدم الاستطاعة وبعدم قدرتهما على تحمل تبعاته مما يكون به التفريط، والنتيجة: الخزي والندامة يوم القيامة، وبيانُ هذا يوضحُه ويقوي جانب احتماله قولُ النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– من حديث أبي هريرة: »مَن طلب القضاء حتى يناله فإن غَلَب عدلُه جورَه؛ فهو في الجنة، وإن غَلَب جورُه عدلَه؛ فهو في النار«( ).
    وقال ابن قدامة: "الناس في القضاء على ثلاثة أضرُب: منهم من لا يجوز له الدخول فيه، وهو: من لا يُحسنه، ولم تجتمع فيه شروطه، ومنهم من لا يجوز
    له، ولا يجب عليه، وهو: من كان من أهل العدالة والاجتهاد، ويوجد غيره
    مثله؛ فله أن يلي القضاء بحكم حاله وصلاحيته، ولا يجب عليه؛ لأنه لم يتعين له، والثالث: من يجب عليه، وهو: من يصلح للقضاء، ولا يوجد سواه؛ فهذا يتعين عليه؛ لأنه فرض كفاية لا يقدر على القيام به غيره، فيتعين عليه؛ كغسل الميت وتكفينه"( ).
    وحديث: »القضاةُ ثلاثة: ...« يفيد بتوصيفه للقضاة وعاقبة كل صنف
    منهم: صحة هذا التقسيم، ونتيجة كل قسم تساوي نتيجة كل صفة.
    ومجموعة نتائجها مستفادة من سلوكين متضادَّين هما:
    ? العلم.
    ? والجهل.
    فالعلمُ ألزَمَ سلوكَ الزهد، والقناعة –كَنْزَي البقاء والدوام– والخوف، والخشية، وهو من أقوى رادعات حرص الإنسان، وأجدى لقصر طول آماله؛ إلى حد النفور من قبول أي ولاية عامة أو خاصة، وبالذات ولاية القضاء، لِمَا ورد فيها من الترهيب، والتحذير، والذي به عقلوا التبعات، وشعروا بالمسئولية ولازم التقصير.
    ويكفي في الالتزام بجانب التحذير ما وصف الله تعالى به أولئك الذين يجانبون الحكم بما أنزل الله، ويخطئون مراده في أحكامهم سواءً كان بسبب جهلهم أو بمجرد الميل والانحراف في أي جانب من جوانب السلوك المستقيم، والعدل مع وجود شبهة الميل محتمل، ولازم بعض الانحرافات في استقامة السلوك وارد، والعلم بحقائق الأمور مستحيل، والأحكام على الأناسيِّ ظنية، وبعض الظن إثم، ولا ضمان لتحقيق العدل في وجود الظن.
    وبهذا يتحقق وجوب الالتزام بالتحذير من ولاية القضاء خاصة، حتى للقادر عليه والعالم به، فالعلم إذا كان يُوَصِّل صاحبَه إلى الْحَوْم حول الشبهات فالجهل خير له من ذلك العلم.
    وهو بولايته هذه يعرِّض نفسه للوقوع في صفة الكفر الَّلازمة لمن يجانبه العدل في قضائه بنص قوله تعالى: ?وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُوْنَ?( )، ثم للوقوع في صفة الظلم بنص قوله سبحانه: ?وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ?( )، كذلك للوقوع في صفة الفسق بنص قوله تعالى: ?وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ?( ).
    وهذا التعريض لا يخرج صاحبه عن إيقاعه في إحدى الصفات الثلاث، أو في اثنتين منها، أو في جميعها، وسلامة النجاة ظنيَّة، مع قيام هذه المَفازات، واحتمال مواجهة أخطارها.
    أما سلوك الجهل فإنه سبب للعصيان، والعصيان من الحـرص، وذلك آدم –عليه السلام– ما أوقَعَه في العصيان إلا الحرص، بتَوجيهٍ من عدوِّه الشيطان الكافر باستكباره وإيبائه على ربه.
    وغياب العِلْمِ عن آدم –عليه السلام– كان يتمثل في عدم معرفته كيد إبليس، وعدم معرفته كذلك الهدف والغاية من نهي الله له عن الأكل من الشجرة.
    وهكذا كان الكفر من صنيع الكِبر، والعصيان من صنيع الحرص، والآيات
    السابقة من سورة المائدة ألقَتْ صفة الكفر على الحاكم الذي لا يلتزم سبيل الحق في حكمه وقضائه.
    كما ألقتْ عليه صفة الظلم، ووصمَتْه بالفسق والعصيان، وكل ذلك يحقق بمن جرَّته نفسه وساقته حظوظها وشهواتها.
    والكل أحاطت به خطيئته بجامع المخالفة لأمر الله ونهيه وحكمه، والمناسبة ظاهرة في مخالفة إبليس أمر الله له بالسجود لآدم –عليه السلام–، وفي مخالفة آدم نهي الله له عن الأكل من الشجرة بعد أن أسكنه الجنة، ووعده بالخلود فيها، فذلك خالفَ استكباراً؛ فكفر بعلمه، وهذا خالف حرصاً؛ فعصى بجهله.
    وفي مخالفة القاضي حُكمَ اللهِ؛ إما بجهله، أو بحيفه وجوره وبقصده الظلم استكباراً وعُلُوَّاً ومَكراً: وقوعُه في المحظور الموبِق، أو العصيان المفْرِط.
    كما أن الكل تعمَّد المخالفة؛ فاستحق الجزاء، والجزاء من جنس العمل، ووعد الله ووعيده بذلك: ?فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرَاً يَرْهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرِّةٍ شَرَّاً يَرَهُ?( )، وأقصد: تعمُّدَ مخالفة أمر الله تعالى، أما حصولُ الجهل فهو: في نتيجة المخالفة وعاقبة أمرها.
    فالوعد بالخير: كان به الأمل لوالي القضاء بعدلٍ، وإرادة إقامة الشرع، والإلزام بعزائمه تطبيقاً وتنفيذاً من واقع القوة ومِلْكِية القرار.
    والوعيد بالشر: كان به النفور والتحرز من القضاء لمظنة مجانبة العدل الموجِب للعذاب بالوقوع في الشبهة، والواقع في الشبهات كالواقع في الحرام اختياراً وقصداً.
    ومما سبق نخلص إلى القول المختار في حكم والي القضاء:
    قال شمس الدين بن أبي الدم: "لا يخلو الرجل: إما أن تجتمع فيه شرائط القضاء؛ التي لا تصح توليتُه القضاء إلا بها أولاً.
    فإن لم تجتمع فيه؛ لم تصِح توليتُه.
    وإن اتصف بها لم يخلُ: إما أن لا يوجد في البلد غيرُه؛ فتتعين عليه ولايته إذا طُلِب والحالةُ هذه، ويجب على الإمام أن يوليَه؛ فإن امتنع عن الإجابة أَثِمَ، وهل للإمام إجباره؟ فيه وجهان، أصحُّهما: نعم.
    وإن وُجد في البلد غيرُه وهو مُساوٍ له؛ فهو فرض كفاية: في حق كلِّ واحدٍ منهم، فإذا وَلِيَ أمره سَقَط الفرض عن نفسه وعن الباقين، وهو فرض عين: على جميعهم، على معنى: أنهم إن امتنعوا كلهم أثِموا، فلو امتنع واحدٌ منهم هل يجبره الإمام؟ فيه وجهان مُرَتَّبان على المتعيَّن عليه، والأَولَى: بأن لا يجبرَه، وهو أصح الوجهين، وتوجيه الإجبار هو: أنَّا لو قلنا: إنه لا يُجْبِر واحداً منهم تَواكَلَوا، وأدى إلى امتناع الجميع".
    ولغيره: "أن الذي يجب عليه ولايتة القضاء هو: الرجل العالِم الأمين؛ الذي ليس في البلد سِواه.
    ومن يُسْتَحَب له ولايته هو: العالِم الفقير، أو: الخامِلِ الذِّكْر، فيُسْتَحَب له ذلك؛ لتُجْرَي عليه كفايَتُه من بيت المال، وينتشرَ علمُه بذلك، وينتفعَ الناسُ به.
    ومن يُسْتَحَب له تركُه هو: المَكْفِيُّ في معاشه ودُنيْاه، الوجيهُ بين الناس، وفي مرتبته المنتشر علمه، فالأولى له تركه؛ لأنه أَسْلَمُ له.
    ومن يَحْرُم عليه فعله هو: الجاهل، أو: العالم العاجز عن إقامة وظائفه،
    أو: الفاسق –والله أعلم–"( ).


    الباب الرابع

    بوادر خرق
    مقومات النهج القضائي
    في عصور الخَـلَف والمُلْك العَضوض




    الفصل الأول:
    مفهوم البادِرَة في اللغة والاصطلاح
    (أ): تعريف البادِرَة في اللغة
    مفهوم البادِرَة في اللغة:
    البادِرَة، والمُبادَرَة: السَبْقُ والسُّرعة إلى غير المتوقع –في الغالب–.
    والمُبادَرَة: تكون في الخير، وفي غيره.
    والبادرة: أخص في المفهوم الاصطلاحي الشرعي، والتعريف اللغوي مناط العموم..
    قال الزمخشري في: (أساس البلاغة): "بَدَر الخَيْرَ وبادَرَهُ، أي: الغايةَ، وإلى الغايةِ".
    وفلانٌ بادَرَ في أكل مال اليتيم بلوغَه بِدَاراً، وتَبادَرَ الباعَ وابتَدَرُوها.
    والبادرة: أخص في دلالتها على الشر، أو على خرق معروف السلوك.. في مقابل دلالة المبادرة إلى الخير، أو إلى صنع معروف السلوك..
    وهذا المفهوم: هو الذي عَنَاه الباب في موضوعه، وخَصَّه التعريف لاصطلاحي ليُصَدِّق به مُضَمِّنات فصوله دلالةً ومعنىً..
    (ب): تعريف البادِرَة في الاصطلاح
    مفهوم البادرة في الاصطلاح:
    أما البادِرَة في الاصطلاح: فتقع على الخروج عن الاستقامة، وعلى الخَرْق للحظْر وللسلوك القائمة على الصفات الحميدة ذات المقومات الخَيِّرة، والتي تخصُّ الفضائل في حياة الأبرار السلف من كسب إيمانهم بشريعة الإسلام ديناً ودولةً، عقيدةً ومنهجَ حياة.
    فيأتي الخَلَف ليقعَ في خَرْقها بالتجاوز في الأمر بما لم يسبق، وقد كان يخشى ويخاف شرَّه لظاهر حِدَّتِه أو لِخَفاءِ وجهالةِ حالِه، وفي اللسان العربي قولهُم: "فلانٌ يُخشى البادِرَة، وأنا أخافُ بادِرَتَه، وهي تَبْدُرُ منه عند حِدَّتِه"، ويقولون: "فلانٌ حارُّ النَّوادِرْ، حادُّ البَوادِر، وأصابَتْهُ بادِرَةُ السهم، أي: طَرَفُهُ مِن قِبَل النَّصْل.
    وأخطر البوادر: أخرقها.. وأفضلها المبادرات: أعظمها، وأزكاها.. والذي يعنينا إعداده هنا لِبابِهِ حدَّاً وماهية: هو التعريف بمفهوم البادرة: واحدة تُجمع على بوادر.
    أما المبادرة: فلا يعنيها موضوع الباب.. وبالتالي: فقد تجاوزها الحد الاصطلاحي مكتفياً بتوجيه وتقرير المفهوم الخاص للبادرة، والمبادرة: تُجمع على مبادرات لتناسب الحال.






    الفصل الثاني:
    بادِرَةُ خَرْق السلوك القضائي القويم بطلب ولاية القضاء
    وقد سبق الكلام على أن القضاء محنة وبليَّة، وأن القابل بولايته له، والباغي منصبَه فيه يعرِّض نفسَه للمَلامَة، ويوقِعُها في مسالك الخِزْي والندامة، وفي عذاب الله وسخطه يوم القيامة، إلا من عَدَل، وكيف يعدِل مع قريبه؟!
    جاء في كتاب: (تاريخ الأندلس) لأبي الحسن النبهاني قولَه: "القضاء محنة وبليَّة، ومَن دخل فيه فقد عرَّض نفسَه للهلاك؛ لأن التخلص منه عسير، فالهرب منه واجب ولا سيَّما في هذا الوقت، وطلبُه حَمَق –وإن كان حِسْبَةً–"( ).
    ولقد كان العلماء في صدر الإسلام والسلف الصالح ينفِرون ويرغَبُون عن ولاية القضاء، بل هم يذمُّون ويستنكرون كل من قَبِل ولايته ورضي به، ولم يُعْرَف أن أحداً طلبَه؛ لِمَا يعلمون من شديد مسئوليته وهَوْل عاقبة أمره، كذلك لِمَا يعلمون من مَنْعِ النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– الولاية عمَّن طلبَها.
    فعن أبي موسى الأشعري –رضي الله عنه– أنه قال: "دخلت على رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– أنا ورجلان من الأشعريين، أحدهما: عن يميني، والآخر: عن يساري، ورسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم- يَسْتاكُ، فسألاه العمل، فقال: »لا نولِّي عملَنا مَن يَطلبُه«، أو قال: »لا ولن نستعمِلُ على عملِنا مَن يطلبُه«، وفي رواية: »أيْ –والله– لا أولِّي أحداً سألَه، ولا مَن حَرَص عليه«( ).
    ويُروى أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– أراد أن يستعمل رجلاً، فبادَرَهُ الرجل وطَلَبَ منه العمل، فقال عمر: "والله لقد كنتُ أردتُكَ لذلك، ولكن مَن طَلَب هذا الأمر لم نُعِنْهُ عليه"( ).
    ولقد كانت أخلاقُ القاضي وسلوكُه: التعفُّف والتحرُّز فيما يتعلق برزقِه، وذلك بعد أن تعفَّف وتحرَّز في القبولِ به، والإحجامِ والتردُّدِ عنه.
    ويُروى أيضاً أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– مَنَعَ القاضي أن يأخذ أجراً على قضائه، قال الأستاذ/ آدم ميتز في كتاب: (الحضارة الإسلامية): "ولقد كان القاضي يتحرَّز جداً فيما يتعلق برزقه؛ فإذا غسل ثوبَه، وشَهِد جَنازة، أو اشتغل بشُغْلٍ، لَمْ يأخذْ مِن رزقه بقَدْر ما اشتغل، وكان يقول: (إنما أنا عاملٌ للمسلمين، فإذا اشتغلتُ بشيءٍ غير عملِهم فلا يحلُّ لي أخذَ مالِهم)، وكان بعضُهم يعمل بجانب القضاء لينفق على نفسه وأهله"( ).
    قال شيخُنا/ العمراني –حفظه الله– في كتابه: (نظام القضاء في الإسلام): "ولقد رُوي عن بعض المؤرخين أن مِن القضاة مَن كان يقبَل التكليفَ بولاية القضاء، لكنهم يرفضون أخذَ المُرَتَّب مُقابِل عملِهم في القضاء"( ).
    وذَكَرَ مِنهم: خالد بن طليق؛ الذي وَلِيَ القضاء بالبصرة أيام المهدي: أنه كان عفيفاً عن الأموال أيامَ ولايته، لا يأخذ درهماً واحداً، وأنه باع أرضاً له، وأنفق ثمنَها على نفسه أيام ولايتِه.
    كذلك: قاضي المدينة أيام المهدي؛ امتَنَع عن أخذِ رزْقِ منصِبٍ يَكْرَهُه، وهذا القاضي هو: عثمان بن طلحة، كما في كتاب: (أخبار القضاة في الإسلام)( ).
    وممن لم يأخذ على قضائه أجراً: قاضِيَا قضاةِ بغداد/ مـحمد بن صالـح، ومـحمد بن الظفر –رحمهما الله تعالى–.
    وبِمِثْل ما كانت تلك السلوك القضائية محميَّة بالتقوى وعقيدة الإيمان، فإنها أيضاً كانت محميَّة بالنقْدِ البنَّاء، والنُّصْحِ الصادِع، والتوبيخِ اللاذِعِ مِن قِبَل مَن آتاهم الله الحكمة وفصل الخِطاب، وامتازهم بحُسن البصيرة، ودقَّة البصر، وزوَّدهم بالعلم وبُعْدِ النظر.
    ومِن ذلك: ما قِيْلَ وأُنْشِدَ تَهَكُّماً وسُخريةً بقاضِيَيْنِ من قضاة البصرة، أحدُهما يُعْزَلُ، والآخَر يُوَلَّى:
    عندي حديثٌ طريفٌ
    مِن قاضِيَيْنِ: يُعَزَّى
    فَذا يقول: أكْرَهُونا
    ويَكْذِبان جـميعـاً
    بِمِثْلِه يُتَغَـنَّى
    هذا، وذاك يُهَنَّا
    وذلك يقول: اسْتَرَحْنا
    فَمَن يُصَدِّقُ مِنَّا؟( )

    وهناك من أنشد شعراً في مدحِ مَن فَرَّ مِن ولاية القضاء، وذَمَّاً لِمَن وَلِيَه
    وقَبِلَ به:
    تَحَرَّزَ (سُفْيانُ) وَفَرَّ بدِينه
    وأمسى (شُرَيْكٌ) مَرْصَداً للدراهِمِ( )

    ولا يعني هذا أنَّ كلَّ من يتولَّى القضاء يُذَمُّ ويُهان في كل وقت وحين، وفي كل زمان ومكان، ولكن لكل مقامٍ مقال، ولكل دولةٍ رجال.
    ولقد تولَّى القضاء رجالٌ صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه، فرَفَعُوا شأنَه، وأعزُّوا
    قَدْرَه، وعظَّموا هَيْبَتَه، حتى أصبح يُشار إلى القاضي منهم بالبَنان ويُعَطَّر بذكره فسيحَ المكان.
    ومِن أولئك القضاة: أَسَد بن الفرات؛ قاضي الفصل بين الحلال والحرام، قائدُ جيش الإسلام في معركة النصر المبين، فاتحُ جزيرة صِقِلِّيَّة، وشهيدُ معركتها يوم حَمْلِه رايةَ النصر على الأعداء، وشموخ عدالة القضاء بسلوكه أشرفَ مُقَوِّمات الوفاء، حتى قيل فيه:
    هوى طاهرُ الأثواب لَمْ تَبْقَ روضةٌ
    عليك سلامُ الله وقْفَاً فإنني
    غَداةَ ثَوَى إلاَّ اشتَهَتْ أنَّها قَبْرُ
    رأيتُهُ الكريمَ الحُرَّ ليس له قَبْرُ( )

    وممن حافظ وحفظ سلوك القضاء: القاضي/ محمد بن مسروق الكِنْدي، أولُ من أسَّس الامتناعَ عن حضور مجالس الأمراء في مصر، إذ أرسل إليه الأمير/ عبد الله بن المسيب رسولاً يُلزمه بالحضور مجلسَ الأمير، فرَفَضَ الحضور، وسارَ على مذهبه جميعُ القضاة الذين تَعَيَّنُوا للقضاء بمصر في عصر خلافة هارون الرشيد وما بعدها( ).
    ومِن أولئك الرجال: القاضي/ عمر بن حبيب، الذي نَهَر الرشيد وردَّه ودفعه حين أطلق لسانه في تكذيب أبي هريرة، الصحابيِّ الجليل –رضي الله عنه–، فدافَعَ اللهُ عنه( ).
    وذلك القاضي/ بكَّار بن قُتيبة يُحَلِّفُ الأمير/ أحمد بن طولون؛ أمير مصر على دَيْن يدَّعيه على رجلٍ مات وهو عليه له، وذلك بعد أن أثبته الأمير على الميت بطرق الإثبات الشرعية.
    ولقد حظي القضاء في وقت من الأوقات بقضاة عِظام، يفْخَر بسلوكهم الزمانُ على مَرِّ الليالي والأيام، وذلك باستقلالِهم وعفَّتِهم، ثم ثقتِهم بأنفسهم، وقبل ذلك ثقتُهم بالله وجزائه.
    ومن تلك العناصر القضائية: أبو حامد الأسفراييني؛ قاضي بغداد في نهاية القرن الرابع الهجري، الذي كَتَب إلى الخليفة يهدِّدُه بالعَزْل عن خلافته( ).
    وكان لبعضهم من القوة والشجاعة ما يستطيع بهما الأمْرَ بسجنِ أميرٍ، أو حتى ببيعِه بالمزاد العلني إذا لم يكن حُراً، وهذا ما فعله سلطان العلماء/ عز الدين بن عبد السلام –رحمه الله– حين وَلِيَ القضاء في مصر، وحَكَم ببيع المماليك، وهم الأمراء، باعهم وأوْدَع ثمنَهم في بيت مال المسلمين، ثم عادوا إلى أمرهم أحراراً.
    وكثيراً ما كان أمثال هؤلاء يطلُبون إعفاءهم من مناصبهم إذا مُسَّتْ كرامتُهم، أو اعتَدَى أحدٌ على استقلالهم.
    ولا يخفى أن اختيار القضاة يتم عن طريق الخليفة أو الوالي أو الأمير، إلا أنهم كانوا يباشرون عمل القضاء بحزم وعزة وثبات في قول الحق، وفي الحكم ضد من يتوجب عليه الحق أيَّاً كان مَرْكَزُه، وكيفَما كانت مكانتُه وصَوْلَتُه وجَوْلَتُه، وهم لا يخافون في الحق لومةَ لائمٍ؛ لعدم حرصهم، ولعفة أيديهم، ونزاهة مطمعهم، وتحرِّيهم في طِيب مطعمهم.
    ولم يكن أحدٌ من القضاة يطلب القضاء، حتى تَحَكَّمَتْ في الأخلاق إرادةُ حظوظِ النفس وشهواتِها المادية على عِلم بظاهرٍ من الحياة الدنيا، وغفلتِهم عن الآخرة، فحينئذ بدأ السعي لنَيل وظيفة القضاء، وطلبِ منصبِه والتمكينِ لذلك الهاوي حسب طلبه، وبذلك زَلَّ حمارُ العلم في الطين.
    ولعل أولَ مَن خَرَق السلوك القضائي القويم بطلب ولايةِ القضاء وتمكينِه برغبتِه هو: بلال ابن أبي بُردة؛ الذي طلب من الأمير/ خالد بن عبد الله القسري أن يوليه القضاء، فولاه ذلك، وحَكَم بِهَواه، وأظهَرَ الجَوْر في قضائه، حتى قال عن نفسه: "إن الرجلين يتقدَّمان إليَّ، فأجِدُ أحدَهما أخفَّ على قلبي من الآخَر، فأقضي له"( ).
    وتَتابع طُلاَّب القضاء، فأحلُّوا لأنفسهم الرِّشوة، وابتَدَعُوا في شريعة القضاء ما لم يأذن به الله، ومن ذلك: تَحْليف الجُند بالطلاق من نسائهم أن لا يهرُبوا من الجنديَّة، أو من المعارك في ميادين القتال( ).
    ولقد وصل الأمر بهذا النوع من القضاة إلى أنهم تركوا الصلاة مع الجماعة، كما سيأتي بيان هذا في مظانِّه ومداركِه –إن شاء الله تعالى–.



    الفصل الثالث:
    بادرةُ ظهورِ الرشوةِ والحكمِ بالهوى
    سبَّب زوالَ العدلِ وسقوطِ هيبةِ القضاء
    أصل هذا الفصل: حديثُ جابر بن عبد الله –رضي الله عنه–، عن النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– أنه قال: »هدايا الأمراء غُلول«( ).
    وقوله تعالى: ?وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ?( ).
    وقد أطال صاحبُ كتاب: (أخبار القضاة في الإسلام) في نقل الأحاديث الدالة على تحريم الرِّشوة مطلقاً( ).
    وجمهور العلماء ينصُّون على تحريم الرشوة مطلقاً سواءً طَلَب بها حقاً أو باطلاً.
    قال الفخر الرازي في: (أحكام القرآن): "الرِّشوة تنقسم إلى وجوه( ): منها: الرِّشوة في الحكم …".
    وذلك محرَّم على الراشي والمرتشي جميعاً، وهو الذي ورَدَتْ فيه الأحاديث؛ لأن الرشوة إما ليَقْضِي له بحقِّه، أو بما ليس بحقٍ له، فإن رَشَاه ليقضي له بحقٍ فقد فَسَقَ الحاكِم بقبول الرشوة
    على أن يقضي له ما هو فَرْض عليه، واستحق الراشي الذم حين تَحَاكَمَ إليه وليس بحاكم، ولا ينْفُذُ حكمُه؛ لأنه قد انعزل عن الحكم بأخذه الرشوة؛ كمن أخذ الأجرة على أداء الفروض من الصلاة والزكاة والصوم، ولا خلاف في تحريم الرشا على الأحكام، وأنَّها من السُّحت الذي حرمه الله في كتابه.
    وإن أعطى له الرشوة ليقضي له بباطل فقد فَسَقَ الحاكم لأخذه الرشوة، وحُكْمِه بغير الحق، وكذلك الراشي.
    وقد تأوَّل ابنُ مسعود ومسروقٌ السُّحتَ على الهدية في الشفاعة إلى السلطان، وقالا: "إنَّ أخْذَ الرِّشا على الأحكام كُفْر".
    وأما الرشوة في غير الحكم فهو ما ذكره ابن مسعود ومسروق في الهدية إلى الرجل ليُعِيْنَه بِجاهه عند السلطان، وذلك منهيٌ عنه؛ لأن عليه مَعُوْنَتَه في رفع الظلم عنه.
    ووجهٌ آخرُ من الرشوة، وهو: الذي يرشو السلطان لدفع ظُلمِه عنه؛ فهذه الرشوة محرمة على آخذها، غير محظورة على معطيها.
    ورُوي عن جابر بن زيد والشعبي أنهما قالا: "لا بأس بأن يُصانِع الرجلُ عن نفسه ومالِه إذا خاف الظلم".
    وروى هشام عن الحسن قال: "لَعنَ رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم–
    الراشي والمرتشي"، قال الحسن: "لِيُحِقَّ باطلاً أو يُبْطِلَ حقاً، فأما أن تدفَعَ عن مالِك فلا بأس به".
    فالذي رخَّص فيه السلف إنما هو في دَفْعِ الظلم عن نفسه بما يدفَعُه إلى مَن يريد ظُلْمَه، أو انتِهاكَ عرضِه.
    وهذا الجزاء بالطَّرد من رحمة الله الواقع بلعن رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– للراشي والمرتشي، استحقه القاضي المرتشي على كل حال، واستحقه معطـيَه فيما عدى ما استُثْنِي.
    كذلك للساعي بينهما، عليه مثل ما على الآخذ، وقد كان هو الراضي والمشجِّع المختار.
    قال القاضي/ طلفاح: "مِن الأمور المفروضة والمعروفة: أن القاضي يجب أن يكون زاهداً في مال الدنيا، وزاهداً في الرِّفعة، وفي تبجيل الناس له وتقديرهم لمحامده".
    لذلك فإن من تتوق نفسُه للمال لا يصْلُح للقضاء، وخاصة إذا كان المال عن طريق الرشاوي( ).
    ولقد رُوي عن أم سلمة؛ زوجِ النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– أنها قالت: "لَعنَ رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– الراشي والمرتشي في الحُكم"( ).
    وفي رواية: "… والرائشَ الذي يمشي بينهما".
    وسـمع رجلٌ عمروَ بن العاص وهو يقول: "سـمعت رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– يقول: »ما مِن قوم ظَهَرَ فيهم الرِّشا إلا أُخِذُوا بالرعب«( )".
    والله –سبحانه وتعالى– ذم اليهود في كتابه العزيز بقوله: ?سَمَّاعُوْنَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُوْنَ لِلسُّحْتِ?( )، فقال رجلٌ لابن مسعود: "يا أبا عبد الرحمن ما السحت"؟ قال: "الرِّشا"، قال: "في الحكم"؟ قال: "ذاك الكفر"( ).
    وروى الطبراني: "وقال القاضي/ مسروق: (القاضي إذا أكل الهدية أكل السحت، وإذا قَبِل الرشوة بَلَغَ الكفر) "( ).
    وحديث ابن الأصفهاني، عن يونس بن أبي إسحاق، عن أبيه قال: "مكتوبٌ في الحِكمة: الرشوة تُعَوِّرُ عينَ الحكيم"( ).
    ورُوي عن القاضي/ الشعبي أن رجلاً كان يهدي إلى عمر بن الخطاب كل عام رِجْلَ جُزُور، فخاصَم إليه يوماً فقال: "يا أمير المؤمنين اقض بيننا قضاءً فَصْلاً كما يُفْصَل الرِّجْلُ عن سائر الجُزُور"، فقضى عمر عليه، وكتب إلى عماله: "ألا أن الهدايا هي الرشا، فلا تَقْبَلُنَّ مِن أحدٍ هدية"( )، ورُوي أن النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– استعمل رجلاً يُدعى: ابن اللَّتْبِيَّة على الصدقات، فجاء بالمال، فدفعه إلى النبي –صلى الله عليه وآله وسلم–، وقال: "هذا مالُكم، وهذه هدية أهْدِيَتْ إليَّ"، فقال النبي –صلى الله عليه وآله وسلم–: »أفلا قعدتَ في بيت أبيك وأمك؛ فتنظرَ أيُهْدَى إليك أم لا؟«، ثم قام النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– خطيباً، فقال: »ما بال أقوام نستعملهم على الصدقة فيقولون: هذا مالُكم، هذه هديةٌ إليَّ، أفلا قَعَدَ في بيت أبيه وأمه؛ فينظرَ أيُهْدَى إليه أم لا؟«( ).
    وفي بعض الروايات: »والذي نفسي بيده لا يأتِ بشيءٍ إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقَبَتِه، إن كان بعيراً له رغاء، أو بقرةً لها خُوار، أو شاة تَيْعَر«، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه: »ألا هل بلَّغت؟« ثلاثاً.
    ولقد بقي لهذا التحذير جوهرهُ في واقع حياة الصحابة، والسلف من بعدهم، إلى أن تناساه الخلف حتى خَرقوا حَظْره.
    وقد ذكرنا فيما سبق أن أول من خرق السلوك القضائي القويم بطلب ولاية القضاء هو: بلال بن أبي بردة.
    وبلالٌ هذا: كان هو أول من بادر بأخذ الرشوة على الأحكام، وحكم بالهوى، وأزال العدل بإظهار الجور في الحكم، وأسقط هيبة القضاء الذي كان معهوداً في صدر الإسلام وما بعده إلى نهاية القرن الرابع الهجري.
    لذلك: فقد احتُسِبَتْ هذه الخروقات من النوادر والشواذ؛ لنـزاهة القضاء وعظمة هيبته المعهودة والملموسة في تلك القرون الأولى.
    وممن تابع بِلالاً في هذه المبادرة وهذا الانحراف السلوكي بنزاهة القضاء: ابن العداء الكندي؛ الذي كان على قضاء واسط من قِبَل ابن هُبيرة، قال وكيع في: (أخبار القضاة): "إن هذا القاضـي كان يأخـذ الرشوة، فجاء رجل لابن هبيرة –عامل الخليفة الأموي في العراق– فقال له: (–أصلح الله الأمير– إن قاضيك هذا يرتشي)، قال: (ارتشى منك)؟ قال: (نعم)، فدعا ابن هبيرة بحُلَّة، وقال للرجل: (ارشِهِ بهذه حتى أنظر: أيقبلها؟)، وراح العداء على ابن هبيرة في هذه الحُلَّة، فعَزَلَه"( ).
    وقيل: "إن أول من أخذ الرشوة في البصرة من القضاة: الحجاج بن أرطأة، وأنه أول من ترك صلاة الجماعة في المسجد؛ مع أن المسجد كان قُرب باب بيته".
    وذكر وكيع أن عُذر ابن أرطأة هذا عن حضور الجماعة: بأنَّ الحمَّالين والبقَّالين يزاحمونه( ).
    وسيأتي نموذج آخر من قصته.
    وممن أزال العدل وأسقط هيبة القضاء بقبول الرشوة وبالظلم والحكم بالهوى: يحيى بن ميمون الحضرمي –قاضي مصر من قِبَل هشام بن عبد الملك بن مروان–، وقد عُزِل هذا القاضي بعد أن وصل به الأمر إلى ظلم اليتامى، وأكل أموالهم( ).
    ومن القضاة: من كان يرشي الولاة من أجل أن يبقوه على القضاء، إما بما يضمن لهم من عائد محدد سنوياً، كما فعل عبد الله بن الحسين بن أبي الشوارب؛ حيث ضمن القضاء في السنة: بمأتي ألف درهم يؤديها لمعز الدولة/ بن بُوَيْة، وإما بما يجاملون ويداهنون به الولاة حين يفتونهم بما يهوَون، أو بما يرَون أن فيه مصلحة لهم بغية الوجاهة والتقرب والزُّلفى.
    وسيأتي تفصيل شيءٍ من هذا –إن شاء الله تعالى–.
    ونحن في هذا الزمن المجروح نمرُّ بأمراض اجتماعية كثيرة وواسعة النطاق، الشاكي مبكي، والباكي فلاَّج، والكل ينشد الخَراج، ويأمل في الغد، وإن غداً لناظره لقريب.
    وأشد هذه الأمراض، وأوسعها انتشاراً، وأضرها على مجتمعنا الذي نعيشه: الرشوة، وقد فَشَتْ وانتشر وباؤها في كل مرفق من مرافق الحياة الاجتماعية، واتَّخَذَتْ سبيلَها إلى كل جانب من جوانبها، وإلى كل طائفة وكتلة وحزب، وإلى كل مؤسسة ومنصب من مناصب الدولة، وسِلْكُ القضاء ما هو إلا واحدٌ من تلك المرافق المصابة، وكان يجب أن يُصان ويُنَزَّه ويبقى ملاذاً ومفزَعاً للمظلوم –بعد الله تعالى–، فيُرْدَع الظالم، ويُرَدُّ المعتدي ويُقْصِرُه عند غياب الرقيب الأخلاقي والسلوكي النفسي للإنسان المتجاوز لِلازِمِه، مهما أظهر صفحته، وأبان سريرته.
    والرشوة تختص بمضاعفة انحطاط وسقوط قَدْر الأمة بمجموع أفرادها، وكتل أحزابها، وأنواع منظماتها، وإيقاف نموها، وتعويق سيرها نحو الرقي المدني والحضاري، وقصر تطلعها على توفير الأمن والرخاء، وزعزعة الشعور بالثقة على مستوى أفراد الأمة، وزحزحة مبادئ الشرف والوفاء والصدق عن مكانتها، أو إبعادها وإلغائها تماماً عن مجال الحياة.
    وصدق الله العظيم في تبشيره بعاقبة المنحرفين عن السلوك المستقيم، سلوك أهل الإيمان والتقوى؛ حيث قال: ?وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُوْن?( ).
    وحينئذٍ ترى الأمةَ ينهارُ كيانُها الاجتماعي والسياسي، وتتمزق أواصر وحدتها، وتسيطر عليها روحُ الوحشية والهمجية بالاعتداء والقتل، والجنوح إلى الانحراف الأخلاقي والدنس السلوكي، وخيانة الأمانة في حياة تعسة، بهيمية منحطة إلى أقل من الحشرات والحيوانات الضالة، دون كرامةٍ، أو عزَّةٍ، أو شرفٍ، أو وحدةٍ حقيقيةٍ، أو أمْنٍ، أو استقرارٍ، أو رخاءٍ، أو تقدمٍ، أو مساواةٍ، أو أخُوةٍ، أو رحمةٍ، أو شفقةٍ، أو عدلٍ، أو إنصاف.
    ويلحق بالرشوة في كامل تبعاتها: المحاباة، والمحسوبية، والمداهنة، والوساطة؛ فيتامينات العصر الحاضر، ومُشَهِّيات مجتمع الكراهية.
    وقد حرم الإسلام ذلك كله، واعتبره من الظلم البيِّن؛ الذي يجب أن يُحارَب ويُدفَع ويُتصدى له.
    وكان موقف الرسول –صلى الله عليه وآله وسلم–، وخلفائه من بعده ضد هذه الأنواع من المظالم موقفاً حازماً حاسماً حتى صارت المبادئ وحدها هي التي تهيمن على أمة الإسلام، وقد نفذوا بذلك أوامر الله تعالى في كتابه الكريم فيما يتصل بهذه الأشياء.
    وأشدها: الرشوة –كما قدمنا–، بل من الكبائر الموبقات، ودليلنا على ذلك: لَعْنُ رسولِ الله –صلى الله عليه وآله وسلم– الراشي والمرتشي، واللعنُ: الطرد والإبعاد من رحمة الله.
    ولِمَ لا تكون من الكبائر؟ وهي إفسادٌ للضمائر، وأخذٌ لحقوق الناس بغير حق، وإضرارٌ بعباد الله، وإبعادٌ للمبادئ والقيم، وحربٌ على العدل وجميع مقوماته؟!
    ومن الأدلة القرآنية: قوله تعالى: ?وَلا تَأْكُلُوْا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إَلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيْقَاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ?( ).
    فالآية نَهَتْ عن أكل الأموال بطريق غير مشروع، وخصَّصت من الطرق غير المشروعة إعطاء الحاكم –سواءً كان الحاكمَ العام، أو نوابَه والمنفذين لأوامره، أو القضاةَ– جُزءاً من المال في سبيل إغرائهم بالحكم لصالح من دفع المال رشوة لهم.
    وحديث ابن عباس، عن النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– قال: »مَن وَلِي عشرة فَحَكم بينهم بما أحبوا أو بما كرهوا جيء به مغلولةً يدُه، فإن عَدَل ولَمْ يرتشِ ولَمْ يَحِفْ فكَّ الله عنه، وإن حكم بغير ما أنزل الله وارتشى وحابى فيه شُدَّت يسارُه إلى يمينه، ثم رُمِي به في قعر جهنم، فلم يبلغ قعرها خمسمائة عام«( ).
    قال الصنعاني في: (سبل السلام): "والرشوة حرام بالإجماع، سواءً كانت للقاضي، أو للعامل على الصدقة، أو لغيرهما، وقد قال تعالى: ?وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ …?، الآية"( ).
    وحاصل ما يأخذه القضاة من الأموال على أربعة أقسام:
    1. رشوة.
    2. هدية.
    3. أجرة.
    4. رزق.
    الأول: الرشوة:
    إن كانت لِيَحْكُمَ الحاكم للغير بغير حق؛ فهي: حرام على الآخذ والمعطِي.
    وإن كانت لِيَحْكُم له بالحق على غريمه؛ فهي: حرام على الحاكم دون المعطي؛ لأنها لاستيفاء حقه، فهي كجَعْل الآبق، وأُجرة الوكالة على الخصومة، وقيل: "تُحْرَم"؛ لأنها توقِع الحاكم في الإثم.
    الثاني: الهدية:
    فإن كانت ممن يُهادي القاضي قبل الولاية: فلا تحرم استدامتها.
    وإن كان لا يُهدي إليه إلا بعد الولاية؛ فإن كانت ممن لا خصومة بينه وبين أحد عنده: جازت وكُرِهت، وإن كانت ممن بينه وبين غريمه خصومه عنده؛ فهي: حرام على الحاكم والمُهدي.
    ويأتي فيه ما سلف في الرشوة، سواءً كان على باطل أو على حق.
    الثالث: الأجرة:
    فإن كان للحاكم جِراية من بيت مال المسلمين ورِزْق: حرمت باتفاق؛ لأنه إنما أُجْرِي له الرزق لأجل الاشتغال بالحكم، فلا وجه للأجرة.
    وإن كانت لا جِراية له من بيت المال جاز له أخذ الأجرة على قدر عمله غيرَ حاكِمٍ، فإن أخذ أكثر مما يستحقه حرم عليه؛ لأنه إنما يعطَى الأجرة لكونه عَمِلَ عملاً لا لأجل كونه حاكماً، فأخْذُه لِمَا زاد على أُجرة مثله غيرَ حاكمٍ إنما أخذها لا في مقابل شيء، بل في مقابلة كونه حاكماً، ولا يستحقها لأجل كونه حاكماً شيئاً من أموال الناس اتفاقاً، فأُجرة العمل أجرة مثله، فأخْذُه الزيادة على أجرة مثله حرام.
    الرابع: الرزق:
    ولذلك قيل أن ولاية القضاء لمن كان غنياً أولى من تولية من كان فقيراً، وذلك لأنه لفقره يصير متعرضاً لتناول ما لا يجوز له تناوله إذا لم يكن له رزق من بيت المال، وما تجريه الدولة –سواءً كان لقاضٍ أو لغيره– لا يشترط أن يكون مقابل عمل، وذلك حلالٌ له.
    ونُقل عن ابن حجر قوله: "لَمْ ندرك في زماننا هذا من يطلب القضاء إلا وهو مصرح بأنه لم يطلبه إلا لاحتياجه إلى ما يقوم بِأَوْدِه، مع العلم بأنه لا يحصل له شيء من بيت المال"( ).
    وهذه الأقسام للرشوة من قِبَل الصنعاني –رحمه الله– أكثر تفصيلاً ووضوحاً من تلك التي ذكرها الفخر الرازي في هذا الباب.
    وقد سبق بيان موقف النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– من هدايا الأمراء والحكام؛ حيث اعتَبَر ما يُهدى للأمراء والرؤساء وكلِّ ذي شأن يتصل بحكم الناس ورعايتهم نوعاً من الرشوة الحرام ما داموا لم يُهْدَ إليهم إلا بعد جلوسهم على مناصبهم.
    وللإسلام موقفٌ مِن كلٍّ مِن: المجاملة، والمحاباة، والمحسوبية:
    وذلك باعتبارها من ملحقات الرشوة؛ بدليل ما رُوي عن ابن عمر –رضي الله عنهما– أنه قال: "اشتريت إبلاً، وارتجعتُها إلى الحِمَى، فلمَّا كنت قدِمتُ بها، فدخل عمر السوق، فرأى إبلاً سماناً، فقال: (لمن هذه الإبل)؟ فقيل: (لعبد الله بن عمر)، فجعل يقول: (يا عبد الله بن عمر، بخٍ بخٍ ابن أمير المؤمنين)، فجئت أسعى، فقلت: (مالَك يا أمير المؤمنين)؟
    فقال: (ما هذه الإبل)؟ قلت: (إبلٌ اشتريتُها، وبعثتُ بها إلى الحمى أبتغي ما يبتغي المسلمون)، فقال: (ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله بن عمر، أُغْدُ على رأس مالِك، واجعل الفضل في بيت مال المسلمين) "( ).
    فعمرُ –رضي الله عنه– رأى أن الناس قد حابَوا ابنه، فمنحوا إبله بعض الامتيازات حتى سمنت ونمت وزاد ثمنها على أمثالها من إبل الناس؛ لذلك رد عمر –رضي الله عنه– زيادة النماء، وأدخله بيت مال المسلمين.
    وهذا من عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– درسٌ لكل من يستغل مركزه ويسخِّر قدرات الأمة المادية والمعنوية لنفسه وحاشيته ضارباً بالعدل وراء ظهره، خائناً أمانة الله، غاشَّاً لأمته.
    ومن ذلك أيضاً: ما ذكره يزيد بن أبي سفيان، قال: "بعثني أبو بكر الصديق –رضي الله عنه– إلى الشام، فقال لي: (يا يزيد إن لك قَرابة، عَسَيْتَ أن تؤثرهم بالإمارة، وذلك ما أخاف عليك بعد ما قال الرسول –صلى الله عليه وآله وسلم–: »من ولِي من أمر المسلمين شيئاً فأمَّر عليهم أحداً محاباةً فعليه لعنة الله، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً حتى يدخله جهنم«( )"، ولقد جار في هذا الخَطَر من بعد هؤلاء قومٌ آخَرون.
    وبالربط بين حاضرنا وماضي أولئك فإننا لا نجد أي مقارنة أو شبهٍ فيما هو إيجابي؛ لعدم هذا فينا، وبُعدنا عنه، وعظيم الشقة بيننا؛ ممارسةً وتطبيقاً.
    لكن فيما هو سلبي: فنعم المطابقة، وزيادة الإفراط، فإذا كان قد وُجد فيهم
    والٍ –سلطاناً كان أو حاكماً– يكافئ حاشيته على فسادهم الإداري أو القضائي في الدولة بولايتهم مرافقها بالمحسوبية، والمحاباة، ثم يكافئهم ويجزل لهم العطاء رغم علمه بفسادهم؛ فإننا اليوم نقوم بنفس العملية: نولي أمر المسلمين من ليسو أهلاً، فيفسدون، ونغطي فسادهم بإبقائهم، وترقياتهم، والثناء عليهم فوق ذلك.
    وكل الامتيازات لأصحاب السوابق، وقدرات الأمة مسخَّرة مبذولة لحاشية الوالي دون إغلاق أو رقابة على الإطلاق.
    وللعلم: أن انحراف سلوك بعض العاملين من أولئك في القضاء أو غيره: كان يتسم بالندرة والشذوذ، ونبذ كل صاحب سلوك شاذ بإجماعهم.
    أما في مجتمع الكراهية: فخذ العكس تماماً، والشاذ النادر: مَن عُرِف باستقامة السلوك، ومحاسبة الضمير، ونزاهة المطلب والمأخذ.
    ومن سنن أولئك الذين اقترفوا الحظْر، وراهنوا على الجور نثبت هذا الحدث، ولكل حدث حديث يحسن بمفهومه تطابق جوانب فقه المقارنة، وعليه نرسي الختام.
    قال القاسمي: "وقد يكون بعض الخلفاء سبباً في الفساد، ولا سيما إذا كانت طبيعة الأمير تتقبل الفساد، أضف إلى ذلك: العصبية القبلية التي بدأت أيام الأمويين، في نظام الحكم، فدعت إلى التسامح مع بعض الفاسدين من ذويهم، أو دفعتهم إلى الفساد".
    وروى الطبري أن عبد الرحمن بن زياد بن أبي سفيان قدِم خراسان، فقَدِم رجل سخيف حريص ضعيف، لم يغزُ غزوة واحدة، وقد أقام بخراسان سنتين.
    وقَدِم عبد الرحمن على يزيد بن معاوية سنة: 59ه، فقال يزيد: "كم قَدِمت به معك من المال من خراسان"؟ قال: "عشرين ألف ألف درهم"! قال: "إن شئت حاسبناك، وقبضناها منك، ورددناك على عملك، وإن شئت سوَّغناك وعزلناك، وتعطي عبد الله بن جعفر خمسمائة ألف درهم"، قال: "بل تسوغني ما قلت، ويستعمل عليها غيري"( ).
    والقصة غنية عن التعليق، ويكفي ما قُدِّم لها.
    فإن كان لا بد من تعليق، فإن موضوع الرشوة بشكل عام، وعلى مستوى جميع الأقسام والملحقات لمسمَّى أنواعها؛ فكلها: منبوذةٌ ومُنْكَرةٌ؛ قديماً وحديثاً ومستقبلاً؛ لمخالفتها سلوك الاستقامة والأخلاق، وشرائع رب العباد، وحتى عرب الجاهلية شانوا حكم المرتشي وأسْمَوه: (غدراً)، وأطلقوا على (ضمرة بن ضمرة) لقب: قاضي الغدر؛ لأخذه الرشوة في الحكم.
    قال الميداني: "لقد كان هذا الإطلاق صورة رائعة لخيانة الثقة التي وضعها المتقاضون في شخص الحاكم بينهم؛ لأن المغدور لا يمكن أن يتقي الغدر، وأشأم طوارق غدر الملحقات: إسناد الأمر لغير أهله، أو السعي في أمور لغير مستحِقٍ بالواسطة، وفي المحاباة، والمداهنة، والمجاملة لذوي الهيئات والشرف والجاه أو للقرابة: ظلم للعامة.




  3. #3

    افتراضي رد: كتاب الثقافة القضائية

    تكملة الكتاب...

    الفصل الرابع:
    بادرة شراء ولاية القضاء تحقيقٌ للظلم، وبيعٌ للضمير
    شراء ولاية القضاء يعني بيع الضمير، بيع العدل، بيع الإنصاف، بيع الأمانة، بيع العفة، بيع النـزاهة، وأخيراً: بيع القيم والمبادئ والأخلاق، ثم الاختتام بعقيدة الإيمان، وعزائم دين الإسلام، والنتيجة: تحقيق الظلم اللازم والمتعدي بكل ‎أنواعه.
    قال أستاذنا الفاضل القاضي/ محمد بن إسماعيل العمراني –حفظه الله– في كتابه: (نظام القضاء في الإسلام) نقلاً عن كتاب: (التمدُّن الإسلامي) للمؤرخ/ جرجي زيدان: "وأول من ضمن القضاء: عبد الله بن الحسين بن أبي الشوارب، سنة: 350ه، في أيام معز الدولة/ ابن بُوَيْة، فقد سُمِّي قاضي قضاة بغداد، والتزم على أن يؤدي مائتي ألف درهم كل سنة، ثم صار ذلك أمراً مألوفاً، وصاروا يضمنون الحِسبة والشرطة"( ).
    قال الدكتور/ حسين مؤنس في تعليقاته على: (التمدُّن الإسلامي): "أي: أن القضاء أصبح مورداً خصباً يُدِرُّ على صاحبه الربح؛ فيدفعُ ملتزمُ القضاء لبيت المال مبلغاً معيناً في السنة، ويتولى تعيين قضاة النواحي وما يلزمهم، ويقوم برواتبهم، ويتقاضى من الناس رسوماً عالية أضعاف ما دفع"( ).
    واستنكاراً على سلوك هذا القاضي البائعِ ضميرَه، والظالمِ نفسَه، المتاجرِ بنـزاهة القضاء، وهيبة القضاة وكرامتهم؛ فإنه لَمَّا تولى الخلافة المطيع بن المقتدر بن المعتضد، جاء هذا القاضي طالباً الإذن بالدخول على الخليفة، فلم يأذن له المطيع، بل أمر بتبليغه عدم الدخول أو الحضور أيَّ مجلسٍ للخليفة أو موكبٍ له؛ لِمَا أحدث من بدعة في القضاء، ولَمْ يُعد تقليده، وكلف ألا يُمَكَّن من الدخول إليه أبداً( ).
    ومن عظيم منكرات شراء ولاية القضاء تمكين الجاهل من ولاية هذا المنصب الخطير حتى يُحدث به الظلم، ويَقلِب عنه ميزان العدل.
    قال علي بن أبي طالب –رضي الله عنه– في القاضي الظلوم الجهول: "ذمتي رهينة، وأنا زعيم لمن صرحت له العين، ألا وإن أبغض خلق الله إلى الله رجل قمش علماً، غاراً بأغباش الفتنة، عمياً عمَّا في عيب الهدية، سماه أشباهه من الناس عالماً، ولم يغنِ في العلم يوماً سالماً، بكر فاستكثر، ما قل منه فهو خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من آجن، وأكثر من غير طائل قعد بين الناس قاضياً لتلخيص ما التبس على غيره، إن نزلت به إحدى الشبهات هيأ حشواً رثاً من رأيه، فهو من قطع الشبهات في مثل غزل العنكبوت، لا يعلم إذا أخطأ؛ لأنه لا يعلم أأخطأ أم أصاب، خُبَّاط عشوات، رُكَّاب جهالات، لا يعتذر مما لا يعلم فيسلم، ولا يعُضُّ في العلم بضرس قاطع، يذروا الرواية ذرو الريحِ الهشيمَ، تبكي منه الدماء، وتصرخ منه المواريث، ويستحل بقضائه الفروج الحرام، لا مليء –والله– بإصدار ما ورد عليه، ولا أهل لِمَا قرظ به".
    وقال معاذ بن جبل –رضي الله عنه–: "إن من أبغض عباد الله إلى الله عبداً لَهَجَ رواية القضاء، حتى سماه جُهَّال الناس عالماً، فإذا أكثر من غير طائل أُجلِس قاضياً بين الناس، ضامناً لتلخيص ما التبس على غيره، فمَثَلُه كمثل غزل العنكبوت، إن أخطأ به لا يعلم، لا يعتذر مما لا يعلم فيُعذَر، ولا يقول لما لا يعلم: لا أعلم، تبكي منه المواريث، وتصرخ منه الدماء، تُستَحَلُّ بقضائه الفروج الحرام، فمن يعد في هذا البصر وصفه كان محقوقاً بِدَرِّ البُكاء، وطول النياحة على نفسه"( ).
    وبهذا يتبين أنه كيفما كانت ولاية الجاهل، وكيفما كان صولجانه، وثناء الناس عليه مجاملةً ومداهنةً، أو خشيةً من بطشه، أو جهلاً بحاله، وسواءً كانت نيته حسنة أو سيئة؛ فإنه غير قادر على القضاء بغير علم، ولن يتحقق العدل والإنصاف وإصابة الحق في ظل الجهل، كما أن موافقة الحق في الأحكام الصادرة من الجاهل غير معتبرة، وصاحبها في النار.
    فإذا كان هذا القاضي لم يصل إلى هذا المنصب الخطير إلا بواسطة الشراء بالتضمين لبيت المال، أو لمن عَقد الصفقة معه بأي مبلغ معلوم مسمَّى، فسوف لن يكون البيع إلا بضمان الربح، وذلك يعني بيع العدالة وتحقيق الظلم، بسبق إرادته.
    كذلك فإنه لا يَنفع ولا يُشرع مع شراء وتضمين ولاية القضاء أيُّ قصدٍ حَسَن، ولا يتحقق به أيُّ عدل، ولا يَرفع حظرَه أيُّ مُبَرِّر –وإن كان حِسبةً–؛ لعموم أدلة المنع للطالب، فالمشتري والمضمِّن من باب أولى؛ لأنه طلبٌ وزيادة.
    قال وكيع: "أخبرنا حماد بن إسحاق الموصلي، عن أبيه، قال: (قال رجل لعبد الله بن المبارك: ((أيدخل الرجل في القضاء حِسبة))؟ قال: ((نعم، إذا كان أَنُوْكَ( )!)) ) "( ).
    ولعل السبب الجوهري في إفراد هذا الموضوع عن موضوع طلب ولاية القضاء السابق البيان، والمفرد العنوان هو: أن الشراء للقضاء بالتضمين أشد خطراً، وأوقع ظلماً، وأفحش جُرماً، والظلم ظلمات، وليس أشد منه على الإنسان، ولا أعظم ذنباً عند الله، وما الشرك إلا شكلٌ من أشكاله وإن كان عظيماً، كما قال تعالى: ?إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيْمٌ?( )، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، كما هو ثابت في السنة –على صاحبها أفضل الصلاة والسلام–.
    فظلم الإنسان للإنسان معناه: اعتداء الظالم على المظلوم في نفسه، أو ماله، أو عرضه، وهنا يواجه المظلوم الظلم مبرراً دون أمل في رفعه؛ لاشتراك ولي الأمر في إيجابه بالتضمين؛ المانع من إنصاف المظلومين، ومن منع وصول حق لإنسان فهو ظالم له، سواءً كان المنع مباشراً أو غير مباشر.
    ومن استغل منصبَه في إذلالِ إنسانٍ، أو إيذائه، أو مَنْعِ حقِّه؛ فهو ظالم، ومن تلاعبَ بمشاعر الناس وأحاسيسِهم مستغلاً حاجتَهم؛ فهو ظالم.
    وعقوبة الظالم: عاجلةٌ؛ للعظة والاعتبار، كما قال تعالى: ?فَتِلْكَ بُيُوْتُهُمْ خَاوِيَةٌ بِمَا ظَلَمُوْا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُوْنَ?( ).
    وآجلةٌ؛ ليوم تشخص فيه الأبصار، كما قال تعالى: ?وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلِ الظَّالِمُوْنَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيْهِ الأَبْصَارُ * …?( ) الآيات.
    وعن أبي هريرة –رضي الله عنه– قال: "قال: رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم–: »لَتُؤَدُّنَّ الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يُقَادُ للشاة الجلحاء من الشاة القرناء« "( ).
    وعن أبي موسى الأشـعري –رضي الله عـنه– قال: "قـال رسـول الله –صلى الله عليه وآله وسلم–: »إن الله لَيُمْلي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِتْهُ«، ثم قرأ: » ?وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيْمٌ شَدِيْدٌ?( )« "( ).
    وعن عائشة –رضي الله عنها قالت: "قال رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم–: »من ظَلم قيد شبر من الأرض طُوِّقَهُ من سبع أَرَضِيْن يوم
    القيامة«"( )، دون قبولٍ لتبرير.
    وعن أبي هريرة –رضي الله عنه– أن رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– قال: »أتدرون مَن المفلس«؟ قالوا: "المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع"، فقال: »إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا؛ فيُعطَى هذا مِن حسناته، وهذا مِن حسناته، فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبل أن يقضي ما عليه أُخِذَ من خطاياهُم فطُرِحَتْ عليه، ثم طُرِحَ في النار«( ).
    والظلم بطبيعته مستقبح، والظالم منبوذ لدى كل الأمم والشعوب؛ لذلك لا نجد أي مجتمع يقر الظلم وينصر الظالم مجمعاً، وقد كان الجاهليون في الجاهلية يظلمون الضعيف فلم يُقَر هذا الظلم حتى قام من يجمع الناس فيعقدون حِلفاً لنصرة المظلوم ويحضره، رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– قبل البعثة، ويُقِرَّه بعد البعثة –كما تقدم–.
    واليوم على مستوى العالم تنشأ منظماتٍ لحقوق الإنسان، وجمعياتٍ للبِر والرفق بالحيوان، … إلخ، وكلها من أجل إزالة الظلم والتنديد به، بعد أن فُقِدَ العدل وخَرَّ شموخ القضاء بشراء ضمائر كوادره وبيع حقوق الإنسان بأثمان باهظة وباخسة والإطلاق للغالب.
    ومهما قامت من جمعيات تحت أي مسمى، فإنها لن تغني عن الحق شيئاً؛ لأنها تفتقر إلى الاستقلالية، وتفتقد صنع القرار، كما تفتقد الأهلية ومقومات الصفة التشريعية الشرعية، وإن قدرت فقرارها راجح لصالح القوي الغالب، أما المغلوب فمرجوح محجوج مُدان.
    ولا تُلامُ هذه القرارات بل صانعوها، كما لا يُلامُ القضاء بل وُلاتُه، وكلهم أفراد، وهم الملح.. لكن لا صلاح، ومن يُصلح الملحَ إذا الملحُ فَسَد!!
    والسبب –كما هو مستفاد من جملة موضوع الظلم للأستاذ/ حسن أيوب– هو: أن أولئك الأفراد ليس لديهم الفهم الضروري عن بُعد شمولية الإسلام، فهُم لا يُضَحُّون من أجل عموم المسلمين من غير شروط للمساعدة والنصرة والمعونة للمظلوم، وإنما يخصون ذلك للحزب، أو الجماعة، أو الهيأة، وتضاف القبيلة، فالأسرة، ثم بيت بني النشادِر وآل المهادر، وتطبيق قاعدة: (من لم يكن معي فهو ضدي)، وعليه: فكل الخارجين ليسو من المسلمين! أو هُم البَعَر في مقابل التِّبْر!! لا يستحقون الرحمة بهم، ولا الشفقة عليهم، ولا النصرة، ولا المعونة.. مما كان به إحياء دعوى الجاهلية الموصوفة بالنَّتَن( ).
    وإنه ليُلتَزم ضدهم مناورات دعوى الإصلاح، ودعوى مناصرة المظلومين وإغاثة الملهوفين، وهم يَتِرُونَهُم حقوقهم بالالتزام الذي يحق عليهم به قوله سبحانه: ?قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِيْنَ أَعْمَالاً * الَّذِيْنَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُوْنَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُوْنَ صُنْعَاً?( ).
    فإذا كان الإسلام قد حرم الظلم كله، وشرع القضاء لإزالته والقضاء عليه من أجل إقامة مجتمع وإيجاد أمة تحترم الحقوق وتقدس الواجبات، ثم يأتي الظلمة من الحكام وغيرهم ليأكلوا حق الضعفاء ويذلوا الشعوب المغلوبة، فإنهم حينئذ يستحقون من الله أقسى العقوبة وأشد التنكيل في الدنيا والآخرة، وكما تَدين تُدان، ?وَسَيَعْلَمِ الَّذِيْنَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُوْنَ?( ).





    الفصل الخامس:
    بادرةُ حُب الظهور والتقرب إلى الولاة
    شائنةُ وجْهِ القضاء ووصمةُ وجوهِ وُلاتِه
    سطَّر لنا تاريخ الأمم الإسلامية كثيراً من الأحداث التي ظهرت فيها مخالفات لأشخاص في السلوك القضائي.
    من ذلك: ما يتصل بحب الظهور والسعي في إيجاد الوسائل التي يكون بها الوصول إلى مجالس الولاة والمسئولين لغرض تحقيق الارتقاء إلى أول درجات سلم الإمارة وسلك القضاء.
    وأخيراً: الحرص على البقاء بالتقرب والمداهنات والمجاملات وبكل ما من شأنه ضمان الاستمرار إلى غير نهاية.
    ومن أدلة الإثبات التي جرت على الواقع العملي ما أثبته المغيرة بن شعبة عن نفسه بحبها الظهور وحرصها على البقاء بعد الوصول وتخوفها من فقدانه بالعزل؛ حيث يقول"أحب الإمارة لثلاث، وأكرهها لثلاث؛ أحبها: لرفع الأولياء، ووضع الأعداء، واسترخاص الأشياء؛ وأكرهها: لروعة البريد، وخوف العزل، وشماتة الأعداء"( ).
    وهو الذي بادر بالتمهيد للازم توليته بدليل فهم الخليفة/ عمر بن الخـطاب –رضي الله عنه– لبُعد مرماه، ولم يصرح بذلك لأَلاَّ يُمنعَ بِطَلَبِه طَلَبَه، وفيما يلي البيان والتوضيح لصحة هذا المفهوم:
    قال خير الله طلفاح في كتابه: (القضاء عند العرب): "جاء وفد من الكوفة إلى عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– يشْكُون له سعد بن أبي وقاص، فقال له المغيرة بن شعبة: (يا أمير المؤمنين، إن التقي الضعيف: له تقواه وعليك ضعفه، والقوي الفاجر: لك قوتُه وعليه فجورُه)، قال الخليفة: (صدقْتَ، فأنت القوي الفاجر، فاخرج إليهم)، فخرج المغيرة إلى الكوفة، ولم يزل عليها أيام عمر، وأيام عثمان، وأيام معاوية.
    ولما كبُرَتْ سنُّة في عهد معاوية وخاف أن يستبدله بغيره، كتب إليه فقال:
    (… أما بعد: فقد كَبُرت سنِّي، ورقَّ عظمي، واقترب أجلي وسفهني سفهاء قريش، فأترك أمري لأمير المؤمنين يرى رأيه فيَّ)، فكتب إليه معاوية يقول: (… أما ما ذكرتَ من كِبَر سنِّك: فأنت أكلتَ شبابك، وأما ما ذكرتَ من اقتراب أجلك: فإني لو استطعتُ دفع المنية لدفعتها عن آل أبي سفيان، وأما ما ذكرتَ من سفهاء قريش: فحُلَماؤها أحلُّوك هذا المحل، وأما ما ذكرتَ من أمر العمل: فضحِّ رويداً يدرك الهيجا حمل)، فلما انتهى الكتاب إلى المغيرة كتب إلى معاوية يستأذنه في القدوم إليه، فأذن له، وخرج، قال الراوي: (وخرجنا معه، فلما
    دخلنا عليه قال له معاوية: ((يا مغيرة كَبِرَتْ سنُّك، ورقَّ عظمك، ولم يبقَ منك شيء، ولا أراني إلا مستبدلاً بك))، فانصرف المغيرة إلينا ونحن نرى الكآبة في وجهه، فأخبرنا بما كان من أمره، فقلنا له: ((فما تريد أن تصنع))؟ قال: ((ستعلمون ذلك))، فأتي معاوية، وقال له: ((يا أمير المؤمنين إن النفسَ لَيُغْدَى عليها ويُراحُ، ولستَ في زمن أبي بكر ولا عمر، فلو نصَّبتَ لنا علَماً من بعدك نصير إليه، فإني كنت دعوتُ أهل العراق إلى بيعة يزيد))، فقال له معاوية: ((يا أبا محمد، انصرف إلى عملك، ورُم هذا الأمر لابن أخيك))، فأقبلنا نركض عليه، فالتفتَ إلينا، وقال: ((والله لقد وضعتُ رجله في ركاب طويل، ألقي عليه أمةَ محمد كلها)) ) ".
    قلت: وفي تصريح أمير المؤمنين/ عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– بأن المغيرة هو القوي الفاجر فذلك بناءً على ما سبق به التوصيف من قِبَل المغيرة نفسه للمقارنة بين الإيمان المؤدي بصاحبه إلى اكتساب التقوى السلبية في ميزان العمل السياسي.. وبين الإيمان المحقق لحامله إحراز التقوى الإيجابية في ميدان سياسة التعامل الشرعي بين الله والناس في الدولة الإسلامية الفتية.
    فالمغيرة بن شعبة: من أعيـان الصحابة، وله في الإسلام قدم صدق، وبَلَى فيه بلاءً حسناً، فقَدَ إحدى حبيبتيه في معركة اليرموك.. رَوى الكثير من الأحاديث، وأخرج له البخاري ومسلم بالاتفاق والانفراد.. وأخرج له الأربعة أيضاً..
    وإنه ليُضرب بدهائه ورأيه المثلُ في السياسة والحنكة.. ولاَّه عمر –رضي الله عنه– البصرة، ثم الكوفة، وأقرَّه عثمان –رضي الله عنه– على منصبه، افتتح أذربيجان، شهد حروب: الرِدَّة، والقادسية، ونَهاوِنْد، وشهد التحكيم، واعتزل حروب المسلمين فيما بينهم إبَّان خلافة عليٍّ –رضي الله عنه–، تزوج في الإسلام ثلاثمائة امرأة، وقيل: "ألفاً".
    لا، ولم يَصِحْ ما نُسب إليه من دعوى مُخِلَّة بسلوكه الإيماني الجهادي، وبجلال قدم صدقه في نصرة الإسلام وبلائه فيه.. ويكفيه قدراً وفضلاً صحبته رسولَ الله –صلى الله عليه وآله وسلم–، والله المستعان.
    وأخيراً: فهذه الحادثة لا تحتاج إلى تعليق أكثر من هذا.
    وقد بقي المغيرة على الكوفة حتى توفاه الله في عِداد صحابة رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم–.
    (والأشياء بضدها تتميز وتُذكر)، وهذا نموذج مضاد نطرحه للمقارنة:
    فإنه لما صارت الخلافة إلى هشام بن عبد الملك بن مروان أُشير عليه أنه لا يَسْتَتِبُّ العدلُ في مُلكه إلا بولايته زيادَ بن عبد الرحمن القضاءَ، فبعث هشام إليه ليحضر، فتمنَّع، فألَحَّ عليه وأرسل الوزراء إليه، فكلموه في الأمر، وعرَّفوه عزمَ الأمير، فقال لهم: "أما إذا عزمتم، وأكرهتموني على القضاء فإن أول ما أبدأ به هو: إن جاءني أحدٌ متظلماً منكم فلا بد وأني مخرجٌ من أيديكم ما يدعيه ورادُّه إليه، ومكلفكم البينة لِمَا أعرف من ظلمكم"، فلما سمعوا ذلك منه رجعوا إلى هشام وأخبروه أمرَه، فقال: "هو الذي يقينا شرَّ الزلل"، فولاه القضاء وائتمَنَه( ).
    ومثل هذه النماذج هي التي أعطت للقضاء مكانته، وللقضاة احترامهم وتوقيرهم على مستوى الدولة، بمن فيهم الحاكم والمحكوم، الراعي والرعية.. والعكس بالعكس..
    ?وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ?( )، والمغترُّ مُهان، والمسئولية فتنة، ومورِدةٌ صاحبَها أمهات المهالك، وأوَّلها بَطَر الحق، وغمْط الناس حقوقهم.. ولا أقل من نتيجة الندم.. بطلب المسئولية..
    وقد سبق ما ذكرنا من أمر الحجاج بن أرطأة؛ قاضي البصرة في عصر السفاح؛ مؤسس دولة بني العباس من أنه أول من ترك صلاة الجماعة.. من أجل ألاَّ يلتقي ويلتصقَ في الصف بالحمَّالين والبقَّالين وهو من له شأنه.. في نظر نفسه!!
    وعن أبي بحر البكراوي أنه قال: "دنوتُ من الحجاج بمِنى، فقال لي (تنحَّ، نحن قوم نجالس هؤلاء الملوك، ولا آمَن أن يكون في ثوبك دابة فتقع على ثوبي) "( ).
    وذُكر عن ابن أبي الشوارب الذي وُلِّي قاضيَ قضاة دولة معز الدولة/ ابن بُوَيْة، وقد سبق أنه أول من ضَمَّن القضاء، وأنه كان إذا ركب تتقدمه الدبادب والبوقات، وكان من عُشَّاق حب الظهور، ومن روَّاد مداهنات ومجاملات ذوي الهيئات والولاية( ).
    وأكثر مِن هذا مَن كان يداهن الأمراء والولاة إلى حد الكذب على رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم– لإرادة التقرب منهم والحظ عندهم، والظهور فيهم، وهم يمنحونه ثقتهم دون الناس( ).
    ومن هذا النوع: أبو البختري وهب بن وهب؛ قاضي الجند أيام المهدي بن المنصور، وقاضي المدينة المنورة، وقاضي بغداد في أيام هارون الرشيد بن المهدي، لقد كان هذا القاضي من الوضَّاعين للأحاديث، الكذَّابين على رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم–، فهو الذي وضع حديث: "إذا كان يوم القيامة يؤخذ للناس القصاص إلا من بني هاشم"، وذلك ليتقرب به إلى الرشيد.
    وما خفي على الرشيد كَذِبَ هذا القاضي على رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم–، ولكنه تركَه لمصلحة المُلْك العَضُوض الموطَّد شـموخَه بالمَصْلَحِيِّيْن عُبَّادَ المظاهر والأهواء، والجاري عليه تحذير وصفهم بالمتزلفين والمحابين والمداهنين بدعوى الضرورة، كما أن هذا القاضي اللائق عليه مفردات الأوصاف هو الذي وضع للرشيد حديثاً عن النبي –صلى الله عليه وآله وسلم– بسنده المتصل عن أبي هريرة.. ومرَّةً عن عائشة: أنه كان يُطَيِّرُ الحمام، وزاد في حديث: »لا سبق إلا في نَصْلٍ أو خُفٍّ أو حافِر«: "أو جَناح"، فكافأه الرشيد على كَذِبِه، وزعم أنه لو لم يكن من قريش لعزَلَه!
    ومهما حصل هذا من الخليفة/ الرشيد إلا أنه كان –رحمه الله– وارف الإيمان، ومن سيرته أنه كان يغزو عاماً ويحج عاماً، أما ما يُسند إليه من المخالفات فأدواءُ مَن سواه في خلافة الملك العضوض تبزُّ كلَّ مخالفة أسندت إلى ملكه سواءً كانت تخصه أصلاً أو تبعاً داخل حاشيته أو خارجها في السلطتين التنفيذية والقضائية.
    وعند المحدِّثين: أن الواضع لزيادة: "أو جَناح"في الحديث هو: غياث بن إبراهيم، وذلك في مجلس الخليفة/ المهدي.



    الباب الخامس

    السلطة القضائية
    ولازِمُ صفاتِها



    الفصل الأول:
    مقوماتٌ القاضي الخُلُقية والفنية
    ذكر بعض الفلاسفة مدى الترابط بين القاضي والطبيب وحالتهما مع الناس، فقال: "إن القاضي والطبيب لا يحتاجهما المجتمع السليم، بل يحتاجهما أو إنما يحتاجهما المجتمع العليل، سواءً كانت هذه العلة اجتماعية بالنسبة للأول أو جسمية بالنسبة للثاني"( ).
    وقال الإمام/ مالك –رحمه الله– عن عمر بن عبد العزيز –رضي الله عنه–: "إنه يَحْدُثُ للناس من الأقضية بقدر ما يحدث لهم من الفجور"( ).
    وهذا يعني أن عدد القضاة وعدد أقضيتهم يزداد بقدر ما يزداد الفجور بين الناس.
    فالطبيب والقاضي يعملان معاً في وسط المعتلِّين والمشوَّهين والشواذ، ولكن هذه العلل بالنسبة للطبيب في أجسام الناس، وبالنسبة للقاضي في نفوسهم وطباعهم.
    فالمحكمة دائرة القاضي لمكافحة الجريمة، والمستشفى دائرة الطبيب لعلاج الداء الجسمي الظاهر واكتشاف الداء الخفي بالعلم والخبرة.
    ويُروي أن أبا الدرداء عندما كان قاضياً كتب إلى سلمان الفارسي أنْ: "هَلُمَّ إلى الأرض المقدَّسة"، فكتب إليه سلمان: "إن الأرض لا تقدِّس أحداً، وإنما يقدِّس الإنسانَ عملُه، وقد بلغني أنك جُعِلْتَ طبيباً، فإن كنتَ تبرئ فنعمَّا لك، وإن كنتَ متطبباً فاحذر أن تقتل إنساناً فتدخل النار"، فكان أبو الدرداء إذا قضى بين اثنين ثم أدبرا عنه نظر إليهما، وقال: "متطبِّب –والله–، ارجعا إليَّ، أعيدا عليَّ قضيتَكما"( ).
    هكذا شبَّهَ سلمانُ –رضي الله عنه– القاضي بالطبيب، فالقاضي أُنيط به تقويم اعوجاج النفوس المنكَرة والمنحرفة، والطبيب يقُوْم بمكافحة الأمراض الجسمية وتخليص الجسم من الأوبئة الفتاكة، فهو يعدِّل اعوجاج الجسم المريض، كما يعدِّل القاضي اعوجاج الأخلاق المريضة.
    وعلى هذا: فيستوجب على القاضي أن يكون عالماً بالقانون، ممارساً لأسلوب القضاء، مطَّلعاً اطِّلاعاً واسعاً وعميقاً على قواعد النفس البشرية وما يخالطها من ميول ونزعات وغرائز وأحاسيس وعواطف، كما يجب أن يكون مطلعاً على عادات المجتمع الذي يعيشه وسابراً غور تقاليده وأعرافه، وأن يكون عالماً بمشاكل الناس وقضاياهم، وحافظاً للأمثال والقواعد الكلية التي يسير بموجبها مجتمع ما وتنظيم علاقات أفراده بعضهم ببعض.
    ومن المعلوم حقاً: أن المجرم هو لَبِنَةُ جسمِ مُجْتَمَعِه، ومن مصلحة المجتمع أن تَصلُح هذه اللَّبِنَة؛ فتُستعمل من مادة صلبة بدلاً من رمل تتبدد ذراته تحت أبسط الضغوط، ولا يتمكن القاضي من إصلاح هذه اللبنة –وأقصد المجرم– إلا إذا عرف القاضي حقيقة تكوين هذه اللبنة ومكوناتها معرفة علمية واسعة ودقيقة، حيث يعرف فيها قضاياها النفسية ومشاكلها الاجتماعية، ثم يباشر بمعالجة الداء، بوصف أنجع الدواء.
    وعلى هذا: نرى أنه ليس بوسع أي إنسان أن يكون قاضياً ما لم يكن عالماً ذكياً ملماً إلماماً واسعاً ودقيقاً بأحوال الناس وشئونهم والنظم والتقاليد التي يخضعون لها، فضلاً عن النـزاهة والحياد وضبط النفس عن المغريات؛ لأجل أن تكون وصفته ناجحة في علاج جريمة المجرم، وإلا فإنه يبعد عن أهدافه وغاياته، وقد يصِفُ الموتَ متصوراً أنه حياة.
    ويرى البعض أنه يلزم القاضي معرفة علم الاجتماع وعلم النفس، وأن جهله بهما كجهل الطبيب بعلم وظائف الأعضاء( ).
    واقتصار القاضي على دراسة مواد القانون كاقتصار الطبيب علمَه على حفظ دواءٍ لكل داءٍ دون النظر إلى تحمُّل المريض وإلى طبيعته الشخصية وحساسيته للدواء الذي يُعطيه إياه.
    ومن هذا يظهر لنا أن المهمة التي يتحمل تبعتها القاضي والتي تُلقى على عاتقه مهمة شاقة ودقيقة، وهو المسئول الأول عن كل خطأ أو تعسف أو شطط يلحق بأحكامه علماً بأن كل خطأ أو نقص في تلك الأحكام يعتبر مَسَبَّة للقضاء، ولأنه إنما يجانب قواعد العدالة التي لا يقوم مجتمع إلا بها.
    وهي أمانة المجتمع أودعها في عنق القضاء، فلا يحملها أو يتحملها إلا قاضٍ اتصف بصفات تقارب الكمال علماً وعقلاً ونفساً وخلقاً.

    ورُوي عن الزهري أنه قال: "ثلاثٌ من كُنَّ فيه فليس بقاضٍ: إذا كره اللوائم، وأحب الحمد، وكره العزل"( ).
    وقيل: "من أحب المال والشرف وخاف الدوائر لم يعدل".
    وقيل في كتاب: (مجمع الأنهر): "القضاء بالحق من أقوى الفرائض، وأفضل العادات بعد الإيمان بالله تعالى".
    وقيل: "الحاكم نائب الله في أرضه في إنصاف المظلوم من الظالم، وإيصال الحق والمستحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالحكم العادل"( ).
    وقيل: "إن القاضي ينبغي أن يكون موثوقاً به، معتمداً عليه في دينه، محترزاً عن الحرام، عفيفاً في أفعاله وأقواله، متَّزناً في عقله، حكيماً في تصرفاته.
    وينبغي أن يكون شديداً من غير عنف، ليناً من غير ضعف؛ لأن القضاء من أهم أمور الناس، فكل من كان أعرَف وأقدَر وأوجَه من غيره وأهْيَب وأصبَر على ما يصيبه من الناس كان أولى بمنصب القضاء من غيره.
    ويجب على القاضي أن يكون بعيداً عن الفضاضة والعناد، ومواقف الشُّبه؛ لأن القضاء رفعٌ للمفاسد، بينما الفضاضة والعناد مُوجِدتان لها، ومواقف الشُّبه من مُزريات الأخلاق.
    ويجب على القاضي أن يضع دوماً وأبداً أمام عينيه قول الرسول –صلى الله عليه وآله وسلم–: »من قلد إنساناً عملاً، وفي المسلمين أوفى رعيتِه مَن هو خير منه وأولى، فقد خان الله ورسوله، وخان جماعة المسلمين« ".
    وقال عمر بن الخطاب –رضي الله عنه–: "من استعمل فاجراً وهو يعلم أنه فاجر، فهو فاجر أيضاً، وهو ومَن استعمله في النار"( ).
    وقد اعتمد عمر ذكاء وفطنة كعب بن سور الأزدي في توليته القضاء.
    وقد كان كعب جالساً عند عمر ذات يوم فجاءته امرأة وقالت: "ما رأيت رجلاً أفضل من زوجي، إذ يبيت ليله قائماً وينهي صومه نائماً"( )، فاستغفر لها عمر وقال: "مثلك أثنى بالخير"، وأعجبه ثناؤها على زوجها، فأسرَّ كعب في أذن عمر وقال: "يا أمير المؤمنين، إنها تشكو زوجها لحرمانها من حقها في فراش الزوجية"، فقال عمر موجهاً قوله إلى كعب: "أذاكَ أرادتْ"؟ قال كعب: "نعم"، فقال عمر موجهاً قوله إلى الزوجة: "لا بأس بالحق الذي تقولين، إنَّ هذا – وأشار إلى كعب – يزعم أنك تشتكين من زوجك"، قالت المرأة: "أجل إني امرأة، وإني أبتغي ما يبتغيه النساء من رجالهم"، فأُعجِب عمر بذكاء كعب، وأرسل إلى زوج المرأة، وقال لكعب: "أمَا وقد فهمتَ هذا فاحكم فيهم"، فقال كعب: "إني أرى لها يوماً من أربعة أيام"، قال عمر: "إنَّ رأيك أعجبني، اذهب فأنت قاضٍ على البصرة".
    وهكذا كان اختيار كعب لقضاء البصرة مستنداً إلى فطنته وذكائه في فهم القضايا وتعليل الحكم وبيان الأسباب ومعرفة المسببات.
    فبعثه عمر إلى البصرة قاضياً؛ لأنه ذكي وفطن، ولأن الذكاء والفطنة صفتان ازمتان للقاضي الناجح للأسباب التي سبقت، لأن أقوال الناس لا يفسرها إلا عاقل، ومشاكل الناس لا يذللها إلا ذكي فطن فقيه متأنٍّ غير مرتجل ولا عجول.
    وورد عن عمر بن عبد العزيز قوله: "لا يصلح القضاء إلا القوي على أمر الناس، المستخف بسخطهم وملامتهم في حق الله، العالِم بأنه مهما اقترب من سخط الناس وملامتهم في الحق والعدل والقسط استفاد بذلك ثمناً رابحاً من رضا الله وعفوه وغفرانه".
    وقال أيضاً: "إذا كان في القاضي خمس خصال فقد كَمُل: علمٌ بما كان قبله، ونزاهةٌ عن الطمع، وحِلمٌ على الخصم، واقتداءٌ بالصالحين، ومشاركةُ أهل العلم والرأي في علمهم ورأيهم"( ).
    أما الإمام/ مالك –رحمه الله– فإنه قال: "إذا توافر للقاضي شرطان صلح لتولي القضاء، وهما: العلم، والورع"( ).
    وقال ابن حبيب: "فإن لم يكن علم؛ فعقل وورع، فبالعقل يُسأل، وبه تَحصل خصال الخير كلها، وبالورع يعُفُّ عن المحرمات، وصاحب العقل إذا طلب العلم أدركه، وطالب العقل لا يدركه"( ).
    ويُروى أن عباس بن سعيد كان قاضياً على مصر، ولما قدم مروان بن الحكم إلى مصر سأل أهلها من قاضيهم، فأشاروا إلى عباس، فقال له مروان: "أجَمَعْتَ كتاب الله"؟ قال عباس: "لا"، قال مروان: "وأحكمتَ الفرائض"؟ قال: "لا"، قال مروان: "فكيف تقضي بين الناس"؟ قال عباس: "أقضي بما أعلم، وأسأل عما أجهل"، قال مروان: "أنت القاضي"( ).
    وفي: (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء): "كثير العقل مع قليل العلم أنفع من كثير العلم مع قليل العقل"، وفيه: "ولَعَدُوٌّ عاقل خير من صديق جاهل"( ).
    ومن أجمع الصفات اللازم توافرها في من يتولى القضاء: تلك الصفات التي اشتمل عليها كتاب علي بن أبي طالب –رضي الله عنه– لعامله على مصر/ الأشتر النخعي( ).
    ومما قال فيه: "… ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم، لا يتمادى في الزلة، ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم عن الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلهم تبرماً بمراجعة الخصم، وأصبرهم على تكشف الأمور، وأصرَّهم عند إنضاج الحكم ممن لا يزهيه إطراء، ولا يستميله إغراء".
    والخلاصة: أن الكلام في الأخلاق جَدُّ واسع، وليس المطلوب الاستقصاء، ولكن فقط ما يتعلق منه بالجانب القضائي، وما عداه من الجوانب الأخرى فلازم تعلقها بالأخلاق العامة، على مستوى الفرد والجماعة، وبقاء الأمم بالأخلاق، وذهابهم بذهابها، كما قال الشاعر:
    إنما الأمم الأخلاقُ ما بَقِيَتْ
    فإن هُمُ ذَهَبَتْ أخلاقُهم ذهبوا

    ومعلم البشرية وقدوتُهم في كمال الأخلاق: محمد –صلى الله علية وآله وسلم– بدليل قول أم المؤمنين/ عائشة –رضي الله عنها– لما سئلت عن أخلاق رسول الله –صلى الله علية وآله وسلم– قالت: "كان خلقه القرآن"( )، اقرءوا إن شئتم قول الله تعالى: ?وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيْمٍ?( ).
    وكما ألزم المشرع بالأخلاق تجاه الآخرين ألزم كذلك الفرد بها في مقابلة إخوانه؛ حيث ورد عنه –صلى الله علية وآله وسلم– قوله: »اتق الله حيثما كنتَ، وأتبع السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالِقِ الناسَ بخُلُق حسن«( ).
    والقاضي مطلوب منه المخالفة بمجموع ما هو مطلوب منه من عامة الناس، وزيادة على ذلك، كما سبق فيما هو مسطور نصاً وإشارة وتلميحاً بخصوصه( ).
    وحقوق الناس كلها المدنية والشخصية والجزائية متعلقة بشخص القضاء المتمثل في شخص القاضي الحاكم بالعدل والقسط الواجب شرعاً، بعيداً عن الحَيف والظلم والمداهنة والمماطلة والمجاملة والمحاباة.
    وحاصل هذا وواقعه سلباً وإيجاباً مبني على ضوابط شرعية فردية وجماعية وسياسية.
    ولا يفوتنا أن نذكرها إتماماً للفائدة العامة، وحرصاً على إثبات ما به يستقيم سلوك الخاصة، من خلال مفهوم ثلاثة ضوابط شرعية من أصول التربية( ).
    أولاً: مفهوم الضابط الخلقي للفرد:
    عندما تتمكن تعاليم الشريعة من نفس الفرد ومشاعره تصبح بمثابة ضابط خلقي يحاكم المرء نفسه إليه، عندما يقف أمام أمور مشتبهات، كبعض أساليب المعاملات، وكذم الإنسان المجاهر بالمعصية والمتجاوز حدود المأمورات إلى الوقوع في المنهيات والمحظورات.
    والضابط الخلقي هو خلاف الوازع الديني.
    فالوازع الديني: يبعدك عن حمى المحرمات، والوقوع في الشبهات إجمالاً.
    أما الضابط الخلقي: فهو الذي يوحي إليك ويلهمك إلى حد المنع من الاقتراب من حدود المحرمات بدقة المعرفة لجزئيات المعصية؛ فلا تقترب منها، فهو يقول لك"إن النظرة سهم من سهام إبليس المسمومة، فصُن نفسك عن النظرة إلى ما لا يحل لك أو يحرم عليك من النساء، فإذا وقعتَ في نظرة الفجأة فلا تعاود وأقصر بصرك، فالنظرة الأولى لك، والثانية عليك بنص الشرع، والنتيجة الحد بالوقوع تطهيراً".
    والإسلام يشترط حداً أدنى من معرفة أحكام الشرع، فلا يجوز لمن لم يعرف الحلال والحرام أن يفتي، ولا لمن لم يعرف أحكام العقود أن يعقد، وليس هناك حجر على من يريد أن يتعلم ويتعرف على هذا الضابط، بل يلزم هذا أن ينضم إلى حلقات علمية؛ ليتعلم فيها هذا الفن، كما يلزم كل مُصَلٍّ أن يتعلم أحكام الصلاة، وإلا أثم، والله تعالى أمر بالعلم قبل القول والعمل في قوله: ?فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ...? ( )، الآية.
    ولا بد أن يكون الدافع الحقيقي: الخوف من الله، وإرادة رضاه دون إرادة الحظوظ الأخرى، وتلك هي الميزة الأساسية التي يمتاز بها الشرع عن القانون.
    ثانياً: مفهوم الضابط الاجتماعي:
    وعندما يكثر تداول أحكام الشريعة على المستوى الاجتماعي في حلقات الوعظ وخطب المنابر، تصبح بعض هذه الأحكام أعرافاً ومصطلحات اجتماعية، فمثلاً كلمة غشاش ومرابي وخمار وسارق.. إلخ، إذا أطلقت على شخص فإن المجتمع المتحلي والمتصف بإقامة الوعظ والإرشاد ينبذ ذلك الشخص المتصف بأي صفة جاء النهي والإنكار لها إجمالاً بفعل الموعظة الموجِدة للوازع.
    وهذا يدل على أن المجتمع يدافع عن نفسه كلما استوعب، ويدافع عن كيانه كلما وعِيَ جوهر الدين وروح الإسلام، وهو يمنع المجاهرة باقتراف المحرمات، محتقراً متعاطيها، نابذاً للفُسَّاق وأصحاب المعاصي مهما كانت مكانتهم في الحسب والنسب، ومهما كانت قوتهم وشوكتهم، وذلك بعد أن تجاوز الوعظ بأصحابه درجة الوازع إلى فقه الضابط.
    وقد ربى الإسلام هذه الفطرة الاجتماعية، فنظم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحض على ذلك، وجعل تركه من علامات انهيار المجتمع، قال تعالى: ?لُعِنَ الَّذِيْنَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيْلَ عَلَى لِسَانِ داوُد وَعِيْسَى بْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوْهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُوْنَ?( ).
    وعن أبي بكر، عن رسول الله –صلى الله علية وآله وسلم–: »إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشَكَ أن يعُمَّهُم الله بعقابِه«( )، فإن فعلوا صَرَفَ الله عنهم السوء، ولن يَتِرَهُم أعمالَهم؛ بدليل قوله تعالى: ?والَّذِيْنَ يُمَسِّكُوْنَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيْعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِيْنَ?( )، وما كان ليحصل التمسيك بدون لتعلُّم.
    ثالثاً: مفهوم الضابط السياسي:
    عندما تتولى السلطة تنفيذ أوامر الشرع تصبح تعاليم الشريعة سلوكاً سياسياً تسلكـه الدولة
    مع جميع رعاياها؛ فتقطع يدَ السارق، وترجم الزاني، بل تقيم جميع الحدود، وتمنع التبرج، والسفور، والظلم، والبغي بغير الحق، وتُراقِب الباعة؛ فتمنع الغش، والاحتكار، وتنشُر العلم، وتحيط المدراس بعناية وتوجيهات دينية خاصة، وترسل الدعاة إلى الله، وترفع راية الإسلام، وتُوجِّه وسائل الإعلام توجيهاً إسلامياً، إجمالاً وتفصيلاً، للتفقيه في مسائل الحلال والحرام؛ تحصيلاً للوازع والضابط، وحتى يتربى الناشئ في هذا الجو على المعاني الإسلامية، يستقيها مِن منـزله، ومدرسته، ومن الندوات التي تتعالى في المآذن، ومن منابر المساجد، ومن الإذاعة، والرأي، ومن كل شيء يحيط به، فلا يقع بصره إلا على معروف، ولا يطرق سمعه شيئاً ينكره الإسلام، أو يُغضِبُ الله، ولا تحدِّثُه نفسُه بمعصية، ما دامت هيبة الدولة المسلمة، وهيبة المجتمع يَرْدَعانِه عن ذلك.
    فإذا وقع في معصية سَتَرها، وندم، وتاب، وعاد إلى جادة الصواب، فيتوبُ الله عليه إن كان لا يجاهِر بها، ثم أقلع عنها، وندم، وتاب، بعد ردِّها، أو استعفاء صاحبها إن كانت حقاً لإنسان.
    وهكذا تُرَبِّي الشريعةُ الإسلامية السلوكَ والأخلاقَ في الإنسان بثلاثة أساليب، والقاضي أولَى بالاتصاف بها، وهي عليه أَلْزَم:
    1- أسلوبٌ تربويٌ للسلوك والأخلاق ينبع من داخل النفس بِعِلْمٍ:
    ضابطه: الخوف من الله، ومحبته، وتطبيق شريعته؛ اتقاءً لغضبه وعذابه، ورغبة في ثوابه، وهذا الأسلوب قد تَخْبُو جَذْوَتُه أحياناً عند بعض الناس، أو يفقده مَن لم يتمكن الإيمانُ من قلبه، فتسوِّل له نفسُه العَبَثَ بحُرُمات الإسلام، أو أن يطمع بالمال الحرام، أو يصدر في الشهوات المحرمة، أو يحاور في الخيانة العامة لله أو لكتابه أو لرسوله.. فتعالجه الشريعة بالأسلوب الثاني المتمثل في الحكمة والحسنى، ثم في الإعذار والإنذار.
    2- التناصحُ الاجتماعي، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر:
    فالمجتمع الغيور على شريعة الله وحرماته لا يَدَعُ مُنكَراً، ولا يُقِرُّ على ترك أصل من أصول الإسلام، كالصلاة والزكاة والصوم والجهاد، بل يأمر المقصِّر، ويأخذ بيده ليُعِيْـنَه على نفسه الأمارة، أو على تربية سلوكه الشخصي والأُسَري.
    3- وازعُ السلطة التنفيذية:
    أي: الدولة المسْلمة التي تنفِّذ أحكام الشريعة، فيستَتِبُّ الأمن، ويسود

    سلطان الشرع، ويَنْعَمُ الناس بعدل الشريعة، في ظل تطبيق أحكامها، بعد الإنذار السابق للتنفيذ الوارد في معالجة الأسلوب الثاني( ).
    وهذه الأساليب الثلاثة تتعاون على تحقيق المعاني الإسلامية وتطبيقها في حياة الفرد والجماعة والدولة، فتصبح هذه الحياة أقرب ما تكون إلى الكمال والسعادة والحضارة والرخاء والتكافل والطمأنينة والاستقامة.
    وتنْبُع أصالة الشريعة الإسلامية من اعتمادها على الإيمان بالله، وعبادته، والخوف منه، وعن هذه الأصالة يصْدُر المجتمع في تقاليده وأعرافه الإسلامية، كما يصْدُر الفرد في سلوكه، وأمانته، وانضباطه الذاتي، وإقباله على تعلُّم الشريعة، وتطبيق أحكامها على نفسه، دون حاجة إلى رقيب، أو جلاد رهيب، يدفعه ويقهره إلى تنفيذ الأوامر دفعاً قهرياً، كما يحدث لدى الأمم ذات القوانين الوضعية.
    وهذه هي أعظم ميزة تُمَيِّزُ الشرعَ الإسلامي عن القوانين البشرية الوضعية.
    وإنَّ مما نرى على القاضي استيعابَه، وضرورةَ فقهه له وتفقهه فيه، مِن ذلك ما يلي:
    أصول وأمهات الأحكام الفرعية، أو ما تسمى بـ(الضروريات الخمس):
    1. حفظ الدِّين.
    2. حفظ النفْس.
    3. حفظ المال.
    4. حفظ العِرض.
    5. حفظ العقل.
    فهذه الصفات لها أكبر الأثر في السلوك التربوي، والنهج الأخلاقي، والتقويم للصفات القضائية الحميدة.
    يقول أحد علماء التربية والفكر الإسلامي( ) في كتابه: (فصولٌ في الإمرة والأمير):
    "وإذا تبين أن حفظ الشريعة مطلوب، وإقامة العدل مطلوبة، فمِنْ هاهُنا تتبيَّن أهمية القضاء، وأهمية ردِّ المظالم، ومِن ثَمَّ كان القضاءُ وردُّ المظالم من أركان الحكم الإسلامي خلال التاريخ، وحفظ الشريعة يقتضي حفظ الكليات الست: الدِّين، والنفْس، والعقل، والمال، والنسل، والعِرض، كما يقتضي تطبيق أحكام الشريعة في كل الشئون الشخصية والتجارية والحياتية، وهذا يقتضي تقنين الشريعة في عصر مُعَقَّد كعصرنا، يحتاج الناس فيه إلى أن يكونوا على بصيرة، ولو أن حكومات العالم الإسلامي اتجهت إلى تقنين الشريعة، وضبط الأمور بموازينها لوجدت أن في الشريعة من الفُسَح ما يفوق التصور، بحيث لا تحتاج حكومة إلى أن تفكر أن تستحدث شيئاً مَّا يخالف الشريعة الإسلامية، ولكن كفروا وعجزوا".
    قلت: ولقد تضمنت الشريعة الإسلامية كامل ما يحتاجه البشر لِدُنْياهم وآخرَتِهم من عقيدة وشريعة ومنهجِ حياة، على مستوى نصوص التشريعات وروحها أو فحواها في الأصلَين/ القرآن، والسنة، ودلالاتُها كافية على قيامها ووفائها بالحقوق، وتقريرها للواجبات، وتوجيهها إلى المنافع والمصالح الخاصة والعامة مهما وَلِيَ تنظيرَها وتحويرَها روادُها المنتمون إليها عِلماً وفِقهاً، والحائزون بها قَصَب السبق تمسُّكاً وتمسيكاً وعقلاً، ?وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُوْنَ?( )، ?والَّذِيْنَ يُمَسِّكُوْنَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيْعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِيْنَ?( )، لِتَبْقى مفاهيمُها متجددة مدى الدهر للقانِع والمُعْتَرِّ، لا يَعْزُب عنها مثقال ذرة في حكم شرعي، إما نصاً مقطوعاً علمُه بالضرورة في الأصلَين، أو مفهوماً عِلمياً يبيِّن الإجمال على طريق زيادة الإفهام للحاضر والبادِ، أو مفصِّلاً لعمومٍ اقتضاه البيان للضال والمحتار.
    وفي السنة ضالة تقدير دليل المُحْكم والمتشابِه إلى درجة الوقوف به على تحقيق الهداية إليه في الأصل الأول/ كتاب الله، ?إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيْدٌ?( ).
    وبما أن الهداية به –ولا سبيل إليها إلا عن طريقه، ولَرَسول الله –صلى الله علية وآله وسلم- أحْرَصُ على الهدْي به بأمر الله، ?قُلْ هَذِهِ سَبِيْلِيْ أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيْرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي?( )– إلا أن حصولها لا يتم بغير أخذ هدْي النبي/ محمد –صلى الله علية وآله وسلم–، ?وَلَكِنْ جَعَلَّنَاهُ نُوْرَاً نَهْدِيْ بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِيْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيْمٍ?( ).
    ومن تقرير وجوب التزام هديه إلى وجوب الرضا بحكمه، ?فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُوْنَ حَتَّى يُحَكِّمُوْكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيْمَاً?( )، ومن لم يرضَ بحكم الله ورسوله فقد فسق وظلم وكفر.. أخذاً مِن تقرير جحودِه.. وواقع عجزِه.
    ثم إن مما يعني سماحة الإسلام وفساحة شريعتة –الباقية بصلاحها لكل زمان ومكان ما بقيت الدنيا–: أن تبقى أحكامُه في القرآن والسنة منـزهةً عن أي تقنين يفسد إثراء الفقه بمعانيها العامة المتجددة.. أو يمنع تحديث البحث بدلالة مفاهيمها العلمية المكتشفَة..
    كذلك: وفي عدم التعرض لأحكام الفقه الإسلامي بالتقنين أمرٌ يقتضيه تحرير الاجتهاد.. ويعنيه مفهوم واجب استقلال القضاء.. وظاهر قانونية إطلاق سلطان القاضي في قضائه لغير القانون.. وليبقى تقدير الحكم في الحادثة للقاضي الممارِس للقضاء عشرات السنين وهو يُنْـزِل أحكامَه في كل حادثة منـزلة سماحة الإسلام وتشريعاته.. ثم هو يوجهها في نطاق السهولة، واليسر، والمجاوزة، واللين.. في غير ضعف.. أو في حدود الحزم، والجزم، والقوة.. في غير عنف..
    وأيُّ وصف أو إجراء يقدِّرُه القاضي حُكماً للحادثة أو في حادثة ما يكون موضعَ العدل والإنصاف باجتهاده وهو مُثابٌ عليه مرةً أو مرتين.. كل هذا يتحقق في حال ترك الأحكام الشرعية لمشرِّعها.. وترك حرية سلطة اختيار فهمها للفقيه، والقاضي، والباحث يجتهد ليبتكر ويقدِّر ويكتشف..
    وفيما عدى أحكام الشرع فلا مانع من وضع قوانين تنظيمية قضائية، وإدارية، ومالية، وسياسية.. إلخ.. بشرط عدم التجاوز بها حدود مقومات الإسلام وملزِمات الإيمان..
    والله المستعان.


    الفصل الثاني:
    مقومات القاضي الأدبية
    لقد سبق أن بينَّا أن العلم، والعقل، والهيبة، والوقار أمور ضرورية للقاضي، حيث أنها من أخلاقه، ويظهر بها الفن القضائي والضابط السلوكي والمنهجي في حياة القضاء العادل النـزيه، وللأخلاق ارتباط وثيق بالتربية السلوكية الأصلية والمكتسبة، وقد وجدنا هذا ظاهراً –فيما قدَّمنا– في موضوع الفصل الأول من هذا الباب: (مقومات القاضي الخُلُقية والفنية) السابق وصفه وبيانه؛ لذلك قصدنا فصل موضوع الآداب عن الأخلاق؛ لتَمَيُّز معانٍ ثقافيةٍ خاصة لكل منهما، وكلها صفات ضرورية ولازمة للقاضي.
    فمن الضروري أن يكون القاضي ذا حِسٍّ مُرْهفٍ، ومشاعرَ رقيقةٍ، وأدبٍ جَمٍّ، وعبقريةٍ في الأسلوب نثراً وشعراً، إذْ أنَّ ذلك يوسِّعُ أُفُقَه ومَدارِكَه العلمية.
    والأدب: هو الوسيلة المعبِّرِة عن مكنوناتِ النفس؛ ليُعَبِّر عنها، وخوالجِ الفكر؛ لينتصر لها، وتلك كلها أسباب وعوامل تساعد القاضي في وَضْع وصَوْغ أحكامه، وسَبْك عباراتها.
    والأدب: الخصال الحميدة، والقاضي محتاج إليها؛ فأفادَها، وهو أن يذكر بما ينبغي أن يفعله ويكون عليه.
    والأدب: يقع على كل رياضة محمودة؛ لذلك يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل، ويجوز أن يعرَّفَ بأنه: مَلَكَة تَعْصِمُ مَن قامتْ به عمَّا يُشِيْنُه، وسُمِّيَتْ الخصال الحميدة أدباً لأنها تدعو إلى الخير.
    ويُقصد من إيراد هذا الموضوع: بيان ما يجب على القاضي أو يُسَن له أن يأخذ به نفسه وأعوانه من الآداب والقوانين التي تنضبط بها أمور القضاء، وتحفظ القضاة من الميل والزيغ، ويظهر أن هناك فرقاً جوهرياً بين ضابط الأخلاق وضابط الآداب.
    وأظهَر مميزات الأخلاق عن الآداب هو: أن الخُلُق –بضم اللام– يعني: الصورة الباطنة، وهي: نفسُه وأوصافها ومعانيها، وعليه مدار الثواب والعقاب.
    والأدب يعني: الصورة الظاهرة، وتعلقُه قضائياً بالصيغة الفنية للأحكام، ومداره على الثواب والعقاب محتمل؛ لعدم اشتراط صحة العقيدة( ).
    ومن أدب القاضي (خمسة عشر) أدباً، كما قال الأسيوطي في: (جواهر العقود):
    "الأول: إذا قَصد عملَه أرسَل رُسُلاً أو كُتُباً يُعْلِمُهم بذلك؛ ليصيروا على أُهْبَة له.
    الثاني: إذا وصل إلى عمله أن ينـزل وسط البلد؛ ليهوِّن على أهله المجيء إليه، وفيه تسوية بينهم.
    الثالث: ألاَّ يتخذ بواباً.
    الرابع: ألاَّ يتخذ حاجباً.
    الخامس: أن يتخذ كاتباً أميناً، عارفاً بالصناعة، جيِّدَ الخط، حَسَنَ الضبط، بعيداً عن الطمع.
    السادس: أن يُرَتِّب مُزَكِّيْن.
    السابع: ألاَّ يتخذ المسجد للقضاء ويجلسَ فيه للفصل بين الخصوم؛ لكثرةِ مَن يغشاه، ولِمَا يجري من المتخاصمِين من الألفاظ التي يُصان المسجد عنها، والجمهور: لا يرون بأساً من القضاء في المسجد، والأَولى الأخذ بقول مَن يرى الكراهة، وهو: مذهب الشافعي.
    الثامن: أن يَحضُر العلماءُ مجلسَه.
    التاسع: أن يخرج وعليه السكينة والوقار، ويدعو بدعاء رسول الله –صلى الله علية وآله وسلم–: »اللهم إني أعوذ بك أن أَضِلَّ أو أُضَلَّ، أو أَزِلَّ أو أُزَلَّ، أو أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ، أو أَجْهَلَ أو يُجْهَلَ عَلَيَّ«( ).
    العاشر: أن يتفقَّد أحوال نفسه من جوع أو عطش، وغضب، بل يجلس وهو ساكن الحواس من الأمور التي تُفسِد باطنَه وظاهرَه.
    الحادي عشر: أن يرتِّب عُدُول بَلَده على طبقاتهم، ولا يقبلَ الجرحَ والتعديل والترجمة إلاَّ مِن شاهدَين عدلَين، وإن ارتاب في الشهود سألَهم متفرقِين، ولا يقبلَ في التعديل إلا قولَ المُعَدِّل، (هو عدلٌ لي وعليَّ).
    الثاني عشر: يُكره له البيع والشراء بنفسه، أو بوكيل خصوصي، ولا يمتنع من شهود الجنائز، وعيادة المرضى، والسلام على الغائب عند قدومه، ويحضر الولائم كلَّها، أو يمتنع عنها كلِّها.
    الثالث عشر: يَحرم عليه قبول هدية من الخصمَين، أو من أحدهما، وتُقْبل من ذي رَحِمٍ مُحْرَمٍ منه، أو ممن جرت عادته قبل القضاء، بشرط ألاَّ يكون المُهدي بينَه وبين أحدٍ خصومةٌ وقت الهدية، وبأن لا تزيد عما كان عادة، ولا يستقرض إلا ممن كان يستقرض منه قبل القضاء.
    الرابع عشر: أول ما ينظر: في المحبوسِين، والأيتام، والأوصياء، والأمناء، واللقَطاء، والقُوَّام، والأوقاف، وما يتعلق بذلك.
    الخامس عشر: ألاَّ يتعقَّب حُكمَ مَن قَبْلَه بنقض، بل يطلُب ما كان بيد القاضي المعزول، فإن بان له خطأ فلا يشهره، بل يوقفه عليه ويسأله، ولا يبيِّنه لغيره"( ).
    وقال البهوتي: "يُسَنُّ أن يكون القاضي قوياً من غير عنف؛ لئلاَّ يطمع فيه الظالم، ليناً مِن غير ضعف؛ لئلاَّ يهابَه صاحبُ الحق، حكيماً؛ لئلاَّ يغضب من كلام الخصم فيمنعه ذلك من الحكم بينهما، متيناً؛ لئلاَّ تؤدي عجلتُه إلى ما لا ينبغي، ذا فطنة وتَيَقُّظ؛ لئلاَّ يُخدَع على غِرَّة، بصيراً بأحكام الحكام قَبْلَه، يخاف الله تعالى ويراقبه، لئلاَّ يؤتَى مِن غفْلة، ولا يُخدَع مِن غِرَّة، لقول علي بن أبي طالب –رضي الله عنه–: (لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضياً حتى يكون فيه خمس خصال:
    1. أن يكون عفيفاً، حليماً، عالماً بما كان قَبْلَه، يستشير ذوي الألباب.
    2. لا يخاف في الله لومة لائم، ورعاً، نزيهاً، بعيداً عن الطمع.
    3. صدوق اللهجة، لا يهزل، ولا يَمْجُن، ذا رأي ومشورة.
    4. ولا يكون جباراً.
    5. ولا عَسُوفاً.
    لأنه لا يحصل المقصود بتوليته من وصول الحق لمستحقه، وله أن ينهر الخصم إذا التوى؛ لأن الحاجة داعية لإقامة العدل، وأن يصيح عليه، وإن استحق التعزير عزره بما يرى من أدب لا يزيد على عشرة أسواط، أو حبس، وإن افتات الخصم على القاضي بأن يقول: ((حكمتَ عليَّ بغير الحق، أو ارتشيتَ)) فله تأديبه، وإن بدأ المنكِر باليمين قطعها عليه قائلاً: ((البينة على خصمك المدعي))، وأمثال ذلك مما فيه إساءة أدب).
    وإذا وُلِّي القاضي في غير بلده فأراد المسير إليه استحب له أن يبحث عن قوم من أهل ذلك البلد ليسألهم عنه، وعن علمائه وعُدوله وفضلائه؛ ليعرف حالهم، فيشاور مَن هو أهل للمشورة، ويقبل شهادة من هو أهل للعدالة، ويتعرف على من أراد معرفته"( ).
    وفي: (المحرر): "إنَّ مِن أدب القاضي: ألا ينفِّذ حكمَه لنفسه"( ).
    قال ابن أبي الدم: "وللقاضي أن يحكم بعلمه بشرطين:
    أحدهما: أن يقول للمنكِر: (قد علمتُ أن له عليك ما ادَّعاه).
    والثاني: أن يقول له: (وحكمتُ عليك بعِلمي).
    فإن اقتـصر على أحد هذين الشـرطين، وأغفـل الآخر لم ينفَّذ حكمُه"( ).
    قال الماوردي: "ويستحب للقاضي أن يُكرِم الشهود، ويُكْرَه له أن يتعنَّتهم( ) أو ينهرهم، مع وُفور عقولهم وفقههم وذكائهم، فإذا ظن فيهم التهافت والتفاهة حُقَّ له التفريق بينهم، ومناقشتهم"( ).
    ومن التعنُّت والتعسف: تحليف الشهود، وليس من أدب القضاء تحليف الشاهد قبل الشهادة ولا بعدها، ولا يكره أن يطلب القاضي مُزَكِّين إن شك في نزاهة الشاهد، وهو يجهل حالَه، وهذا كافٍ وغايةٌ في الأدب.
    وينبغي للقاضي أن يأخذ نفسه بكل الآداب الشرعية العامة، وإنَّ مِن أحَق الناس بالتأدب بآداب الله تعالى، ومطالبة النفس بأحكامه، ورعاية حقوقه: مَن تقلَّد القضاء، وانتصب لفصل الأحكام، فاتقى أمر ربه –جل جلاله–، ونهى النفس عن الهوى، وتذكر بوقوف الخصوم بين يديه، ومقامه معهم يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين، ويحكم بينهم أحكم الحاكمين، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة، ولهم سوء الدار، واستعد لمساءلة الرب تعالى جواباً، وتذكر بين يديه وقوفاً وحساباً.
    وإن من أزكى وأعلى رسائل الأدب، بل من أحكم رسائل القضاء وأصدقها وأبرِّها، كما أنها دستور ومنهج شامل في أدب القضاء، ومستلزمات القاضي النظرية والتطبيقية: تلك الرسالة الفذة من أمير المؤمنين خليفة رسول الله الثاني/ عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري يضع له فيها الوجهة السلوكية الإجرائية، ودقائق المفاهيم الثقافية القضائية، وذلك ليوجهه ويرشده إلى ما يوصله إلى غاية العدل في قضائه من خلالها.
    ونترك ألفاظها تحكي معانيها، وهي خير مَن يصفُ بيانَها وبديعَها، وذلك فيما يلي:
    "بسم الله الرحمن الرحيم
    من عبد الله/ عمر بن الخطاب – أمير المؤمنين – إلى عبد الله بن قيس.
    سلامٌ عليك.
    أما بعد:
    فإن القضاء فريضةٌ مُحكمة، وسنة متبعة.
    فافهم إذا أُدلي إليك، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له.
    آسِ بين الناس في وجهك، وعدلك، ومجلسك حتى لا يطمعَ شريفٌ في حَيْفك، ولا ييأسَ ضعيفٌ من عدلك.
    البينة على المدعي، واليمين على من أنكر.
    والصلح جائز بين المسلمين إلاَّ صُلحاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً.
    لا يمنعْك قضاءٌ قضيتَه اليوم فراجعت فيه عقلك وهُدِيتَ فيه لرُشْدك أن ترجع إلى الحق، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
    الفهم.. الفهم.. فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة.
    ثم اعرف الأشباه والأمثال، فقِس الأمور عند ذلك، واعمِد إلى أقربها إلى الله وأشبهها بالحق.
    واجعل لمن ادَّعى حقاً غائباً أو بيِّنةً: أمَدَاً ينتهِي إليه، فإن أحضر بيِّنة أخذتَ له بحقه، وإلا استحلَلْتَ عليه القضية، فإنه أنفى للشك وأجلى للعمى.
    المسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلوداً في حد، أو مُجَرَّباً عليه شهادة زور، أو ظِنِّيناً في ولاءٍ أو نَسب، فإن الله تولَّى منكم السرائر، ودرأ بالبيِّنات والأَيمان.
    وإياك والقلق، والضـجر، والتأذي بالخصـوم، والتنكر عند الخصومات، فإن الحق في مواطن الحق يُعَظِّـمُ الله به الذخر، فمَن صحَّـتْ نيتُه وأقبل على نفسه كفاه الله ما بينَه وبين الناس، ومن تخلَّق للناس بما يعلم الله أنه ليس من نفسه شانَه الله، فما ظنُّـك بثواب غير الله –عزَّ وجلَّ– في عاجل رزقه وخزائن رحمته.
    والسلام"( ).
    ومن أدب القاضي أن يشفع الشفاعة الحسنة، فيطلب من الخصوم أن يصطلحوا، أو يتنازل أحدهم عن بعض حقه.
    عن كعب بن مالك، أنه تقاضى ابن أبي حَدْرَدٍ دَيناً له عليه في عهد رسول الله –صلى الله علية وآله وسلم– في المسجد، فارتفعت أصواتهما، حتى سمعها رسول الله –صلى الله علية وآله وسلم– حتى كشف سجف حجرته، ونادى كعبَ بن مالك فقال: »يا كعب«، فقال: "لبيك يا رسول الله"، فأشار له بيده، أنْ ضَعِ الشَّطْر من دَينك، قال كعب: "قد فعلت يا رسول الله"، قال النبي –صلى الله علية وآله وسلم–: »قُمْ فاقْضِه«( ).
    وخلاصة القول في هذا الباب: أن القضاء، وما يتعلق به من آداب القاضي، ونظام التقاضي، يمثل باباً من أبواب الفقه، وجزءاً من أجزائه، فلا يخلو كتاب فقهي من بحوث القضاء والدعوى والبينات، ويحتل هذا الجزء مكاناً مرموقاً في كتب الفقه الإسلامي، وهو أكثر أبواب الفقه تطبيقاً وصلة بالحياة، كما أنه من أكثر الأبواب العملية التي يحتاج إليها القاضي في عمله وفي حكمه، ويهتم العلماء به اهتماماً خاصاً، ويرجع اهتمامهم بهذا البحث إلى الأثر العظيم الذي يتبوأه القضاء في الشريعة، سواءً من الناحية التشريعية والنظرية أو من الناحية التطبيقية والعملية.
    ولقد كان نظام القضاء في الإسلام مُحكماً ومصوناً ومؤدياً للدور الذي أُعِدَّ له على نحو فاقَ به غيرَه من الأنظمة الأخرى التي تبدو ناصعةً برَّاقة، ودليلنا على ذلك: النتائج الطيِّبة التي حققها أثناء التطبيق، فإن الأعمال بخواتيمها، وقيمة النظريات والمبادئ بحسب صلاحها ونجاحها بعد التجربة والتنفيذ، ويظهر هذا التفوق في: حيِّز اختيار القضاة، وإقامة العدالة، وتحقيق القسط، وحفظ النظام والأنفس والأموال، وتأمين الطمأنينة والأمن في ربوع المجتمع.
    ثم كان القضاة في الإسلام يمثلون صفحة مشرقة من صفحات التاريخ الإسلامي اللامع، وكانت أحكامُهم ونزاهتُهم واستقلالُهم وتَجَرُّدُهم مَضْرَبَ المَثَل، ومَحَطَّ الأنظار، وكانت المساواةُ بين الخصوم، وإقامةُ العدالة بينهم –مهما تفاوتت مكانتُهم الاجتماعية والدينية- كانت سبباً مباشراً لكثير من الناس في اعتناق الإسلام، والانضواء مع المسلمين في العقيدة.
    ولكن هذه المكانة العظيمة التي احتلها القضاة، والدور الفعال الذي يقوم به القضاء لَفَتَ الأنظار نحوه، فطمِع به أصحابُ الأهواء، وتنافَسَ عليه السَّوَقَة، ووصلَ إلى منصة العدالة الجَهَلَةُ… فأساءوا إليه، وشوَّهوا أغراضه، وكانوا وصْمة عار في جبين التاريخ، وسادت الرشوة، والجور، وشراء الوظائف في بعض الأحيان – كما تقدم تفصيله –.
    ولقد تنبه إلى ذلك العلماء والصالحون، وحذروا منه، وبينوا شروط القاضي، وشروط تعيينه من واقع الحال، وأبرزوا مخاطر القضاء، وأعلنوا التخويف منه، ونشروا الأحاديث الواردة في التشديد من قضاء الجور، وذهبوا إلى تفضيل ترك القضاء على قَبُوله، بالنسبة لمن توفرت فيه الأهلية والشروط، فكيف بمن يفقدها؟!
    ويأتي تصنيف المؤلِّفِين في: (أدب القضاء) وتقسيمهم إلى فريقين:
    الفريق الأول:
    وهم: الذين لَمَسوا أهمية الموضوع، وخطورة الموقف، وصعوبة الخَطْب على القاضي، فبيَّنوا واجبات القاضي وحقوقه، وواجبات الخصوم وحقوقهم، وطرق القضاء والإثبات، ومناط الأحكام، والقواعد التي يستنير بها القاضي.
    الفريق الثاني:
    وهم: جماعة من القضاة، تولَّوا هذا المنصب، واكتسبوا الخبرة والحنكة التجربة منه، فصاغُوا ذلك في الكتب والمؤلفات، وكانت تجربتهم القضائية وتطبيق لأحكام العملية سبباً في ترجيح القول الذي يتناسب مع الواقع، ولذلك قال الحنفيَّة –مثلاً–: "يُقَدَّم قولُ القاضي/ أبي يوسف في مسائل القضاء على قول الإمام/ أبي حنيفة عند التعارض، لحصول زيادة العلم بالتجربة لأبي يوسف"، ولذا رجع أبو حنيفة عن القول بأن الصدقة أفضل من حَجِّ التطوع لَمَّا حَجَّ وعَرَفَ مشقَّتَه( ).

    الفصل الثالث:
    مقومات هيبة القاضي واحترام القضاء
    من المعلوم بالتجربة والعادة أنه ليس سهلاً على الناس أن يخضعوا في خصوماتهم ومنازعاتهم لأحكام إنسان مثلهم لا يمتاز عنهم بشيء، لشخصية حترمة، أو وقار خاص، أو عقل، أو علم، أو أية صفة تميز الإنسان الأمثل عن الأشخاص العاديين.
    فإذا كان الحاكم ذا هيبة وجلال ووقار وله في قلوب الناس حب واحترام كان موضع ثقتهم، ومِن ثَمَّ فهو مُطاع ومحترم؛ لأن الحاكم مُمَثل العدالة، والعدل صفة من صفات الله تعالى، فيجب أن يكون الحاكم عادلاً، لقوله تعالى: ?إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ?( )، وقوله: ?يَا داوُد إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيْفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ?( )، لذلك وجب أن يتصف القاضي أو الحاكم بصفات السمو والرفعة المستفادة من صفات الله –عزَّ وجلَّ–، ولذا عَنِيَتْ الأمم بقضاتها، فاختارتهم من الطبقات المُثْلى في مجتمعهم الإنساني، وتوخَّت فيهم صفات العدل والرفعة والسمو والأمانة، وحفَّتهم بوافر عنايتها، وقدَّمت لهم كل عون مادي وأدبي؛ لأجل أن تبقيَهم في مكانتهم التي يجب أن يكونوا فيها، ومما يُروَى عن عناية الأمم بقضائها أنَّ (تشرشل) –رئيس وزراء بريطانيا أيام الحرب العالمية الثانية– تقدَّم بمشروع قانون إلى مجلس العموم البريطاني يقضي بزيادة رواتب القضاة بمقدار (ثلاثمائة جنيه إسترليني) سنوياً زيادةً على رواتبهم الأصلية، وجاء في تبرير هذه الزيادة ما نصُّه: "إن القاضي لا يستطيع أن يمتلك حصاناً في سباق الخيل يراهِن عليه حفاظاً على وقاره وكرامته، في حين أن الوزير –وهو ليس بأهمية القاضي الذي تُناط به أرواحُ الناس وأعراضُهم وممتلكاتُهم– لَيَستطيع أن يراهِن ويدخل سباقات الخيل"، لذلك أقَرَّ المجلس الزيادة بالإجماع ودون تردُّد( ).
    وقد عَنِـيَتْ معظم قوانين العالم بمبدأ احترام القاضي والعناية به، وأعطته حقَّ إخراجِ ومعاقبةِ كلِّ مَن يَخِلُّ بهيبة القضاء، أو يَمُسُّ جلال مجلسه، أو عدم الامتثال لأوامر القاضي في قاعة المحكمة من أية طبقة كان، وبأية صفة كان.
    ولهذا نرى أن سائر قوانين البلاد العربية والدول المتحضرة الأخرى أحاطت القاضي بصيانة قانونية مَنَعَتْ عنه التطاول والاعتداء، وهذه الإجراءات ليست مِنْحة للقاضي، وإنما هي ضرورة اجتماعية اقتضتها ولاية القضاء؛ لأن القاضي يمارس سلطة واسعة في تأديب الخارجين عن القانون، وقد يقضي ذلك بإعدامهم أو حبسهم أو تغريمهم، وتلك إجراءات قد لا يتقبَّلْها مَن صَدَرَتْ ضِدَّهُم، فإذا لم يُحَصَّن القاضي بسياجٍ قوي من الحصانة القانونية تعرضت كرامتُه إلى الإهانة، وحياتُه إلى الموت.
    وقبل هذا وذاك فإن الإسلام –وهو نظام الإنسانية الأمثل– يوجب على المسلمين أن يسلِّموا تسليماً بما يقضي به محمدٌ –صلى الله علية وآله وسلم– ونفَى صفة الإيمان عمن لم يقبل بحكمه، فقال –جل وعلا–: ?فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُوْنَ حَتَّى يُحَكِّمُوْكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيْمَاً?( ) –كما تقدَّم–.
    فاحترامُ القاضي، واحترامُ حكمه واجبٌ مقدَّس، حتَّمَتْه شرائعُ السماء قبل أن تُقِرَّه وتحترمَه شرائعُ الأرض.
    ومما يُروَى عن القضاة في إجراءاتهم أن رجلاً جـاء إلى سـيف بن جابر –قاضي واسط في العهد العباسي–، فأغلَظَ له، فحبَسَه، فكلمه فيه سليمان بن أبي شيخ فقال له: "إنما حَبَستَ الرجل لنفسك، فإن رأيتَ أن تخرجه"، فقال القاضي: "لنفسي؟ لا –والله–، فلو شتمني وأنا على غير منبر لَمَا قلت له شيئاً، ولكني حبَسَتُه للمسلمين؛ لأن القاضي إذا وَهَنَ وَهَنَتْ أحكامُه، وهانَتْ كرامةُ المسلمين، وتعرَّضَتْ حقوقُهم للضياع"( ).
    ومن أمثال مَن أعاد للقاضي هيبته، وللقضاء احترامه: محمد بن مسروق الكندي، قاضي مصر من قبل هارون الرشيد، والذي وضع منهج عدم حضور مجلس الأمراء لكل القضاة بعده، –كما تقدم–، كذلك أمثال: القاضي/ العز بن عبد السلام –كما سبق أيضاً–.
    وكان ابن حربويه مهيباً، وافر الحرمة، لم يَرَهُ أحدٌ يأكل أو يشرب أو يلبس و يغسل، وإنما كان يفعل ذلك في خُلوته؛ لأنه يعتقد أنه إن فعل ذلك قلَّتْ بعيون الناس هيبته، كذلك لم يَرَهُ أحدٌ يبصُق أو يمخُط أو يحكُّ جسمَه أو يمسح وجهَه( ).
    وكان إذا ركب دابته لا يلتفت ولا يحدِّث أحداً ولا يُصلح رداءه إذا مال، وكان عليه من الحِشْمة والوقار ما يتذكره كلُّ مَن عَرَفَهُ أو رآه.
    ورُوي أن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– قال: "لأستعملنَّ على القضاء رجلاً إذا رآه الفاجر فَرَقَهُ"( ).
    ومما يدل على رهبة منصب القضاء، وتمثُّلِ هيبته في ولاته: ما ذكره آدم ميتز بأنه وجد في العهد العباسي قضاةً كانوا يسوقون الأمراء إلى السجن عندما يستهينون بالأحكام( ).
    ومن كريم خصال أولئك القضاة: عدم مشاركتهم الناس في استقبال الخليفة أو الوالي إذا قَدِم لزيارة البلد التي يتولى القضاء فيها، بل يأبى مقابلته والسلام عليه، وإن طالت إقامة ذلك الخليفة أو الوالي في هذا البلد.
    ومما يُروى أن الرشيد قَدِم الحِيْرَة ذات يوم، وكان فيها قاضٍ هو: القاسم بن معن، وقد بقي الخليفة في الحيرة أربعين يوماً، أتاه للزيارة مختلف صنوف الناس إلا القاسم بن معن، فحرَّضه الوالي وقال: "يا أمير المؤمنين قَدِمْت منذ أربعين يوماً ولم يَبْقَ من أشراف المدينة وقضاتها إلا وقد وقف على بابك عدا هذا القاضي –وقَصَدَ القاسم–، فأجابه الخليفة: "ما أعرف أيَّ شيء تريد! تريد أن أعزلَه؟ لا –والله– لا أعزلُه"( ).
    ولا يعني أن مظاهر الهيبة والوقار تجعل القاضي بعيداً عن ذوي الحاجات والمصلحة من فقراء الناس، ولكن يجب أن يكون مع ذلك شَعْبِيَّ النـزعة، لا يترفَّع عن أبناء مُحِيْطِه، وأن يفتح بابه لمن يصعُب عليه أن يصله، وخير الناس أنفعهم للناس.
    ومن صفات القاضي التي تكسبه الهيبة والوقار: أن يكون له رأيٌ سديد، وقولٌ فصل، وحزمٌ في الأمر، وتَرَوٍّ في البَتِّ، وسرعةٌ في الإنجاز، ولا يمنعه أن يرجع إلى الصواب إذا علم أنه أخطأ.
    ومِن وَصْف علي بن أبي طالب –رضي الله عنه– للقاضي الصالح: "ولا يتمادى في الزلَّة، ولا يحصُر من الفيء إلى الحق إذا عَرف"( ).
    ولا يخفى أن هيبة القاضي وجلال مجلسه يجب أن يرافقهما حكمة القاضي وحصافته، بحيث يعطي لكل حدث حديثاً، ويخاطب الناس على قدر عقولهم، وإلا اعتُبرت الهيبة والجلال نوعاً من الصَّلَف والغطرسة.
    وكان فضالة بن عبيد الأنصاري واسعَ العقل، رَحْبَ الصدر، عميق التفكير، هادئ الطبع، متزناً لا يحكم إذا غضب، وقد جاءه يوماً رجل يحمل سرقته ومعه السارق، فقال فضالة للسارق: "لعلك وجدتَها، لعلك التقطتَها"، فقال صاحب السرقة: "إنا لله وإنا إليه راجعون، إنه لَيُلَقِّنُه الإنكار"، فقال السـارق مجيباً: "أيْ –والله، أصلحك الله– لقد وجدتُها"، وخَلَّى سبيلَه، وقال مردداً الحكمة المشهورة: "الرحمة فوق العدالة"( ).
    ولنتأمل في المثالية القضائية التالية: (بَكَّار بن قتيبة الثقفي)، كان من أبرز القضاة هيبةً ووقاراً في حكم الطولانيين على مصر بين سنَتَي: (323ه) و(358ه).
    كان ابن طولون يُقَدِّم له في كل سنة كيساً فيه ألف دينار عدا المرتب المقرر له، فحصل ذات يوم خلافٌ بين القاضي/ بكار وابن طولون، فغضب عليه ابن طولون، وطالبه بإعادة الجوائز، فأحضرها له بكار، وكانت ثمانية عشر كيساً لا زالت في ختمها كما سُلِّمَتْ إليه، فخَجِل ابن طولون، وتسلم أكياسه بعد أن اعتقد أن القاضي قد أكلها وأنه عاجز عن إعادتها( ).
    وهكذا يجب أن يكون القاضي مثالاً في العفة والنـزاهة والأمانة وعدم النظر والاحتياج إلى ما في أيدي الناس والوُلاة، مترفعاً عن الدنيا وزخرفها وزينتها، مستقلاً برأيه، فيقيم بذلك هيبته، ويصنع احترام وإجلال القضاء، ويعظم بعدله وإبداعه فيه حسن الاقتداء، وفخر القدوة بنهج الاتباع، ?وَالَّذِيْنَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيْمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِيْنٌ?( ).
    ولا شك أن اشتهار القاضي بالاستقامة يجعل له نفوذاً كبيراً بين الناس، ومكانةً خاصة في نفوسهم، وهذا ما حَظِي به مشاهير القضاة بين السلف الصالح والمنْصِفين من الخلف.
    ولقد كان الولاة يفكرون كثيراً عندما يريدون أن يغيروا قاضياً أو يعزلوه عن منصبه حتى لا يختاروا مَن هو أقلَّ منه كفاءة وشخصية ومقدرة، فتُوَجَّه إليهم الانتقادات والطعون( ).
    وليس من مقومات القاضي وإجلال هيبته: وضْع احتساب كسب الناس وتقدير إرادتهم، ابتغاء رضاهم واشتهاء محبتهم واستهداف ثقتهم واستجداء ثنائهم؛ ليصل بحظوظ نفسه هدفاً وغايةً إلى الشهرة والإذاعة بكفاءته ونزاهته وعدله، فذلك كَمَنْ يطلب الماء في سراب بِقِيْعَة.. حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد اللهَ عنده فوفاه حسابه.. أو كَمَنْ يعرِّض نفسه لموبقات الفتن: فتنة الغرور بالحال والذات.. وفتنة إرادة الناس دون الله.. وفتنة بيع الضمير.. وفتنة المتاجرة باستقلال القضاء واستباحة حصانة سلطته.. وطرح عظيم مكانته.. بقرار المفاوضة.. بل في مقابل طلب زائل محالٌ تحقيقُه، أو مستحيلٌ تحقُّقُه؛ لأن رضا الناس غايةٌ لا تُدْرَك.. وهم الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون.. وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسِرون.. كما أن محاولة الجمع بين الله وبين خلقه في الرضا وعدم الغضب فتلك خلة سبب الإحباط.. وذلك مثلٌ لضرْب الحق والباطل، والقضاء ميزان حق، وخصوم التقاضي أكثرهم عن الحق معرضون، ?وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ...?( )، ولو لم يكونوا كذلك لما ساقهم لُدَد الخصومة إلى محاكم التقاضي حتى إنهم لا يرضيهم الحق في مقابل طلبهم للباطل..
    وعليه: فإنه مهما توفَّر الحرص لدى القاضي على إرضاء الناس بُغية العزة عندهم ورفعة القدر لديهم في مقابل حُكْمِه بالحق أو بالباطل فإنه سيكون له منهم عدوٌّ ومُبْغِضٌ.. وقد قيل:
    نِصْفُ الناس أعداءٌ لِمَنْ
    وَلِيَ القضاءَ –هذا إنْ عَدَلْ–

    ومن هنا ندرك بأن مقومات هيبة القاضي واحترام القضاء كلها في إرادة الله وحده بالعمل دون من سواه.. إرادة يتحقق بها الزهد في الدنيا ابتغاء الوصول إلى محبة الله.. ومن أحبه الله وضع له الحب في قلوب خلقه..
    كذلك من أسباب محبة الناس لعبد من عباد الله: الزهد فيما في أيديهم، وفي ما يحبون من زهرة الدنيا ومتاعها الفاني، فإن من يفعل ذلك إيثاراً لهم على نفسه أبقوه كريـماً جـميل الأوصاف مشمول التقدير محبوباً مصطفى.. ومَن نازعَهم محبوبَهم كَرِهُوه وكسَّروه وفَلُّوه، ودليل هذا وثمرته حديث أبي العباس الذي رواه: ابن ماجة وحَسَّنَهُ، والطبراني، والحاكم.. ولفظه: "جاء رجل إلى النبي –صلى الله علية وآله وسلم– فقال: (يا رسول الله دُلَّني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس)، فقال: »ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس« ".
    والحديث أصلٌ في الزهد، والقاضي أولى به تحقيقاً علماً وعملاً؛ ليكون مثالاً في المقومات القضائية.. والتي بإحرازها ينال حب الله وحب عباده.


  4. #4

    افتراضي رد: كتاب الثقافة القضائية

    تكملة الكتاب....

    الفصل الرابع:
    مقومات القاضي في قُدْوة القضاء
    مما لا يخفى أنه لا يبلغ شيءٌ كمالَه وغايتَه إلا بمكمِّل –والكمال لله وحده، بذاته، في أسمائه وصفاته–..
    فالكاملُ اللهُ في ذاتٍ وفي صِفَةٍ
    وناقِصُ الذاتِ لَمْ يُكْمَلْ له عَمَلُ

    والمكمِّل للقاضي: قناعة سلطان التنفيذ العام (ولي أمر الأمة) بحكم الشرع، وقوانين التشريع التي يستند القاضي في أحكامه إليها، ويبني توجيهه عليها، ويستقي أدلته منها، ويقطع احتجاج محاجِّه بها، ويعتقد وجود ضالته فيها، ويرى شقاء وبؤس الأمة وضلالها موقوفاً ومحبوساً حتى يعلنوا تجافيهم وإعراضهم عنها، فيظل يخشى وقوع تحذير الله الموعود:?وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِيْ فَإِنَّ لَهُ مَعِيْشَةً ضَنْكَاً * وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيْ أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيْرَاً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ أَيَاتُنَا فَنَسِيْتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِيْ مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى?( ).
    وندخل في تفصيل هذا الموضوع وتوضيح مدلوله ومقاصده من خلال مفهوم مجموعة نصوص علمية: (إذا صلح الراعي صلحت الرعية)، ومن الحكمة: (الناس على دين ملوكهم)، فولاة الأمور –سواءً كانوا ملوكاً أو خلفاءَ أو رؤساء– هم المَثَلُ الذي يُحتذَى، والقدوةُ الصالحة لمن أراد أن يعتبر، فإن صلحوا صلحت الأمة، وإن فسدوا فسدت( )، وهم: الحكام، قدوة القضاة في البلد، إذِ الحكام الصالحون يستعين بهم القضاة على تنفيذ الأحكام، وعلى تعظيم هيبة القضاة واحترام القضاء.
    فالقاضي الصالـح هو الذي يطبق العدل في أحكامه بين الناس في المجتمع، والحاكم (السلطان) هو المنفذ، فإذا لم يكن الحاكم عادلاً لا يستطيع القاضي أن يطبق العدل خلافاً لمراد وطبيعة الحاكم، (ومَن يُصلح الملحَ إذا الملحُ فسد).
    قال الخليفة الراشد/ عثمان بن عفان –رضي الله عنه–: "إن الله لَيَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَعُ بالقرآن".
    وقال كعب الأحبار: "مَثَلُ الإسلام والسلطان والناس مَثَلُ الفسطاط والعمود والأوتاد والأطناب، ولا يَصلحُ بعضُهم إلا ببعض"( ).
    وبقدر ما تكون روح العدالة متأصلة في نفس الحاكم يكون العدل قائماً في طبع القاضي، وثابتاً في نفوس الناس، ومدعوماً بسلطة الدولة وقوتها.
    ولقد عرف التاريخ العربي الإسلامي حكاماً وقضاةً يعجز الوصف عن وصف عدلهم وتمسكهم بالحق والخلق والعدل، وقد عجز التاريخ أن يأتينا بمثل واحد من مثلهم من غيرهم:
    أولئك آبائي فَجِئْني بِمِثلهم
    إذا جَمَعَـتْنا –يا جريرُ– المَجامِعُ

    يقول غوستاف لوبون (المؤرخ): "لم يَرْوِ لنا التاريخ في قديمُه وحديثُه حضارة مثل حضارة العرب، ولا أخلاقاً مثل أخلاق العرب، ولا تأثيراً في الأمم التي حكمها العرب مثل تأثير العرب؛ ذلك أن الأمم التي خضعت عسكرياً لليونان والرومان وغيرهما من دول الفتح في الماضي رجعت إلى سابق عهدها عندما زال عنها نفوذ الدول القائمة، فرجعت إلى لغتها وأديانها وآدابها وعاداتها، أما الأمم التي حررها العرب فإن ما تقتبسه من حضارة بقيتْ محافظةً عليه، حتى بعد زوال دولة العرب، فتمسكتْ بدين العرب وتكلمت لغتهم واعتدَّت بآدابهم كما هو بارز الآن في بلاد البربر في شمال إفريقيا، ويَروي لنا التاريخ أن بعض الدول التي استولت على بعض أجزاء الوطن العربي تأثرت بحضارة العرب، فاعتنقت دينهم، كما كان ذلك مع التَّتَر والمغول"( ).
    فإذا كان قضاة العرب قد ضربوا أمثلة رائعة في العدل والعدالة فإن خلفاء العرب وملوكهم وولاتهم كانوا المثل الأعلى للفضيلة والعدل والأخلاق، وليس أدَلُّ على ذلك من مُقاصصة عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص والي مصر، وابنه عندما اعتدى الأخير على أعرابي، فضرب وجهه قائلاً: "أتسبقني وأنا ابن الأكرمين"؟ فلما حُوكِمُوا أمام الخليفة العادل أمَرَ الخليفةُ الأعرابيَّ بعد أن أعطاه السوط وقال له: "اضرب ابن الأكرمين"، فضربه حتى أشفى غليلَه، ثم أمَرَ الخليفةُ الأعرابيَّ أن يضرب صلعة عمرو بن العاص؛ لأنه لم يُحْسِن تربية ابنه، فرفض الأعرابي أن يفعل، وقال: "لا أضرب إلا من ضربني، ولا شأن لي مع عمرو بن العاص"، فالتفت الخليفة إلى عمرو، وقال قوله المأثور الذي أصبح مناراً للعدالة في كل وقت وحين وفي كل زمان ومكان: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"( )؟!
    وإن (منظمة حقوق الإنسان) في العالَم اليوم تنادي بهذه الكلمة، وتدَّعي أنها تسعى لتطبيقها وتندِّد بالقهر والاستعباد.. ومع هذا فإننا نرى ونسمع اضطهاد الأمم القوية المستعمرة للأمم الضعيفة المغلوبة على أمرها، وفي هذا الوقت بالذات –أي: في وقت الحضارة والمدنية، ودعوى احترام حقوق الإنسان، وتشكيل جمعيات للرفق بالحيوان– في هذا الوقت كله نسمع الظلم ونشاهده في فلسطين، والبوسنة والهرسك، والصومال، وغيرها من البلدان المستضعفة.
    وذلك المستعمر الظالم هو: أمريكا!! فأين الحضارة والمدنية، ودعوى احترام حقوق الإنسان؟!
    حرامٌ على بلابلِها الدَّوْحُ
    حلالٌ للطيرِ مِن كُلِّ جِنْسِ

    إذاً: فإنه يجب الاعتراف بأن الأمة العربية بإسلامها الذي طبقته وأرسَتْ به راية الحق والعدل والحرية والمساواة في كل شبر من الأرض والبلاد التي استطاعت الوصولَ إليها بخيلِها ورَجِلِها، وفتْحَها سِلْماً أو حرباً هي التي تستحق السيادة والريادة تحت ظل وحدة عربية إسلامية، ورايةِ خلافةٍ راشدةٍ تَكْمُلُ بها القوة وتُعَزُّ بها الأمة كما عَزَّ سلفُها، ولن يُصْلِحَ أمرَ آخِرِ هذه الأمة إلا بما صَلُحَ به أوَّلُها، وإننا لنَجِدُ لذلك الصلاح الشامل والعدل الكامل على جميع المستويات الاجتماعية والطبقات الانسانية، دون تفاضلٍ بشَرفِ حَسَبٍ أو نَسَبٍ أو جاهٍ أو منصبٍ، الكلُّ سواسيةٌ، لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ ولا لأبيضَ على أسودَ، والكلُّ لآدمَ وآدمُ من تراب، نجد لكل هذا ألفَ شاهد وشاهد.
    من ذلك: حقيقةُ قصةِ جبلةَ بنِ الأيْهَم، ملك الغساسنة في الشام، الذي أسلم، ثم أتى إلى مكة، وبينما هو يطوف بالبيت الحرام (الكعبة) داس أعرابي على إزاره سهواً، فلطَمَه جبلةَ بيده على وجهه، فشكاه الأعرابي إلى الخليفة/ عمر بن الخطاب –رضي الله عنه–، فأحاله إلى القاضي، فحكم بأن يقتص الأعرابي لنفسه من جبلة، فَكَبُر ذلك على جبلة، وراجع عمرَ بُغْيَة تعطيل حكم القاضي وعدم تنفيذه قائلاً: "أنا أميرٌ وهو سُوَقَة"، فأجابه الخليفة/ عمر بقوله: "إن الإسلام ساوى بينكما"، ولما رأى جبلة أن لا مناص من تطبيق الحكم وتنفيذه هرب وارتدَّ عن الإسلام( ).
    وبهذا يظهر حقيقة وثبوت النص الشريف: »إذا صلُح الراعي صلُحت الرعية«، وسواءً كان الرعاة حكاماً أو خلفاءَ أو ملوكاً أو أمراء، كانوا قدوةً حسنة وصالحة لأولئك القضاة الذين دعموا المُلْك بعدلهم وإنصافهم وأخلاقهم، وفي ذلك يقول صلاح الدين الأيوبي: "لا تظنوا أني ملكت البلاد بسيوفكم بل بقلم القاضي الفاضل"، فالحاكم الصالح يكون سبباً في صلاح رعيته، والقاضي العادل يكون سبباً في حب الغير لهم، وأخذ القدوة منهم، والانتماء إليهم( ).
    ولنتابع توضيح هذا المفهوم، أي: مفهوم صلاح الحاكم، وعدل القاضي، ونتيجة هاتين الصفتين إيجاباً في المتابعة والاقتداء من الغير لِمَا رُؤي من حميد الخصال في الخليفة وقاضيه.
    يُروَى أن علياً بن أبي طالب –رضي الله عنه– تخاصم مع ذمي إلى القاضي/ شُريح في دِرْع.. فلما دخل عليٌّ –رضي الله عنه– إلى القاضي قام إجلالاً

    له، فقال علي لشُريح: "هذا أول جَورك يا قاضي"( ).
    والقصة تحكي أن الإمام/ علياً فَقَدَ درعَه بعد معركة صفِّين، فوجده عند نصراني، فطلبه منه، فادعى النصراني ملكيته للدرع، فقاضاه عليٌّ عند شريح (القاضي)، فجلس الخصمان أمام القاضي، فسأل القاضي الخليفة قائلاً: "اشرح يا أمير المؤمنين قضيتك"، فقال الإمام/ علي –رضي الله عنه–: "الدرع درعي، فقدتُه بعد معركة صفين"، فسأل القاضي النصرانيَّ: "وأنت ماذا تقول"؟ فقال النصراني: "الدرع درعي، وأمير المؤمنين ليس بكاذب"، ويعني: أن الدرع مالٌ منقول، والحيازة حُجَّة المِلْكية، فالتفت القاضي إلى الأمير والخليفة ثانيةً وقال: "هل من بينة"؟ فأجاب بالنفي، فحكم القاضي بالدرع للنصراني، ونهض النصراني من مجلس القضاء مولِّياً بالدرع، ثم التفت إلى القاضي، وقال: "أشهد أن هذا لَحُكْمُ الأنبياء، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، الدرع درعُك يا أمير المؤمنين، وجدتُه عَقِبَك على طريق سيرِك بعد أن قضَتِ القافلة وأنا أتعقَّبُها، خذه يا أمير المؤمنين"، فقال الأمير: "هو لك هديةً وهبةً ما دمتَ وقد أسلمتَ".
    ومَرَّةً: وقَفَ عليُّ بن أبي طالب مخاصِماً مع يهودي أمام الخليفة/ عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– ولم يستنكفْ بل إنه عَبَس في وجه الخليفة لأنه ناداه بكُنيته ونادى اليهودي باسمه، وفي ذلك شُبْهَة التحيُّز، وقد يدُبُّ به الريب على نفسه فلا يُلْحن بحُجَّته.. ولكنَّ عمر –رضي الله عنه– كان مَثَلاً أعلى في العدل والإنصاف، ولقد اقتدى به الكثير، وساد في عهده الإسلام.
    ومَرَّةً: سَمِع أن أحد وُلاته يوصِّد بابه دون حاجة الناس، فأمَر بإحراقه، وهدده إن هو عاد إلى إيصاد الباب دون حاجة الناس لَيَحْرِقَنَّ رأسَه كما أحرق الباب أول مرة.
    ولَمَّا قَدِمَ ذلك الوالي على عمر أمر بتوقيفه في الشمس ساعات، حتى أخذه إلى الحَرَّة، ونزع عنه ثياب الإمرة، وألقى عليه جُبَّة البداوة التي كان يلبسها، وناوله دَلواً، وأمره أن ينـزع به للإبل، فقال له وهو يسقي الإبل: "يا ابن قِرْط، متى كان عهدُك بهذا؟"، قال مَلِيَّاً يا أمير المؤمنين"، قال: "فلهذا بَنَيْتَ العَلِيَّة، وأشرفت بها على المسلمين والأرامل والأيتام، ارجع إلى عملك ولا تعد إلى مثل هذا".
    وبمثل هذا عامل الخليفة/ عمر قائد الجيش وحاكِم حمص، حيث استقدمه إلى الحجاز؛ لأنه بنى عَلِيَّة يُشْرِفُ منها على الناس، وأعاده إلى سقاية الغنم ورعاية المواشي؛ ليذكِّرَه بأصله وينـزع عنه ما داخله من الغطرسة والغرور وكبرياء الولاية التي نسي بها أصلَه( ).
    وهذا أبو جعفر المنصور، الخليفة العباسي، أحد دُهاة العرب، قال لجلسائه: "إنني بحاجة ماسَّة أن يكون على بابي أربعة أنفار عدول، يكوِّنون أركان مُلْكي؛ إذ أن المُلْك كالسرير لا يقوم إلا بأربع قوائم"، قال الجلاس للخليفة: "مَن هم أولئك يا أمير المؤمنين"؟ فأجاب قائلاً: "هم: قاضٍ لا تأخذه في الله لومة لائم، وصاحب شرطة ينصِف الضعيف من القوي، وصاحب خَراج يستقصي ولا يظلم الرعية شيئاً"، ثم عضَّ أصبعه السبابة ثلاثاً وهو يقول في كل مرة: "آه"، قالوا: "من هو ذلك يا أمير المؤمنين"؟ قال: "صاحب بريد يكتب بخبر هؤلاء على الصحة".
    ومن حرْص أبي جعفر المنصور على إقامة العدل فقد طبقه على نفسه يوم قَدِم مرَّةً إلى المدينة وكان قاضيها: محمد بن عمران الطلحي، فاشتكى الحمَّالون إلى القاضي أن الخليفة لم يدفع لهم حقهم كاملاً مقابل أتعابهم –وكان المنصور موصوفاً بقبض اليد–، فقال القاضي لكاتبه: "اكتب لأمير المؤمنين أن يحضر أمامي"، فتهيَّب الكاتب، وخشي مغبَّة عمله، فاستعفى، فلم يَعْفِهِ القاضي، فكتب الكاتب ثم ختمه، وقال القاضي: "قُمْ وأوصله بيدك"، ففعل، فحضر أبو جعفر مجلس الحكم ومعه وزيره الربيع بن يونس، فلم يقم لهما القاضي، ولم يعبأ بقدومهما، ثم دعا بالخصوم وسألهم بيِّنَة حقهم، ففعلوا، فقضى على الخليفة، فلما فرغ القاضي من قضائه وانفض المجلس قال له المنصور: "جزاك الله عن دينك وعن خليفتك وأمتك خير الجزاء"، وأمر له بمكافأة كبيرة.
    وحينما وَلَّى أبو جعفر المنصور عبيدَ الله بن حسن العنبري قضاء البصرة أوصاه في كتاب أرسله إليه ناصحاً قال له فيه: "إني قد قلدتك طَوقاً مما قلدني الله، فأغلقت في عنقك طرفه، وأبقيت في عنقي رِبْقَته، وإني لَمْ آلُ جهداً إذ وليتك لِمَا ظهر لي منك من فعلك، وعلى الله إصلاح باطنك، لا أعلم الغيب فلا أخطئ، ولا أدعي معرفة ما لم يعلمني ربي، فاتق الله وأطعني إذا لم أعد بطاعة مَن فوقي، ولا يحملنك خوفي واتباع محبتي على أن تطيعني في معصية ربي، فإني لا أغني عنك من الله شيئاً ولا تغنيه عني، إنك حجاب بين الله وبيني، وأمانة مني على رعيتي قلدتُك أحكامهم، إن كنت أمامهم فلا يعدلن الحق عندك شيء، ولا يكونن أحد أكرم عليك من نفسك، سلط الله عليها عزمك قبل تسلطها عليك في حكمك، قد أبلغتُك، وما عليَّ إلا الجهد"( ).
    وفي خلافة المهدي كان شُرَيكٌ قاضياً على الكوفة، وكان عليها والياً: موسى بن عيسى، عمُّ المهدي، وقد أتَتْ شُرَيكاً ذات مرَّة امرأة، وقالت: "أنا بالله ثم بالقاضي"، فسألها عن قصتها، فأخبرته أن موسى بن عيسى اشترى بستاناً لورثة أبيها، وأبَتْ أن تبيع حصتها، وبَنَتْ حول حصتها حائطاً، وأوكلتْ أمرها إلى رجل يتولى حفظ النخيل، ويقوم على رعاية البستان، غير أن الأمير ساومها على شراء حصتها، فرفضتْ وإنْ أجْزَلَ لها الثمن، فبعث الأمير عدداً من العمال، واقتلعوا الحائط، وأعادوا حصتها إلى مِلْك إخوتها المُباع بدون رغبة منها، فلما سمع القاضي قصتها أمر الخادم أن يعطيه طينة كتَبَ عليها إلى الوالي أنِ"احضر مجلس القضاء"، وسلَّم الطينة إلى المشتكية، فمضتْ إلى باب الأمير، وسلمتْها إلى الخادم، فأخذها، وسلمها إلى الأمير، وقال: "قد اعتدى القاضي علينا وهزَّ خشمَه"، فقال الأمير: "ادع لي صاحب الشرطة"، فدعى به، وقال: "امض إلى شريك، وقل: (يا سبحان الله! ما رأيت أعْجَبَ من أمرك، امرأة ادَّعت دعوى لم تصح أعديتها علي؟"، قال صاحب الشرطة: "إن رأى الأمير أن يعفوني من ذلك"، فقال الأمير: "امض، ويلك"، فخرج صاحب الشرطة، وقال لغلمانه: "اذهبوا واحملوا لي إلى حبس القاضي بساطاً وفراشاً وما تدعو الحاجة إليه"، ثم مضى إلى شريك، فلما وقف بين يديه أدى الرسالة إليه، فقال شريك لغلام المجلس: "خذ بيده إلى السجن"، فقال صاحب الشرطة: "والله لقد علمتُ أنك تحبسني، فقدَّمتُ ما أحتاج إليه في السجن"، فلما بلغ موسى بن عيسى الخبر وجَّه إلى القاضي حاجبَه، وقال: "رسولٌ أدى رسالة فأيُّ شيء عليه"؟ فقال شريك: "اذهبوا به إلى السجن واحبسوه مع رفيقه"، فلما صلى الأمير العصر بعث إلى إسحاق بن الصباح الأشتي، وإلى جماعة من وجوه الكوفة ممن هم أصدقاء القاضي/ شريك، وقال لهم: "أبلغوه عني السلام، وأعلموه أنه استخفَّ بي، وأني لست كالعامة"، فمضوا إليه وهو جالس في مجلسه بعد صلاة العصر، وأبلغوه الرسالة، فلما انتهوا من كلامهم قال لهم: "ما لي أراكم جئتموني في غثرة من الناس فكلمتموني"؟ ثم أردف فقال: "مَن هنا مِن فِتيان الحي"؟ فأجابه جماعة من الفتيان، فقال شريك: "لِيأخُذْ كلُّ واحد منكم بيد رجل فيذهب به إلى الحبس، ما أنتم إلا فتنة، وجزاؤكم السجن"، قالوا: "أَجادٌّ أنتَ أم هازِل"؟ قال: "بل جادٌّ؛ لئلا تعودوا لرسالة ظالم"، فحبَسَهم جميعاً، ولما علم الوالي بما كان ركب ليلاً مع ثلاثة من جنده إلى باب السجن، ففتحه، وأخرج مَن فيه، فلما كان من الغد، وجلس شريك مجلسه للقضاء جاءه السجان، فأخبره الخبر، فدعى بالقِمَطْر، فخَتَمَه، ووجَّه به إلى منـزله، وقال لغلامه: "إلحَقْ بثِقَلي إلى بغداد، –والله– ما طلبنا هذا الأمر منهم، ولكن أكرهونا عليه إكراهاً، ولقد ضَمِنُوا لنا فيه الإعزاز إذا تقلَّدْناه لهم"، وركب دابته، واتجه إلى بغداد، حتى إذا بلغ قَنْطَرة الكوفة أُخبِر موسى بذلك، فركب في موكبه ولحق به، وأدركه عبر القَنْطَرة، وجعل يناشدهُ اللهَ ويقول: "يا أبا عبد الله تَثَبَّتْ، وانظر أتَحبسُ إخوانك دون ذنب جَنَوه سوى التماس قاموا به؟"، قال: "نعم؛ لأنهم مَشَوا لك في أمرٍ لك، فيه خيرٌ لستَ تستحقُّه، ولَمْ يَجُزْ لهم المَشْي فيه، ولستُ ببارحٍ مكاني هذا حتى يُرَدُّوا جميعاً إلى السجن، وإلا مضيتُ إلى أمير المؤمنين، فاستعفيتُه مما قلَّدني"، فأمر موسى بردِّهم جميعاً في السجن عندما أمر القاضي بعض أعوانه أن يأخذوا بلجام دابة الأمير إلى مجلس الحكم، فمرُّوا به بين يديه حتى أُدخِل المسجد، وجلس في مجلس القضاء، فجاءت المرأة المتظلمة، فقال: "هذا خصمكِ قد حضر"، فقال موسى وهو مع المرأة بين يديه: "–قبل كلِّ أمر– أنا قد حضرتُ فأخرج أولئك من السجن"، فقال شريك: "أما الآن فنعم، أخرجوهم من السجن"، فقال شريك مخطاباً موسى: "ما تقول فيما تدعيه هذه المرأة"؟ قال: "صدقَتْ –والله–"، قال القاضي: "رُدَّ إليها بستانها، وابْنِ حولَه حائطاً كما كان"، قال: "أفعلُ ذلك"، فالتفتَ القاضي إلى المرأة، وقال: "أبَقِيَتْ لك عليه دعوى"؟ قالت: "لا –وبارك الله عليك، وجزاك عن دينك وقومك خيراً–"، قال: "قُومي"، فقامَتْ من مجلسه، فلما فَرَغ من مجلس القضاء قام وأخذ بيد موسى بن عيسى وأجلسه في مجلسه، وقال: "السلام عليك أيها الأمير، أتأمر بشيء؟"قال: "أيَّ شيء آمر"، وضحك، وقال له شريك: "أيها الأمير، ذلك الفعل هو حقُّ الشرع، وهذا القول هو حقُّ الأدب"، فقام الأمير وهو يقول: "مَن عظَّم أمرَ الله أذَلَّ اللهُ له عُظماء خلقِه"( ).
    ومن هذا: نخلص إلى أن مقومات القاضي في القُدوة هي: التزامُه وتمسُّكه بالشرع، ومحاكمة الناس إليه، وعدم خوفه في قول الحق لومة لائم، وإرادته تطبيق العدالة بين الناس على السواء، دون محاباة أو مداهنة أو مجاملة، يرى الناس سواسية كأسنان المشط أمام القضاء، لا فضل لأحد على أحد ولا تفاضل إلا بالتقوى، وذلك أمْرُه إلى الله، هو وحده الذي يعلمه ويجزي عليه.
    كذلك يكون كمال القدوة العامة: بتطبيق ولي الأمر (الخليفة والسلطان والملك والرئيس) للأحكام الصادرة من سلطة القضاء، والحرص على تنفيذها وعدم المماطلة والتسويف لتأخيرها وتأجيلها، ثم العمل الجاد على سيادة النظام والقانون، وفوق ذلك كله: مراقبة الله العليم الخبير في السر والعلن بالوفاء والأداء للأمانات التي تبرأتْ منها السماوات والأرض والجبال وحَمَلَها الإنسان، وكلُّ أقوالِ المرء وأفعاله وتصرفاته وحتى نَفَسُه وأنفاسُه أمانةٌ عنده، وأمانةُ الله عند خلقِه من البشر إلزامُه لهم بإقامة شرعه، والقدوة بأنبيائه ورسله أمراً ونهياً، ?وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُوْلَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفَائِزُوْنَ?( ). صدق الله العظيم.
    ونختم هذا الموضوع بما يُزَكِّي عنوانَه، ويُحَسِّن تِبْيانَه؛ حيث نقف منه على أوضح نتيجة عَمَّدَها عدلُ القدوة الحسنة في الراعي، وهو ينصف المظلوم من رعيته حتى يرى أنه قد أوقف ظالمه عند حده، دون إنظاره إلى إنصاف القضاء.
    وهذا المِسْك نحفيه بعدل عضد الدولة وإنصافه لصاحب عِقْد كان قد أودعه لدى عطَّار فأنْكَرَه..
    والقصة نقلاً عن كتاب: (القضاء عند العرب).
    ونصها: أن رجلاً قَدِم إلى بغداد في طريقه إلى أداء فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، وكان معه عِقْد من اللؤلؤ يساوي ألف دينار، فاجتهد في بيعه، فلم يفلح، وثَقُل عليه حمله إلى مكة، فجاء إلى عطار موصوف بالأمانة والخير وأودعه إياه، ثم حَجَّ، وعاد إلى بغداد بهدية إلى العطار، فلما وقف بين يديه سأله العطار في جفاء قائلاً: "من أنت"؟! فقال الرجل: "أنا صاحب العِقْد الذي أودعتك إياه أمانة قبل سفري إلى الحج"، فدفعه العطار ورفسه قائلاً: "اذهب من أمام دكاني يا مـحتال، وإلا سلَّمْتُك إلى الشرطة"، واجتمع عليهما أهل السوق فقالوا للحاج: "ويْلَك! أما رأيت مَن تدَّعي عليه غير هذا الرجل الصالح"؟! فتحير المسكين مما رأى، وكادت دموعه تسيل على خديه لفرط ما لاقاه من ضياع ماله وإهانة العطار والناس له، وهمَّ بأن يمضي في سبيله، فاقترب منه شاب يبدو في سيماهُ الحزن لما لاقاه هذا الرجل، وقال له: "لَو ذهبت إلى عضد الدولة، وشكوت له أمرك، فإن له في
    هذه الأشياء فراسة"، فتوجه المسكين لساعته، فكتب قصته، وجعلها في قصبة، ثم رفعها إلى عضد الدولة، وانتظر بالباب، ولم يمض وقت طويل حتى ناداه الحاجب، فدخل عليه، فسأله عن حاله، فأخبره بالقصة، ففكر عضد الدولة ملياً، ثم قال له: "اذهب واجلس بجانب دكان ذلك العطار تماماً، فإذا منعك فاجلس في مواجهة دكانه، وافعل ذلك ثلاثة أيام من الصباح حتى المساء، فإني أمرُّ عليك في اليوم الرابع، وأنزل مع جندي عن خيلنا، أسلم عليك وأظهر لك حفاوة زائدة بِك، فلا تكترث لي، ولا تزد على رد السلام وإجابتي عن أسئلتي بما يظهر أنك لا تحفل بي، فإذا انصرفتُ فأعد عليه ذكر العقد، ثم أعلمني بما يقول لك، فإن أعطاك هو فجِئْ به إليَّ"، فجاء الرجل ليجلس بجانب دكان العطار، فانتهره هذا وطرده، فجلس في مقابلته، ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع جاز به عضد الدولة في موكبه العظيم، فلما رأى الرجلَ وقف وترجَّل هو وجنده جميعاً، ثم تقدم نحوه، وسلم عليه في حفاوة، والرجل لا يتحرك في مكانه، واكتفى برد السلام، فقال له عضد الدولة بصوت يسمعه العطار: "تَقْدُم علينا فلا تأتي إلينا، ولا تتكرم علينا بزيارة، ولا تعرض علينا حوائجك؟ لا، إن في ذلك ما يحزننا ويؤلمنا"، فأجابه الرجل، وقد دام تبادل الحديث بينهما مدة طويلة، والعطار ينظر إلى ذلك يكاد يُغمى عليه من الخوف، فلما انصرف عضد الدولة التفت إلى الحاج، وقال له: "ويْحَكَ! متى أودعتَنِي هذا العقد؟ وفي أي شيء كان ملفوفاً؟ فذكرني به لعلي أذكره"، فقال: "إن من صفته كذا وكذا"، فقام العطار وفتش طويلاً، ثم نَفَضَ جَرَّةً كانت عنده، فوقع العقد منها، فقال كمن تذكر بعد نسيان: "كنت قد نسيت، ولو لم تصِفْ لي الوضع كما كان ما تذكرت، ولَضاعَ عليك عِقدك عن غير قصد مني، فسامحني يا أخي"، ثم أعطاه العقد وهو يفيض في اعتذاره، فأخذ الرجل العقد، وتَوَجَّهَ به إلى عضد الدولة –كما أمره–، فبعث إلى دكان العطار مَن جاء به، ثم صَلَبَه على باب دكانه، وعَلَّق العقد في عنقه، ونُودي عليه: "هذا من استودِعَ أمانةً فأنكرها"، فلما وَلَّى النهار سلَّم عضد الدولة العقدَ إلى صاحبه، وقال له: "اذهب برعاية الله".
    فَيا لَها من مقومات قضائية أميرية سلطانية، أعطت القدوة الحسنة للقضاء، والهيبة العظيمة للقضاة، وصِدْق التوجه بهم نحو العدالة القائمة فوق العدل أو الإنصاف الظاهر المجرد.
    ولهذا فقد صدق النص: (إذا صلُح الراعي صلُحت الرعية).





    الفصل الخامس:
    الشروط السلوكية اللازمة في حامل أمانة القضاء
    قال ابن أبي الدم: "شرائط القضاء عشرة: الإسلام، والحرية، والذكورة، والتكليف، والعدالة، والبصر، والسمع، والنطق، والكتابة، والعلم بالأحكام الشرعية"( ).
    وجملةُ ما له تعلقٌ بالسلوك من هذه الشروط جميعُها، ما عدى السمع، والبصر، والنطق، والذي يهمنا ويقع عليه حديثنا من تلك الشروط: ما تعلق منها بالصفات السلوكية، وفاءً بما وعدنا في خطة المنهج، ?وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيْهِ أَجْرَاً عَظِيْمَاً?( )، وما كان وعدِي إلاَّ دون العهد، ولا أقصد سوى التماس الأجر من الله تعالى.
    ونكتفي بالتفصيل في إفراد الشروط (السبعة) من (العشرة) بعد فصل (الثلاثة) المستثناة، ولا يفُوتني أن أنبِّه إلى أن هذه الشروط لم يكن حصرها في (العشرة) متفقاً عليه بين العلماء، لكن منهم من زاد عليها وفصَّل وأطال، ومنهم من أوجزها واختصر، والاتفاق حاصل في أكثرها، (والعشرة) أجمع وأمنع، وحيث أوقعتُ الاختيار عليها، فاستخلصتُ ما خَصَّ منهجَنا منها لدراسة جانِبِه، مع مراعاة الوقت والحاجة، ومدى استيعاب الدارسين وطاقاتهم، فقد جعلت ضابط كل شرط خلاف ما يخرج به.
    الشرط الأول: الإسلام:
    وهذا الشرط من أهم الشروط الواجب توافرها في القاضي، فلا يجوز أن يلي أمر المسلمين من هو على خلاف دينهم وغير مؤمن بعقيدتهم، والله تعالى يقول: ?وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِيْنَ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ سَبِيْلاً?( )، ولا سبيل أعظم من أن يَلُوا أمر القضاء بين المسلمين وهم يكفرون بالإسلام، والله تعالى يقول: ?اللهُ وَلِيُّ الَّذِيْنَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوْرِ وَالَّذِيْنَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوْتُ يُخْرِجُوْنَهُمْ مِنَ النُّوْرِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُوْنَ?( ).
    والله تعالى قد خصَّ المؤمنين بولايته وحده دون غيره، ومن كان اللهُ وليُّه فلن يتولاه سواه، كما قال سبحانه: ?وَمَنْ يَتَوَلَّى اللهَ وَرَسُوْلَهُ وَالَّذِيْنَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُوْنَ?( )، وقوله: ?ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِيْنَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِيْنَ لا مَوْلَى لَهُمْ?( ).
    وإثبات ولاية الله للمؤمنين تعني: عدم جواز ولاية الكافرين لهم، بدليل قوله تعالى: ?وَإِنَّ الظَّالِمِيْنَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِيْنَ?( ).
    وقد نهى الله عباده عن التحاكم إلى أهل الكفر واتخاذهم أولياء بقوله تعالى: ?يُرِيْدُوْنَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوْتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيْدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيْدَاً?( )، فمَن تحاكَم إلى الطاغوت انتفى عنه الإيمان، والطاغوت: الكافر، والشيطان: طاغوت، وكل من تجاوز حده من متبوع أو مرهوب أو مرغوب فهو: طاغوت، وكل من يظاهر المسلمين: طاغوت، أو يرفع في وجوههم السلاح مُشْهِراً قتالهم: فالْمَنْع عن توليهم، كما قال تعالى: ?إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِيْنَ قَاتَلُوْكُمْ فِي الدِّيْنِ وَأَخْرَجُوْكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُوْنَ?( ).
    قال الماوردي: "ويُشترط في القاضي: الإسلام؛ لكونه شرطاً في جواز الشهادة مع قوله تعالى: ?وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِيْنَ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ سَبِيْلاً?( )، ولا يجوز قضاء كافر على أهل دينه"( ).
    زاد الشربيني: "لأن القصد بالقضاء: فصل الأحكام، والكافر جاهل بها"( ).
    وجوَّز أبو حنيفة تقليده على أهل دينه.

    وللروياني: أنه لا يلزمهم حكمه بإلزامه، وإنما بالتزامهم( ).
    وانتهر عمر بن الخطاب –رضي الله عنه– أبا موسى الأشعري حين استَعْمل كاتباً نصرانياً، فقال: "لا تُدْنوهم وقد أقصاهم الله، ولا تُكْرموهم وقد أهانهم الله، ولا تأمَنوهم وقد خوَّنهم الله، وقد نهيتكم عن استعمال أهل الكتاب؛ فإنهم يستحلون الرشا"( ).
    ويظهر من مفهوم نتائج هذه الأدلة في عدم جواز قضاء الكافر أو استقضائه: عدم التزامه بسلوك العدالة، ثم تحقيق انعدام الأمانة، وتحقُّق استحلال الرشوة والربا، ثم الجهل بأدلة الأحكام الشرعية، ويلحق بالكافر: الفاسق؛ لفقدانه سلوك الأمانة، وخروجه عن الإلتزام بثابت السنة، وجرح عدالته بإعلان المخالفات، وارتكاب المنكرات، وملحقات الكبائر، ولأنه لا تُقبل شهادته، فعدم قبول حكمه أولى، كما قال ابن أبي الدم: "وضابط الفسق هو: ما يَرتكبُ المكلفُ فعلَه، والاتفاقُ جارٍ على حُرمتِه، أو باعتقاده؛ فارتكَبَه مُتأوِّلاً"( ).
    الشرط الثاني: الحرية:
    الحرية: واجب تحققها، وشرطُ ولازمُ توفرها في الشخص المولَّى في منصب القضاء؛ لنقصان العبد بولاية غيره عليه، بل بملك سيده له ملكاً مساوياً ملكيته المال المنقول، يُباع ويُشترى وينقل من يدٍ لِيَد.
    والعبد لا يملك التصرف في نفسه، ولا في ماله، وهو ومالُه لسيده؛ لهذا من باب أولى ألاَّ يُمَلَّك ولايةَ غيره، والقضاء ولايةٌ لا سلطان على واليها في قضائه قانوناً.
    والمُكاتَب( ) والمُدَبَّر( ) لا تصحُّ ولايتُهما ما لم يُمَلَّكا الحريةَ الكاملة، بينما لا يَمْنَعُ الرِّقُّ من الفُتْيا، ولا من الرواية.
    قال الماوردي: "وجوَّز بعضهم قضاء العبد؛ لجواز فُتياه وروايته، لقول عمر بن الخطاب –رضي الله عنه–: (لو كان سالِمٌ مولَى أبي حذيفة حياً لَمَا يُخالجني في تقليده شك) ".
    قال: "وهذا فاسد لأمرين:
    أحدهما: أنه لَمَّا كان مُوَلَّىً عليه لَمْ يَجُز أن يكون والياً.
    والثاني: أنه لَمَّا كان مـملوكاً لَمْ يَجُز أن يكون مالكاً –وإن جاز أن يكون مجتهداً وراوياً ومُفتياً–.
    فأما أمر سالم، فعَنْه جوابان:
    أحدهما: أنه كان مُوَلَّىً عِتاقَة، ولم يكن باقياً في الرق، وتقليد المعتَق جائز.
    والثاني: أن عمر –رضي الله عنه– قال ذلك على وجه المبالغة في مدح سالم( )، والأهم من هذا أن عمر بن الخطاب في قوله هو: يُضْفي تزكيةً لعدالة وأمانة سالمٍ، شاهداً له بحسن السلوك في حالة مِلكية نفسه، وتوفر شرط تصرفه بعد عتقه، وبهذا تظهر المناسبة، وهي: أن العبد لا يُشهد له بحسن السلوك في العدالة والأمانة والعفة والنـزاهة، وهو عبد لا يملكها، بل هو مُلزَم بانتهاج صفات سيده سلباً وإيجاباً، وكل من فقد الصفات السلوكية أو بعضها لا يجوز له ولاية القضاء، ويأثم من ولاَّهُ وإن كان سيداً مُهاباً حراً، وانعدامُ الأهلية: نقصانٌ في السلوك.
    الشرط الثالث: الذكورة:
    وهذا شرط لازمٌ لا بد منه، وقال به جمهور الفقهاء؛ استناداً إلى أدلة قوية وثابتة في القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس.
    أما من القرآن: فقوله تعالى: ?الرِّجَالُ قَوَّامُوْنَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ?( ).
    وإثبات القِوامة للرجل على المرأة تعني: الولاية عليها، ومن أسباب الولاية: نقصان الأهلية، لكن ليس كنقصان أهلية العبد، وإنما نقصاناً في بعض الصفات، كالعقل، والدين.
    والأدلة من السنة: قوله –صلى الله علية وآله وسلم–: »ما أفلح قومٌ ولَّوا أمرَهم امرأة«( ).
    والإجماع على عدم ولاية المرأة: حيث لم يولِّها رسولُ الله –صلى الله علية وآله وسلم–، ولا أحدٌ من الصحابة، ولا التابعون.
    أما القياس: فإنه يرى أن المرأة ضعيفة لا تقوى على القيام بولاية القضاء؛ لأن طبعها وطبيعتها لا تساعدها، حيث أنها مربِّية أجيال وربَّة بيت بالدرجة الأولى، وفيها من العاطفة والحنـان ما يتنـاقض مع قوة القضاء وتقدير الشدة فيه –أحياناً– لإظهار الحق، والمرأة تفتقد صفة تقدير الشدة، ويغلب عليها الكيد والحماقة عند محاولتها إبداء الشدة المطلوبة فتنهار.. وهذا يتنافى مع إجراءات الوصول إلى العدالة، وإثبات الحق، وإظهار الباطل.
    وخالَفَ الجمهورَ أبو حنيفة، فأجاز ولاية المرأة فيما تصح فيه شهادتُها، وشهادتُها تصحُّ فيما سوى الحدود والقصاص.
    وشَذَّ ابن جرير الطبري، فأجاز ولاية المرأة في كل شيء قياساً على جواز فُتياها، وردَّ عليهما الجمهور بأن هذا فاسد ومخالف للنصوص والإجماع، ولا تقوم بقولهما حُجة( ).

    وإضافة إلى ما تقدم من أدلة الجمهور: قوله –صلى الله علية وآله وسلم–: »أخِّروهُنَّ حيث أخَّرهُن الله«( )، ولأن الأنوثة قد منعتها من إمامة الصلاة مع جواز إمامة الفاسق، فكان المنع من القضاء الذي لا يصح من الفاسق أولى، ولأن نقص الأنوثة يمنع من انعقاد الولايات العامة، ولأن من لم تنفُذ شهادته في الحدود والقصاص كيف ينفُذ حكمُه؟! وكذلك من لم ينفُذ حكمُه في الحدود لم ينفُذ حكمُه في غير الحدود، كالأعمى.
    والمرأة من باب أولى.. مع زيادة نقصان الملاءمة العملية في المَلَكَة العقلية.. ومدى التأثر العاطفي، وإنه لتنقصها المهابة اللازمة لحمل أمانة القضاء، كذلك ينقصها الجَلَد، والصبر، والأناة في مقابل طَبْعِها وخُلُقِها المجبول على الكيد العظيم..
    وأما جواز فُتياها وشهادتها عند من عَمَّم فلأنه لا ولاية فيهما، فلم تَمْنَعْ منهما الأنوثة –وإن مُنِعَتْ من الولايات–.
    وحتى الخنثى المشكل: لا يجوز أن يُوَلَّى حتى يزول إشكالُه بإثبات رجولته( ).
    قال الشوكاني –رحمه الله ورضي عنه –: "المرأة ليست من أهل الولايات، ولا يحل لقومٍ إقرار ولايتها؛ لأن تجنُّب الأمر الموجِب لعدم الفلاح واجب المفهوم من قوله –صلى الله علية وآله وسلم–: »لن يفلح قومٌ ولَّوا أمرَهم امرأة«( ) ".
    وقال في: (الفتح): "وقد اتفقوا على اشتراط الذكورة في القاضي، إلاَّ الحنفية، واستثنوا الحدود، وأطْلَقَ ابنُ جرير".
    ويؤيدُ ما قال الجمهور: أن القضاء يحتاج إلى الرأي الحصيف الكامل المستقل، ورأي المرأة ناقص الحصافة القضائية التي هي من مستلزمات الشروط لحمل أمانة القضاء، بل إنها الشرط المكمل لشخصية القاضي، ولا يعني المرأة بحال، وهي –في الأصل–: ناقصة عقل ودين.. ولا كمال للمرأة في مقابل تأصيل نقصانها في أهم مقومات التكريم الخاصة بالإنسان.. سيَّما في محافل الرجال( ).
    والمناسبة ظاهرة في فقدان المرأة بعض السلوك، وأهمها: نقصان العقل، والدين، وكفران العشير؛ بدليل قوله –صلى الله علية وآله وسلم–: »إنهن ناقصات عقل ودين«( )، وقوله: »رأيتُكُنَّ أكثر أهل النار؛ لأنكُنَّ تكفُرْنَ العشير«( )، أو كما قال –صلى الله علية وآله وسلم–.
    فنقصان عقلها: ألزم نقصان شهادتها، وعدم تزويج نفسها دون إذن وليها، وأن لا تسافر إلا مع محرم، والأدلة بهذا ثابتة بالتواتر في مظانِّها بكل ما يخص المرأة ويعنيها.
    ونقصان دينها: بتركها الصلاة، والصيام أيام حيضها ونفاسها.
    وأكثر أهل النار من النساء: لجحودِهِنَّ المعروف، وإنكارِهِنَّ الجميل، وكُفرانِهِنَّ العشير (حقوق الزوج)؛ بدليل خبر النبي –صلى الله علية وآله وسلم–، وهذه صفات نقص في السلوك المخِلَّة بالشروط الواجب توفرها في القاضي، أو في من يتولى سلطة عامة في الدولة الإسلامية، ولا اعتبار بقول يَرُدُّه الإجماع، مع قوله الله تعالى: ?الرِّجَالُ قَوَّامُوْنَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ? ( ).
    ومن مفاهيم القوامة: معنى التعويض للمرأة في مقابل النقص المعلوم بالضرورة.. لسد الحاجة.. لا لتَكْمُل فتساوي رجلاً شاهداً في حدِّ أو قصاصٍ غير مقبولة فيهما أصلاً، وإن الحدَّ في السرقة، والقصاصَ في القتل أو فيما دونه لَهُو أشدُّ وقْعاً في نفسية القاضي، وأعظمُ خطراً ومهابةً من لقاء العدو في ميدان الحرب والقتال.. وقد خُصَّت المرأةُ دونه بجهاد لا شوكة فيه: الحج والعمرة، فمِن باب أولى تقدير ضعفِها في مواجهة حِمل أمانة القضاء الممتنع عليها شرعاً.
    كذلك من أسباب منع قضاء المرأة: أن الحكمَ بين الناس ليس وظيفةً مدنيةً.. ولا هو حرفةً أو مهنةً يُباح التنافسُ فيه أو السبقُ على حق امتيازه.. بل إن من موجبات الحرص على إقطاعه: مَنْعُ ولايته وذَمُّ طالبه.. ويبقى شُبْهَةً وكَراهَةً في حق من أُجْبِر عليه أو اضْطُرَّ.. وكان من رجال الأهلية المؤهَّلِين، معصومَ الحَجْر في الفَلاح والقِوامة.. جائزاً عليه وقوفُ ولاية مَن لا وَلِيَ له.. غيرَ مغبُونٍ ولا مرهونٍ في الوصفَين..
    فمَن ترى في الوجود ينقُصُه هذا الوصف، فذلك لا يجوز له ولاية القضاء..
    والمرأة ينقصها بالضرورة.. ويخصُّها لِبْسُ الزينة، والتَّوَدُّدُ، وطاعةُ الزوج.. والحَملُ، والولادةُ، والرضاعُ، والتربيةُ.. كما يلزمها الوَقْرُ في بيتها، والحشمةُ، وعدم التبرج أو الخضوع بالقول.. إنها وظائفُ شَرَفِ المرأةِ المسلمة، وقد ضَمِنَتْ جنةَ ربها بالتزام هذه التكاليف غايةَ كلِّ مطلب ونهايةَ كلِّ إلحاح.
    ومهما اضْطَّرَّت إلى العمل فَكَمْ من المجالات في الساحة..؟! وخيرُ تخصُّص يعنيها: الطِبُّ والتعليم..
    الشرط الرابع: التكليف:
    هذا الشرط يشمل: البلوغ، والعقل؛ لأن باجتماعهما يتعلق التكليف، ويثبت للقول حُكْمٌ.
    فلا يجوز أن يكون القاضي غير بالغ، أو غير عاقل؛ لأنه ليس لأحد منهما تمييز صحيح، ولا لقوله حكم نافذ، فإن قُلِّد واحدٌ منهما كانت ولايته باطلة، وأحكامه مردودة؛ لقوله –صلى الله علية وآله وسلم–: »رُفع القلم عن ثلاثة …«( )، وذَكَر: الصغير، والمجنون.
    وكل واحد منهما مُولَّىً عليه، فلا يجوز أن يكون ولياً.
    وعدم البلوغ دليل على عدم اكتمال العقل، ولذلك لم يكلف اللهُ مـحمداً –صلى الله علية وآله وسلم– بالرسالة إلا بعد أن حرز واكتمل، وهو أعظمُ الخلق على الله، وأحبُّهم إليه منذ ولادته.
    ولم يُوَلِّ –صلى الله علية وآله وسلم– حداً من الصحابة القضاء ولا أمراً من أمور المسلمين قبل بلوغه وإحراز عقله، وعلى هذا سلف الخلفاء الراشدون، فكان إجماعاً على عدم إقرار ولاية الصغير( ).
    وإن كان قد ثبت تقديمه لإقامة الصلاة فهي تختلف عن ولاية القضاء، وأعباء مشقته، فغير البالغ لا يكون مهاباً ولا قادراً على الصلابة والصرامة.
    وعن عمر بن عبد العزيز قال: "ينبغي للقاضي أن تجتمع فيه سبع خلال، إن فاتته واحدة كانت فيه وَصْمَة، منها: العقل، والصرامة، والصلابة.
    وليس يُكتَفي فيه بالعقل الذي يتعلق به التكليف مِن علمه بالمُدْركات الضرورية حتى يكون صحيح التمييز، جيد الفطنة، بعيداً من الشهود والغفلة، يتوصل بذكائه إلى حلِّ ما أُشْكِل وفَصْلِ ما أُعْضِل"( ).
    واختلفوا في مَن يحرز عقله تارة ويغيب أخرى على قولين:
    أحدهما: أنه لا يجوز أن يُوَلَّى؛ لأن غيبة العقل تبطل به فروض العبادة، فمن باب أولى تنفيذُ الأحكام.
    والثاني: يجوز، ويجري مجرى فترات النوم وأوقات الاستراحة، فإن قُلِّد وهو صحيح العقل ثم طرأ عليه الجنون: بَطُلَتْ ولايتُه، ولم يَعُد إليها –وإن أفاق ورجع إليه عقلُه–.
    وإن أُغمي عليه: لم يؤثِّر في ولايتِه؛ لأن الإغماء لم يمنع من النبوة، كما في قصة موسى –عليه السلام– من قوله تعالى: ?فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكَّاً وَخَرَّ مُوْسَى صَعِقَاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ?( ).
    والظاهرة السلوكية المنقودة الذي كان الاحتراز منها في هذا الشرط: أن غير البالغ، وغير العاقل ناقصا الأهلية، وكل تصرفاتهما المخالفة وغير المشروعة باطلة، وتبعات هذه التصرفات مرفوع عنهما الإثم فيها، بنص الحديث الشريف.
    ومن لا تصح عقوده لنفسه، ولا يُعْتَدُّ بقوله وفعله لا تنعقد ولايته على غيره، ولا يصح قضاؤه.
    الشرط الخامس: العدالة:
    وهو: أن يكون صادق اللهجة، ظاهر الأمانة، عفيفاً عن المحارم، مُتَوقِّياً للمآثم، بعيداً عن الريب، مأموناً في الرضا والغضب، مستعمِلاً لمروءة مثله في دينه.
    وتعريف العدالة لغةً: التوسُّط، قال تعالى: ?وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطَاً?( ).
    وشرعاً: اجتناب الكبائر، وعدم الإصرار على الصغائر.
    قال ابن قدامة: "ويُشترط فيمن يُوَلَّى القضاء: العدالة، فلا يجوز أن يُوَلَّى فاسقٌ، ولا مَن فيه نقصٌ يمنعُ الشهادة"( ) –كما تقدم–.
    والخيانة وعدم الأمانة: من الصفات السلوكية الذميمة، المُخِلَّة بالشروط الواجب توفُّرها في مَن يُوَلَّى القضاء، الذي هو شوكة ميزان العدالة، وهذه الصفات تتنافى مع العدل اللازم بالقضاء( ).
    الشرط السادس: الكتابة:
    هذا الشرط احترز به عن الأمِّي –وهو: الذي لا يقرأ ولا يكتب–، لِكَون القضاء كل إجراءاته مردُّها إلى الكتابة والقراءة لمستندات الخصوم، والتدقيق في نقاط حُجَجِهم والمبررات التي يَدفع بها كل خصم، واستعمال الفطنة والذكاء، وفن الترجيح لبعضها على بعض بعد تكرار القراءة، وتسجيل النقاط المهمة والمفيدة لحيثيات وتسبيبات الحُكم، وأولاها: تصحيح الدعوى، ومناقشة الدفوع.. وهذه الإجراءات من اختصاص القاضي شخصياً، إطِّلاعاً وعِلماً ودرايةً –قولاً وفعلاً–، والأحكام لا يُسأل عن نتائجها غيرُه.. والاعتمادُ على الغير في القراءةِ والكتابةِ لقضايا الأحكام، وإثباتِها في المستندات الرسمية، وتنفيذِها على المحكوم عليه في ماله
    أو عرضه أو دمه: يَلْزَمُ صدورُها من القاضي، عِلْماً وعيناً وحقاً يقينياً.
    والأحكام لا تثبُتُ حجيتُها مع احتمال الشبهة، وأحكام الأمِّي: الشبْهَةُ فيها قائمة؛ لذلك يصبح تنفيذها غير ملزم، والشبهة: احتمال الخدعة والتدليس من قِبَل الكاتب بتحريف أو تبديل أو تغيير في المستندات عند القراءة، سواءً كان منفرداً أو بالاتفاق مع أصحاب الشأن، بقصد تضليل القضاء، والكيد للقاضي.
    وإقامة القضاء الإسلامي: من أجل العدالة، وهي في حكم الأمِّي غير مُتَيَقَّنة مع وجود الاحتمال، وما ورد فيه الاحتمال: بَطَل به الاستدلال شرعاً.
    والقضاء وُجِدَ لحماية الحقوق وردِّها لأصحابها، وفي قضاء الأمِّي احتمالُ إهدارها بالخدعة والتدليس، وتجهيل القاضي وغبْنِه( ).
    كذلك القضاء الإسلامي مسئول عن حماية المغفلين، وإبطال بيعهم وشرائهم، وإيقاف تصرفاتهم عندما يُغْبَنون ويُغْلَبون، ويَهْدِرون حقوقَهم وأموالَهم باختيارهم.
    فإن القاضي الأمِّيَّ يُغَفَّلُ ويُخْدَع ويُجَهَّل؛ فيَغْبِنُ في حكمه بالجور فيه، فيظلم نفسه بظلمه غيرَه مختاراً بقبوله ولاية القضاء حتى يظلم نفسه بغفلته، لذلك لزم منعه من ولاية القضاء حمايةً لنفسه من الزج بها في المهالك، والذي يلزم حمايته من نفسه لا يجوز أن يسند عمل القضاء إليه فيكون حامياً، والْمَحْمِيُّ لا يَحْمِي و(فاقد الشيء لا يعطيه)، وشبهةُ التغفيل قائمة.
    وبظلمه الآخرين يجب أن يُمنع؛ حمايةً لهم من ظلمه، ومنعاً لإهدار حقوقهم وضياعها بانعدام العدل حقيقةً أو احتمالاً( ).
    وكل هذه الصفات تُعَدُّ صفات نقص سلوكية، سواءً كانت حقيقة أو محتملة، فهي تمنع الأمِّيَّ من ولاية القضاء.
    ولا يجوز أن يُحْتَجَّ بأميَّةِ محمد –صلى الله علية وآله وسلم–، فهو نبيٌّ يُوحى إليه، وأقواله وأفعاله وجميع تصرفاته مسدَّدة بالوحي، والله يعصمه ويحميه.
    الشرط السابع: العلم بالأحكام الشرعية:
    يدخل تحت هذا الشرط: شرطُ الكفاية، كما يحتوي: شرطَ الاجتهاد عند كثير من الفقهاء، واحتُرِز بالعلم عن الجهل بها، فلا تصح ولاية الجاهل بلا خلاف، وللحنفية خلاف في اشتراط الاجتهاد، ومن العلماء من يرى لزوم الاجتهاد المطلق في الأحكام الشرعية في كل من يُوَلَّى وظيفة القضاء.
    وشرائط الاجتهاد يَعِزُّ وجودُها في هذا الزمن المادي المتَداعِي، بل إنه لا يوجد على البسيطة اليوم مجتهدٌ مُطْلَقٌ( )، إلا أن كل العلم مُدَوَّنٌ بجميع أنواعه، وكلُّ نوع له مظانُّه، اجتهد السابقون الأولون في تأليفها وتصنيفها وتوصيفها حتى سهَّلوا على الباحث والطالب تَناوُلَها وحِفْظَها أو بَعْضَها، ودَرَكَ الأحكام المطلوبة منها، ومعرفةُ ذلك: بِحِفْظِ وجُهْدِ ما تَعِبَ عليه مَن تَقَدَّم.
    والمناسبة في هذا: أن الجاهل بالأحكام الشرعية مُعَرَّضٌ لارتكاب كل المخالفات السلوكية الظاهرة والمحتمَلة التي بَيَّـنَّاها في الشروط السابقة، ولازمُها: مَنْعُ من أخلَّ بها مِن ولاية منصب القضاء، حمايةً للمجتمع من أن يتولَّى مَصالِحَه القضائية مَن أهليتُه ناقصةٌ.






    الباب السادس

    مقوماتٌ عامة





    الفصل الأول:
    مواقفُ قضائية
    إن شرفَ القضاء الإسلامي وعُلُوَّ قَدْره ومكانةَ تشريعه بين التشريعات الأخرى أكْسَبَه احتراماً خاصاً، وقُدْسية مميزة؛ لجليل مواقف وُلاتِه، ومُصْدِرِي أحكامه.
    ولستُ بصدد سرد أو حصر جميع المواقف التي وقفها قضاةُ الإسلام النـزهاء، أعلام القول والعمل، وفطاحِلَة العلم والتجربة، وجهابذة الحكمة والأدب والأخلاق، فذلك يطول ولا يمل، والاكتفاء بأمهات المواقف القضائية حاصل بها علم فصل الخطاب، وعليها مَحَطُّ الرحال.
    ومجمل مواقع اتجاهها، والمُحَقَّةِ عليهم، والصادرةِ ضدهم: الأمراء والحكام، أو الأهل والأرحام، أو أصحاب النفوذ والسلطان، أو الوجهاء والزعماء والأعيان.
    وإنه لإيمانٌ عميقٌ، ونفوسٌ خيِّرةٌ، وزُهدٌ وثيقٌ، صفاتٌ سَمَتْ بأصحابها إلى أعلى درجات الثقة بالله، والاستهانة بالدنيا وزينتها ولعبها ولهوها، مما كان بها القوة في إصدار أحكامهم النافذة ضد أولئك، مهما كانوا سبباً في ولايتهم، وعَنْهم نالوا درجة القضاء، لكن لم يجاملوهم، بل كان لهم معهم مواقف ومواجهات مضادة لأهوائهم ورغباتهم، وصادعة بالحق في مواجهة الباطل المحمول على فخر المظاهر، وبهرجة الملك والسلطان.. وللأهمية العلمية، ثم بقصد التماس القدوة.. نثبت من تلك المواقف أشهرها:
    الموقف الأول:
    لقد كان هذا الموقف القضائي لواحدٍ من أشهر قضاة الأندلس إنه: القاضي/ منذر بن سعيد البلوطي، قاضي قرطبة من قِبَل عبد الرحـمن الناصر، أعظم ملوك الإسلام في عصره، باني الزهراء (مدينة العَظَمَة والكبرياء)( ).
    وكان هذا الخليفة قد استغرق في الإشراف على بنائها، حتى أنه ما كان يرى شيئاً أولى باهتمامه منها، وقيل أنه مَرَّة اشتغل بها عن صلاة الجمعة، ومِن شديد اهتمامه: أنه حَلَّى بعض اسطواناتها بالذهب والفضة، وعَبَثَ فيها بما لا يوصف من الأموال والإنفاق المسْرِف.
    وعند الافتتاح حشد الجموع الغفيرة من الناس، وجعل ابتداء حفلات الافتتاح الصاخب بصلاة الجمعة، وكان الخطيب: ذلك القاضي الشاب/ منذر بن سعيد، الذي بدأ عندما صعد المنبر، واستوى مستقبلاً تلك الجموع والحشد العظيم، بدأ الخطبة بما ينطبق ويتوافق مع الواقع والحال لهذه المدينة، بقوله تعالى: ?أَتَبْنُوْنَ بُكُلِّ رِيْعِ آيَةً تَعْبَثُوْنَ * وَتَتِّخِذُوْنَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُوْنَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِيْنَ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيْعُوْنِ * وَاتَّقُوا الَّذِيْ أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُوْنَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِيْنَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُوْنٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيْمٍ?( ).
    وواصل ذلك بالشرح والبيان الرائع، والقول البليغ الفصل، معارضا الإسراف والترف والزهو المتمثل في الخليفة الناصر، مستنكراً ومندداً وشاجباً الإفراط في إضاعة المال العام، والتبذير به في زخرفة القصور، واستمر في تهييج مشاعر الناس، وإلهاب حماسهم الإنكاري لواقع الحال المُحْدَث، والدموع تبلِّل لحيتَه، وهو يجهر بكلمة الحق الصادعة: "– والله – يا أمير المؤمنين، ماظننتُ أنْ الشيطان – أخزاه الله – يتمكن منك هذا التمكن، حتى أنزلك منازل الكافرين، فجعلتَ قرامِدَ بييبتك من الذهب والفضة، والله تعالى يقول: ?وَلَوْلا أَنْ يَكُوْنَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوْتِهِمْ سُقُفَاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُوْنَ * وَلِبُيُوْتِهِمْ أَبْوَابَاً وَسُرُرَاً عَلَيْهَا يَتَّكِئُوْنَ * وَزُخْرُفَاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِيْنَ?( )، ثم واصلَ بقوله تعالى: ?أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِيْنَ * لا يَزَالُ بُنْيَانَهُمُ الَّذِيْ بَنَوا رِيْبَةً فِي قُلُوْبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوْبُهُمْ وَاللهُ عَلِيْمٌ حَكِيْمٌ?( ).
    وما زال يلقي ويصقع، حتى نسي الناس الخليفة ونسوا الاحتفال، وصَفَت القلوب إلى الله، وصفت النفوس لخالقها وبارئها، وارتجَّ المسجد بالبكاء والنحيب.
    فلما قُضيت الصلاة انصرف الخليفة مغضباً، وقال لابنه: "أرأيت جرأته علينا، – والله – لا صليتُ خلفه الجمعة أبداً".
    قال له ابنه الحَكَم: "وما يمنعك من عزله"؟ فرجع الخليفة إلى نفسه، وقال: "وَيْحَكَ! أمثل منذر بن سعيد في فضله وورعه وعلمه – لا أمَّ لك – يُعزلُ في إرضاء نفس ناكية عن سبيل الرشد؟ إني لأستحي من أن أجعل بيني وبينه إماماً غيره، ولكنه قَسَمٌ سَبَق"، وأمر بنقض الذهب والفضة من القصر.
    الموقف الثاني:
    وموقف آخر لهذا القاضي الجليل مع الناصر( )، وذلك يوم أراد أن يبني قصراً لإحدى نسائه، وكان بجوار المكان دار صغيرة، وحمام لأيتام تحت ولاية القاضي، فطلب شراءه، فقالوا: إنه لا يباع إلا بإذن القاضي، فسأله بيعه، فقال: "لا، إلاَّ بإحدى ثلاث: حاجة الأيتام، أو وَهَن البناء، أو غِبْطة الثمن"، فأرسل الخليفة خبراء قدَّروها بثمن لم يعجب القاضي، فأباه، وأظهر الخليفة العدول عنهما والزهد فيهما، وخاف القاضي أن يأخذهما جبراً، فأمر بهدم الدار والحمام، وباع الأنقاض بأكثر مما قدَّر الخبراء، وعَزَّ ذلك على الخليفة، وقال له: "وما دعاك إلى ذلك"؟ قال: "أخذتُ بقوله تعالى: ?أَمَّا السَّفَيْنَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِيْنَ يَعْمَلُوْنَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيْبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِيْنَةٍ غَصْبَاً?( )، لقد بعتُ الأنقاض بأكثر مما قدرتَ للدار والحمام وبَقِيَتْ للأيتام الأرض، فالآن اشتَرِها بما تراه لها من الثمن"، قال الخليـفة: "أنا أولى أن أنقاد إلى الحق – فجزاك الله عنا وعن أمتك خيراً –".
    الموقف الثالث:
    ومما سبق التفصيل فيه: موقف القاضي/ شريك في قضية المرأة مع الأمير/ موسى بن عيسى، وهو عمُّ الخليفة.. فليُرْجَع إليه للأهمية( )..
    الموقف الرابع:
    وهذا موقف لشخصية قضائية أخرى، هو القاضي/ محمد بن بشير، قاضي قضاة الأندلس، وشيخ الإسلام فيها، وخطيب مسجدها الأعظم( ).
    حدث أن عُرضتْ لديه دعوى لعمِّ الخليفة على الأندلس/ الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل الأموي، وتلك الدعوى المقدمة من عم الحكم، كانت ضد واحد من العامة، وكان يظن المدعي أن له من علوِّ مكانته، ووثيق صلته بالملك ما يُمَكِّن له عند القاضي، وإذا بالقاضي يقول له: "قف بحذاء خصمك، ولا تتكلم حتى أكون أنا الذي أسألك"، فلما أدلى بدعواه قال للمدعى عليه: "ما تقول"؟ قال: "ليس عليَّ شيء – أصلح الله القاضي –"، قال القاضي للمدعي: "هات بيِّنَتَك"، قال: "ألا يكفيك قولي"؟ قال: "لو كفاني ما سألتك البينة، بيِّنَتُك"، قال: "أمهلني".
    وذهب العم إلى الحكم، فقال له: "ألستَ تعرف أن لي على فلان كذا"؟ قال: "بلى"، قال: "أتشهد لي"؟ قال: "أنت تعرف القاضي، وأخاف ألا يقبل شهادتي"، قال: "كيف! وأنت الذي وليته القضاء؟"، قال: "هو ما أقول لك"، قال: "فمن يشهد لي"؟ فدعا الملك بفقيهين، وكتب شهادته أمامهما وأشهدهما عليها، وقال: "امْضِ بها إليه، وأنا أخاف ألا يقبلها".
    فلما كان يوم المحاكمة، قال له القاضي: "بيِّنَتُك"أبْرَزَ له شهادة الملك، فقال
    القاضي: "أنا لا أقبلها".
    فاستشاط العـمُّ غضباً، وجُنَّ جنونُه، وذهب إلى ابن أخيه، وقال: "أنت ملك البلاد، والقاضي ردَّ شهادتك! ماذا بقي لك من الكرامة والسلطان؟"، وضحك الحكم، وقال: "ألم أقل لك يا عم أن القاضي رجل صالح لا تأخذه في الله لومة لائم، عمل ما يجب عليه، فأحسَنَ الله جزاءه"، قال: "فاعزله"، قال: "أعوذ بالله! أنا أخون المسلمين في عزل مثله؟ أنا عملت ما عليَّ وشهدت لك، وللقاضي بعد ذلك أن يقبل الشهادة أو يردها".
    ولَمَّا سُئل القاضي عن سبب رد شهادة الخليفة قال: "– والله – ما رددتها لنقص في عدالته، ولكن لا بد من سؤال المدعَى عليه عما يقول في الشهادة وصاحبِها، فمَن كان يجرؤ على الطعن في شهادته لو قبلتُها؟!".
    الموقف الخامس:
    وموقف آخر لهذا القاضي هو: أن عامِّـيَّاً أقام لديه دعوى على ابن قطيس (الوزير)، وكان له في الأندلس سطوة ونفوذ، فلما سأل المدعي بيِّنَتَه جاء بشهود، فسمع شهادتهم بغَيْبَة الوزير، ولم يخبره عنهم، ولم يعرِّفه بهم، وحَكَمَ عليه، فرفع الوزير الشكوى إلى الحَكَم (الخليفة)، وكان القاضي حاضراً، فأومأ إليه الحكم سائلاً، فقال: "ليس ابن قطيس ممن يعرَّف بمن شهدَ عليه؛ لأنه إن لم يجد سبيلاً إلى تجريح شهادتهم لم يتحرج من استعمال سلطانه في أذاهم في أنفسهم وأموالهم والانتقام منهم، فيَدَعُ الناسُ الشهادة، وتضيع الحقوق على أصحابها"( ).
    الموقف السادس:
    وإن المسلمين بقُضاتهم ليفخرون حينما يُذْكَرُ موقفٌ مهابٌ لشخصيةٍ ثالثةٍ من شخصيات قضاة الإسلام البارزين الأعلام، لُقِّب بـ(سلطان العلماء)، ذلك هو: عز الدين بن عبد السلام( ).
    وُلِّي خطابة الجامع الأموي مع القضاء، بعد ما شرط شروطاً قَبِلَها مُوَلُّوه، وأخذ عليهم العهود أن يطلقوا يده في الإصلاح، فأصلح وأبطل بِدَعاً كثيرة مما كان يفعل الناس من محدثات في الدين لا أصل لها، منها: صلاة الرغائب، وصلاة نصف شعبان، والرجبية، وما يسمى بليلة البهجة، وغيرها من محدثات الأمور، وضلالات الأهواء.
    وكان يحضُر خطبتَه الملوكُ والأمراءُ، ويُجِلُّونَه، ويُكْبِرُونَه، فلما وقع الخلاف بين الملك الصالح/ إسماعيل في الشام وابنِ عمه ملك مصر استعان الصالح بالإفرنج الصليبيين، وحالفهم على ابن عمه، ومن عجائب القَدَر في أفعال الناس وأقوالهم: أن هذا الملك الخائن كان يُلَقَّب بالملك الصالح، كما أن فاروق مصر كان يلقب بالملك الصالح، وأمثالُه بالمؤمن..! وإن تعجب فعَجَبٌ قولُهم، حين توافقوا بأن الأشياء بضدها تُفْهَم! وهذا الصالح/ إسماعيل كان أعطى الإفرنج بَلَدَين من بلدان المسلمين، الأمر الذي أغضب القاضي، وجعله يجهز خطبة في ذم موالاة الأعداء، وتقبيح الخيانة، يجهر بها من فوق منبر الجمعة، ويختمها بإعلان إسقاط المَلِك من الحكم لأنه قد خان المسلمين، والملك حاضر في المسجد! فما نزل من فوق المنبر حتى قُبض عليه، وضَجَّ الناس، وتكلم العلماء، فأرسل الملك إلى القاضي في سجنه من يقول له أن الملك يعفو عنك إن قبَّلت يده، فكان ردُّه للرسول مُهِيْناً وساخراً بقوله: "يا مسكين، – والله – ما أرضى أني يُقبِّل يدي، فضلاً عن أن أقبِّل يده!".
    ولما عاد الرسول بالرد للملك استشاط غضباً، وأمر بإرساله إلى الجبهة ليُسْجن في فسطاط على قُرب من مقر القيادة، وهناك عُقِد لقاءٌ بين الملك ووفودٍ من الإفرنج، والقاضي في مَحْبَسِه، وهم يسمعون تلاوة القرآن بالقرب من مكان اجتماعهم، فيُصْغُون أسماعهم، فيقول لهم الملك: "إن هذا الذي تسمعون أَعْظَمُ قساوسة المسلمين، وقد حبستُه لإنكاره تسليمي الحصون لكم، وعزلتُه عن منصبه!".
    فقالوا: "– والله – لو كان قسيساً لغسَلْنا رجلَيْه وشربنا ماءهُما!!".
    فكان بذلك سبب إطلاقه، فسار إلى مصر، وهناك استقبله ملكُها، وأكرمه، وولاَّه الخطابة والقضاء، فكان منقطعاً إلى التدريس والتأليف حتى وفَّى العلمَ حقَّه، والعملَ ما لا يُحاطُ بوصفه، لا يبالي في سبيل رضا الله بالصدع بالحق أن يقول الناس عنه أو عليه.
    جاء إليه مرَّة أعرابي لا يعرفه، سأله، فأفتاه، ثم ظهر له أن فُتياه له كانت خطئاً، ولم يكن من وسيلة غير أنه أرسل من ينادي في شوارع مصر بأن عز الدين بن عبد السلام قد أفتى في المسألة الفلانية، فمن كان أفتى له بذلك فليعلم أن الجواب خطأٌ وغلط، وأن عليه أن يأتي ليسمع الجواب الصحيح!
    وقد كان هذا من أسباب تسميته بـ(سلطان العلماء).
    وموقفٌ آخر لهذا القاضي الفاضل مع أمراء مصر يوم أَعْلَن بيعَهُم، وقد سبق.. فلْيُراجَع للأهمية( )..
    الموقف السابع:
    نقِفُه مع الشخصية الرابعة، إنه القاضي/ شرف الدين الإسكندراني، المعروف بـ(ابن عين الدولة)( ).
    إن مما طلع به علينا تاريخ القضاء وسيرة القضاة في الإسلام أن الملك الكامل جاء مرَّة فأدى شهادته في حادثة معينة أمام هذا القاضي، فقال له: "إن السلطان يأمُر ولا يشهد"، ففهم الملك أن القاضي لا يقبل شهادته، فقال: "أنا أشهد الآن، أتقبلني أم لا؟"، فقال القاضي: "كيف أقبَلُك وعجيبة المغنية تَطْـلُع عليك بحَنَكِها كل ليلة، وتنـزل صبيحتَها وهي تتمايلُ من السُّكْر على أيدي الجواري؟!"، فقال السلطان: "ما تقول يا كيواج( ) "؟ فقال القاضي: "اشهدوا أني عزلتُ نفسي عن القضاء"، وترك المجلس مغضباً، فنصح بعض محبي السلطان بإعادته لكي لا تطير في بغداد أخبارُ عجيبة المغنية، بسبب أخبار اعتزال القاضي، وهم يسألون، والكل يحب الاستطلاع، فنهض السلطان وترضَّى القاضي، فعاد إلى القضاء.
    وما اختفت أخبار عجيبة حتى وصلت إلينا، ونحن ننقلها للأجيال.
    ومهما يَكُنْ عند امْرِءٍ مِن خَلِيْقَةٍ
    وإنْ خالَها تَخْفَى على الناس تُعْلَمِ

    الموقف الثامن:
    وأخيراً: فإن خاتمة مِسْك المواقف ذلك الموقف الرائع الحافل بالإكبار والإجلال، على مستوى أهل العزم وصناع العزائم، حيث وصفوه وصنفوه ضمن كتاباتهم وتأليفاتهم التاريخية والفقهية والقضائية وغيرها، وفي كلها يقصِدون القدوة بذلك الموقف المتميز، في العلم، والفهم، والنـزاهة، والعفة، والشجاعة، والجرأة في الحق، واحتمال الأذى وصنوف التعذيب، في سبيل غرس مبدأ الثبات على الحق، إلى حد الجود بالنفس، كما فعل صاحب هذا الموقف.
    إنها محنة عالِم، وابتلاء مؤمن في نفسه وماله، بل في أغلى وأخص ما يـملك الإنسان: فكرُه، وعقيدته، ومبدأ سيره في الحياة، وكان الأول في هذا الامتحان، وكان الناجح فيه بامتياز مع أعلى درجات الشرف هو: ناصر الحق، وقامع الباطل، ورافع لواء العلماء العاملين وأئمة الهُدى المقتدين بالسلف الصالحين والخلفاء الراشدين الإمام/ أحمد بن حنبل – رحمه الله وخلَّد ذكره –، والذي وقف في محنة القول بخَلْق القرآن موقف الرجال، حتى مُحِّص بها إيمانُه، ومُحِقَ بإيقاضها أقرانُه، وسُعِدَ بتجاوزها أعوانُه.
    وإن كان لا بد من تقديم وتمهيد فلنا مع التاريخ وقْفَة، حيث أنه أبدع في جانب واحد، حتى شمل شوارد مظانه، وهو جانب تاريخ الملوك والشخصيات الاجتماعية والقيادية.
    أما جانب تاريخ الشعوب بعاداتها وتقاليدها وأوضاعها وفكرها واتجاهها العقيدي والسلوكي والاخلاقي، فهذا لم يكن له من تلك الاهتمامات جليل قِسْم، ولا تمحيص تقويم، حتى في العصر الذهبي لم يُسَطَّر لها سوى النـزْر والندْر، في العهد العباسي الذي أوحت إشارات نزره وندره بوجود وجهتين مختلفتين، وجهة التمسك بالأثر، والوقوف عند ظواهر النصوص، ووجهة إطلاق العقل في البحث والنظر والاعتدال بينهما.
    الوُجهة الأولى:
    ويمثلها: مذهب أهل الظاهر، وأشهر أقطابه: داوُد الظاهري، وابن حزم الذين لا يجيزون الخروج عن دائرة النص المتناهي، بقياس فعل الإنسان غير المتناهي عليه، حيث لا يجوز قياس ما لا يتناهى على ما يتناهى عندهم بأدلة مسطورة في كتب الفقه وأصوله.
    الوجهة الثانية:
    ويمثلها: أرباب العلوم الجديدة: الفلسفة، والمنطق، وقبلهم المعتزلة، وهم: فِرَق كثيرة، ولكل فرقة قائد وقيادة، وليس هذا مكان بحثها.
    الوجهة الثالثة:
    ويمثلها: مَن أُطلِق عليهم: سلف الأمة، الذين تمسكوا بالأدلة الظاهرة من الكتاب والسنة، وأجازوا القياس عند الضرورة، ومن أقطابهم: صاحب شخصية هذا الموقف العظيم.
    وكان النـزاع المحتدم بين جبهة السلف والمعتزلة القدرية نزاعاً فكرياً، ملتقى المواجهة والمجابهة بينهم المساجد، وحلقات العلم والتدريس بسلاح الحُجج والمناظرات والأدلة والبراهين العقلية والنقلية، وما كان غالب منهم ولا مغلوب، بقوة القهر والإلزام الجبري لمذهب الآخر، حتى جاء المأمون فقرَّب إليه زعامة المعتزلة، وفلاسفة العلوم الجديدة، وتَبِع مذهبَهم، وسَخَّر قوى الدولة لإكراه الناس عليه، وبذلك بدأت المحنة، وشدة الابتلاء، وتحقق هذا بقوله تعالى: ?وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِيْنَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِيْنَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ?( ).
    فكان بطل المواجهة وسيد المواقف ورجل الثبات والتضحية: أحمد بن حنبل، إمام المذهب الحنبلي، أحد رجال الحديث، وصاحب المسند –رضي الله عنه–( ).
    لقد بدأت المحنة بإرسال المأمـون، أعظـم ملوك بني العبـاس وصفاً كتابَه – وكان بخراسان –إلى عامله في بغداد أن يجمع العلماء من قضاة وخطباء، ويسألهم عن القرآن، فمن لم يقل إنه مخلوق عزله من منصبه الرسمي – إن كان –، وكانوا جميعاً لا يقولون بذلك، ولكن الضعف فيهم شديد، والخوف على المنصب حرصهم على حياة، حتى دفعهم إلى التظاهر بالموافقة، فتركهم، ثم عمد إلى جماعة ممن كان الناس يَعُدُّونهم أكابر المحَدِّثين، فامتحنهم، فأبوا الموافقة، إلا أنه لم يستعمل معهم القوة، بل عمد إلى تلمُّس مَواطن الضعف فيهم مما له تعارض بين أقوالهم وأفعالهم – حاصل علمائنا وقضاتنا اليوم –، وذِكْر ما هم عليه من عدم النـزاهة والعفة في مأكلهم ومشربهم وملبسهم، وأخذهم وعطائهم، ثم هدد بفضحهم إن هم تمسكوا برأيهم، وأبَوا القول بخَلْق القرآن، حتى خافوا، فوافقوا، إلا أربعةً منهم، لم يجد المأمون عليهم مطعناً، فلجأ إلى الجبر والتعسف عليهم بوضعهم في السجن، وأثقلهم الحديد، حتى وافق اثنان منهم، وبقي أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح، فأمر بحملهم إلى خراسان ليلقاهم مواجهة.
    وأثناء حملهم وهم في طريقهم بهما إليه توفي المأمون، كما توفي محمد بن نوح – رحمه الله –، وبقي أحمد مع حامليه، وحِيْدَ البقاء على المبدأ، والكل تابع اتجاه السلطة، وأعلن رغبةً بالاغراءات، أو رهبةً من ذل وهوان، وانحصرت فيه وحدة الجبهة الصامدة المعارضة، وانصبت الأضواء كلها عليه، وتعلقت الأنظار به، ووقف ضده سلطان الدولة بوافر مملكته وعظيم قوتها، وتعلق نصر الجبهة بثباته، فإن هو انهزم انهارت جبهة المحَدِّثين، وتمت الغلبة لخصومهم.
    أما العامة فكانوا كما هم في كل عصر وحين: قلوبهم مع علماء الحق، ولكن سيوفهم مع أمراء الباطل، بل مع مصالحهم الآنيَّة، ومع القوي، مختارين بألسنتهم دون قلوبهم حال زماننا.
    ثم انتقلت ولاية المسلمين إلى المعتصم الذي ما كان لديه من العلم ما يحاجج به، وإنما كان مقلداً ومقتدياً بالمأمون إجلالاً وإكباراً له على ما كان يتمتع به من علم وفطنة وحكمة وسداد رأي، لذلك سار على طريقته ومنواله، حتى جاوز الحدود وأفرط.
    وبقي أحمد في السجن إلى أن بلغ كل مبلغ من الضعف الجسمي، وانـهيار القوى الدفاعية
    والتحملية، إلا أنه شديد القوى المعنوية والروحية، دائم العبادة، حي القلب، قوي الاتصال بالله، وهو مثقل بالحديد في سجنه.
    وجرَّب المعتصم معه أنواع الترغيب والترهيب والمناظرات والمناورات، فما أجدى معه من ذلك شيء.
    ولما عجز المعتصم نصب آلة التعذيب وأمَرَ بمده عليها وإذاقته صنوف العذاب، حتى خُلعتْ كتفاه، ونُقل جلد ظهره من مكانه، ودمه تفرقه السياط، فقال له عالم من شيعة الخليفة: "يا أحمد، لماذا تعذب نفسك وتقتلها والله تعالى يقول: ?وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيْمَاً?( ) "، قال أحمد: "يا مروزي، اخرج فانظر أيَّ شيء وراء الباب"، فخرج، فإذا جَمْعٌ لا يحصيهم إلا الله، ينتظرون ماذا يقول أحمد في القرآن، ولما رَجَعَ إليه أخبره، فقال: "يا مروزي، أنا أُضِلُّ هؤلاء كلَّهم؟ أقتلُ نفسي ولا أظل أمَّة، ويكفيني أن ألقى الله بهم مهتدين".
    ولم ينفك من التعذيب حتى أشرف على الموت، فخاف المعتصم ثورة الناس إن مات أحمد بن حنبل، فرفع عنه بعد ثمانية وعشرين شهراً في السجن والتعذيب، وسلمه إلى أهله، وما خرج حتى عفى وصفح عن كل من اشترك في تعذيبه وسجنه، بما فيهم المأمون، والمعتصم.
    والمعلوم من تاريخ القضاء الإسلامي: إثبات أجْرَأ المواقف لأخص القضاة، فقط في الجانب العلمي التطبيقي، أو في الجانب الإجرائي الفني، أو في جانب عفة النفس، ونزاهة المطمع، دون الجانب الروحاني العبادي المتوقف عليه عامل الصلة بالله، وقد كان أصلاً وشرطاً عند الأوائل في اختيار قضاتهم، وزيادة شرط الاجتهاد المطلق – أحياناً –، وقد كان لفضلهم يُسند إليهم إمامة الصلاة وخُطَب الجمعة، والصلوات ذوات الأسباب: كالكسوف، والخسوف، والاستسقاء؛ تبرُّكاً وتيمُّناً بصلاحهم، ولِمَا يتميزون به من خصوصيات علمية وعملية لا يحرزها في الغالب غيرهم، ولِمَا لهم من واقع دعوة مستجابة؛ نتيجة الإخلاص في القربى إلى الله بعملهم القاصر والمتعدي، وفيهم من لا يغادره الإيثار، ومن أوصَلَه الزهد والورع إلى ارتداء حُلَّة التقشُّف ذات الرِّقاع وجُبَّة الصوف، وقد كان فيهم خاصة من وصل إلى الله بمكان مقبول، منحه به إبرار القَسَم على نحو ما ورد عن النبي –صلى الله عليه وآله وسلم –: »رب أشعثَ أغبَرَ مدفوعٍ بالأبواب لو أقسم على الله لأَبَرَّه«( ).
    ومثالنا في الوقوف مع النفس؛ لمحاسبتها وإلزامها على اتخاذ الموقف الفعَّال تجاه المؤثرات المانعة من إقامة الروافد الروحانية المطلوب توفرها في الشخصية القضائية المثالية.
    فمن الصحابة الكرام: عمر بن الخطاب، قاضي المدينة في خلافة أبي بكر لصديق. ومن قضاة اليمن أمثال: الإمام/ علي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل –رضي الله عنهم– من قِبَل النبي –صلى الله عليه وآله وسلم –.
    ومَن بعدَهم أُرِّخَ لأفراد من قضاة الإسلام أخذوا القدوة الحسنة بسلفهم على مستوى مراحل دولة الإسلام السلف وفي الخلف ما ندر، ووصفهم شامة في عامة رجال القضاء، ومنهم: القاضي/ شريح، ومنهم: رجل الزهد/ حسن البصري، والقاضي/ منذر بن سعيد البلوطي – رحمهم الله جميعاً – مثالاً وقدوةً في إحراز عموم مقومات القاضي السلوكية التي كان لهم بها عند الله قبول الدعاء وإبرار القسم، تحققت لهم من الله بروحانية قُرباهم، وشفافية قلوبهم مع قوة بأسهم في الحكم بالعدل وإنصاف المظلوم من ظالمه – وإن كان الخليفة –، وإنكار
    المنكَر، وبذل النصـح والتوجيه، أو الأمر بأداء طاعة الله تعالى أو التزامٍ بسنة النبي –صلى الله عليه وآله وسلم –، وهذا منذر بن سعيد يوجه بالصوم ثلاثة أيام بين يدي الخروج لصلاة الاستسقاء، وزاد في توجيهه للناصر بضرورة حصر المظالم وردِّها لأصحابها، ولما تحقق التنفيذ بما وجَّه به عامَّاً وخاصَّاً خرج إلى المصلى وهو يردد قوله: "سُقِيْنا سُقِيْنا"، وربما أقسم وأمر غلامه بحمل المُمْطَر، فما رجع من مصلاه حتى أبَرَّ الله قسمه بإنزال الغيث العام المدرار والماء الغدق الصيِّب النافع.
    وبهذا ندرك شفافية حقيقة مفهوم الموقف القضائي، وأنه يعني تلازمَ أوصافِ عِلْمِ وإيمانِ صانعِه، وتحقُّقَ روحانية عبادته لله رب العالمين على خلاف نظرية القانون الجاحد؛ لِتَمثُّل العاطفة الدينية والروحانية العبادية في الشخصية القضائية، كما ندرك بهذا حقيقة تَمَثُّل القاضي بالوقفة الثقافية العلمية النظرية المتلازمة مع واقعية المواقف الثقافية العملية التطبيقية عقيدةً وشريعةً ومنهجَ حياة.














    الفصل الثاني:
    نوادرُ قضائية
    النادرة في اللغة: تطلق على الشيء الغريب الخارج عن المعتاد، ويدخل ضمن النوادر القضائية: ما تتفق به الحكمة والفطنة والفراسة عن عقول عباقرة القضاء، ومحدِّثي الأمة، أو صادرةٌ عما ترمي به بلاهة عريض القفا، أو النائي بجانبه، الجافي شرع الله، والمتجافي حدوده.
    وقاعدة النادرة: ألا يكون قد سبق مثلها، وعلى هذا فالنوادر القضائية قسمان:
    القسم الأول:
    أوجَدَتْه المبالغة في العدالة، حتى شملت ما لا بأس في تجاوزه، خوفاً وحذراً من شبهة الوقوع فيما به بأس في زمنٍ ما، وكان حاصل تلك النادرة أو النوادر بفعل الأحداث غير المألوفة، فاكتسبت الندرة من عدم وجود أو قيام أمثالها أو مُشابِهِها في زمانها، أو على مدى تاريخ حِقبة أو أحقاب زمنية تطبيقاً وتنفيذاً.
    وقد لا يكون زمانها يُنْكر هذا التطبيق والتنفيذ، في أي نوع من الأحكام، إجلالاً وإعظاماً ومهابةً للقضاء، وإيماناً بواجب استقلاليته، واعتقاداً في وجوب التزام أحكامه ديناً، وامتثالها شِرْعةً ومنهاجاً بقوله تعالى: ?فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُوْنَ حَتَّى يُحَكِّمُوْكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا حَرَجَاً فِيْمَا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيْمَاً?( ).
    وأيضاً: قد يكون هذا النوع الذي نُعِدُّه نادرة قضائية بالنسبة لنا لا يُعَدُّ نادرة بالنسبة لمن صدرتْ في زمانهم؛ لجواز ورود أمثالها، وعدم بُعْد احتمال تكرارها فيهم.
    وبالمثال يتضح المقال.
    النادرة الأولى:
    ونبدأ بأعظم حدث قضائي يتمتع بوصف المعجزة القضائية النادرة، وما سطره التاريخ الإسلامي الساطع النبراس عن القاضي العادل النـزيه/ جُمَيْع بن حاضر الباجي، وهو يقضي بسحب وإجلاء الجيش الإسلامي من مدينة سمرقند، بعد أن دخلها فاتحاً بقيادة (قتيبة بن مسلم الباهلي)( ).
    وسندنا في رواية هذا الحدث كتاب: (رجال من التاريخ) للأستاذ الفاضل/ علي الطنطاوي، نقلاً عن: (تاريخ الطبري).
    قال: "لقد كان من قتيبة في فتح سمرقند المدينة العظيمة شيء من الغدر، كما قال الناس، فلما كانت خلافة الخليفة الصالح الراشد/ عمر بن عبد العزيز رفع إليه أهل سمرقند دعوى على قائد الجيش يدَّعون فيها أن بلدهم فُتح غدراً، فأمر بتأليف محكمة خاصة من قاضٍ فردٍ لرؤية هذه الدعوى.
    ولما كان يوم المحاكمة جلس القاضي إلى سارية المسجد، وسمع من المدَّعين والمدَّعى عليه أقوالهما، ثم أصدر حكمه العجيب المثير للدهشة والاستغراب، الذي من حق القضاء الإسلامي أن يفخر به ويزهو ويشمخ على كل قضاء سواه، وهو يحكم ببطلان الفتح الإسلامي للمدينة؛ لأنه ثبت فيه الغدر، بمخالفته لقواعد الحرب الإسلامي والفتوحات الإسلامية، ويقضي بخروج الجيش الإسلامي من المدينة، وإعطاء أهلها مهلة للاستعداد، ثم إعلان الحرب من جديد، وعليه تم التنفيذ، وبدأ الجيش بالانسحاب لمغادرة سمرقند.
    إلا أنه لما رأى أهل المدينة حقيقة التطبيق الفعلي للحكم من قِبَل القائد المسلم وجيشه جَلُّوا عدالة الإسلام، وأكْبَروا رجالَها المسلمين؛ لانفرادهم بحقيقة الوفاء والعدل النادر، عند ذلك أعلنوا مطالبتهم ببقاء الجيش الإسلامي، ورضاهم بحكم المسلمين وولايتهم.
    إنه فعلاً لم يقع في تاريخ الحروب في العالم، ولا في تاريخ القضاء مثل هذا الحدث ومجرياته العادلة، وما يظن أحداً أن يقع في المستقبل مثلُه.
    وقد اعتنى بإخراج هذه القصة كثير من المؤلفين في كتبهم تحت عناوين مختلفة، والحقُّ أنها جديرة بالاهتمام، غير أن غالبيتهم لا يرى فيها أكثر من حدث تاريخي، وهُمْ يروُونها في إعجاب عن إعادة الخلافة الراشدة بولاية عمر بن عبد العزيز، أحد خلفاء دولة بني أمية (دولة المُلْك العَضُوْض)، حيث خالف منهج أسلافه.
    إلا أن مفهوم البعد الثقافي القضائي يرى أن الذي حقق الالتزام الفعلي بمجريات الحادثة هو: حقيقة عدل القضاء، وإيمان القاضي بواجبه نحو تحقيق العدالة، وتوفر هيبة القضاء، ونزاهته بفعل وقناعة ولي الأمر (الحاكم العام في الدولة الإسلامية) بأحكام الإسلام وتشريعاته.
    النادرة الثانية:
    أرويها نقلاً عن كتاب: (القضاء عند العرب) لخير الله طلفاح: " قال الميداني: تخاصم إلى القاضي/ إياس شخصان، فادعى أحدهما أنه أودع صاحِبَه مالاً، فأنكره، فسأله إياس قائلاً: (أين أودعتَ المال)؟ قال: (في موضع كذا وكذا)، قال: (وما كان في ذلك الموضع)؟ قال: (شجرة)، قال إياس: (انطلق وابحث عن مالك عند الشجرة، فلعلك إذا رأيتها تذكر أين وضعت مالك).
    فانطلق الرجل، وقال إياس للمدين: (اجلس إلى أن يأتي صاحبُك)، فجلس ولبث إياس حيناً يقضي بين الناس، ثم نظر إلى الرجل، فقال له مخاطباً: (أتظن أن صاحبك قد بلغ الموضع الذي أودع فيه ماله)، فقال الرجل: (لا)، قال إياس (قاضي الحكمة والفِطنة والفِراسة): (يا عدو الله، إنك لَخَائن، وقد اعترفتَ بالدَّين لصاحبك)، فقال: (نعم، أعتَرِفُ)، ثم حبسه حتى رجع صاحبه، فسلمه ماله الذي أودعه، ومضى لسبيله". انتهى، بتصرف.
    والنادرة في هذه الحادثة: تمثَّلَتْ في ثقافة القاضي الفِراسية بصدق المدعي وفطنته؛ لإيجاد وسيلة الاعتراف، بمنتهى الحكمة، حيث لا بيِّنة سوى الاعتراف، ولا يمكن إلا بحيلة تسندها الحكمة، ولا بديل بعد صدور حكم الفراسة بخيانة المدين وعدم تقواه، وإقدامه على اليمين فيما لو طُلِبَتْ بعد عجز الدائن عن تقديم بيِّنته( ).
    النادرة الثالثة:
    تُروى عن أبي الطاهر عبد الملك بن محمد الحزمي، والي قضاء مصر من قِبَل الخليفة العباسي/ موسى الهادي( )، وكان للخليفة صاحب بريد، وهو الكاتب للخليفة بأخبار الرعية وأحوالهم، والأمين في كل ما يكتب به عن سيرة أمراء الأمصار وقضاتهم، وذات يوم تقدم في شفاعة خصم لدى القاضي/ الحزمي، فكتب إليه القاضي: "ما أنت والقضاء؟ عليك تَدَبُّرُ دوابِّك وبراذِعِها، وكُنَّسِ زوابِلِها، إن كان أمير المؤمنين أمرك بشيء، وإلا فإن في أكُفِّك ودُبُرِ دوابِّك ما يَشْغلك عن أمر العامة".
    ولما علم القاضي بأن صاحب البريد كتب به إلى الخليفة الرشيد واشياً ومحرِّشاً، وأن الخليفة كتب إلى الأمير يأمره بالتحري عن صحة الخبر بشأن الحزمي كَبُر على القاضي تصرف الخليفة بإسناده تقييم سلوك القاضي إليهم، ومنحهم التدخل في القضاء، لذلك قدَّم استقالته ورفض البقاء فيه.
    النادرة الرابعة:
    تُروى عن القاضي/ بكَّار بن قتيبة الثقفي، قاضي مصر في عهد الطولانيين، وكان ابن طولون يقدِّم له في كل سنة كيساً فيه ألف دينار باعتبار أنها هديةٌ، غيرَ المرتب المقرر شهرياً، وبعد ثمانية عشر سنة حصل ذات يوم بين الوالي وقاضيه خلاف حاد بسبب عدم مطاوعة القاضي للوالي في خنق العدل، ولَيِّ عُنُقِ القضاء في قضيةٍ مَّا لصالح الطولوني، مما جعل ذلك يثير غضب هذا الوالي ويرفع درجة حرارته على القاضي، حتى طلبه بإعادة كل ما كان دَفَع له من تلك الهدايا والجوائز، وكانت ثمانية عشر كيساً محسوبة عدَّاً ونقداً، فما تردد القاضي ولا تلعثم، بل ذهب مِن تَوِّه وأحضرها بذاتها وصفاتها داخل أكياسها كما سلمت له، ورماها بين يديه بكل ثقة وعزة وشموخ، حتى أخجل ابنَ طولون وكسر هيبتَه.. بعد أن كان يظن أن بكاراً قد أكلها، وأنه عاجز عن تسليمها، فيهينَه بدعوى أخذ الرشوة عن طريق الهدية( ).
    وكانت فراسة القاضي وندرة فهمه لكيد ابن طولون سابقة لهذا التوقيت، فتغدى بالكائد قبل أن يتعشى به، وقد سبق طرح القصة تحت عنوان: (مقومات هيبة القاضي).
    النادرة الخامسة:
    وأَذْكُرُ لهذا القاضي نادرةً أخرى، فَقَدَ بموقفه في قضيتها حياتَه، بعد الإهانة والتعذيب.
    كان الخليفة العباسي/ المعتمد قد جعل ولاية العهد لأخيه الموفَّق، فقام الأمير/ أحمد بن طولون بخلع تلك الولاية عن الموفق، وطلب من القاضي/ بكار بن قتيبة أن يفتي بخلع الموفق، أو يحكم بمشروعية خلعه، وأَلَحَّ في ذلك، فأبى القاضي أن يطيع الأمير فيما أشار به عليه، وأصرَّ على عدم خلعه، بل إنه انتقد تصرف الأمير وشانَه.
    وعليه: اشتد غضب الأمير، حتى نال من القاضي بضرب الحديد، وتمزيق الثياب، والسحب على الوجه، ثم الأمْر به إلى السجن، ونزع جبة القضاء عن جسده، ووضعه في حجرة مظلمة وضيقة، تلقَّى التعذيب فيها حتى لقي ربه شهيد النـزاهة والعدالة، ثم الثبات على الحق بقوة الإيمان، وبيقين الجزاء على الأعمال( ).
    والنادرة في هذه الحادثة تتمثل في انفراد التاريخ القضائي بذكرها دون سابقة لروايةِ مثلها على مر عصور خلت عبر القرون الأولى، لم يَذْكُر أن قاضياً سبق أن قدَّم نفسه حتى الموت على أيدي حكام التنفيذ داخل سجون التعذيب، في سبيل
    استقلال الحرية القضائية، وبقاء شموخ القضاء، وعلو قدره غير هذا القاضي/ بكار بن قتيبة – رحمه الله ورضي عنه –.
    النادرة السادسة:
    تُروى عن القاضي/ أبي حامد الغزالي الأسفراييني، قاضي بغداد في الخلافة العباسية، يوم اختلف مع الخليفة/ القادر إلى حد التناكر والتهديد؛ بسبب عدم مطاوعة القاضي للخليفة فيما يملي عليه بشأن بعض الأحكام التي يريد الخليفة لَيَّها وإصدارَها حسب الهوى والمصلحة المنافية للعدالة، ولما استعصى عليه هدده بالعزل عن منصب القضاء، فكتب إليه القاضي: "اعلم أنك لست قادراً على عزلي عن ولايتي التي ولاَّنيها الله، وأنا أقدِر أن أكتب إلى خراسان بكلمتين أو ثلاث أعزلك عن خلافتك"( ).
    النادرة السابعة:
    وبمثل نادرة الأسفراييني وشجاعة موقفه تجاه الخليفة/ القادر، أوردَ تاريخُ القضاء نادرةَ القاضي/ سوَّار بن عبد الله بن قدامة، قاضي البصرة في عهد أبي جعفر المنصور، بشأن أمير شرطتها/ عقبة بن سلم؛ لحبسِه رجلاً ظلماً، وسلبِه جوهرةً كان يملكها، إذ بلغ خبَرُ حبسِ الرجلِ القاضي/ سوَّاراً، فكتب إلى الأمير يأمُرُه بإطلاق الرجل المحبوس ظلماً، ورد جوهرته إليه، إلا أن الأمير أظهر تمنعه، ورفض التزام أمر القاضي، عند ذلك ثار غضب سوار، وأعدَّ للأمير جواباً فصْلاً لا هوادة فيه، يمثل قوة القضاء وهيبة سلطانه، قال فيه: "– والله – لئن لم تُطْلِق الرجل الذي حبَسْتَه ظلماً، وأخذتَ جوهرته قهراً، إن لم تردها عليه لآتينك في ثيابٍ بِيْضٍ
    ماشياً، ولأدَمِّرَنَّ عليك بغير سلاح ولا رجال، ولأقتلنَّك قتلة يتحدث الناس بها"، فلما قرأ الأمير الجواب هاب الموقف، وأمر بإطلاق الرجل، وسلمه جوهرته، وتلطفه، وجبر خاطره( ).
    حقاً إن مثل هذه القضايا تُعَدُّ في النوادر الخيالية بالنسبة لنا، خاصة وقضاتنا القليل منهم يرى وجوب المجاملات، والكثير يسلك وسيلة التقرب والمداهنة لكل مسئول؛ وصولاً بها إلى الغاية المبرِّرة.
    إنها فعلاً نوادر تستحق الوقوف أمام مجرياتها، والتأمل في أسبابها، والتعرف على أهدافها، والقدوة بما تنطوي عليه غاياتها.
    ويوم يحصل التأثر فقط فإنه سيتحقق العدلُ، وتسودُ العدالةُ، ويُؤْمَّنُ الخوفُ، ويَعُمُّ الرخاءُ، فبالقضاء النافذ باستقلاله، والعادل بنـزاهته، تكتمل كل المقومات الحضارية والمدنية، الوارفة الظِّلال، والمنشودة في ضمير الحال وبلسان المقال، ويا ليت قومي يعلمون، فتكون لهم عاقبة الدار، وحظوة فلاح المؤمنين.
    ومن مُلحقات النوادر القضائية:
    1. ما ذكره الشعبي، قال: "كنت جالساً عند شريح، إذ دخلت امـرأة تشتكي زوجها وهو غائب، وتبكي بكاءً شديداً، فقلتُ: – أصلحكَ الله – ما أراها إلا مظلومة، قال: (وما عِلْمُك)؟ قلت: لبكائها، قال: (لا تفعل، فإن أخوة يوسف جاءوا أباهم عشاءً يبكون، وهم له ظالمون) "( ).
    2. ودخل الأشعث بن قيس على شريح في مجلس الحكومة، فقال: "مرحباً وأهلاً‎ بشيخنا وسيدنا"، وأجلسه بجانبه، فبينما هو جالس في مكان الشرف والتقدير إلى جانب القاضي، إذ دخل رجل يتظلم من الأشعث، عند ذلك ضرب شريح على كتفه قائلاً له: "قُم فاجلس إلى جانب خصمك، وأجب على دعواه"، قال: "بلى، أجيبُه من مجلسي هنا"، فقال له: "لتقومَنَّ أو لآمُرَنَّ من يُقِيْمُك"، فقال الأشعث منكِراً تصرف القاضي معه: "أخيراً! لَشَدَّ ما ارتفعتَ"، فقال القاضي: "هل رأيتَ ذلك ضرَّك"؟ قال: "لا"، قال: "فأراك تعرف نعمة الله على غيرك، وتجهلها على نفسك"( ).
    ومن هنا نستفيد دروساً في السلوك القضائي الذي لا يعرف المجاملات ولا المداهنات، أو المحاباة لقريبٍ أو صديقٍ أو مسئولٍ.
    والذي لا يعرف كذلك مراعاةٍ لمصلحةٍ خاصَّةٍ أو عامَّةٍ، وإنما لمصلحةِ العدل وتطبيقِ العدالة، والتزامِ القواعد الشرعية والقانونية في التسوية بين الخصوم، اقتداءً برسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم – وصحابته.
    القسم الثاني:
    أوجدته البلادة والبلاهة، والتعسفات الظالمة، التي تتمتع بها الدساتير والقوانين الوضعية، بفعل مشرِّعِيها في البلد الذي تحكمه هذه القوانين.
    والنادرة في هذا القسم: تتمثل في صدور أي حكم يخالف مواد القانون، حيث اعتبر مشرُّعها أن مخالفتها جريمة يعاقب عليها القانون، مهما كان ذلك الحكم عادلاً ومنصِفاً، وموافقاً شرع الله!! فأقل عقوبة على القاضي إحالته إلى عمل إداري؛ لأنه قضى بأحكام الإسلام، وتجاوَزَ القانون، ومهما كان دستور الدولة يقرُّ دين الإسلام متفضلاً!! ويُثْبِتُ أن الشريعةَ الإسلامية المصدرُ الرئيسُ للقوانين.
    وكمالُ وضوح هذا التمهيد يأتي في مضمنات إجابة السؤال الآتي: لمن الحكم؟ ومن بيده الأمر؟ ومن إليه يرجع؟
    إنه سؤال يتقرر في ضوء الإجابة عليه مفهومُ نوعين من أنواع النوادر القضائية، لا يعدوهما محتوى هذا القسم.
    ولا أقلَّ من أن نستلهم الإجابة من بعض النظريات عن نوعين من الناس، لكلٍّ فيما يهوى مذاهبٌ.
    النوع الأول:
    تُمَثِّلُ إجابتُه طائفةَ المؤمنين، وهم متَّحدون في إجابتهم على كل حال وفي كل ظرف، وذلك لاتحاد منهجهم في إسناد الحكم لله بقوله تعالى: ?إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّيْنُ الْقَيِّمُ?( ).
    وبقـوله تعالى: ?لَهُ الْحَمْدُ فِيْ الأُوْلَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ?( ).
    وبقوله سبحانه: ?وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ?( ).
    وبقوله -عزَّ وجلَّ-: ?وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ?( ).
    وبقوله تعالى: ?فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوْهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُوْلِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُوْنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ?( ).
    فقد أوجبت محكَّمات الشريعة لدى هؤلاء التحاكم إلى الشرع، وجعلته شرطاً للإيمان، ونفت الإيمان، بل وأثبتت النفاق لمن يعرض عن هدى الله – -عزَّ وجلَّ- –، ويصد عن التحاكم إلى الله وإلى الرسول.
    قال ابن كثير – رحمه الله –: "هذا أمر من الله بأن كل شيء تنازَعَ فيه الناس من أصول الدين وفروعه أن يُرَدَّ التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، فما حكم به الكتاب والسنة وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ ولهذا قال تعالى: ?إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُوْنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ?( )، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النـزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر"( ).
    ويقول شيخ الإسلام/ ابن تيمية – رحمه الله –: "ومحمد –صلى الله عليه وآله وسلم – مبعوث إلى جميع الثقلين إنسِهم وجنِّهم، فمن اعتقد أنه يسوغ لأحد الخروج عن شريعته وطاعته فهو كافر يجب قتله"( ).
    فرفْضُ التحاكم إلى الكتاب والسنة لا يجتمع مع أصل الدين بحال من الأحوال.
    ويقول الجصاص: "وفي هذه الآية دلالة على أنه من رَدَّ شيئاً من أوامر الله أو أوامر رسوله فهو خارج من الإسلام، سواءً رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة، وقتلهم، وسبي ذراريهم؛ لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي –صلى الله عليه وآله وسلم – قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان"( ).
    ويقول الشيخ/ الهضيبي – رحمه الله –: "من اعتقد بعد قيام الحجة عليه بوجوب الرد إلى غير شريعة الله التي بلغته، أو بعد لزوم الرد إليها، ولو لم يفعل شيئاً، ولو لم يحتكم فعلاً، فإنه يكون مشركاً كافراً جاحداً أمر الله الذي بلغه، وأن من جَهَرَ حُرَّاً مختاراً بأنه يريد التحاكم إلى غير شريعة الله التي بلغته ليعرف ما هو حلال وما هو حرام، وما هو فرض عليه وما هو منهي عنه، أو ما له من حق وما عليه من واجبات فإنه يكون قد أعلن عقيدته الفاسدة، وأنه يفضل تلك الشريعة التي يريد التحاكم إليها على شريعة الله تعالى التي بلغته، وأنه يكون بذلك قد جحد شريعة الله التي بلغته، فهو كافر مشرك، ولا شأن لنا بما في قلبه، لأن من جحد بلسانه شيئاً مما افترض الله الإيمان به في غير إكراه فقد كفر وأشرك وارتد عن الإسلام"( ).
    وإذا كان ذلك كذلك فقد ثبت أن السيادة المطلقة للشرع وحده لا غير، والتحاكمُ إلى غير ما أنزل الله وإلى غير ما جاء به رسول الله تحاكمٌ إلى الطاغوت الذي أُمِرْنا بالكفر به، واعترافٌ بسيادة غير الشرع.
    قال تعالى: ?أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِيْنَ يَزْعُمُوْنَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيْدُوْنَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوْتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيْدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيْدَاً * وَإِذَا قِيْلَ لَهُمْ تَعَالَوا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُوْلِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِيْنَ يَصُدُّوْنَ عَنْكَ صُدُوْدَاً?( ).
    فالإيمان لا يعدو أن يكون زعماً إذا أراد صاحبُه أن يتحاكم إلى الطاغوت، والطاغوت في الآية: قد وقع في مقابلة ما أنزل الله وما جاء به الرسول، والكفر بهذا الطاغوت – وهو أقصى درجات الرفض والبراءة – هو: الحكم الشرعي الواجب في مواجهته، والصد عن التحاكم إلى الشرع: شأن المنافقين الذين آمنت ألسنتهم وكفرت قلوبهم.
    قال ابن القيم – رحمه الله –: "من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حَكَّم الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت: كل ما تجاوز العبد حدَّه من معبود، أو متبوع، أو مطاع، فطاغوت كل قوم: مَن يتحاكمون إليه – غير الله ورسوله –، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة أو هدىً من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة الله".
    وإذا كان كذلك فالاحتكام إلى القوانين الوضعية والرضا بها في مقابلة النصوص الشرعية تحاكمٌ إلى الطاغوت، وكفر بالله( ).
    وإن مِن أغربِ الغرائب وأعجبِ العجائب وأندرِ النوادر عند هذا النوع من الناس: أن يأتي قاضٍ فيصدر حكماً مخالفاً نصوص الشرع الذي يعتقدونه، أو مُقَنِّنٌ يأتي فيشرعَ للمسلمين ما لم يأذن به الله، أو ينكرُه شرعُ الله، وهذا ما سيوضحه المثال بعد إثبات إجابة النوع الآخر على سؤال ديباجة المقدمة.
    النوع الثاني:
    أما من يتمثل الإجابة الثانية من أنواع الناس فهم أهل الضلال، وإجاباتهم

    مختلفةٌ شكلاً ومتفقةٌ مضموناً حول صفة واحدة هي: صفة تحكيم الهوى، وملحقاتها: فصل الدين عن الدولة، والخصومة مع شرع الله ورسوله.
    فأولُ إسنادٍ للحكم إلى غير الله: كان لأهواء الأَحْبار والرهبان الذين يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون هذا من عند الله؛ ليشتروا به ثمناً قليلاً.
    وثاني إسنادٍ: جعلوه لأهواء الشعوب بعد ما ضاقوا ذرعاً بطغيان الحكام والكهنوت، فقد سوَّوا إرادة الإنسان، واتخذوا منها وحدها مصدر التشريع والإلهام، فخرجوا بذلك من عبادة الحكام والبابَوَات إلى عبادة الشعوب والبرلمانات، ومن طغيان يمارَس باسم الحق الإلهي للكنيسة والحكام إلى طغيان يمارَس باسم الحق الإلهي للأفراد والشعوب، ثم لم يلبثْ هذا الوباء أن سرَتْ عدواه إلى ديار الإسلام تحت ستار من التحرر ومقاومة الطغيان، ووسط جوقة من العزف على نغمة حقوق الإنسان!
    وقد تم اتفاق النص في جميع الدساتير العربية – تقريباً – والإسلامية على إلهية ذلك الصنم الجديد: الشعب، (إنه الارتداد إلى ركام الجاهلية الأولى)، وذلك: بإقراره ممثلاً في نوابه بالحق في التشريع المطلق يحل به ما يشاء، ويحرم به ما يشاء، ويأمر به بما يشاء، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه!! وصيغت هذه الديانة الجديدة في هذه العبارة الساحرة: السيادة للشعب.
    وتَمَّ بناءً على ذلك الفصل بين الدين والدولة، بل الفصل بين الدين والحياة، وانتقلت مصدرية الأحكام ابتداءً من الشريعة إلى القـانون، ومن الكتاب والسنة إلى مـجالس النواب، والأمة، وأُلْغِيَـتْ سيادة الشريعة الإسلامية، وأُهدرتْ فعالية نصوصها في المجالات العامة؛ لتبني على أنقاضها سيادة القوانين والنظم الوضعية.
    وخلعَتْ الرِّبقة بتقرير حق المخلوقين في منازعة الخالق سبحانه في أخص خصائصه وأجمع صفاته، وهو: حقه في الأمر والتشريع المطلق.
    لقد تـم النص في كافة هذه الدساتير على هذا النص الـخلاب: (لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون).
    فانتقلت بذلك مصدرية التجريم والعقاب من القرآن والسنة إلى البرلمان، فأصبح الحلال ما أحله البرلمان، والحرام ما حرمه، وليس أمام حَمَلة الشريعة إلا أن يقبلوا أو يرحلوا! وإلا فحكم القانون عليهم نافذ، وعندما يتكلم القانون يجب أن يصمت الجميع ويَخْسَأَ الضمير، وأخف حكم يصدره القانون تفويض القاعة، وحكمها واجب التنفيذ ثابت التقنين بإطلاق: ?وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِيْ مَاذَا تَأْمُرِيْنَ?( )!!
    وقد يَحْتَجُّ أصحاب هذه الأهواء بالمصلحة وجواز الاجتهاد في إصدار الأحكام، ورانَ على قلوبهم فسادُ نِـيَّاتهم، حتى أُبْعِدوا عن فهم وإدراك المصالح الحقيقية في أحكام الشرع، وإجماع علماء الإسلام قاطبة على أنه لا اعتبار لمصلحة شَهِد لها الشرع بالبطلان، وذلك بوجود نص يدل على حُكم في الواقعة بخلاف الحكم الذي تمليه المصلحة المتوهَّمَة.
    وكمثال على هذه المصالح المُهدَرة: فإنه يتضح مدى العجب والاستغراب، والندرة القضائية لدى هذا النوع من البشر أو ذاك حينما يصدر القاضي حكماً يخالف به قاعدة الفريقين أو أيٍّ منهما، أصبح ذلك نادرة لديهما، أو لدى من خالف هذا الحكم قاعدة منهما، والفتوى تجري مجرى الحكم القضائي من الناحية التشريعية.
    وفيما يلي الأمثلة:
    أولاً: فتوى أحد الفقهاء لِمَلِكٍ جامَعَ في نهار رمضان بالصوم بدلاً عن العِتْق:
    رغم كونه واجداً للرقبة وقادراً على إعتاقها اعتباراً للمصلحة.
    ووجْهُ إهدار هذه المصلحة المتوهَّمة: أنها قد ثبتت في مقابلة نص، فلا اعتبار لها، فإن النص في الكفارة قد جاء على الترتيب: العتق، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، وهو يبطل كل اجتهاد وقع مناقضاً له( ).
    ووجْهُ إهدار المصلحة في هذه الفتوى القضائية: هو عين الندرة، وزيادةُ عدمِ سَبْقِ مثلِها في تاريخ الفتوى والقضاء الإسلامي، وغياب الثقافة القضائية لدى المفتي.
    ثانياً: القول بأن الأنثى تساوي الذكر في الميراث:
    بدعوى أن المصلحة تقضي بذلك؛ لتساويهما في درجة القرابة من المورِّث، ولأنَّ البنتَ أصبحتْ تُشاركُ زوجَها في أعباء الحياة، فساوَتِ الإِبْنَ من هذه الجهة.
    ووجْهُ إهدار هذه المصلحة المتوهَّمة: أنها وقعت في مقابلة النص الصريح القاضي بأن للذكر مثل حظ الأُنثَيَين( ).
    ووجْه إهدار المصلحة في هذا القول: هو نفسه وجه النادرة القضائية فيه، وزيادةُ عدمِ سَبْقِ مثلِه، ثم غباء وبلاهة القائل أو المفتي أو القاضي بهذا، وعدم معرفته كذلك لأي ثقافة قضائية أو اجتماعية تؤهله لمنصب القول أو الفعل.
    وأي مُدرِك لنوعٍ من التأهُّل
    فإن ذلك كفيل بإيصاله إلى فقه اشتمال النصوص الشرعية على المصلحة المحقَّقة، أدركها من أدركها وغفل عنها من غفل، وأنه لا اعتبار لمصلحة أهدرتها نصوص الشريعة، وأن سيادة التشريع لا يستحقها غير من خلق الأشياء بعلمه، وقدر لها أقواتها ومصالحها بحكمته وفهمه، ?أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيْفُ الْخَبِيْرُ?( ).
    وأقصد بالسيادة التشريعية: مَن يملك حق التشريع للعباد، وهو: الله سبحانه، ثم السيادة لما شرَّع دون كل تشريع.
    ثالثاً: نادرة غراب وجريمة الحكم بالشريعة:
    أنقل هذه النادرة القضائية عن راويها الدكتور/ صلاح الصاوي في كتابه: (نظرية السيادة)، (وإنها فعلاً أم النوادر ولَكَمْ تستحق وقفاتٍ عند مجرياتها)( ).
    قال: "ولقد حدث أن حكم قاضٍ مسلمٌ – وهو: المستـشار/ مـحـمود عبد الحميد غراب – بالجلد في جريمة سُكْر متأوِّلاً هذه المادة الدستورية: (إن مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدرُ الرئيسُ للتشريع) أنها تجيز له مخالفة النص الوضعي وتطبيق الحكم الشرعي، فماذا كانت النتيجة؟
    لقد قامت الدنيا ولم تقعد، وكان جزاؤه على هذه الفعلة المنكرة أن أُبْطِل
    حكمه، وأُقْصِي عن العمل في القضاء!! وكان مما ذَكَرَه رئيس محكمة استئناف الإسكندرية المستشار/ سعد العيسوي في أوجه بطلان هذا الحكم ما يلي:
    1. (أن من قضى بذلك فقد حَنَثَ في يمينه القضائي الذي أقسم فيه على الحكم بالعدل، واحترام القوانين)، والعدل – كما يقول المستشار – يعني: (أن تقضي في الواقع المعروض بالعقوبة الملائمة في حدود القانون الوضعي المطبَّق)، ثم يضيف فيقول: (فقضاء هذه المحكمة بقانون آخر غير القوانين المطبقة في ذلك حَنَثٌ باليمين، فما بالك بمن يخترع أو يطبق قانوناً يعلم أنه غير معمول به)؟!!
    2. (مخالفة هذا الحكم للمادة: (66) من الدستور التي تنص على أنه: (لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون)، ولا يجوز الاعتماد في ذلك على أن حدَّ السكْر مقررٌ شرعاً، وأن الشريعة الإسلامية هي الأَولى بالتطبيق؛ لأن الشرع وحتى الآن يطبق قوانين مكتوبة ومقررة، وليس للقاضي أن يعمل بغيرها من لَّدُنْه مهما اختلفت مع معتقده الديني أو السياسي)، ثم يردف فيقول: (فجنائياً لا يجوز ولا يُقبل من القاضي أن يحرم فعلاً لا ينص القانون على اعتباره جريمة، ولا يجوز ولا يُقبل منه أن يقضي بعقوبة لم ينص عليها القانون).
    3. (إن مُصْدِر هذا الحكمَ لم يَعْرِف شيئاً عن علم العقاب!! فقد شدَّدَ المشرع الوضعي في العقوبة وجعلها ستة أشهر حمايةً للمجتمع، وهذا أحفظ للمجتمع من مجرد الجلد ثمانين جلدة!!! سبحانك هذا بهتان عظيم).
    ونص إجابة المستشار/ العيسوي عن رأيه في حكم محكمة جنوب القاهرة بالجلد ثمانين في حق مسلم سَكِرَ، قال: (تسألني عن رأيي فيما قضتْ به إحدى المحاكم بجلد متهم ثمانين جلدة جزاء سُكره وسيره في الطريق العام مخموراً، إن صحَّ ما قرأته في الصحف عن أسباب هذا الحكم ومنطوقه أقول إجابة على سؤالك:
    إن هذا الحكم ومن تلك المحكمة وهي جنائية قد أصابه الخطأ والعَوَر من نواحٍ عديدة:
    أولاً: أن من كتبه وقضى به ونطق به حَنَثَ بيمينه القضائية، وهو يمين يتعين على كل من يتولى وظيفة القضاء أن يقْسِمه، سواءً كان في أول العمل القضائي (معاون نيابة) أو في أعلى المناصب القضائية (رئيس محكمة النقض)، هذا اليمين نص عليه في المادة: (71) من قانون السلطة القضائية، ونصه: (أقسم بالله العظيم أن أحكم بين الناس بالعدل، وأن أحترم القوانين)، وحُكْم العدل واحترام القوانين يعني: أن أقضي في الواقع المعروض بالعقوبة الملائمة في حدود القانون المطبَّق، فقضاءُ هذه المحكمة بقانون آخر غير القوانين المطبقة في ذلك حَنَثٌ باليمين، فما بالك بمن يخترع أو يطبق قانوناً يعلم أنه غير معمول به؟!
    ثانياً: أن من قـضى بهذا الحكم – وإن صح – فقد خالف الدستور، وهو نص المادة: (66): (لا جريمة ولا عقوبة إلا بناءً على قانون)، ولا يقال في ذلك: ((أن حد السكر شرعاً هو: الجلد، وأن الشريعة الإسلامية هي الأَولى بالتطبيق))، ذلك لأن المشرع وحتى الآن يطبق قوانين مكتوبة ومقررة، وليس للقاضي أن يعمل غيرها من لَّدُنْه مهما اختلفتْ مع معتقده الديني والسياسي.
    وأفصح المشرع عن ذلك صراحة في المادة الأولى من التقنين المدني بأن القاضي يطبِّق القانون، فإن لم يجد في نصوصه ما ينطبق على الواقعة طبَّق العُرف، وإن لم يجد طبَّق أحكام الشريعة الإسلامية، وإن لم يجد طبَّق القانون الطبيعي وقواعد العدالة، فجنائياً لا يجوز ولا يُقبل من القاضي أن يجرِّم فعلاً لا ينص القانون على اعتباره جريمة، ولا يجوز له أو يُقبل منه أن يقضي بعقوبة لم ينص عليها القانون، ومدنياً له خيارات التطبيق عند عدم وجود النص.
    ثالثاً: مِثْل القائل بهذا الحكم أخطأ أيضاً عدة أخطاء فنية في مجال القضاء والحكم، منها: أنه جعل من أسباب الحكم مجالاً للتعبير عن المعتقدات الدينية أو السياسية، في حين أن الأحكام وأسبابها لم تُعَد لذلك، ومنها أنه لو سُمِح له بذلك أو كان القانون يسمح بذلك المسلك لأدى الأمر إلى فوضى، فهذا يحكم بالجلد طبقاً لمعتقده، وذاك يحكم بغيره طبقاً لمعتقده.
    رابعاً: إن هذا الحكم يَنُمُّ عن أن كاتبه أو قائله – إن صح ما قيل – لم يعرِفْ شيئاً عن علم العقاب!! فهذه الجريمة من الجائز الحكم فيها بالحبس ستة أشهر!! المشرع الوضعي شدَّد العقوبة حمايةً للمجتمع، فلماذا لم يقضِ إن أراد التشديد بأقصى العقوبة؟
    خامساً: مِثْل هذه الأحكام تؤدي إلى خلل في الأوضاع القضائية والقانونية، تحتاج إلى نظرة من قادة وزارة العدل في مثل هذا السلوك.
    ولو كان لناطق هذا الحكم رأي خاص فليقُلْه في بحث أو طلب مذكرة أو شكوى يتقدم بها لمن يرى، وليبتعد بالحكم والقضاء عن الدخول في مثل هذه المناقشات والخلافات حماية للمجتمع وقضائه) ".
    وفيما يلي صورة إيضاحية لعدد من الوثائق المتعلقة بـهذه النادرة القضائية بشقَّيها في الاعتبارين، لدى النوعين الموضحين فيما سبق، والتي تتضمن اعتراضَ جهةِ التفتيش القضائي على هذا الحكمِ، ووصْمَها له بالبطلان، والتظلُّمِ المقَدَّمِ من المستشار/ غراب، ورفضَ الإدارة العامة للتفتيش القضائي له، وإحالتها المستشار المذكور إلى العمل الإداري بوكالة الوزارة.
    وكل وثيقة تعتبر نادرة قضائية بحالها، ووصف ندرتها يفيده تصنيفها:
    أولاً: اعتراض جهة التفتيش القضائي على الحكم الشرعي القاضي بجلد السكران من خلال اللجنة المشكلة المدنية بالقرار الصادر عنها والمصنف بوصفه: باطلاً (مأخذ قضائي) رقم: (5)، 1981م – 1982م ضد القاضي/ غراب مُصْدِر الحكم على مقتضى الشريعة الإسلامية مخالفاً لنص المادة: (66) من الدستور وللمقنن الوضعي القاضي بأقصى العقوبة (الحبس ستة أشهر) حمايةً للمجتمع!!!
    سبحانك ربي ما أصبرك، وأنت القادر القاهر، ?قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ?( ).
    النص:
    "بسم الله الرحمن الرحيم
    السيد/ محمود عبد الحميد غراب، رئيس محكمة جنوب القاهرة الابتدائية.
    تبيَّن من مطالعة الحكم الصادر في الجُنحة رقم: (697) لسنة: 1982م جُنَح عابدين بمناسبة فحص الشكوى رقم: (165) لسنة: 1982م حَصْر عام أن النيابة العامة أسندت للمتهم أنه ضُبِط بحالة سكر بين الطريق العام، وطلبت معاقبته بالمواد: (1، 2، 7) من القانون رقم: (63) لسنة: 1976م، وأصدرتم فيها بتاريخ: 8/ 3/ 1982م حكماً حضورياً بجلد المتهم ثمانين جلدة مع النفاذ، وجاء بأسباب الحكم المتقدم بعد إثبات وصف التهمة وطلب النيابة العامة معاقبته بمواد الاتهام سالفة الذكر، وقد ثبتت الإدانة في جانب المتهم من اعترافه الثابت أمام النيابة، ثم في مجلس القضاء بجلسة المحاكمة العلنية، وإن مواد القيد جميعها باطلة بطلاناً مطلقاً تفتقر إلى سند الشرعية، ويعاقب ليس طبقاً لها وإنما عملاً بالمواد: (1، 2، 4، 3) من مشروع قانون حد الشرب المقدَّم إلى مجلس الشعب منذ: 17/ 6/ 1976م، والصادر عن اللجنة العليا بوزارة العدل.
    ويؤخذ على هذا الحكم أنه: لَمَّا كان من المقرر أن (لا عقوبة إلا بناءً على قانون)، و(لا عقاب إلا عن الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون)، وأن العقوبات قد حصرها، وليس من بينها ما قضى به الحكم بجلد المتهم فإنه يكون قد خالف القانون مما يَصِمُه بالبطلان.
    وبعد سماع تقرير التلخيص السالف قررت اللجنة الآتي:
    توجيه مأخذ قضائي بالصيغة المبينة إلى السيد الرئيس بالمحكمة/ محمود عبد الحميد غراب بمحكمة جنوب القاهرة الابتدائية".

    اللجنة الأولى:
    الأعضاء
    م.ش/ محمد لبيب المرصفي - المفتش القضائي الأول
    م.ش/ ريمون فهيم إسكندر - المفتش القضائي الأول
    رئيس اللجنة
    م.ش/ مصطفى عبد الرزاق
    وكيل التفتيش القضائي


    حقاً إن الإسلام يعيش غربته في ظل نظام الحكومات القائمة، بل يعيش غيبته.. أي: عزلته نهائياً عن حياة المسلمين اليوم، والذي أدى به إلى هذا شيئان:
    الأول: يتعلق بالأنظمة التي تتفق مصالحها مع مصالح القوى الأجنبية صاحبة النفوذ في إحالة الإسلام إلى الاستيداع، فالأنظمة تصرُّ على أن تنفرد بالسلطة والتشريع والتنفيذ، لا يزاحمها مزاحمٌ ولو كان الإسلام نفسه..
    الثاني: أن الشعوب الإسلامية – ومعها علماء الدين – قد أسهمت بسلبيتها، حتى استمرأَتْ الأنظمة إقصاء الإسلام عن الحياة، أيِّ حياة ينشدها الإنسان لراحته وسعادته.
    ثانياً: تظلم القاضي/ غراب إلى وكيل وزارة العدل لشئون التفتيش القضائي بشأن قرار لجنة التفتيش ضده، لقضائه خلاف القانون!! وهم قد دُهشوا وثار عجبهم وحسبوها نادرة قضائية فريدة لقاضٍ جَرُؤَ على مخالفة القانون، وأهْدَرَ سيادته، في مقابل تطبيق حكم الشريعة الإسلامية في الشارب.
    النص:
    "بسم الله الرحمن الرحيم
    السيد المستشار/ وكيل الوزارة لشئون التفتيش القضائي.
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
    يتشرف محمود عبد الحميد غراب، رئيس محكمة فئة: (أ) بمحكمة جنوب القاهرة الابتدائية بعرض الآتي:
    بادئ ذي بدء: استُدْعِيتُ بموجب الكتاب المحرر بتاريخ: 4/ 4/ 1982م إلى الإدارة العامة للتفتيش القضائي بوزارة العدل، ولسؤالي حول الشكوى المقدمة عن الحكم الصادر عني بجلسة: 8/ 3/ 1982م، والقاضي بجلد شارب الخمر ثمانين جلدة، وكان ذلك إذ كنت مُنْتَدَباً بمحكمة عابدين دائرة الجُنَح.
    قيدت الشكوى المذكورة برقم: (165) 1982م حصرٌ عام، والمقيدة برقم: (134) 1982م شكاوى، وباشرَ التحقيق فيها السيد الأستاذ/ محمد لبيب الخضري، المفتش القضائي الأول، فقررْتُ أمام سيادته بما مضمونه أنني لم أخطئ في الحكم المذكور، اللهم إلا إذا كان تطبيق الشريعة الإسلامية الغراء يعتبر خطئاً! كما استطردتُ بأنني لم أحنث في يمينٍ حلفتُه، اللهم إلا إذا كان القاضي قد عزم أثناء الحلف على تنكب الطريق عصياناً لله طبقاً لما هو وارد في ثنايا الحكم مَحل المساءلة.
    وبتاريخ: 5/ 4/ 1982م تسلمتُ كتاب الإدارة العامة للتفتيش القضائي
    رقم: (26) 1/ 8/ 1982م سرِّي، محرر بتاريخ: 7/ 4/ 1982م مرفقاً به صورة ضوئية من المأخذ القضائي رقم: (5) 1981م – 1982م الموجَّه لشخصي في الشكوى سالفة البيان، وأن هذا المأخذ قد أُودع بالملف السري الخاص بي، ويتضمن هذا المأخذ أن الحكم الصادر عني – مرضاة لربي – قد خالف القانون مما يُوصِمُه بالبطلان.
    لَمَّا كان ذلك: فإني أتظلم من هذا القرار – وحسبي الله ونعم الوكيل – طالباً إلغاءه بكافة آثاره ومشتملاته، واعتباره كأن لم يكن، ويجمع ما يترتب عليه من آثار ذلك للأسباب الآتية:
    أولاً: ورد بالمادة الثانية من الدستور المصري ما نصه: (والإسلام دين الدولة.. ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع، ومؤدَّى ذلك – علاوةً على البحث القانوني الوارد بصلب الحكم ذاته – أن جميع القوانين التي تطبَّق في جميع المعاملات والوقائع يتعين أن تكون من واقع ما جاءت به نصوص الشريعة الإسلامية الغراء.
    ثانياً: إن ما قضى به الحكم الصادر عنَّا، وعلى حـد ما ذهبـت إليه الإدارة العامة للتفتيـش القضائي: يخالف القانون الوضعي، ولم يتقرر بمأخذ التفتيش أن الحكم يخالف الشريعة الإسلامية التي هي المصدر الرئيس للتشريع في البلاد.
    ثالثاً: إنه على حدِّ ما ذهبت إليه الإدارة العامة للتفتيش القضائي في هذا الخصوص: أن الحكم المذكور مخالف للقانون، موصوم بالبطلان، هذا القول أمر يتعارض كلياً وجزئياً مع أحكام الله ودستور الإسلام، بل والدستور الوضعي المصري، ولا يمكن أن يتأتى ذلك – أبداً – في دولة مسلمة نصَّ دستورُها على ما نصَّ عليه بالمادة الثانية، والموضحة سلفاً، فكيف يأتي البطلان، وقد اتبع القاضي – المتظلم – ما نص عليه دستور البلاد؟
    رابعاً: إن اليمين التي قام المتظلم بحلفها عند بدء تعيينه بأن يحترم القوانين: هو أمرٌ لا يتعارض بتاتاً مع ما قضيتُ به، بل يتواءم ويتَّسق تماماً مع ذاك النص الوارد بالمادة الثانية من الدستور المصري ونصوصه الأخرى، وقد قمتُ بتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية الواردة بهذا النص وفقاً لليمين التي قمتُ بحِلْفها.
    خامساً: إن الحكم – مثار المساءلة – قد استند في أسبابه إلى كتاب الله وسنة رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم –، وهما – أساساً –: مفهوم الشريعة الإسلامية الواردة بنص الدستور، والقاضي مكلفٌ بتطبيق القانون الأعلى، ألا وهو: الدستور، دون ذاك الأدنى ألا وهو: مواد القيد القانوني، طالَمَا أن هذه الأخيرة تتعارض مع الدستور، وبالتالي: فإن مِن حَق القاضي إنزال القانون الأسمى/ قانون الله ورسوله.
    سادساً: إن ما ورد بأسبـاب الحكم من الإشـارة إلى نصـوص المـواد: (1، 2، 4، 3) من مشروع قانون حد الشرب الصادر من اللجنة العليا بوزارة العدل، فإن المحكمة قد ذكرتْ هذه المواد من باب الاستئناس والاستدلال والاستشهاد، على أن المشرع ذاته قد انتحى واتجه منفِّذاً مبادئ الشريعة الإسلامية المتفِّقة مع نص المادة الثانية من الدستور.
    وبالبناء على ما تقدم، وللأسباب الأخرى: فإن مفاد هذا التظلم جملةً وتفصيلاً: أن الحكم الصادر عنا قد نهج المنهج الدستوري، وبالتالي فلا تكون ثمة مخالفة قانونية فيه – من أي نوع كانت – تُرَتِّبُ البطلان، الأمر الذي يتعين معه – والحال كذلك – التقدم بهذا التظلم طبقاً لقانون السلطة القضائية طالباً رفع هذا المأخذ، ومحوه من الملف السري الخاص بنا.
    وحسبي الله ونعم الوكيل".
    محمود عبد الحميد غراب
    رئيس المحكمة
    تحرر في: 30/ جمادى الآخرة/ 1402ه
    24/ 4/ 1982م

    وعليه: فقد استجابتْ وكالةُ الوزارة لهذا التظلم، فشكَّلت لجنة لِنَظِرِه
    بتاريخ: 29/ 4/ 1982م، حتى خرجت اللجنة بالقرار التالي: قبول اعتراض المتظلم شكلاً، وفي الموضوع برفضه!!
    الأعضاء
    المستشار/ طه نادي
    والمستشار/ فتحي الجمهوري

    الرئيس
    مدحت المراغي


    وفي تاريخ: 4/ 5/ 1982م صدر قرار وزير العدل رقم: (839) لسنة: 1982م بانتداب هذا القاضي المُدان! للعمل بوكالة وزارة العدل لشئون الإدارات القانونية (عمل إداري) اعتباراً من يوم: السبت، الموافق: 8/ 5/ 1982م، وينتهي في: 30/ 9/ 1982م!!

    الوزير
    المستشار/ أحمد سمير سامي
    رئيس المحكمة
    حامد محمود زكي

    حرر في: 4/ 5/ 1982م

    إن هذا البغي على حدود الشرع يمثله: دعاة التحرير والانبعاث الإسلامي، دعاة دعوى معاودة اكتشاف بُعْدِه الشمولي مِن بُعْدِه القرآني، على ما يريدونه إسلاماً منفتحاً على الواقع؛ لبناء المستقبل من خلال دخوله في تنافس أخوي مع المسيحيين والبشر كلهم أجمعين، مهما كانت هويتهم، حتى ولو أعلنوا أنهم ملحدون!!
    وعلى ما يريدونه إسلاماً حَداثياً في مواجهة انغلاق المذاهب الشكلية والعبادية والحرفية الجافة بزعمهم ووصفهم، وبدعواهم انحصارها في علماء وفقهاء الأصولية الأوليغارشية المؤذية والمتحجرة في تطبيق أحكام القرآن والسنة بالنص! وهذا في نظرهم ينـزع إلى إقامة نظام إكليريكي، أو ثيوقراطية مفوضة ومرتهنة، ترفض حق الشعوب في أية مشاركة حقيقية لبناء المستقبل الجديد، وتناهض أي إبداعٍ واعِدٍ بالتطور الحضاري والتقدم العلمي..!! لكن ماذا يريد دعاة التحرير؟! إنهم يريدونه إسلاماً خاضعاً لواقع الحال سياسياً وثقافياً واجتماعياً، فالقرآن عندهم ليس إلا دعوة تاريخية خارج الفقه، لا يقترح قانوناً ولا يفرضه!!
    وأخيراً: فإن هؤلاء الرافضين تطبيق أحكام الله ورسوله في القرآن والسنة هم دعاة تقليد مذهب اللاهوتية التحريرية في التصدي للأصوليات بِدْءاً بقيامها في أمريكا اللاتينية ثم في إفريقية.
    والإسلام في نظرهم يحتاج إلى تحرير وانقلاب جذري في مواجهة مَن يسمُّونَهم بـ(الإسلامَوِية الأصولية) على مذهب اللاهوتية في التزام فقه التحرير..!!
    وحاصل هذا: هو التنفير من أي التزام شرعي، ومن كل فرد أو جماعة تدعو إليه أو تتمسك بأهداب الإسلام عقيدةً وشريعةً ومنهجَ حياة في مقابل الدعوة إلى رفضه وترك تشريعه.
    يقول ابن قيم الجوزية – رحمه الله –: "لَمَّا أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، وعَدَلُوا إلى الآراء والقياس والاستحسان وأقوال الشيوخ …"، قلتُ: وإلى تحكيم الأنظمة المستوردة، وتقليد برامجها، واتباع سنن الكافرين، والتحاكم إلى قوانينهم، والرضا بأحكامهم دون حكم الله ورسوله، لَمَّا فعلوا هذا"… عَرَضَ لهم من ذلك: فسادٌ في فِطَرِهِم، وظلمةٌ في قلوبهم، وكَدَرٌ في أفهامهم، ومَحْقٌ في عقولهم! وعَمَّتْهُم هذه الأمور وغلبت عليهم، حتى رَبَى فيها الصغير وهَرِم عليها الكبير فلم يَرَوها منكراً، فاجتاحَتْهم دولةٌ أخرى قامت فيها البدع مقام السنن، والنفس مقام العقل، والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل، فصارت الدولة والغلبة لهذه الأمور، وأهلها هم المشار إليهم، إذا رأيْتَ دولةً حَوَتْ هذه الأمور، وشجراتُها قد أقْبَلَتْ، وراياتُها قد نُصِبتْ، وجيوشها قد رُكِّبَتْ؛ فترقَّب بها، وانتظر إنزال عذابٍ قد انعقَدَ غَمامُه، وبلاءٍ قد ادْلَهَمَّ ظلامُه، وذلك ما لم يَبْقَ معه أمَلٌ ولا وسيلة لدفع وقوعه غير اللجوء من الله إلاَّ إليه بتوبة نصوح، ما بقي بابها مفتوحاً، وما لم تتحقق التوبة فسيقع الجزاء من جنس العمل، وكما تَدِيْنُ تُدان، ?وَسَيَعْلَمُ الَّذِيْنَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُوْنَ?( ) ".


  5. #5

    افتراضي رد: كتاب الثقافة القضائية

    الاخيرفي تكملة الكتاب....

    الفصل الثالث:
    وكلاءُ الشريعة، والمحامون
    القصد من إثبات هذا العنصر: التعرف من خلاله على الوضع الحقيقي والواقع السلوكي القضائي لأعضائه المنتسبين لوصفَين: تخصهما الوكالة الشرعية حدَّاً وماهيَّةً:
    فأقول: الوكالة أعم من المحاماة، وحقيقة الوكيل: أن يستقل بأمر الموكول إليه.
    والوكيل: من أسماء الله تعالى، وهو المقيـم الكفيل بأرزاق العباد، وفي التنـزيل: ?أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُوْنِي وَكِيْلاً?( ).
    وقيل: "الوكيل: الحافظ، والمتوكل على الله: الذي يعلم أن الله كافلُ رزقِه وأمرِه، فيركن إليه وحده ولا يتوكل على غيره".
    ويقال: "توكَّلَ بالأمر: إذا ضَمِنَ القيام به".
    ووكَّلتُ أمري إلى فلان: أي: ألجأتُه إليه، واعتمدتُ فيه عليه.
    ووكَّلَ فلانٌ فلاناً: إذا استكفاهُ أمرَه ثقةً بكفايته.
    ووكَّل إليه الأمر: سلَّمه، ووَكَله إلى رأيه وَكْلاً ووُكُولاً: تَرَكَهُ.
    والوكيل: الجَرِيء، وقد يكون الوكيل للجمع، وكذلك للأنثى.
    وقد وكَّله على الأمر.
    والاسم: الوكالة، ووكيل الرجل: الذي يقوم بأمره.
    واعلم أن الوكالة والمحاماة: استنابةٌ في حال الحياة، ويغلب على المحاماة: اختصاصها بالمرافعات أمام المحاكم في طلب حق أو دفاع لإبطال دعوى لصالح من قامت تلك المرافعات لأجله عن طريق المحامي.
    والوكالة أعم وأشمل؛ لاحتوئها أنواع العقود والتصرفات بالنيابة للوكيل عن موكله، وكلمات: (محاماة، ومحامون، ومحامي) حديثة الاستعمال بالتقليد، دخيلة على هذا الباب، أمَا وقد استعملت فإنها مع الوكالة غير لازمتين للوكيل، ولا للمحامي، ولا لمن هي له أو عنه.
    والأصل في جوازهما في الجملة: ما رواه أبو موسى بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: "أردتُ الخروج إلى خيبر، فأتيت رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم – فسلمتُ عليه، وقلت له: إني أريد إلى خيبر – أردتُ الخروج إلى خيبر –"، فقال: »إذا أتيت إلى وكيلي فخذ منه خمسة عشر وُسْقاً، فإن ابتغَى منك آية فضع يدك على تُرْقُوَّتِه«( ) ".
    وهذا الخبر يدل على أنه كان له وكيل، ويدل على جواز الدفع من الوكيل إلى غيره بمجرد القول.
    ويدل على أنه إذا شك في قول الطالب أن لا يدفع إليه.
    ويدل على أنه أتاه بآية وهي: العلامة، أنه يجوز له الدفع بها، والاقتصار عليها.
    والثقافة الفقهية: أفادت جواز العلامة بين من يريد ذلك لزيادة الثقة والاطمئنان.
    وحديث فاطمة بنت قيس قالت: "طلقني زوجي ثلاثاً، فوكَّل أخاه بنفقَتي، وخرج إلى اليمن، فخاصمتُ إلى النبي –صلى الله عليه وآله وسلم – فلم يجعل لي سُكْنَىً ولا نفقة"( ).
    ووكَّـل النبي –صلى الله عليه وآله وسلم – عُروة البارقي في شراء أُضحية،
    فاشترى شاتين وباع إحداهما، وجاء بأضحية ودينار، فدعا له بالبركة، فكان لو اشترى تراباً لَرَبِحَ فيه( ).
    وذكر الخصاف خبر علي بن أبي طالب –رضي الله عنه– أنه كان يوكل أخاه عقيلاً في الخصومة، فلما كبر وكَّل عبد الله بن جعفر، وكان يقول أن لها فحماً يحضرها الشيطان.
    وكان يقول: "ما قُضِي لوكيلي فلي، وما قضي على وكيلي فعليَّ"( ).
    وبهذه السنن عمل الفقهاء على جواز الوكالة، وفيها إجماع منهم على الجواز في الجملة.
    وتجوز الوكالة بالبيع، والشراء، والحوالة، والكفالة، والشركة، والمضاربة، والوديعة، والإعارة، والإجارة، والمزارعة، والمساقاة، والقرض، والهبة، والوقف، والصدقة؛ لأن الحاجة داعية إلى ذلك كله، وتجوز عامة وخاصة، في معلوم أو متعارف مأمون الغرر، وتجوز معلَّقة على شرط.
    كذلك يجوز التوكيل بالنكاح، والطلاق، والخُلع، والعِتاق، والمُكاتَبة، والتدبير؛ لأن النبي –صلى الله عليه وآله وسلم – وكَّل عمر بن أمية الضمري في تزويج أمِّ حبيبة –رضي الله عنها–، وبجواز الوكالة في النكاح جازت في الفسخ، وعَقْدِه بالإيجاب والقبول( ).
    ولا توكيل بالاستيلاء، ولا في الإيداع، ولا في الإيلاء، ولا في الظهار، ولا في اللعان؛ (لأنها أَيمانٌ فلا تحتمل التوكيل).
    وبالنسبة لما ورد الخلاف على جواز التوكيل فيه من عدمه فيرجع إلى معرفته، وكذلك للإحاطة بما أوجزنا جوازه أو منعه بإطلاق يرجع إلى تفصيل ذلك كله في كتب الفقه ومحررات علم القضاء.
    ونحن هنا لا يسعنا أكثر من تحرير معلومات عامة نستفيد منها مكونات الثقافة القضائية في هذا الموضوع، وخاصة فيما يتصل منه بجانب الأعمال القضائية اليومية.
    الخصومات والمنازعات من لوازم المجتمع:
    إن الخصومات والمنازعات واختلاف وُجهات النظر هي إحدى طبائع البشر التي لا يخلو منها مجتمع من المجتمعات الحية، وإن وجدت الاختلافات في وُجهات النظر وُجِدَ وظَهَر حقُّ الدفاع عن هذه الوُجهات المختلفة المتباينة، وغالباً لا يتم ذلك إلا عن طريق ما سُمِّي بالمحامي.
    فحق الدفاع من لوازم الخصومة، والخصومة من لوازم المجتمع، ولما كان الناس على درجات مختلفة في القدرة على الدفاع كان لا بد من أن يستعين الأضعف بالأقوى؛ لتبرير وُجهة نظره.
    وليس كلُّ موكِّل ضعيف، وليس من الضروري أن يكون كلُّ وكيلٍ أو محامٍ أَلْحَنَ بالحُجة من موكِّله، ولكن للظروف أحكام.
    والناسُ للناس مِن بَدْوٍ وحاضِرَةٍ
    بعضٌ لبعضٍ - وإن لم يَشْعروا - خَدَمُ

    وحديث رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم – يزيد وضوح هذا المعنى: »إنكم تختصمون إليَّ، ولربما يكون بعضُكم ألْحَنَ بحُجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيتُ له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار، فمَن شاء فليأخذها، ومَن شاء فليتركها«، أو كما قال –صلى الله عليه وآله وسلم –( ).
    واليوم ولَمَّا أصبحت المحاماة مهنة تكسُّبٍ ورزق، تخصَّص لها أصحاب هُواياتها والباغين سبيلها، لذلك فهم يجتهدون لتأهيل أنفسهم واكتساب الخبرة والمهارة، والجودة في المرافعات، والدفاع بالحجج، وصياغة الأدلة والبراهين أمام المحاكم، حرصاً على كسب القضايا، ووصولاً إلى الشهرة؛ للاستكثار والربح من أجورها، ولا أرى إلا أن ذلك هو الغالب على أخلاق محاميي مجتمعات الكراهية.
    أمَّا غيرهم فالوكيل والمحامي هو ذلك الرجل الأكثر استيعاباً وفقهاً لأحكام الشريعة، ولمواد مجموعة القوانين النافذة والمعمول بها في المحاكم.
    وهو يستعين بها على التعبير عن وُجهة نظر موكِّله الشرعية والقانونية، ودعمها بالأدلة والحُجج الواقعية الحصيفة.
    وهو الذي يساعد القاضي في إصدار الحكم العادل، وإظهار نزاهة القضاء؛ ببسط الأدلة والحُجج والبراهين الشرعية والقانونية اللازمة.
    ولو أن القاضي بقي لوحده يبحث وينقِّب عن وقائع القضية وأدلتها ومستنداتها لكان احتمالُ خطئه أكبر.
    ولهذا أوجبتْ بعض القوانين عدم جواز المرافعة أمام المحاكم إلا بواسطة المحامي، فيما عدى القضايا البسيطة.
    ويقول فلاسفة الحقوق في تأييد ذلك: (أن الحقيقة بِنْتُ البحث، وطرق البحث عن الحقيقة مختلفة، ولكل وُجهة هو موليها في البحث عن الحقيقة وفي تأييد رأيه).
    وإن معارضة الأفكار ومقارعة الحجة بالحجة هو السبيل الأفضل للوصول إلى الحقيقة الجلية الواضحة.
    فالوكيل الشرعي أو المحامي القانوني يبني مع القاضي أسبابَ الحكم وعِلَلَه وموجباتِه، وذلك ببسط هذه الأسباب والموجبات أمامه لينتقي منها ما يراه موافقاً للعدالة.
    وعلى هذا: فإن القضاةَ والوكلاء أو المحامين يعملون معاً في خدمة العدالة وإظهار الحقيقة.
    وحديثاً قيل بأن القاضي محامٍ ناضج، وأن الذي أوصله وأهَّله في الغالب للقضاء ممارسة المحاماة وتجربتها الطويلة.
    وقد عمِدَتْ كثير من الدول المتقدمة إلى انتقاء القضاة من بين المحامين الناضجين؛ نظراً لوحدة الهدف بين عمل القاضي وعمل المحامي( ).
    الاختلاف الجوهري بين المحامي والقاضي:
    وهو: أن تكون طبيعة عمل المحامي متصفة بالحركة، وقوة الأخذ بزمام الأمور، والسيطرة والمبادرة والهجوم على أدلة الخصم وحججه وتفتيتها، ودمغها بالحجة البالغة المقابلة، بمعنى: أن يكون إيجابياً.
    وفي هذه الأثناء يلزم أن تكون طبيعة عمل القاضي متصفة بالهدوء والرزانة والصبر، مع تشغيل الذهن والفكر في فقه ووزن ما يقوله وما يُدلي به الخصمان من مفردات مرافعتهما، دعوىً وإجابةً، بمعنى: أن يكون سلبياً.
    ثم يجب أن تظهر إيجابيتُه عند صدور قراره في إدارة الجلسة، وعند النطق بالحكم، بعد تبيُّن الحق.
    وفي هذه الأثناء يلزم أن يكون المحامي سلبياً بما يَظهر عليه من هدوء واستقرار نفسي ورزانة عقل وحسن إصغاء وإنصات.
    وبعدها يلزم كلاً من القاضي والمحامي حفظ حق الآخر في التقدير والاحترام، ثم أنه يحرم على كل منهما تجريح صاحبه غياباً وحَضْرَةً، ومَن حصل منه شيء من ذلك هو لنفسه وعليها.
    وأن ما يتصوره بعض المحامين أو كثيرٌ منهم من أن كثرة الكلام هي الوسيلة إلى قناعة القاضي وكسب القضية إنما هو تصور خاطئ؛ لأن من يُمْعِنُ أو يُنْعِمُ النظر في قواعد القانون وأحكامه يجد أن المسائل الحقوقية كالمسائل الرياضية، لا يفيد فيها كثرة الكلام وتكراره، ويقول المثل: (خير الكلام ما قَلَّ ودَلَّ).
    وإن خير دفاع يصوغُه المحامي في نظر القاضي الناضج هو الدفاع الذي يتميز بصفتين أساسَيْن هما: الوضوح، والإيجاز.
    ويتمثلان في الأسلوب المبسط الذي يحصل الحديث بمثله في نزهة أو جلسة عادية.
    وهناك وجهة وفكرة قائمة في أذهان كثير من الناس عن المحاماة يجب تعديلها وتصحيحها، وهي: رؤيتهم أن المحامين يجب أن يجانِبوا الصدق في أقوالهم من باب (اطلب الكثير يأتِك القليل)، أو (إذا أردتَ حقك فاطلب مِثْلَيْه).
    والبعض يعلل بأن الحكم الذي يصدر لا يمكن أن يَعتبِر الطرفَين مُحِقَّين، وإنما لا بد أن يكون أحدُهما مُبطلاً فيخسر الدعوى، والثاني مُحِقاً فيربحها.
    وعلى هذا فَهُم يقولون أن المحامي لا بد أن يكون كاذباً ومُبطلاً؛ لأنه إذا ربح دعواه اليوم فسيخسر غداً غيرها.
    إن هذا التعليل خاطئ من أساسه؛ لأن القضايا الحقوقية متشابكة وذات وجوه متعددة، ولكل إنسان وجهة نظر معينة، ولديه حُجَجُه وأدلته، والقاضي هو الذي يرى الوجوه المتعددة ويوازن بينها، ويُظهر الحقيقة بوجهها الصحيح الناصع.
    وإن هذه الحقيقة ليس من السهولة التي يُدركها الكثيرون؛ بدليل أن بعض المحاكم تختلف في تحديد أبعاد هذه الحقيقة، حتى أن قضاة المحكمة ذاتها قد يختلفون فيما بينهم في تحديد هذه الحقيقة في القضية الواحدة، وأكثر من ذلك أن المحكمة نفسها قد ترجع عن رأي أو اجتهاد أعطته في قضيةً سابقة بحجة تطور الأحكام بتطور الأزمان، لذلك فإن المحامي الذي يدافع عن وجهة نظر معينة لا يكون مجانباً الصدق، وإنما يكون مُظهراً لوجه من وجوه الحقيقة، وليس عليه إظهار الوجه الأكثر نصاعةً وجلاءً، وإنما هي مهمة القضاء.
    ولا يخفى أن الدفاع عن وجهة نظر معينة ودخول كل من الطرفين في معركة قانونية لإظهار الحقيقة في الثوب الذي يريده كل من الخصمين له أثر كبير في تلمس هذه الحقيقة من قِبَل القاضي، وإظهارها بمظهرها الصحيح اللازم.
    والمحامي في الوقت نفسه هو محط الأنظار أمام الجمهور، وهو الذي يلعب الدور الكبير في أفئدتهم، حيث يتلقَّون مرافعته بقلوب متلهفة وأفواه فاغرة، وإذا ما صدر حكم القاضي وانتصر الحق صار المحامي بطلاً منتصراً في ساحة المعركة، ونال ثمرة الانتصار المادية والمعنوية وغَدَا رمْزاً للعدالة والحق.
    وبما أن بين المحامي والقاضي اختلافاً، وكذلك الوكيل فإن بينهما اتفاقاً واجتماعاً.
    الاتفاق الجوهري بين المحامي والقاضي:
    أولاً: اتفاقهما في الهدف والغاية:
    ويتمثلان: في إقامة العدل وتحقيق العدالة.
    ثانياً: اتفاقهما في الوسائل:
    وتتمثل: في تطبيق أحكام الشريعة والقانون، وملحقاتـهما، ثم الاجتهاد في الأشباه والنظائر لحل مشاكل المجتمع من خلالها وعلى ضوئها.
    ثالثاً: اتفاقهما على رؤية الوجه الأسود للمجتمع:
    ذلك المجتمع الذي عاشوا فيه، وابتُلوا بمنازعاته وخصوماته، وهم لم يعرفوا منه سوى جانب الحقد والكراهية والطمع والضغينة والانتقام وحب الاستيلاء والسيطرة والرغبة في استكثار المال ووسائل كسبه.. وغير ذلك من نزعات النفس والهوى والدنيا والشيطان، وبقية السيئات.
    وأخيراً: الباقيات الصالحات التي هي خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ عُقْبى، وعاجل التزام عزائمها كان به تحقيق سيادة شرع الله يوماً ما.
    لهذا: فإنني أتفق مع المحامي الأستاذ/ أحمد على الوادعي فيما علل به في: (النسخة اليمنية للقضاء الإسلامي)، وهو يمهد لطرح إيجابيات مهنة المحاماة.. ويعتذر عما تحمله من سلبيات سبَّبَها روَّاد المصالح الضيقة والمغالطات الزائفة المتصف بها كثير من المحامين الخاضعين لسيطرة السلوك الشائنة( ).











    الفصل الرابع:
    المقومات السلوكية في قانون السلطة القضائية
    رقم: (1) لسنة: 1991م في الجمهورية اليمنية
    القصد بالمقومات السلوكية في هذا الموضوع: ما يشتمل عليه هذا القانون في مواده من لازم القِيَم والأخلاق الإسلامية، وما يترتب على وجودها أو عدمه في أعضاء السلطة القضائية إيجاباً وسلباً.
    وما مدى فعالية اشتراط السلوك الإسلامي فيمن يتولى منصب القضاء ويجلس لفصل الخصومات والمنازعات بين الناس وهو يحكم فيها.
    ولا بد لهذا القانون أن يشترط في المتقدم مجموعة أخلاق سلوكية، وأن يعاقب على مخالفتها بموجب موافقة الدستور للإسلام عقيدة وشريعة، بغض النظر عن تفريغ محتواها العملي تطبيقاً.. لإمكان الإعمال مستقبلاً بتقنينها، أو بموجب وضعها القانوني.
    ومهمتنا: ترتكز على توجيه المواد المتعلقة بالسلوك القضائي في هذا القانون، دون تَعَرُّضٍ لنقده سلباً أو إيجاباً، فذلك يحتاج إلى جهد منفرد في دراسة خاصة.
    والمواد التي حظيتْ باحتواء تلك المقومات السلوكية نوجهها كما يلي على الترتيب، مع ربطها بمناسباتها:
    أولاً: المادة رقم: (1):
    نَصَّت على استقلال القضاء، وخصَّتْ القضاة في قضائهم لغير القانون، ومنعتْ جواز التدخل في القضايا، أو في شئون العدالة، وحَدَّدت سلوكيات منصوصة.. واعتبرتْ مخالفة هذه النصوص جريمة يعاقب القانون مرتكبَها.
    كما اشتملت المادة على ثقافة قضائية سلوكية خاصة أوجب القانون على القاضي التزامها، واعتبر وجود الالتزام أساساً لبراءة التدخل.
    والبُعْد الثقافي يتلخص في عَوْد مفهوم التدخل إلى تقدير التزام القاضي..
    كما أنها بمفهومها قررت التسليم، بل أوجبتْ التسليم مع الاحترام والتقدير لعدالة الأحكام الصادرة عن القضاء وسلطته القضائية؛ لتمثيلها أحكام الله نيابة عنه سبحانه، بقوله تعالى: ?إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّيْنُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُوْنَ?( ).
    ثانياً: المادة رقم: (2):
    أثبتَتْ لازم المساواة بين الخصوم دون مفاضلة وهم يتقاضون أمام منصة القضاء، مهما كانت صفاتهم وأوضاعهم، وهذا هو توجيه الإسلام بالالتزام السلوكي الأخلاقي المُلْغِي لكبرياء الجاهلية وفخرها بالسلالية والمظاهر والشرف والجاه، وطبقية الحسب والنسب، ثم الظلم للأدنى وإهدار حقه بحجة أنه ليس في درجة خصمه! وقد ألغى الإسلام تلك المفاضلة بالنعرة الجاهلية، وجعلها بالتقوى: ?إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ?( )، و»لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى«( )، والتقوى: سِرٌّ يعلَمْه الله، »التقوى هاهُنا، التقوى هاهُنا« صدق رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم –، وهو يشير إلى صدره، أي: أن مكان التقوى هو القلب، »بحسب امرئ من الشر أن يُحَقِّر أخاه، كلُّ مسلم على المسلم حرام، دمُه ومالُه وعِرضُه«( ).
    ثالثاً: المادة رقم: (12):
    نصتْ على حق الرقابة للمحكمة العليا على دستورية القوانين واللوائح والأنظمة والقرارات الصادرة، كذا الفصل في تنازع الاختصاصات بين جهات القضاء الأقل درجة، والفصل في الطعون الانتخابية، … إلخ، وحتى نهاية الفقرة: (8) من هذه المادة.
    فهذه المادة بكامل فقراتها قد اشتملت على سلوكيات وأخلاق تمثلت في التزام القانون باحترام القضاء، والاعتراف له بالسيادة على التشريعات الوضعية بكل أنواعها، عن طريق الرد إلى الدستور، وهو ينص في مُسْتَهَلِّ مواده على التزام الإسلام عقيدة وشريعة، وهذا يُلزم سيادة الشريعة الإسلامية، فيما لو صدقتْ النية، بغض النظر عن إيجاد أي مادة أخرى تقرر أن الشريعة الإسلامية مصدر القوانين جميعاً، أو مصدر جميع القوانين، أو المصدر الرئيس لجميع القوانين، أو نحو ذلك.
    فالمادة تعني في جميع فقراتها هيمنة القضاء - وهو أعلى سلطة في الدولة – على كل السلطات الأخرى وتصرفاتها إقراراً أو مَنْعاً، مؤاخذة أو محاسبة، جزاءً وأدباً، على أي مخالفة تأتي من خارجه، كما ردَّ إقرار أقل درجاته إلى أعلاها.
    وإنها لَمِثاليةٌ سلوكية عالية أن يطبِّق القانون أمرَ الله تعالى في إرجاع الحكم إليه وحده عند الاختلاف، بدليل قوله سبحانه: ?وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيْهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ?( ).
    وقوله تعالى: ?فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوْهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُوْلِ?( )، والردُّ إلى رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم – ردٌّ إلى الله؛ بدليل قوله تعالى: ?فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُوْنَ حَتَّى يُحَكِّمُوْكَ فِيْمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجَاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيْمَاً?( ).
    رابعاً: المادة رقم: (57):
    اشتملت على الشروط الواجب توفُّرها لتعيين أعضاء السلطة القضائية، بمن فيهم أعضاء النيابة العامة.
    ومن هذه الشروط ما لها صله بمقومات السلوك القضائي، ومن ذلك:
    اشتراط الأهلية من الفقرة: (أ) التي تقضي بما نصُّه:
    "فناقص الأهلية ينقصه من السلوك بقدْر ما ينقصه من الأهلية".
    وفي هذا الشرط إجمالٌ يحتاج إلى معرفة مَن هُم ناقصو الأهلية، ولا أرى أقلَّ ممن يحمل صفة الفسق.
    فالفاسق: ناقص الأهلية، وبالتالي فإنه يفتقد جملةً من السلوك، أهمها:
    ? استهتاره وعدم التزامه بالسنن.
    ? خروجه عن كامل الطاعة المطلقة فيما دقَّ وعَظُم من شرع الله ورسوله، دون الفروض، والكافر من باب أولى، ?وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِيْنَ عَلَى الْمُؤْمِنِيْنَ سَبِيْلاً?( ).
    ثم فاقد الحرية: فغير الحر ناقص الأهلية، لأنه لا يملك تصرفاته، بل إنه لا يملك نفسه.
    كذلك الأنوثة: سبب من أسباب عدم اكتمال الأهلية، فالمرأة ضعيفة عقل ودين، وبالتالي فإنها غير أهل لولاية القضاء، والنقص في سلوكها: بتركها الصلاة والصيام أيام حيضها ونِفاسِها، وحُكْم رسول الله –صلى الله عليه وآله وسلم – يقضي بعدم فلاح مَن ولاَّها، »ما أفلح قومٌ ولَّوا أمرَهم امرأة«( )، كما تقدم تفصيله.
    والجهل كذلك: من أسباب نقص الأهلية، فالجاهل عديم المعرفة، لا

    يعقل أدلة أحكام الشرع، ولا يفقه أسبابها، والله تعالى يقول: ?وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُوْنَ?( )، وقد سبق تفصيله أيضاً.
    لذلك: كان لاشتراط القانون حَمْلَ شهادة المعهد العالي للقضاء فيمن يُوَلَّى منصب القضاء ما يبرره.
    لأن الشهـادة سبب من أسبـاب اكتسـاب العلـم، والعـلم طريق المعرفة، والخوف، والخشيـة، لقوله تعالى: ?إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ?( ).
    والتعلم للعلم واجب قبل القول والعمل بقوله تعالى: ?فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ?( )، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل.
    وأخيراً: فإن من أسباب عدم الأهلية: قلة العقل أو عدمه، أو عدم البلوغ، والصغر، لرفع القلم عنهم.. وبالتالي فقدانهم السلوك بافتقادهم مقوماتها الأساسية.
    وإن مِن أجْمَعِ الشروط اللازم توفرها فيمن يُوَلَّى منصب القضاء، ونصَّ عليه القانون في هذه الفقرة من المادة المطروحة هو: اشتراط حسن السيرة والسلوك.
    وهذا يعني: أنه لا يجيز أن يُوَلَّى القضاء من يفتقد سلوك النـزاهة والعفة والصدق والأمانة والأخلاق الفاضلة.
    ولا كذلك مَن سبق عليه الحكم في جريمة تخل بسلوك هذه الصفات، حتى وإن رُدَّ إليه اعتبارُه.
    والفقرة: (أ) من المادة: (111) أوجبت محاسبة القاضي وتأديبه، وكذلك عضو النيابة العامة في حالة ارتكابه جريمة مخلة بالشرف، أو جريمة الرشوة المخلة بالأمانة والنـزاهة وعفة اليد وسلامة المطمع، أو في حالة ثبوت تحيزه إلى حد أطراف النـزاع، دون اعتبار لأي مبرر.
    وهذه عدالة القانون في محاسبة القاضي على مخالفته لتلك السلوك الأخلاقية القضائية.
    خامساً: المادة رقم: (85):
    احتوت صيغة القَسَم الواجب أداؤه على كل من يُوَلَّى وظيفة السلطة القضائية قبل مباشرته لعمله قاضياً..
    والقَسَم يشتمل على: نص الحِلْف بالله وحده، والتمسك بالقرآن والسنة دون غيرهما، والحكم بالعدل لإقامة العدالة.
    وهذا يعني إلزام القانون بتوحيد الله في الإيمان اتباعاً لمنهج الإسلام الذي يعتبر الحلف بغير الله شركاً مُحْبِطاً للعمل: ?إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ?( ).
    كذلك إلزامه بالتمسك بكتاب الله وسنة رسوله –صلى الله عليه وآله وسلم – لما فيهما من المقومات السلوكية الشاملة وَفق تشريعهما الإسلامي، وعلى تحديد مستلزمات العدل لإقامة العدالة به.
    وهذا غاية في الإلزام القانوني بالاحتكام إلى الشرع والحكم بمقتضيات الإسلام، ديناً ودولةً، بنص الدستور.
    وعليه: فإن من يخالف يحنث في يمينه، فتَبْطُل ولايته، ومِن ثَمَّ يسقط حقه في الانتماء إلى سلطة القضاء بأي حال.
    وما بعد ذلك لا تستقيم له أخلاق، ولا تُقَوَّم له سلوك.
    تـلك أهم المواد التي كـان لها صلة قرابة بالسلوك القضائي في هذا القانون.
    وقد سبق أن قدمتُ لهذا الموضوع بأن الهدف منه: التعرف على مدى التزام هذا القانون بثوابت المقومات السلوكية؛ بغرض التثقيف القضائي في مدلولاتها، بعيداً عن إرادة أَسْلَمَةِ موادِّه الوضعية الأخرى.
    ومهما بالغ مبالِغ في عَدِّ محاسن أي قانون فلن يتجاوز به النقص المتعدي عن مشِّرعه البشري.
    وكمال التشريع لله، والنقص يتعداه دون أي مقارنة، وصدق الله العظيم في تزكية تشريعه: ?وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمَاً لِقَوْمٍ يُوْقِنُوْنَ?( ).

    وإنه لشرك عظيم أن يضع الناس دساتير يسْنِدون إليها حق منح الإسلام لازم تَدَيُّن المسلمين به! أو منح شريعته حق صدارة التشريع على القوانين، ثم لازم منح الشعوب حق الاستفتاء سلباً أو إيجاباً، والنتيجة: إعطاء حق التشريع لغير الله!! عن طريق المانح الأعلى!!





    الفصل الخامس:
    توصيف وتصنيف موظفي المحاكم في قانون السلطة القضائية
    لقد أعطى قانون السلطة القضائية لموظفي المحاكم ميزة خاصة تتناسب مع منصب القضاء حيث جعل تصنيفهم يختلف عن تصنيف موظفي الجهاز الإداري في الدولة، ولا مجال للمقارنة، وإنما لإعطاء نوع من الثقافة القضائية في هذا الباب.
    أولاً: من حيث إطلاق الوصف الوظيفي:
    نصت المادة: (124) على مسميات: كاتب أول، ووكيل، ومحضِّر أول، وحُجَّاب.. لكل محكمة على مستوى تصنيفها ومختلف درجات تقاضيها، وللموثقين تصنيف آخر في قانون التوثيق.
    وفي النيابة العامة ورَدَ مسمى: رئيس القلم الجزائي، كما في المادة: (140)، وللكاتب الأول، ورئيس القلم الجزائي: اختصاص متميز عن نظيرهما في الجهاز الإداري، وكذلك للمحضِّر الأول: مِثْل ما لزميله.
    وقد حدَّدتْ هذا التمييز المادة المذكورة تفصيلاً كما يلي: (يعمل كتَّاب كل محكمة ومترجموها وطبَّاعوها وحُجَّابها ومراسلوها تحت رقابة الكاتب الأول، ويعمل محضِّروها تحت إشراف المحضِّر الأول بها، والجميع خاضعون لرئيس المحكمة، وكذلك يعمل كتَّاب النيابة في كل محكمة تحت إشراف رئيس القلم الجزائي بها، وهم جميعاً خاضعون لرئيس النيابة، ويكون الإشراف في المحاكم الابتدائية للكاتب الأول، ورؤساء الأقلام الجزائية، ثم للقضاة، وأعضاء النيابة)، وللنص مناسبة أخرى تأتي في بابها.
    وفي هذا التصنيف والتوصيف إرجاع إلى الأصالة التي تميز بها كُتَّاب القضاء في عصر النبوة، والخلافة الراشدة، وعصور السلف، وذلك فيما يخص التسمية، أما الصفات الأخرى السلوكية والعلمية فقد أهمل القانون اشتراطها.
    قال السمناني: "ثم اعلم أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كان له كتَّاب منهم: علي بن أبي طالب – عليه السلام –، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان – رضي الله عنهم –، والأولوية بالترتيب.
    وكان لأبي بكر الصديق – عليه السلام ورضوان الله –: زيد بن ثابت، وعثمان بن عفان – رضي الله عنهما – يكتبان.
    وكان كاتب عمر – رضوان الله وسلامه عليه –: عبد الله بن أرقم، وزيد بن ثابت – رضي الله عنهما –.
    وكاتب عثمان: مروان.
    وكاتب علي بن أبي طالب – عليه السلام –: عبد الله بن أبي رافع – رضي الله عنهم أجمعين –".
    ثم قال: "وإذا استكتب القاضي رجلاً فقد أقامه مقاماً يجب عليه أن يختاره، وأن يستفرغ الوسع والمجهود في ذلك، فيكون معروفاً بالسداد في مذاهبه والاستقامة في طرائقه، ويكون عدلاً في دينه.
    وإن من ألزم الصفات التي تميز بها هؤلاء الكتَّاب: أصالة الإسلام، وصدق الإيمان، والقدرة العلمية، والزهد، والورع، مع كامل الحرية، وعدالة الشهادة، وحسن الصياغة، وجودة الخط، وسلامة العقيدة، … إلخ"( ).
    وقد أهمل القانون كل هذه الصفات السلوكية الأخلاقية والعلمية القضائية، ولم يشترط شيئاً منها في هذا العنصر القضائي الهام.
    ففي المادة: (127) اكتفى القانون فيمن يُعيَّن كاتباً أو محضِّراً أو مترجماً من موظفي المحاكم أن يكون حاصلاً على الثانوية العامة أو ما يعادلها.. أو يدخل في امتحان يتجاوزه بنجاح، وذلك أحد البدائل.
    وخلاصة الأمر: أنه لم يزد على اشتراط نوع من الثقافة النظرية الخالية من أي معرفة علمية، أو تأهيل فني، أو التزام سلوكي.
    وقد كان من المناسب جداً أن يضيف هذا القانون مادة تـخص إعداد وتأهيل الكادر الإداري والكِتَابي في المحاكم والنيابة، وتحديد جهة اختصاص التنفيذ، كما حدد جهة إعداد وتأهيل أعضاء السلطة القضائية في المعهد العالي للقضاء، فهو الجهة العلمية المختصة منطقياً كما يُصَدِّقه قانون إنشائه، والذي اشتملت مواده على أهداف الإنشاء، وقد تمثَّلتْ إجمالاً في خاصية العناصر الآتية:
    1. إعداد وتأهيل الكوادر القضائية علمياً حاصلاً ومتجدداً..
    2. إقامة الدورات التنشيطية التخصصية في كل المجالات العملية النوعية في المحاكم.. والنيابة، وفقاً لما تتطلبه المهمة القضائية المطلوب التدريب عليها.. وعلى مستوى الفئات القضائية والمعاوِنة.. يقيم المعهد دورات لهم تخصُّهم وترعى ظرف حالهم الوظيفي..
    3. تأهيل وتدريب أعوان القضاة مِن: كَتَبَة، وأمناء سر، وموثِّقين قضائيين، وغير أولئك.
    ثم تحددت هذه الأهداف وتمحورت في قسمين دراسيين، يخص المعهد تنظيم الدارسة فيهما، ويقوم على رعاية الدارسين وضعاً وإشرافاً ومتابعةً.. حتى ساعة التخرج، وتسليم الشهادات.
    القسم الأول: قسم الدراسات العليا التخصصية:
    ومهمتُه: إعداد وتأهيل أعضاء السلطة القضائية..
    القسم الثاني: قسم الدراسات الدورية والتدريب:
    ويختص بتأهيل وتدريب أعوان القضاة بجميع فئاتهم ومستويات وظائفهم.. كما يختص هذا القسم بإقامة الدورات التنشيطية للقضاة وأعضاء النيابة متى لزم الأمر لإطْلاعهم وإضْلاعهم بكل جديد، وتزويدهم بما من شأنه تطوير عمل القضاء وتجديده وتحديثه علمياً وفنياً، حسب الضرورة والمصلحة..
    وعليه: فكَوْن المعهد هذا اختصاصه بموجب قانون إنشائه، فما كان من حق قانون السلطة القضائية أن يتغاضى ويهمل هذا الواجب القانوني الذي هو من حق المعهد.. ولَلْكادرُ الوظيفي الإداري في المحاكم والنيابة أحقُّ وأَولَى بالحرص على إعداده علمياً وسلوكياً.. وإنه لأَبَرُّ بالقضاء أن لا يختار له من الموظفين والمعاونين لأعضائه القضائيين إلاَّ الأكْفَاء عِلماً وسلوكاً وتوجُّهاً دينياً وشرعياً، ليس أقلَّ مما يجب توفُّره في القاضي المُولَّى.. وإن الفساد الحاصل في المحاكم والمتولِّد عنه ضياعَ العدلِ، وإهدارَ نزاهةِ القضاء، وشَلَّ سُمعةِ وُلاتِه إلى حد ضرب المَثَل المُزرِي بسُمعتهم في المجالس والمجامع العامة.. سَبَبُه عدم رُشد سلوكيات الكادر الإداري والمعاون في السلطة القضائية.. مضيفاً عَيْبَه وشَيْنَه سلوكاً مَوْتُوْرَ الحمد أَوْجَدَه الكتَّاب غير المؤهلين علمياً بالذات بنسبة: (90 %) وأُلْبِسَه القضاةَ حالةً، وإن القاضي ليأتي متحرِّزاً متنـزِّهاً.. فلا يزال به كتَّابُه حتى يُرْدُوه.. وإني لأرى واجب توفُّر شرط الكفاءة العلمية في الكاتب بما لا يقل عن حَمله شهادة الدورة التدريبية في المعهد بعد تخرجه في الجامعة؛ للأهمية.. أما مَن دونَهم فمِن باب أَولى..
    ثانياً: من حيث تصنيف حقوق موظفي المحاكم:
    لقد أعطى قانون السلطة القضائية لموظفي المحاكم امتيازات خاصة لم تكن لأمثالهم في الجهاز الإداري، وأنها مهما نُفِّذت فستُخَفِّف من مطمع اليد المُطْلَقة..
    من ذلك: ما نصت عليه المادة: (128): "يُمنح موظفو المحاكم والنيابة العامة بدل طبيعة عمل بنسبة تتراوح بين (50 %) و(80 %) من المرتب الأساسي، يصدر بتحديده في إطار الحدَّين المذكورَين قرارٌ من وزير العدل، بحسب ظروف وطبيعة عمل كل منطقة".
    كما نصت المادة: (129) على منحهـم بدل ريـف بنسبة تتراوح بين (30 %) و(60 %) من المرتب الأساسي.. ويصدر بذلك قرار من وزير العدل.
    وإذا كان ممن يشغل المجموعة الوظيفية الأولى أو الثانية أو الثالثة وعمله في المحاكم فقد نص القانون على منحه بدل محاكم، يحدده بقرار من مجلس الوزراء بناءً على عرض وزير العدل.. حسبما نصت عليه المادة: (130).
    أما المادة: (132) فقد أعطت حق الترقية لموظفي المحاكم بالاختبار من درجة الوظيفة التالية لها مباشرة، وبمراعاة شروط الترقية الواردة بنظام موظفي الجهاز الإداري للدولة، وطبقاً للأحكام التالية:
    1. أن يكون حاصلاً على تقدير كفاءة لا يقـل في مَرتَبَتِه عن (جيِّد) في ذات السنـة المُرَقَّى فيها، (وهذا يرجـع إلى المسـاواة بنظيره في الجهـاز الإداري، وما كان ينبغي؛ لوجود الفارق بين الجهازين).
    2. أن يختار بنجاح الامتحان المقرر للترقية لدرجة الوظيفة العليا.. ويُستثنى من ذلك: (المترجمون).
    3. أن يقضي بنجاح فترة التدريب على الأعمال التي يقوم بها.
    ومنهج مواد الامتحان يصدر به قرار من وزير العدل، ويتضمن تشكيل اللجنة التي تضع الأسئلة وتصححها والنسبة اللازمة للنجاح، ويؤدي الامتحان طبقاً لما يلي:
    1. بالنسبة لكتَّاب المحكمة العليا، وكتَّاب محاكم الاستئناف، وكتَّاب المحاكم الابتدائية: تقوم بامتحانهم لجنة شئـون الموظفين في كل منها.
    2. بالنسبة لموظفي النيابة العامة: تقوم بامتحانهم لجنة شئون الموظفين في النيابة، ويتم هذا وفقاً للمادة: (133).
    قلت: والمعهد العالي للقضاء هو المختص علمياً – عقلاً ومنطقاً –.. وعن طريقه تُقام الدورات الخاصة بالكتَّاب المُعَدِّين للترقية من الدرجة التي هم فيها إلى التي تليها؛ ليشغلوا عملاً آخر يتطلب الإعداد والتأهيل والتدريب للاضطلاع بمهامه.. ولإدارة التفتيش المالي والإداري في الوزارة المختصة (وزارة العدل) اختصاص التقييم والتقدير لكفاءة كتَّاب المحاكم من واقع التفتيش على أعمالهم.. وكذلك الشأن بالنسبة للنيابة..
    أما حق توزيع الأعمال على الكتبة فهو من اختصاص رؤساء المحاكم على مستوى درجاتها، كل رئيس محكمة فيما يخصه، إلا المحاكم الابتدائية فإن كل موظفيها يتم توزيعهم وتحديد أعمالهم بنظر رئيس محكمة الاستئناف، كما أن له حق نقلهم حسب نص المادة: (134).
    وأخيراً: حق الإجازات والترخيص بها فإن المادة: (135) جعلته من اختصاص رؤساء المحاكم.
    ثالثاً: تصنيف واجبات موظفي المحاكم وتوصيف الجزاءات على المخالفات:
    وهنا تُرى ميزة محاسبة موظفي المحاكم عن موظفي الجهاز الإداري في الدولة، تظهر في قيام مجلس المساءلة في كل محكمة كما يلي:
    مِثْل ما للموظف من الحقوق فإن عليه من الواجبات، إذ أنه يتحمل تبعات تقصيره، وقد صنَّف القانون وحدد كل جزاء وجعله من جنس العمل.
    والمواد التالية تحكي برهانَها لتثبت سلطانها القانوني:
    المادة: (140): وصفتْ مجموعة كتَّاب كل محكمة، وصنَّفت تبعاتهم الإشرافية وخضوع أعمالهم، وقد سبق إثبات نصها.
    أما المادة: (141): فهي تنص على لازم إجراءات المساءلة ضد كل من يخل من موظفي المحاكم بواجبات وظيفته، أو يأتي ما من شأنه أن يقلل الثقة اللازم توافرها في الأعمال القضائية، أو يقلل من اعتبار المهنة التي ينتمي إليها، سواءً كان ذلك في دور القضاء أو خارجها.
    وفي المادة: (142): تحديد جهة التحقيق في المخالفات، وإيقاع الجزاء عليها، وكيفيته، ونصها كما يلي: (لا تُوقَع العقوبات إلا بالحكم من مجلس المساءلة، ومع ذلك يجوز توقيع عقوبة الإنذار والخصم من المرتب بقرار من رؤساء المحاكم بالنسبة للكتَّاب والمحضِّرين، والمترجمين، ومن النائب العام ومن رؤساء النيابات لكتَّاب النيابات، ولا يجوز أن يزيد الخصم في المرة الواحدة على مرتب خمسة عشر يوماً ولا يزيد عن ثلاثين يوماً في السنة الواحدة).
    وفي المادة: (143): كيفية تشكيل مجلس المساءلة، ولأهمية معرفة ذلك نثبتها بالنص كما يلي: (يُشكَّل مجلس المساءلة في المحكمة العليا، وفي كل محاكم الاستئناف، والمحاكم الابتدائية من أحد قضاتها، يختاره رئيس المحكمة لهذا الغرض، ورئيس النيابة، أو من يقوم مقامه، والكاتب الأول، وفي حالة محاكمة الكاتب الأول أو المحضِّر الأول أو رئيس القلم الجزائي يُنْدِب وزير العدل من يحل محله في مجلس المساءلة ممن يكونون في درجته على الأقل).
    وقد أجاز القانون أن تقام دعوى المساءلة بطلب من رئيس المحكمة بالنسبة لموظفي المحاكم، وبناءً على طلب النائب العام، أو رئيس النيابة بالنسبة لموظفي النيابة.
    وأَلزم أن تتضمن ورقة الاتهام التي تعلَن من رئيس مجلس المساءلة: التهمةَ أو التُّهَمَ المنسوبة إلى المتهم، وبياناً موجزاً بالأدلة عليها، واليومَ المحدد للمحاكمة، ويحضُر المتهم بشخصه أمام المجلس، وله أن يقدِّم دفاعه كِتَابةً أو أن يوكِّل عنه محامياً أو أحد زملائه، وتجري المحاكمة في جلسة سرية.
    أما الموثِّقون فقد صنَّفهم ووصف اختصاصهم وحدد حقوقهم وواجباتهم قانون التوثيق رقم: (29) لسنة: 1992م، والمادة: (5) من هذا القانون تثبت ذلك كما يلي: "يتولى العمل في الإدارة العامة وفي مكاتب التوثيق والأقلام التي تتبعها: موثقون، ومساعدو موثقين، ومعاونون كتبةً، وتسري عليهم الشروط والحقوق والواجبات الخاصة بأعضاء النيابة العامة المنصوص عليهما في قانون السلطة القضائية، ويتولى التوثيق خارج هذا النطاق: أمناءَ يُعَيَّنون لهذا الغرض طبقاً لهذا القانون، يحدَّد نطاق اختصاصهم المكاني بقرار من الوزير".





    الخاتِمَة
    تم الفراغ من جمع وتصنيف مادة: (الثقافة القضائية) بعد تقديمها مادة مُضافة إلى مواد المنهج العام المقرر على طلبة الدراسات الدورية والتدريب في المعهد العالي للقضاء في دورته الرابعة عشرة، سنة: 1414ه، الموافق: 1993م – 1994م.
    وقد قمتُ بتدريسها بناءً على طلبٍ وتكليفٍ تلقيتُه من جهة الاختصاص في وزارة العدل والمعهد، مستعيناً بالله ابتداءً بوضع خطة العمل التنفيذي، والتي لم يسبق توجيه مثلها، أو تدوين مؤلف أو بحث من نوعها، أو احتواء مذكرات بخصوصها – حسب علمي –.
    وقد توفَّقتُ في تحديد عناصر أسسها وتبويب مواضيعها، حيث بدأتُ أجمع وأحصِّل شواردَها من عزيزٍ ونادر، في غير مظانها موفِّقاً بين مادة: الثقافة، ومادة: فن القضاء، نظرياً وعملياً، والمطلوب هنا: إيجاد الربط بين النص الأخلاقي السلوكي والفن القضائي الإجرائي، وهذا متعذر بدون بذل جهد.
    وعليه: فقد سلكتُ أسلوب التوصيف والتوفيق بين ما ابتكرتُ ونقلتُ بتصرف، دون التزام باحتواء النص.
    ولستُ مبالغاً إن صرَّحت ببذل جهد غير عادي ولا يسير في إيجاد تناسب معقول للوصول بالمادة إلى تحقيق الهدف والغاية من إقرارها مادةً منهجيةً هادفة.
    ولا أدَّعي الإحاطة والتمام، فالكمال لله، والعصمة لأنبيائه ورسله.
    وحسبي أنني وضعتها نوراً على الدرب، ودليلاً على الطريق، لكل مبتدئٍ ومقتدٍ، ومهما وُجد من خطأ فغير مقصود، وليس له إلا ذنبَ وَلِيِّه، وما على الأخيار إلا إحسانُ تأويلِه، وإسداءُ الحِلْم، وإخلاص الدعاء لصاحبه.
    وبما أن طبيعة المادة تعني: دقة الفهم لمقاصدها، وإظهار البُعد الثقافي في نصوصها، روايةً ودرايةً، فقد كان لهذا المفهوم أثره البارز في كل عنصر من عناصر خِطتها المرسومة على صفحات المقدمة، ولا يخفى فِهْم هذا البُعد على لبِيْبٍ غَمْر مهما تَمَطَّى، وعَنُد نَيلُه على مُتَعَتِّبٍ غُمْر، كما أنه لا ينتفع بإروائه مَحْمومٌ غِمْر.
    وإنَّ كل من لديه تفعيل من فن القضاء المغمور أو بصيصٌ من مقومات السلوك المبرَّر فإنه لن يقف بتَؤُدَتِه دون البلوغ، والسلامة في التأني، ولا يدركُ ذلك فاقدُ الوئام، أو حاملُ القلا، أو باغي الخلاف والخصام.
    وإِذْني سابقٌ مطلقٌ، وتفويضي ساري المفعول لكل من وجد نقصاً أو خرقاً أن يصلحه، مهما أجاد الفعل والقول.
    وإني لأضْفي شكري وتقديري لكل من أعانني وساعد في إخراج هذا المنشور العلمي المتواضع، ومنهم بعض قيادات ومسئولي وزارة العدل والمعهد العالي للقضاء – واللهَ أسألُ أن لا يُعْدِمَهم جوائزَ الخير –، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
    والحمد لله رب العالمين،،،

    صنعاء
    في: 1/ 1/ 2004م





    فهرست المراجع
    [حسب الترتيب الأبجدي]
    الرقم المرجع صاحب المرجع
    1. القرآن الكريم {تَنْزِيْلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِيْنَ}.
    2. أجنحة المكر الثلاثة عبد الرحمن حبنكة الميداني.
    3. أحكام القرآن أحمد بن علي الجصاص.
    4. أحكام القرآن محمد بن عبد الله بن العربي.
    5. أخبار القضاة محمد بن خلف بن حيان (وكيع).
    6. آداب القضاة شـرف الـدين أحمـد بن مسـلم بن سعـيـد القـرشـي الدمشقي.
    7. أدب القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي.
    8. أساس البلاغة الإمام/ الزمخشري.
    9. أصول التربية الإسلامية عبد الرحمن النحلاوي.
    10. أعلام الموقعين ابن قيم الجوزية.
    11. الأحكام السلطانية
    والولايات الدينية أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي.
    12. الاعتقاد والهداية الإمام/ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي.
    13. الأغاني أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني.
    14. الإلمام بأحاديث الأحكام القاضي/ تقي الدين القشيري.
    15. الإمامة والسياسة أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة.
    16. التاريخ الكبير أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري.
    17. الترغيب والترهيب الحافظ/ أبو محمد زكي الدين عبد العظيم.
    18. الجامع
    (جامع عبد الرزاق) عبد الرزاق.
    19. الجامع الصحيح
    (سنن الترمذي) الإمام/ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سَورة الترمذي.
    20. الجامع لأحكام القرآن
    (تفسير القرطبي) محمد بن أحمد القرطبي.
    21. الحِسْبَة الإمام/ أحمد بن تيمية.
    22. الحضارة الإسلامية
    في القرن الرابع الهجري آدم ميتز.
    23. الروض النضير شرف الدين بن الحسين السياغي.
    24. السلوك الاجتماعي في الإسلام حسن أيوب.
    25. السنن الكبرى
    (سنن البيهقي) الإمام/ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي.
    26. السنن
    (سنن ابن ماجة) الإمام/ أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة القزويني.
    27. السنن
    (سنن أبي داوُد) الإمام/ أبو داوُد سليمان بن الأشعث السجستاني.
    28. السنن
    (سنن النسائي) الإمام/ أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي.
    29. السياسة الشرعية عبد الوهاب خلاف.
    30. ذ السيل الجرار
    المتدفق على حدائق الأزهار الإمام/ محمد بن علي الشوكاني.
    31. الشخصية الإسلامية تقي الدين النبهاني.
    32. الشريعة الإسلامية:
    تاريخها ونظرية الملكية والعقود الدكتور/ بدران أبو العينين بدران.
    33. الصحيح
    (صحيح مسلم) الإمام/ أبو الحسن مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري.
    34. الطبقات الكبرى محمد بن سعد.
    35. الفوائد ابن قيم الجوزية.
    36. القضاء عند العرب خير الله طلفاح.
    37. القضاء والقضاة محمد شهير أرسلان.
    38. الكشاف في تفسير القرآن
    (تفسير الكشاف) الإمام/ الزمخشري.
    39. المحرر الشيخ الإمام/ مجد الدين أبو البركات.
    40. المسند
    (مسند أحمد) الإمام/ أحمد بن حنبل.
    41. المُغْنِي أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي.
    42. المفردات في غريب القرآن الشيخ/ أبو القاسم الحسين بن محمد الراغب الأصفهاني.
    43. المقدمة
    (مقدمة ابن خلدون) عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي الكندي.
    44. النسخة اليمنية
    من القضاء الإسلامي المحامي/ أحمد الوادعي.
    45. النظام الاجتماعي في الإسلام تقي الدين النبهاني.
    46. بداية المجتهد ونهاية المقتصد محمد بن أحمد بن رُشد القرطبي.
    47. تاريخ الأمم الإسلامية الشيخ/ محمد الخضري بِك.
    48. تاريخ الأندلس تقي الدين النبهاني.
    49. تاريخ بغداد الخطيب البغدادي.
    50. تجريد أسماء الصحابة الحافظ/ شمس الدين أبو عبد الله الذهبي.
    51. تفسير القرآن العظيم
    (تفسير ابن كثير) أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير.
    52. تفسير آيات الأحكام محمد بن علي الصابوني.
    53. تلخيص الحَبِيْر الحافظ/ أحمد بن حجر العسقلاني.
    54. جامع البيان في تفسير القرآن
    (تفسير الطبري) محمد بن جرير الطبري.
    55. جواهر الأدب السيد أحمد الهاشمي.
    56. جواهر العقود شمس الدين بن محمد الأسيوطي.
    57. حكمة التشريع وفلسفته علي بن الجرجاوي.
    58. خزانة الأدب الخطيب البغدادي.
    59. خُلُق المسلم الشيخ/ محمد الغزالي.
    60. رجال من التاريخ الشيخ/ علي الطنطاوي.
    61. روضة العقلاء ونزهة الفضلاء الحافظ/ أبو حاتم محمد بن حبان.
    62. روضة القضاة وطريق النجاة السمناني.
    63. سبل السلام الإمام/ محمد بن إسماعيل الصنعاني.
    64. سياسة الإنفاق العام في الإسلام الدكتور/ عوف محمود الكفراوي.
    65. سيرة النبي
    –صلى الله عليه وآله وسلم– أبو محمد عبد الملك بن هشام الأندلسي.
    66. سيرة عمر بن الخطاب ابن قيم الجوزية.
    67. ضوء النهار الحسين بن أحمد الجلال.
    68. ضوابط المصلحة
    في الشريعة الإسلامية الدكتور/ محمد سعيد رمضان البوطي.
    69. علم القضاء الدكتور/ أحمد الحصري.
    70. فتح القدير ابن الهمَّام.
    71. فتح القدير
    الجامع بين
    فَنَّي الرواية والدراية
    من علم التفسير
    (تفسير فتح القدير) الإمام/ محمد بن علي الشوكاني.
    72. فجر الإسلام أحمد أمين.
    73. فصولٌ في الإمرة والأمير الأستاذ الداعية/ سعيد حوى.
    74. فقه السُّنَّة السيد سابق.
    75. ذ قانون السلطة القضائية الجمهورية اليمنية – السلطة القضائية.
    76. كتاب أدب القضاء شهاب الدين بن أبي الدم.
    77. كتاب الإيمان ابن مندة.
    78. كتاب القضاة أبو سعيد النقاش.
    79. كتاب المِحْبَر محمد بن حبيب البغدادي.
    80. كشاف القناع الشيخ/ منصور بن يونس بن إدريس البهوتي.
    81. كشف الخفاء ومزيل الإلباس إسماعيل بن محمد العَجْلوني.
    82. كفاية الأخبار تقي الدين أبو بكر الحسيني.
    83. لسان العرب ابن منظور المصري.
    84. ماذا خسر العالم
    بانحطاط المسلمين؟ أبو الحسن علي الحسني الندوي.
    85. مجمع الزوائد نور الدين الهيثمي.
    86. مجموع الفتاوى الإمام/ أحمد بن تيمية.
    87. محاسن التأويل جمال الدين القاسمي.
    88. مختار الصحاح زيـن الـديـن مـحـمـد بن أبي بـكـر بن عـبـد الـقـادر الرازي.
    89. مختصر تفسير ابن كثير محمد علي الصابوني.
    90. مغني المحتاج أبو زكريا يحيى بن شرف النووي.
    91. مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها علال الفاسي.
    92. منهج التربية الإسلامية الأستاذ/ محمد قطب.
    93. منهج الدعوة النبوية
    في المرحلة المكية الدكتور/ علي بن علي الحربي.
    94. موطأ الإمام/ مالك
    بشرح الزرقاني محمد الزرقاني.
    95. نداءٌ للجنس اللطيف نشرةٌ صادرةٌ عن المؤتمر الأول للمرأة.
    96. نصبُ الراية الإمام/ جمال الدين أبو محمد الزيلعي.
    97. نظام الحكم
    في الشريعة والتاريخ ظافر القاسمي.
    98. نظام القضاء في الإسلام القاضي/ محمد بن إسماعيل العمراني.
    99. نظرية التربية الإسلامية الشيخ/ محمد الغزالي.
    100. نظرية التعسف
    في استعمال الحق الدكتور/ محمد سعيد رمضان البوطي.
    101. نظرية السيادة الدكتور/ صلاح الصاوي.
    102. نظرية الضرورة الشرعية الدكتور/ محمد سعيد رمضان البوطي.
    103. نهج البلاغة الشريف الرضي.
    104. نيل الأوطار الإمام/ محمد بن علي الشوكاني.
    105. واقعنا المعاصر الأستاذ/ محمد قطب.











    فهرست موضوعات الكتاب
    مجمل خطة محتويات الكتاب 1
    الإهداء .................................................. ..........5
    قدَّّم للكتاب 7
    مقدمة الطبعة الثانية 23
    مقدمة الطبعة الأولى 27
    البابُ الأول: التعريف بمادة الثقافة القضائية حدَّاً وماهيَّة 29
    الفصل الأول: التعريف في اللغة والاصطلاح 31
    (أ): التعريف في اللغة 31
    مفهوم الثقافة القضائية في اللغة: 31
    مفهوم الثقافة القضائية في الاصطلاح: 32
    الفصل الثاني: التعريف بالموهبة الذاتية والنفسية في الشخصية الثقافية القضائية 33
    (أ): مفهوم الموهبة الذاتية 33
    الفصل الثالث: مقومات العمل المِراسِي التطبيقي في تقدير دلالة التعريف الفني الجامع بين مادتَي: الثقافة، والقضاء 35
    أولاً: وقوفاً مُفْرِطاً في الحكمة: 38
    ثانياً: وقوفاً مُفْرِطاً في الشجاعة: 38
    ثالثاً: وقوفاً مُفْرِطاً في العفة: 39
    رابعاً: وقوفاً مُفْرِطاً في العدل: 39
    الباب الثاني: الثقافة القضائية في العصر الجاهلي 41
    الفصل الأول: أشهر قضاة الجاهلية 43
    الفصل الثاني: نماذجُ من أقضية الجاهلية 47
    أولاً: الحكم بتحريم الخمر، والحدِّ على مَن شربها: 47
    ثانياً: الحكم بتحريم الزنا: 47
    ثالثاً: الحكم بإهدار دم المعتدي في الحرب، ودفـعِ دية المعتـدَى عليهم: 47
    رابعاً: على المدعي البينة، وعلى المنكر اليمين: 48
    خامساً: القضاء في الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين: 48
    ساساً: القضاء في الخُنثى المُشْكِل: 48
    سابعاً: القضاء بالقِسامة في دم عمر بن علقمة بن المطلب: 48
    ثامناً: القضاء في الديات: 48
    تاسعاً: القضاء بالحدِّ في السرقة: 49
    عاشراً: القضاء بأن الولد للفراش: 49
    الفصل الثالث: الإسلام يُقِرُّ مبدأ القضاء الجاهلي 53
    الأمر الأول: 55
    الأمر الثاني: 55
    الباب الثالث: السلوكُ القضائي في صدر الإسلام 65
    الفصل الأول: تشريعُ القضاء يحقق التطبيق العملي لحماية السلوك القضائي 67
    الصفة الأولى: حيوانية آلية عدوانية: 67
    الصفة الثانية: اجتماعية عقلانية سلمية: 67
    التفصيل والبيان، مع إفادة فارق المقارنة بين تشريع الله ورسوله وبين التشريعات الأخرى: 71
    أولاًَ: القضاء الإسلامي مصدره التشريع من الله ورسوله: 71
    ثانياً: القـضاء الإسـلامي مصدر أحكامه السلوك والأخلاق الدينية: 74
    القاعدة الأولى: 74
    القاعدة الثانية: 74
    الفصل الثاني: ثقافةُ الصحابة العِلمية وأثرُها في سلوكهم عَطَّلت وأوقفت محاكمَ تقاضيهم 79
    النموذج الأول: سياسة تقبُّل المعارضة عند الرسول –صلى الله عليه وآله وسلم–: 81
    النموذج الثاني: سياسة تقبُّل المعارضة عند الخلفاء الراشدين: 84
    النموذج الثالث: سياسة تقبُّل المعارضة عند التابعين: 91
    الفصل الثالث: سِرُّ عدلِ القضاء حُسْنُ سلوكِ وُلاتِه 95
    العدلُ والظلمُ ضِدَّان: 101
    ومن الأمثلة الواقعية لردِّ الظلم ومنْعِ الجَور: 103
    الإسلام لا يقرُّ الإكراه على التزام السلوك: 104
    الفصل الرابع: الامتناعُ عن قبول القضاء وتَهَيُّبُه أوجدَه التحذيرُ الشرعي، ثم الإشفاقُ والزهد 111
    أولاً: المانعون: 111
    أدلتهم، وحُجتهم: 111
    مشاهير أعلام المانعين: 114
    ومِمَّن جاهَرَ بالإصرار ورَفَضَ القضاء: 116
    ثانياً: المُجِيْزون: 118
    أدلتهم، وحُجتهم: 118
    ثالثاً: التوفيق والمقارنة بين أدلة كلٍّ مِن الترهيب والترغيب: 123
    ومما سبق نخلص إلى القول المختار في حكم والي القضاء: 128
    الباب الرابع: بوادر خرق مقومات النهج القضائي في عصور الخَلَف والمُلْك العَضوض 131
    الفصل الأول: مفهوم البادِرَة في اللغة والاصطلاح 133
    تعريف البادِرَة في اللغة: 133
    مفهوم البادِرَة في اللغة: 133
    تعريف البادِرَة في الاصطلاح: 134
    مفهوم البادِرَة في الاصطلاح: 134
    الفصل الثاني: بادِرَةُ خَرْق السلـوك القضـائي القويم بطلب ولاية القضاء 135
    الفصل الثالث: بادرةُ ظهورِ الرشوةِ والحكمِ بالهوى سبَّب زوالَ العدلِ وسقوطِ هيبةِ القضاء 143
    وحاصل ما يأخذه القضاة من الأموال على أربعة أقسام: 151
    الأول: الرشوة: 152
    الثاني: الهدية: 152
    الثالث: الأجرة: 152
    الرابع: الرزق: 153
    وللإسلام موقفٌ مِن كلٍّ مِن: المجاملة، والمحاباة، والمحسوبية: 154
    الفصل الرابع: بادرة شراء ولاية القضاء تحقيقٌ للظلم، وبيعٌ للضمير 159
    الفصل الخامس: بادرةُ حُب الظهور والتقرب إلى الولاة شائنةُ وجْهِ القضاء ووصمةُ وجوهِ وُلاتِه 167
    (والأشياء بضـدها تتميز وتُذكر)، وهذا نموذج مضاد نطرحه للمقارنة: 170
    الباب الخامس: السلطة القضائية ولازِمُ صفاتِها . 173
    الفصل الأول: مقوماتٌ القاضي الخُلُقية والفنية 175
    أولاً: مفهوم الضابط الخلقي للفرد: 183
    ثانياً: مفهوم الضابط الاجتماعي: 184
    ثالثاً: مفهوم الضابط السياسي: 185
    أصول وأمهات الأحكام الفرعية، أو ما تسمى بـ(الضروريات الخمس): 187
    الفصل الثاني: مقومات القاضي الأدبية 193
    الفريق الأول: 202
    الفريق الثاني: 203
    الفصل الثالث: مقومات هيبة القاضي واحترام القضاء 205
    الفصل الرابع: مقومات القاضي في قُدْوة القضاء 213
    الفصل الخامس: الشروط السلوكية اللازمة في حامل أمانة القضاء 227
    الشرط الأول: الإسلام: 228
    الشرط الثاني: الحرية: 231
    الشرط الثالث: الذكورة: 232
    الشرط الرابع: التكليف: 237
    الشرط الخامس: العدالة: 239
    الشرط السادس: الكتابة: 240
    الشرط السابع: العلم بالأحكام الشرعية: 241
    الباب السادس: مقوماتٌ عامة 243
    الفصل الأول: مواقفُ قضائية 245
    الموقف الأول: 246
    الموقف الثاني: 248
    الموقف الثالث: 249
    الموقف الرابع: 249
    الموقف الخامس: 250
    الموقف السادس: 251
    الموقف السابع: 253
    الموقف الثامن: 254
    الوُجهة الأولى: 255
    الوجهة الثانية: 255
    الوجهة الثالثة: 255
    الفصل الثاني: نوادرُ قضائية 261
    القسم الأول: 261
    النادرة الأولى: 262
    النادرة الثانية: 264
    النادرة الثالثة: 265
    النادرة الرابعة: 265
    النادرة الخامسة: 266
    النادرة السادسة: 267
    النادرة السابعة: 267
    ومن مُلحقات النوادر القضائية: 269
    القسم الثاني: 270
    وكمالُ وضوح هذا التمهيد يأتي في مضمنات إجابة السؤال الآتي: لمن الحكم؟ ومن بيده الأمر؟ ومن إليه يرجع؟ 270
    النوع الأول: 271
    النوع الثاني: 274
    أولاً: فتوى أحد الفقهاء لِمَلِكٍ جامَعَ في نهار رمضان بالصوم بدلاً عن العِتْق: 277
    ثانياً: القول بأن الأنثى تساوي الذكر في الميراث: 277
    ثالثاً: نادرة غراب وجريمة الحكم بالشريعة: 278
    الفصل الثالث: وكلاءُ الشريعة، والمحامون 291
    الخصومات والمنازعات من لوازم المجتمع: 294
    الاختلاف الجوهري بين المحامي والقاضي: 297
    الاتفاق الجوهري بين المحامي والقاضي: 299
    أولاً: اتفاقهما في الهدف والغاية: 299
    ثانياً: اتفاقهما في الوسائل: 299
    ثالثاً: اتفاقهما على رؤية الوجه الأسود للمجتمع: 299
    الفصل الرابع: المقومات السلوكية في قانون السلطة القضائية رقم: (1) لسنة: 1991م في الجمهورية اليمنية 301
    أولاً: المادة رقم: (1): 302
    ثانياً: المادة رقم: (2): 302
    ثالثاً: المادة رقم: (12): 303
    رابعاً: المادة رقم: (57): 304
    خامساً: المادة رقم: (85): 307
    الفصل الخامس: توصيف وتصنيف موظفي المحاكم في قانون السلطة القضائية 311
    أولاً: من حيث إطلاق الوصف الوظيفي: 311
    القسم الأول: قسم الدراسات العليا التخصصية: 314
    القسم الثاني: قسم الدراسات الدورية والتدريب: 314
    ثانياً: من حيث تصنيف حقوق موظفي المحاكم: 315
    ثالثاً: تصنيف واجبات موظفي المحاكم وتوصيف الجزاءات على المخالفات: 317
    الخاتِمَة 319
    فهرست المراجع [حسب الترتيب الأبجدي] 321
    فهرست موضوعات الكتاب 329






    مُصَنَّفاتٌ للمؤلِّف

    ? إبطالُ دعوى التمثيل في قَصص القرآن الكريم.
    ? اجتهادُ الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – ليس وَحْياً.
    ? بحوثٌ في علوم القرآن وتحقيقُ ارتباطها بمُقَومات حق التلاوة.
    ? القضاءُ وأهميتُه في الشريعة الإسلامية.
    ? كتابُ الثقافة القضائية (الذي بين أيدينا).
    ? المالُ ومقوماتُه في الشريعة والقانون.
    ? المجاهدُ في الحق/ (إبراهيم بن يحيى بن حسن الطيب).
    ? مدخلُ دراسة التحديات المستقبلية التي تواجه الأمة الإسلامية في المستقبل وتَحْديبُ عَولَمَة تقنينها.
    ? هَبَّاتُ عواصفِ الفِتَن ومُزْعِجاتِ المِحَن.



معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 11 (0 من الأعضاء و 11 زائر)

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على الموضوعات
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
Keep Track of Visitors
Stats Counter

IP